المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النساء قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ - أقوال الطحاوي في التفسير: الفاتحة - التوبة

[محمد بن عبد الله الوزرة الدوسري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ أهمية هذا الموضوع وسبب اختياره

- ‌خطة البحث

- ‌التمهيد: التعريف بالإمام الطحاوي

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه، ومولده ونشأته

- ‌أولاً: اسم ونسب الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانيا: مولد ونشأة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌1 - مولده:

- ‌2 - نشأته:

- ‌المبحث الثاني: عقيدته. ومذهبه الفقهي

- ‌أولاً: عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: المذهب الفقهي للإمام الطحاوي

- ‌المبحث الثالث: طلبه للعلم، وشيوخه وتلاميذه

- ‌أولاً: أبو جعفر الطحاوي وطلبه للعلم

- ‌ثانياً: شيوخ الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثالثاً: تلاميذ الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌المبحث الرابع: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه

- ‌أولاً: المكانة العلمية لأبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: ومن العلوم والمجالات التي لم يشتهر فيها الإمام الطحاوي مع كونه إماماً فيها:

- ‌المبحث الخامس: مصنفاته، ووفاته

- ‌أولاً: مصنفات الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: وفاة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌الفصل الأول: منهج الإمام أبي جعفر الطحاوي في التفسير

- ‌المبحث الأول: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن

- ‌المبحث الثاني: منهجه في تفسير القرآن بالسنة

- ‌المبحث الثالث: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين

- ‌المبحث الرابع: منهجه في تفسير القرآن بأقوال أئمة اللغة

- ‌المبحث الخامس: منهجه في إيراد أقوال أهل التفسير ومناقشته لها

- ‌المبحث السادس: منهجه في إيراد القراءات والتعليق عليها

- ‌المبحث السابع: منهجه في تفسير آيات العقائد

- ‌المبحث الثامن: منهجه في تفسير آيات الأحكام الفقهية

- ‌المبحث التاسع: منهجه في إيراد أسباب النزول

- ‌المبحث العاشر: منهجه في بيان الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الثاني أقوال الطحاوي فى التفسير

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة النساء قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ

‌سورة النساء

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء:1]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن جرير عن أبيه

(1)

، قال: قدم ناس على النبي صلى الله عليه وسلم من مضر، متقلدي السيوف، مجتابي النِّمار

(2)

- قال المسعودي

(3)

: النِّمار: الصوف - بهم ضر شديد وحاجة شديدة، فقام النبي عليه السلام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]"تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق الرجل من درهمه، وليتصدق الرجل من بره، وليتصدق الرجل من شعيره، وليتصدق الرجل من تمره"

(4)

(1)

ابن جرير هو: المنذر بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، ذكره ابن حبان في كتاب (الثقات). (تهذيب الكمال-7/ 224).

وأبوه هو: أبو عبد الله جرير بن عبد الله بن جرير البجلي الكوفي، صحابي جليل، شهد القادسية وغيرها، وكانت وفاته سنة (51 هـ).

(أسد الغابة-1/ 333).

(2)

معنى قوله: (مجتابي النمار) أي: خرقوا ثياب صوف من وسطها. (شرح صحيح مسلم للنووي-7/ 104).

(3)

المسعودي هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي الكوفي، وثقة ابن حبان وغيره، وهو في الطبقة الخامسة من التابعين، وكانت وفاته

ببغداد سنة (160 هـ)(تهذيب الكمال-4/ 427).

(4)

أخرجه النسائي في سننه - كتاب: الزكاة باب: التحريض على الصدقة. (حـ-2553 - 5/ 79).

والطبري في المعجم الكبير- (حـ-2374 - 2/ 329).

ص: 313

قال أبو جعفر: فكان في هذه الروايات قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] عند حضه إياهم على صلة أرحامهم لما رأى من أهلها من الجهد، والضر، والحاجة.

فكان ذلك دليلاً أنه قرأها بالنصب، بمعنى: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وكان ما حملها عليه من قرأها بالجر على تساؤلهم كان بينهم بالله تعالى والأرحام، ولم تكن تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها على من تلاها عليه على التساؤل، وإنما كان على الحض على التواصل، وترك قطيعة الأرحام، وفي ذلك ما قد دل على أنه قرأها بالنصب لا بالجر، وكذلك روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها كذلك

عن الأعمش، قال: سمعت مجاهداً يقول: كان ابن عباس يقرأ هذه الآية: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] منصوبة، يقول: اتقوا الله والأرحام.

وقد قرأها كذلك أكثر القراء. كما عن خلف بن هشام

(1)

، قال: قرأ عاصم (والأرحامَ) نصب، ونافع كمثلٍ، وأبو عمرو

(2)

كمثل.

وكما عن الحسن (والأرحام) بالنصب، يقول: والأرحام لا تقطعوها.

(شرح مشكل الآثار - 1/ 225 - 226).

(1)

خلف هو: أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب بن غُراب البغدادي المقرئ، وثقة ابن معين وغيره، وكانت وفاته سنة (229 هـ).

(معرفة القراء الكبار -1/ 208).

(2)

أبو عمر وهو: أبو عمرو زبّان بن العلاء بن عمار بن العُريان التميمي المازني، المقرئ النحوي البصري، وثقه ابن معين وغيره، وكانت

وفاته سنة (154 هـ)(معرفة القراء الكبار-1/ 100).

ص: 314

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن في قوله تعالى: {وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] قراءتين بالنصب والجر للميم، مع بيانه للمعنى على كل قراءة مختاراً القراءة بالنصب لكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها على الناس عند حثه لهم على صلة أرحامهم.

وإليك بيان جميع القراءات الواردة في هذه الآية. مع بيان من قرأ بها، وتوجيه كل قراءة منها:

القراءة الأولى: بالجر والباء {وبالأرحامِ}

- وهذه قراءة: عبد الله بن مسعود.

- توجيه هذه القراءة: من قرأ {وبالأرحام} بالجر والباء، فذلك بالعطف على الضمير المخفوض (به) مع إعادة الجار.

القراءة الثانية: بالرفع {والأرحامُ}

- وهذه قراءة: عبد الله بن يزيد.

- توجيه هذه القراءة: من قرأ {والأرحامُ} بالرفع، فذلك على أنه مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير:

أ- (والأرحامُ أهل أن توصل) وهذا تقدير: ابن عطية.

ب- وإما أن يكون التقدير: (والأرحامُ مما يُتقي) أو (والأرحامُ مما يُتساؤل به) وهذا تقدير: الزمخشري.

قال أبو حيان: (وتقدير الزمخشري أحسن من تقدير ابن عطية، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى).

(1)

القراءة الثالثة: بالنصب {وَالْأَرْحَامَ} .

- وهذه قراءة: السبعة ما عدا حمزة.

توجيه هذه القراءة: لهذه القراءة ثلاثة توجيهات:

أ- أن القراءة بالنصب عطف على لفظ الجلالة (الله) ويكون ذلك على حذف مضاف، والتقدير:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} واتقوا الأرحام أن تقطعوها لأن الله جل وعلا قصده بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة، فأمرهم بأن يتواصلوا ولا يتقاطعوا، لأنهم إخوة وإن بعدوا.

- وهذا قول: أكثر المفسرين كابن عباس - ومجاهد - وقتادة - والضحاكِ - وابن زيد - وغيرهم.

(1)

انظر: تفسير أبي حيان (3/ 498) - وتفسير ابن عطية (4/ 8) وتفسير الزمخشري - (2/ 7).

ص: 315

ب - أن القراءة بالنصب عطف على موضع الجار والمجرور (به)، كما تقول:(مررت بزيد وعمراً).

ويؤيد هذا التوجيه قراءة ابن مسعود: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وبالأرحام}

- وهذا قول: أبي علي الفارسي - وعلي بن عيسى.

ج - أن القراءة بالنصب على الإغراء.

والمعنى: (والأرحام فاحفظوها وصلوها) وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، ووجوب صلتها.

ص: 316

- وهذا قول: الواحدي.

(1)

القراءة الرابعة: بالجر {والأرحامِ}

- وهذه قراءة: ابن عباس - وحمزة - والنخعي - والأعمش - وقتادة - والحسن - ومجاهد.

- وتوجيه هذه القراءة: أن القراءة بالجر عطف على الضمير (الهاء) في قوله (به).

فكأن المعنى: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام.

فالمراد هو قول القائل: (أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني كذا).

(2)

- وقد ردت هذه القراءة من وجوه:-

أ - أن في هذه القراءة تقرير لجواز التساؤل بالأرحام والقسم بحرمتها. والحديث الصحيح يرد ذلك

(3)

: فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت "

(4)

- ويجاب عن هذا الاعتراض: بأنه ليس في القول بالجر تقرير لجواز القسم بغير الله، وإنما المراد على هذه القراءة: الإخبار عن الأمر القديم الذي جرت به عادت العرب في الجاهلية، فالمعنى على هذه القراءة:(واتقوا الله الذي كنتم تتساءلون به وبالأرحام في الجاهلية).

(5)

ب - أن في هذه القراءة عطفاً لظاهر على مضمر مخفوض، وذلك غير فصيح في كلام العرب، لأنها لا تنسق بظاهر على مضمر في الخفض إلا في ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر، وأما في الكلام فإنه لا شئ يضطر المتكلم إلى اختياره المكروه من المنطق والرديء في الإعراب منه.

(6)

(1)

انظر: تفسير الرازي (9/ 164) - وتفسير الماوردي (1/ 447) وتفسير أبي حيان (3/ 497).

(2)

تفسير أبي حيان (2/ 387) و (3/ 497).

(3)

تفسير ابن عطية (4/ 9).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأيمان والنذر - باب لا تحلفوا بآبائكم - (حـ 6270 - 6/ 2449).

ومسلم في صحيحه - كتاب الأيمان - باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (حـ 4233 - 11/ 108).

(5)

تفسير ابن الجوزي (2/ 78).

(6)

تفسير الطبري (3/ 568). - وانظر: الحجة لابن خالوية (18) والكشف عن وجوه القراءات لمكي (1/ 375)

والمكشاف عما ببين القراءات العشر من خلاف (100) والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام (2/ 508)

ص: 317

- ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن العطف على المضمر المجرور فيه مذاهب:-

1 -

أنه لا يجوز إلا بإعادة الجار، إلا في الضرورة الشعرية، فإنه يجوز بغير إعادة الجار. وهذا مذهب البصريين.

2 -

أنه يجوز بدون إعادة الجار في سائر الكلام. وهذا مذهب الكوفيين.

3 -

أنه يجوز بدون إعادة الجار إن أكد الضمير، كقولك (مررت بك نفسك وأحمد). فإن لم يؤكد لم يجز إلا بإعادة الجار. وهذا مذهب صالح إسحاق الجرمي البصري.

والذي اختاره: أنه يجوز في الكلام مطلقاً: عطف الظاهر على المضمر المجرور بدون إعادة الجار. وذلك لأن السماع والقياس يعضده ويقويه.

أ - أما القياس فهو: أنه كما يجوز أن يبدل من المضمر المجرور، وأن يؤكد من غير إعادة الجار، فكذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة الجار.

ب - وأما السماع:

1 -

فقد روي من قول العرب قولهم: (ما فيه غيره وفرسه) بجر (الفرس) عطفاً على الضمير في (غيره) والتقدير: (ما فيه غيره وغير فرسه).

2 -

وورد في أشعار العرب الكثير من ذلك مما يخرجه من الضرورة. كما في قول الشاعر العباس بن مرداس السلمي: أكر على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها.

(1)

والشاهد: أنه عطف (سواها) على الضمير المتصل المجرور بـ (في) من غير إعادة الجار. والتقدير: (أحتفي كان فيها أم في سواها).

وكما في قول الشاعر:

قد كنت من قبل تهجونا وتفضحنا

فما بك والأيام من عجب

(2)

والشاهد: أنه عطف (الأيام) على الضمير المتصل المجرور بـ (الباء) من غير إعادة الجار. والتقدير: (فما بك وبالأيام من عجب).

(1)

انظر: ديوان العباس بن مرداس (110) - وكتاب الحماسة (1/ 133).

(2)

البيت من شواهد سيبويه، ولا يعرف قائله - انظر: شرح أبيات سيبويه (2/ 207).

والإنصاف لابن الأنباري (464) وشرح المفصل (3/ 78) وخزانة الأدب (5/ 123).

ص: 318

فهذه الشواهد الشعرية تدل على جواز عطف الظاهر على المضمر المجرور بدون إعادة الجار في السعة لا في الضرورة، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كما في قوله تعالى:{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22]

ومثال ما جاء بدون إعادة الجار، قوله تعالى:{لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر:20] والتقدير: (ولمن لستم له برازقين). وكقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} النساء:127] والتقدير: (وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء). فكذلك قوله تعالى: {واتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} يكون التقدير: (واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحامِ).

(1)

الترجيح: كل قراءة من القراءة المتقدمة قراءة متواترة قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر الصحابة الذين تلقوا القرآن بمغير واسطة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. فلا ينبغي رد شيء منها من أجل أنها غير مقبولة عند أحد أئمة اللغة، وإنما يجب الأخذ بهن جميعاً وتلقيهن بالقبول.

ولعل من رد قراءة الجر أراد برده، أنها وإن كانت صحيحة فصيحة، فإن غيرها أفصح منها، إذ القراءات ليست على درجة واحدة من الفصاحة.

(2)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في مثل هذه القراءات المتواترة. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير أبي حيان (2/ 387) - وانظر: الحجة في القراءات لأبي زرعة (188). وشرح ابن عقيل (2/ 219).

(2)

انظر: تفسير الرازي (9/ 163) - وتفسير أبي حيان (3/ 500).

ص: 319

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]

قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها، وجمالها، ويريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن.

قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127] إلى قوله عز وجل: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب، الآية الأولى التي فيها:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3].

قالت عائشة: وقول الله تعالى في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال، والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

(1)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الشركة - باب: شركة اليتيم وأهل الميراث (ح 2362 - 2/ 883).

ومسلم في صحيحه - كتاب: التفسير - باب: في تفسير آيات متفرقة - (ح 7444 - 18/ 348).

ص: 320

وعن هشام بن عروة، عن أبيه

عن عائشة: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] قالت عائشة: هذا في اليتيمة، تكون عند الرجل يعلم أن تكون شريكته في ماله، هو أولى به، فيرغب عنها لمالها أن ينكحها غيره كراهية أن يشركه في مالها.

وقد روي عن عبد الله بن عباس في تأويلها أيضاً مثل الذي روي عن عائشة رضي الله عنها من ذلك كما عن أبي عباس رضي الله عنه في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء:3] قال ابن عباس: فكما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا.

وكما عن ابن عباس في قوله:: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] قال: إن خفتم عليهن الزنى فأنكحوهن.

ففيما روينا عن عائشة، وعن ابن عباس ما قد دل على إباحة تزويج اليتامى، وهن اللاتي لا أب لهن، وهذا يؤكد ما كان أبو حنيفة وأصحابه يذهبون إليه في إجازة تزويج أولياء اليتامى قبل بلوغهن من أنفسهم وغيرهم من الناس.

فقال قائل: هؤلاء اليتامى المذكورات في الآيتين اللتين تلونا فيما رويتم هن اليتامى اللاتي قد بلغن قبل ذلك، فسمين بذلك لقربهن كان من اليتم، واحتجوا لذلك بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما عن أبي بُردة بن أبي موسى.

(1)

(1)

أبو بردة هو: الحارث بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، تابعي فقيه من أهل الكوفه، وثقه ابن حبان وغيره، وكانت وفاته بالكوفة سنة

(103 هـ)(تهذيب الكمال- 8/ 240).

ص: 321

عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تستأمر اليتيمة في نفسها، وإن سكتت فقد أذنت، وان أنكرت، لم تكره ".

(1)

وكما عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" اليتيمة تستأمر، فإن رضيت، فلها رضاها، وإن أنكرت، فلا جواز عليها ".

(2)

قالوا: والاستئذان والاستئمار، فلا يكون إلا لمن بلغ، وفي ذلك ما قد دل على أنه قد يجوز أن يطلق اسم اليتيم على من بلغ قبل ذلك، فمثل ذلك من أطلق عليه اسم اليتيم لقربه كان منه في الآثار التي رويتموها في هذا الباب هو أيضاً على من بلغ ممن قد كان يتيماً قبل ذلك، فأطلق عليه اسم اليتيم لقربه كان منه.

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه - كتاب: النكاح - (ح 74 - 3/ 241).

والبيهقي في سننه - كتاب: النكاح - باب: إذن البكر الصمت وإذن الثيب الكلام - (ح 6 - 7/ 122).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: النكاح - باب: في الاستئمار - (ح 2093 - 2/ 573).

والترمذي في سننه - كتاب: النكاح - باب: ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج - (ح 1110 - 5/ 29). وقال: هذا حديث حسن -أ هـ.

ص: 322

فكان جوابنا له في ذلك: أن الأمر في ذلك ليس كما ذكر، وأن في الآيتين اللتين تلوناهما في هذه الآثار التي قد ورينا ما قد دل أنه أريد بذلك اليتامى غير البالغات، لأن فيهما: أن أولياءهن نهوا أن ينكحوهن إلا أن يبلغوا بهن أعلى نسائهن في الصداق، ولو كن بالغات، لكان أمرهن في صداقهن إنما يرجع فيه إلى ما يرضين به مما قل ومما كثر لا إلى ما سوى ذلك، لأن الله تعالى قال:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] وإذا كان لهن أن يطبن به نفساً لأزواجهن بعد وجوب صدقاتهن عليهم، كان لهن ذلك قبل صدقاتهن عليهم، بأن يعقد التزويج بينهن وبينهم على ما قد رضين به في ذلك أحرى، وكان في منع الله إياهن من ذلك في الآيتين اللتين تلونا ما دل أنهن اليتامى اللاتي لا رضى لهن، وهن غير بالغات.

ثم قد وكد ذلك ما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد تقدم من قوله: " لا يتم بعد الحلم "

(1)

، فنفى بذلك أن يكون بعد الحلم يتم.

فقال هذا القائل: فما معنى حديثي أبي موسى وأبي هريرة اللذين قد ذكرت بعد انتفاء البلوغ عن اليتامى المذكورات فيهما، وفيهما تحقيق الاستئذان والاستئمار.

(1)

أخرجه أبوداود في سننه - كتاب: الوصايا - باب: ما جاء متى ينقطع اليتم- (ح 2873 - 3/ 293) والطبراني المعجم الصغير (266).

ص: 323

فكان جوابنا له في ذلك: أنه قد يحتمل أن يكون أريد بما فيهما اليتامى اللاتي قد عقلن، وعرف منهن ما تميل قلوبهن إليه مما فيه صلاحهن، أو بعدُ قلوبهن مما سوى ذلك مما لا صلاح لهن فيه، وإن كن لم يبلغن، وعسى أن يكون مع بعضهن - وإن كن لم يبلغن - من حسن الاختيار أكثر مما مع غيرهن ممن بلغ من ذلك، ولكنه لا يجاوز فيهن، وفي من سواهن أمر الله تعالى الذي أمر به في خلقه، ويكون مما ينبغي لأوليائهن أن يفعلوه فيهن إذا كن كذلك، وأرادوا تزويجهن لاعتبار ما عندهن في ذلك من ميل إليه، وفي رغبة عنه، لأنهن يعرفن من أنفسهن ما لا يعرفه منهن غيرهن، فيكون ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فيهن على هذا المعنى لا على ما سواه، وإذا انتفى ذلك، ثبت جواز تزويج الأولياء اليتامى اللاتي لم يبلغن، كما قال من ذهب إلى ذلك من أهل العلم ما قد ذكرناه عنه فيه.

وقد دل على هذا المعنى أيضاً ما قد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيه من مذهبه في تزويج الأيتام قبل البلوغ مما قد دل: أن تأويل الآيتين اللتين تلونا كان عنده على ما كان تأويلها عليه عند عائشة، وابن عباس.

كما عن أبي داود يزيد الأودي

(1)

، قال: كنت عند علي بعد العصر، إذ أُتي برجل، فقالوا: وجدنا هذا في خربة مراد، معه جارية مخضَّبُ قميصها بالدم، فقال له: ويحك ما هذا الذي صنعت؟ قال: أصلح الله أمير المؤمنين كانت بنت عمي يتيمة في حجري، وهي غنية في المال، وأنا رجل قد كبرت وليس لي مال، فخشيت إن هي أدركت ما يدرك النساء ترغب عني، فتزوجتها. قال: وهي تبكي. فقال: أتزوجتيه؟ فقائل من القوم عنده يقول لها: قولي (نعم)، وقائل يقول لها: قولي (لا) فقالت: نعم، تزوجته. فقال: خذ بيد امرأتك.

(1)

أبو داود هو: يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأوْدِيُ الكوفي، وثقة ابن حبان وغيره. (تهذيب الكمال - 8/ 137).

ص: 324

فيدل ما كان من علي رضي الله عنه في هذا الحديث على أن تأويل الآيتين اللتين تلونا كمثل الذي كان تأويلهما عليه عند عائشة، وابن عباس مما ذكرنا عنهما، وفي ذلك ما قد دل على جواز نكاح الرجل من نفسه من هو وليه، كما يقوله أبو حنيفة، ومالك، وأصحابهما في ذلك، وبخلاف من يقول: إن الرجل لا يكون مزوجاً من نفسه كما لا يكون بائعاً من نفسه.

(شرح مشكل الآثار- 14/ 417 - 425)

الدراسة

ذكر الإمام الطحاوي الروايات الدالة على المراد بالآية على وجه العموم، ثم بين - رحمه الله تعالى - أن المراد باليتامى في الآية: اليتامى اللآتي لا رضى لهن، وهن غير البالغات.

وبناء على أن هذا هو المراد، فقد استدل - رحمه الله تعالى - بهذه الآية على جواز تزويج أولياء اليتامى قبل البلوغ من أنفسهم أو غيرهم من الناس.

وإليك أولاً: بيان الأقوال الواردة في المراد بالآية:-

القول الأول: أن معنى الآية: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى من عدم العدل في نكاح اليتامى، وخفتم ألا تقسطوا في صداقهن، فتعدلوا فيه وتبلغوا به صداق أمثالهن من النساء، أو خفتم عدم العدل في معاملتهم لعدم محبتكم لهن، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرهن من النساء الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم من واحدة إلى أربع، فإن خفتم ألا تعدلوا إذا نكحتم أكثر من واحدة، فلا تنكحوا منهن إلا واحدة، أو ما ملكت إيمانكم.

- وهذا قول: ابن عباس - وعائشة رضي الله عنهم كما أنه قول جمهور المفسرين.

(1)

(1)

تفسير الطبري (3/ 573).

ص: 325

- وقد دل على هذا القول: ما روي عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء، سواهن.

قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فيهن، فأنزل الله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127]

قالت: والذي ذكر الله تعالى: أنه يتلى عليكم في الكتاب، الآية الأولى التي قال الله فيها:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3].

قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127]، هي رغبة أحدكم عن اليتيمة التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن.

(1)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]. (ح 4298 - 4/ 1668). ومسلم في صحيحه - كتاب: التفسير - باب: تفسير آيات متفرقة (ح 7444 - 18/ 348).

ص: 326

- القول الثاني: أن معنى الآية: أن القوم كانوا يتحرجون في أموال اليتامى ألا يعدلوا فيها، ولا يتحرجون في النساء ألا يعدلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أيها الأولياء ألا تعدلوا في اليتامى فكذلك خافوا ألا تعدلوا في النساء، فلا تنحكوا منهن إلا واحدة إلى أربع ولا تزيدوا على ذلك.

وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا منهن إلا واحدة، أو ما ملكت أيمانكم.

- وهذا قول: ابن عباس - وسعيد بن جبير- والسدي - وقتادة - والضحاك - والربيع.

(1)

وهو قول جماعة من أهل اللغة كالفراء

(2)

وابن قتيبة.

(3)

- القول الثالث: أن معنى الآية: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ألا تقسطوا في اليتامى فتحرجتم من أكل أموالهم بالباطل، فكذلك فتحرجوا من الزنا، وانكحوا من النساء ما أحل الله لكم.

- وهذا قول: مجاهد.

(4)

- القول الرابع: أن معنى الآية: نهي أولياء اليتامى عن نكاح ما فوق الأربع خوفاً على أموال اليتامى منهم. وذلك أن قريشاً كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدماً، مال على مال اليتيمة التي في حجره، فأنفقه أو تزوج به، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، لما يلزمكم من مؤن نسائكم، فلا تنكحوا من النساء فوق أربع، وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا منهن إلا واحدة، أو ما ملكت أيمانكم.

- وهذا قول: ابن عباس - وعكرمة.

(5)

(1)

تفسير الطبري (3/ 575).

(2)

معاني القرآن للفراء - (116).

(3)

تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (72).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 50).

(5)

تفسير الطبري (3/ 574).

ص: 327

- الترجيح: والراجح هو القول الأول، لأن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم قد قالا إن الآية نزلت في ذلك، وذلك لا يقال بالرأي، وإنما يقال توقيفاً.

(1)

ولأن جواب الشرط دال عليه، فجواب الشرط هو قوله جل وعلا:{فَانْكِحُوا} [النساء:3] فوجب الربط بين الشرط وجوابه بمحذوف مقدر.

وعليه فإن معنى الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فدعوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن.

(2)

وقد ذهب إلى ترجيح هذا القول: أبو جعفر النحاس، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد، وأبو بكر الجصاص، وأبو حيان، ومحمد الأمين المختار الشنقيطي.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: بيان المراد باليتامى، وهل المراد بهن البالغات، أم غير البالغات؟:-

القول الأول: أن المراد باليتامى: غير البالغات.

- وهذا قول: أبي حنيفة وأصحابه.

(4)

- ومن أدلة هذا القول:-

1 -

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] فالآية جاءت بالنهي للأولياء عن تزويج اليتامى بأقل من مهر مثلهن، فعلمنا أن المراد باليتامى: الصغيرات اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره.

وعليه فلا يصح أن يكون المراد باليتيمة في الآية: الكبيرة البالغة، لأن الكبيرة إذا رضيت بأن تتزوج بأقل من مهر مثلها جاز نكاحها، وليس لأحد أن يعترض عليها.

(5)

كما أنه لا يتزوجها أحد إلا بإذنها، وليس لأحد إكراهها على ذلك.

(6)

(1)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 51).

(2)

تفسير الشنقيطي (1/ 189).

(3)

انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 11) - وتفسير أبي حيان (3/ 504).

(4)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 310).

(5)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 52).

(6)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 311).

ص: 328

وقد رد هذا الاستدلال: بأن المراد بالنهي: هو ولي المرأة البالغة، لأن من الأولياء من يستولي على مال موليته بدون رضاها، وهي لا تقدر على مقاومته، فنهوا عن ذلك.

(1)

2 -

أن اليتيم هو الذي مات أبوه، فهو يتيم حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم. فلفظ (اليتم) حقيقة في الصغيرة، أما الكبيرة فتسمى يتيمة على وجه المجاز. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" لا يتم بعد الحلم "

(2)

ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة.

(3)

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الفظ (اليتم) يطلق على من مات أبوه، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار، واختصاصه بالصغار مبني على العرف. وعليه فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" لا يتم بعد الحلم " هو تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ - والمعنى: أنه لا يجري على اليتم بعد الحلم حكم الأيتام قبل الحلم.

(4)

- القول الثاني: أن المراد باليتامى: البالغات.

- وهذا قول: مالك - والشافعي.

(5)

- ومن أدلة هذا القول:-

(1)

أحكام القرآن لابن الفرس (95).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الوصايا - باب ما جاء متى ينقطع اليتم؟ (ح 2873 - 3/ 293).

(3)

انظر: أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 313) - تهذيب اللغة للأزهري (مادة: يتم - 14/ 339).

(4)

تفسير أبي السعود (2/ 94).

(5)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 310).

ص: 329

1 -

قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] فلما قال جل وعلا: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} دل على أن المراد الكبار منهن دون الصغار، فالصغار لا يسمين بنساء، لأن لفظ (النساء) يطلق في الحقيقة على البالغات.

(1)

.

وقد اعترض على هذا الاستدلال: بأن اسم النساء يتناول الصغيرة، كما في قوله جل وعلا:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] والصغار والكبار داخلات فيهن. وكما في قوله جل وعلا: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] والصغار والكبار داخلات فيهن، وكما في قوله جل ذكره:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمها تحريماً مؤبداً، إلى غير ذلك من الآيات.

فليس إذاً في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار، لأن الصغار إذا كن من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن. وعليه فإن اسم النساء يتناول الصغيرة كما يتناول الكبيرة.

(2)

وقد أجيب عن هذا الاعتراض: بأن اسم (النساء) في قبيل الإناث، كاسم (الرجل) في قبيل الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء والمرأة، لا يتناول الصغيرة. والآيات التي وقع الاستشهاد بها يمكن أن يكون اللفظ فيها لغير الصغيرة، ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة السنة والإجماع.

(3)

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 51) - وأحكام القرآن لابن الفرس (95).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 52).

(3)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 313).

ص: 330

2 -

أن لفظ (اليتم) قد يطلق على البالغة كما جاء في السنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم: " تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أنكرت لم تكره"

(1)

فدل هذا الحديث على أن اليتيمة قد تكون بالغة، لأن الاستئمار لا يكون إلا من البالغة.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: زوج قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة إلى أمها فرغبها في المال فرغبت، فقال قدامة أنا عمها ووصي أبيها زوجتها ممن أعرف فضله، فترافعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:" إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها ".

(2)

فدل هذا الحديث على أن اليتيمة قد تكون كبيرة بالغة، بدليل قوله:(لا تنكح إلا بإذنها) فالكبيرة هي التي يعتبر إذنها ورضاها خلافاً للصغيرة.

(3)

الترجيح: والراجح هو القول أن المراد باليتامى: النساء البالغات. بدلالة لفظ (النساء) الذي يتناول المرأة الكبيرة دون الصغيرة.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم

المسألة الثالثة: حكم تزويج الصغيرة:

- القول الأول: لا يجوز تزويج الصغيرة، حتى تبلغ وتستأمر ويصح إذنها.

- وهذا قول: مالك - والشافعي.

(4)

- القول الثاني: يجوز تزويج الصغيرة.

- وهذا قول: أبي حنيفة وأصحابه.

- ومن أدلة هذا القول:

(1)

أخرجه أبوداود في سننه - كتاب النكاح - باب الاستئمار (ح 2093 - 2/ 573)

والترمذي في سننه - كتاب النكاح - باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج (ح 1110 - 5/ 29) وقال: هذا حديث حسن. أ هـ.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب النكاح - باب لا تنكحوا النساء حتى تستأمروهن - (ح 2703 - 2/ 181) وقال: هذا حديث صحيح.

أهـ- وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 130).

(3)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 311).

(4)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 310).

ص: 331

1 -

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] فمفهوم معنى الآية أن من لم يخف الإقساط في حق اليتيمة الصغيرة من الأولياء، وأعطاها مهرها الذي تستحقه من غير نقص فيه فإنه يجوز له التزوج بها.

وقد رد هذا الاستدلال: بأن المراد باليتيمة: البالغة، وإذا ثبت أن المراد بالآية البالغة، لم يكن في كتاب الله تعالى ما يدل على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ.

(1)

2 -

قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] فقوله جل ذكره: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قد دل على جواز نكاح الصغيرة.

وقد رد هذا الاستدلال: بأنه ليس في الآية ما يدل على جواز تزويج الصغيرة، إذ لا يلزم من الرغبة في نكاحها، جريان العقد في صغرها.

(2)

- الترجيح: القول الراجح هو جواز تزويج الصغيرة، لأن تزويج الصغار فعله عدد من الصحابة، وفعله الرسول صلى صلى الله عليه وسلم حيث زوج سلمة بن أبي سلمة من ابنة عمه حمزة بن عبد المطلب وهما صبيان صغيران.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: حكم تزويج غير الأب للصغيرة:

القول الأول: أنه ليس لغير الأب تزويج الصغيرة.

- وهذا قول: مالك - والشافعي - وأحمد - وأبي عبيدة - والثوري - وابن أبي ليلى.

(1)

أحكام القرآن لابن الفرس (93).

(2)

تفسير البيضاوي (1/ 240).

(3)

أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 339) والواقدي في المغازي (2/ 239).

ص: 332

- وحجة هذا القول:- أن غير الأب قاصر الشفقة، فلا يلي نكاح الصغيرة كالأجنبي.

(1)

وقد ردت هذه الحجة بالأمور التالية:

أ - أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن جارية بكراً، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم).

(2)

فدل هذا الحديث على أن الأب قد يكون قاصر الشفقة كغيره من الأولياء.

ب - أن كمال الشفقة ليس مسوغاً للولاية وإلا لكانت الأم أولى بذلك من الأب لشدة شفقتها.

ج - أن الأب قد يكون أقل شفقة في رعاية مصلحة ابنته، كما في حال تزويجها في نكاح الشغار، حينما يقدم الأب مصلحته على مصلحة وليته، مما يرفع ولايته عنها لعدم رعايته لمصلحتها، وهذا أيضاً مما يوضح أن جعل كمال الشفقة مسوغاً لأحقية الأب بالإجبار دون غيره من الأولياء غير دقيق، بحيث يمكن الاعتماد عليه كدليل.

(3)

- القول الثاني: جواز تزويج غير الأب للصغيرة.

- وهذا قول: أبي حنيفة - وأحمد في رواية عنه - والحسن - وعمر بن عبد العزيز - وعطاء - وطاووس - وقتادة - والأوزاعي.

(4)

.

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] فمفهوم معنى الآية: أن من لم يخف الإقساط في حق اليتيمة الصغيرة من الأولياء، وأعطاها مهرها الذي تستحقه من غير نقص فيه، فإنه يجوز له التزوج بها، وينبني على هذا المفهوم، أنه إذا جاز أن يتزوجها بنفسه جاز له تزويجها لغيره.

(1)

المغني لابن قدامة (9/ 402).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب النكاح - باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها - (ح 2096 - 2/ 576)

وابن ماجة في سننه - كتاب النكاح - باب من زوج ابنته وهي كارهة - (ح 1880 - 1/ 345).

(3)

آيات الأحكام في المغني (3/ 929).

(4)

المغني لابن قدامة (9/ 402).

ص: 333

2 -

قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فالمراد (بالذي بيده عقدة النكاح) هو: الولي مطلقاً، وليس مخصوصاً بولي دون آخر من أب أو جد بل جميع الأولياء في ذلك سواء.

(1)

3 -

ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا نكاح إلا بولي"

(2)

فدل هذا الحديث على أن النكاح يصح إذا تم بشروطه، ومن شروطه الولي سواء كان أباً أو غيره، لأنه قال:" لا نكاح إلا بولي " و (الولي) لفظ عام يعم كل ولي.

4 -

أن الأب لو وكَّل وكيلاً ينوب عنه في تزويج ابنته الصغيرة، فإن للوكيل تزويجها نيابة عن الأب، ولم يقل أحدٌ بأنه لابد للأب أن يلي العقد بنفسه مباشرة، وأنه لا تجوز الوكالة في ذلك.

وإذا سلمنا بجواز ذلك من الوكيل، لأنه ناب عن الأب وقام مقامه، فإن للولي الذي يلي تلك الصغيرة بعد أبيها أن يقوم مقام أبيها في جميع ولايته تلك دون استثناء.

(3)

الترجيح: والقول الراجح في المسألة هو: جواز تزويج غير الأب للصغيرة. فإذا تعذرت ولاية الأب وأنكحها ولي غيره، فالنكاح صحيح لتوافر شروطه، ولأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يقتضي عدم صحة نكاح الصغيرة إلا بشرط أن يكون الولي أباً، فتخصيص الولاية في النكاح بالأب بدون مخصص غير مسلم به. وعليه فإن من قال إن النكاح غير صحيح بولاية غير الأب، قول باطل لكونه قول فيه إبطال لنكاح توافرت شروطه.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في هذه المسالة. والله تعالى أعلم

(1)

آيات الأحكام في المغني (3/ 925).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب النكاح - باب في الولي (ح 2085 - 2/ 568).

وابن ماجة في سننه - كتاب النكاح - باب لا نكاح إلا بولي - (ح 1887 - 1/ 347).

(3)

انظر: المغني لابن قدامة (9/ 402) - وآيات الأحكام في المغني (3/ 926).

ص: 334

المسألة الخامسة: حكم تزويج الولي نفسه من موليته: اختلف السلف في ذلك إلى قولين:

- القول الأول: أنه يجوز لولي اليتيمة أن يزوجها من نفسه إذا عدل في صداقها.

- وهذا قول: الأوزاعي - والثوري - وأبي ثور - وأبي حنيفة وأكثر أصحابه - ومالك - وأحمد في رواية عنهما.

- القول الثاني: أنه لا يجوز لولي اليتيمة أن يزوجها من نفسه، بل يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله.

- وهذا قول: زفر - وداود - والشافعي - ومالك في رواية - وأحمد في الرواية المشهورة عنه.

- وحجة هذا القول: أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحاً، كما لا يبيع من نفسه.

(1)

الترجيح: والقول الراجح هو أنه يجوز لولي اليتيمة أن يزوجها من نفسه. لأن ولايته عليها مطلقة وثابتة شرعاً، فنكاحه لها متوفرة شروطه، ولا مانع منه.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المسألة. والله تعالى أعلم

وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء:3]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] قال: " لا تجوروا "

(2)

وعن ابن عباس: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] قال: لا تميلوا.

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 310) - وأحكام القرآن لابن الفرس (92) - وتفسير القاسمي (2/ 508).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: النكاح - باب: الترغيب في النكاح - (حـ-4777 - 5/ 1949)

وابن حبان في صحيحه - (حـ-4029 - 9/ 338).

ص: 335

ولا نعلمه روي عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويلها غير هذا القول.

وقد روي عن غير واحد من التابعين في تأويلها مثل ذلك أيضاً كما عن عكرمة

(1)

في هذه الآية:: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] قال: ألا تميلوا. قال: وأنشدنا بيتاً من شعرٍ زعم أن أبا طالب قاله:

بميزان قسط لا يُخسُ شعيرة

وميزانِ صدق وزنه غير عائل

(2)

وكما عن إبراهيم

(3)

: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] قال: لا تميلوا.

وكما عن أبي مالك

(4)

، مثله

ولا نعلم أحداً من التابعين روي عنه في تأويلها غير هذا التأويل غير زيد بن أسلم، فإنه روي عنه في تأويلها أن ذلك على أن لا يكثر عيالهم، وهذا قول يزعم أهل اللغة: أنه قول فاسد، وأنه لو كان على ما قال زيدٌ في تأويلها لكان:(ألا تُعيلُوا). وبالله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار -14/ 426 - 431)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: لا تميلوا.

كما بين أن هذا هو قول جمهور الصحابة والتابعين، راداً بذلك على من قال إن المراد به غير ذلك.

(1)

عكرمة هو: أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله البربري المدني الهاشمي، مولى عبد الله بن عباس، وهو ثقة ثبت، عالم بالتفسير، كانت وفاته سنة

(104 هـ)(طبقات المفسرين - 1/ 386).

(2)

هذا البيت ذكره ابن هشام في سيرته (1/ 277) وابن منظور في لسان العرب (مادة: عول-11/ 489).

(3)

إبراهيم هو: أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن الأسود الكوفي النخعي، أحد الأئمة الفقهاء المشاهير، تابعي رأى عائشة رضي الله عنها، ولم يثبت

له منها سماع، وكانت وفاته سنة (96 هـ)(وفيات الأعيان-1/ 25).

(4)

أبي مالك هو: غَزْوان الغِفاري الكوفي، وثقة ابن معين وغيره. (تهذيب الكمال-6/ 9)

ص: 336

وإليك بيان أقوال المفسرين في المراد بهذه الآية، مع بيان القول الراجح في ذلك:

- القول الأول: أن المراد بقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: ألا تميلوا وتجوروا.

- وهذا قول: جمهور المفسرين.

(1)

وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا القول: فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في قوله عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] قال: (ألا تجوروا).

(2)

كما أن اللغة دالة على هذا المعنى: فإن أصل العول: الميل، يقال:(عال الميزان عولاً): إذا مال. ويقال: (عال الحاكم في حكمه): إذا جار - ويقال: (عالت الفريضة): إذا زادت سهامها.

ومن ذلك قول أبي طالب في قصيدة له يستعطف بها قريش:

بميزان قسط لا يبخس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

(3)

أي: غير مائل أو جائر في حكمه.

فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ "عال" هو: الميل.

(4)

- القول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: ألا يكثر عيالكم.

- وهذا قول: زيد بن أسلم - وجابر بن زيد - وسفيان بن عيينة - والإمام الشافعي.

(5)

- وقد اعترض على هذا القول بأمرين:

أ - أن العرب تقول: (عال الرجل يعول): إذا جار. وتقول (أعال الرجل يعيل): إذا كثر عياله.

فلو كان المراد بقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]: ألا يكثر عيالكم، لقال:(ألا تعيلوا).

(6)

(1)

معاني القرآن للنحاس - (2/ 15).

(2)

تقدم تخريجه (265).

(3)

هذا البيت ذكره ابن هشام في سيرته - (1/ 277) وابن منظور في لسان العرب - (مادة: عول -11/ 489).

(4)

تفسير الرازي (9/ 177).

(5)

انظر: تفسير ابن كثير (1/ 461) - وتفسير القرطبي (5/ 27).

(6)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 315).

ص: 337

- ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن من العرب الفصحاء من يقول: (عال الرجل يعول): لمن كثر عياله. فهذه لغة حِمْيَر، كما وردت هذه اللغة في الشعر العربي، كما في قول الشاعر:

(1)

وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا

أي: وإن كثرت ماشيته، وكثر عياله.

(2)

فدل هذا النقل عن العرب: أن كلمة (تعولوا) قد ترد بمعنى: (كثرة العيال). كما ترد بمعنى: (الميل والجور).

- ومما يؤيد هذا القول: أن طلحة بن مصرف، كان يقرأ هذه الآية:(ألا تعيلوا).

(3)

و (تعيلوا) عند -جميع العرب بمعنى: تكثر عيالكم. وهذا مما يؤكد صحة هذا القول في المراد بالآية.

ب - أن الله جل وعلا أباح كثرة ملك الإماء، فقال:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وفي ذلك تكثير للعيال، فكيف يصح أن يكون المراد بقوله:(ألا تعيلوا) ألا تكثر عيالكم، وكثرة العيال لا تختلف بأن تكون الزوجة حرة أو مملوكة.

(4)

- ويجاب عن هذا الاعتراض بما يلي:-

1 -

أن الإماء إذا كثرن عند الزوج فله أن يكلفهن الكسب، وحينئذ تقل نفقة العيال.

أما إذا كانت الزوجة حرة، لم يكن له من الأمر ذلك.

2 -

أن الزوجة المملوكة إذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها. أما إذا كانت حرة فلابد من الإنفاق عليها، وإن حاول التخلص منها بالطلاق طالبته بالمهر المؤخر، فيقع الزوج في شدة من ذلك.

3 -

أن الغرض من التزوج بالحرائر التوالد، بخلاف التزوج من الإماء، ولذلك جاز العزل عن الإماء بغير إذنهن، بخلاف الحرائر.

وبهذه الفروق بين التزوج بالحرة، والتزوج بالمملوكة، يظهر جلياً أن التزوج بالإماء مظنة لقلة العيال، خلافاً للتزوج بالحرائر.

(1)

تهذيب اللغة للأزهري (مادة: عال -3/ 194).

(2)

تفسير أبي حيان (3/ 509).

(3)

تفسير البغوي (2/ 162).

(4)

تفسير أبي حيان (3/ 508).

ص: 338

الترجيح: والقول الصحيح أن كلا القولين مراد بالآية، وذلك لأن أصل العول في اللغة الميل. كما أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم من كسب حلال، وقد يصعب عليه ذلك فيميل إلى كسب حرام لإعالتهم، كما يلزمه العدل بينهم في المعاملة وقد يقع الميل منه في ذلك بتقديم بعضهم وتفضيله على غيره، فكثرة العيال قد تستلزم الميل والجور.

ومن هنا يظهر أن القول الثاني راجع عند التحقيق إلى القول الأول، لكن على سبيل الكناية والتعريض، وبهذا يزول الاعتراض والتعريض.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء:4]

قال أبو جعفر الطحاوي: (والنِّحْلة): ما يزول به ملكه من غير أن يملك بدلاً مثله.

(مختصر اختلاف العلماء-2/ 366)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالنِّحْلة) في الآية هو: الهبة التي يُملِّكها الرجل للمرأة من غير أن يملك بدلاً منها.

وإليك ذكر أقوال المفسرين في المراد بـ (النحلة) في الآية:

القول الأول: أن المراد بـ (النِّحْلة): الهبة. فالصداق هبة من الله جل وعلا للنساء. وذلك لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بصاحبه، والصداق على الزوج يعطيه للزوجة من غير أن يملك بدلاً منه.

وليس البضع بدلاً منه، لأنه في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. فالذي يستحقه الزوج بالصداق إنما هو الاستباحة لا الملك. وعليه فإن معنى (النِّحْل): أن تهب شيئاً بلا استعواض.

- وهذا قول: الفراء - والزجاج - والقاضي أبي يعلى.

القول الثاني: أن المراد بـ (النِّحْلة): العطية بطيبة من النفس.

(1)

انظر: تفسير الرازي (9/ 178) - وتفسير الزمخشري (2/ 17).

ص: 339

فمعنى قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: ولا تعطوا النساء صدقاتهن وأنتم كارهون لذلك، ولكن أعطوهن صدقاتهن عن طيب نفس منكم، وإن كان الصداق لهن دونكم.

فسمى إعطاء الصداق نحلة، لأن (النحلة) هي العطية التي لا يكاد أن يفعلها الناحل إلا متبرعاً بها طيبة بها نفسه.

- وهذا قول: أبي عبيدة معمر بن المثنى.

(1)

القول الثالث: أن المراد بـ (النِّحْلة): الفريضة. وذلك لأن (النِّحْلة) في اللغة تأتي بمعنى الديانة والشريعة والفريضة. كما يقال: (فلان ينتحل كذا) أي: يدين به.

فمعنى الآية: أن الصداق فرض من الله جل وعلا على الرجال للنساء، لأن الأولياء كانوا قبل ذلك في الجاهلية يأخذون الصداق، ولا يعطونه للمرأة، فانتزعه الله جل وعلا منهم وجعله حق وفرض للنساء.

- وهذا قول: ابن عباس - وقتادة - ومقاتل - وابن زيد - وابن جريج.

(2)

الترجيح: وجميع الأقوال المتقدمة مرادة بالآية، إذ لا تعارض بينها، فالصداق هو فرض من الله جل وعلا على الرجال للنساء، فينبغي للرجل أن يعطيه المرأة، راضية بذلك نفسه، من غير أن يطلب به ما هو عوض عنه.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 57) - وتفسير ابن الجوزي (2/ 83) ومعجم مقاييس اللغة (مادة: نحل-5/ 403).

(2)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 57) - وتفسير الرازي (9/ 180) وتفسير ابن الجوزي (2/ 83).

ص: 340

قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء:6]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن الثوري: في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] قال: الفصل والحفظ لماله.

وكان يقال: إذا اجتمع فيه خصلتان: إذا بلغ الحلم، وكان حافظاً لماله، لا يخدع عنه.

وحكى المزني عن الشافعي في مختصره: قال وإذا أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم بأمرين، لم يدفع إليهم إلا بهما، وهما: البلوغ والرشد، والصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال

قال أبو جعفر: قول الشافعي: (إن من إيناس الرشد - الذي لا يدفع المال إلى صاحبه حتى يكون من أهله -: جواز الشهادة). لم نجده عند أحد من أهل العلم غيره

قال أبو جعفر: منع الله تعالى اليتامى بعد بلوغ النكاح حتى يؤنس الرشد منهم بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] وهي آية محكمة غير منسوخة، والابتلاء المذكور فيها: هو الاختبار لأحوالهم في حفظ المال وتبذيره.

فإن قيل: قد روي عن مجاهد في قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] قال: عقولهم.

ص: 341

قيل له: هذا محال لاتفاق الجميع على أنه ممنوع من ماله بعد البلوغ إذا كان مفسداً، فدل على أن إيناس الرشد ليس هو العقل فحسب، لأنه لو كان إيناس الرشد هو العقل لما صرفه أحد منه، مع وجود العقل.

(مختصر اختلاف العلماء - 5/ 217 - 218)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالابتلاء) المذكور في الآية: هو الاختبار لأحوالهم في حفظ المال وتبذيره، راداً بذلك على من قال إن المراد بالابتلاء: هو اختبار عقولهم.

كما بين رحمه الله تعالى أن المراد (بالرشد) هو: إصلاح المال، وليس العقل فحسب.

وإليك أولاً: بيان المراد (بالابتلاء) في الآية:

- القول الأول: أن المراد (بالابتلاء) هو: اختبار عقولهم.

- وهذا قول: ابن عباس - ومجاهد - ومقاتل - والثوري - والسدي.

(1)

- القول الثاني: أن المراد (بالابتلاء) هو: اختبار عقولهم، واستبراء أحوالهم في المعرفة بالأمور المالية والمصالح من المفاسد.

- وهذا قول: ابن عباس - والحسن - وقتادة - وابن زيد - وأبي حنيفة - والشافعي.

(2)

الترجيح: والراجح هو القول الثاني لأنه لو كان الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشراء والبيع، وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف، لما كان للابتلاء وجه قبل البلوغ. فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف.

ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره، وحفظه لماله. ولأن قصر الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال، هو تخصيص لعموم اللفظ بغير دليل.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: بيان المراد (بالرشد) في الآية:

(1)

تفسير ابن الجوزي (2/ 85).

(2)

تفسير الطبري (3/ 593) - وتفسير الرازي (9/ 188).

(3)

أحكام القرآن للجصاص - (2/ 62).

ص: 342

- القول الأول: أن المراد (بالرشد) هو: الصلاح في الدين، والإصلاح في المال.

(1)

- وهذا قول: ابن عباس - والحسن - وابن عقيل - والشافعي - والمالكية.

(2)

- وحجة هذا القول الأمور التالية:

1 -

أن الله جل وعلا علق دفع المال على إيناس رشد ما، وكان ينبغي أن يدفع إليه المال عند وجود الشرط، سواء كان رشيداً في ماله دون دينه أو في دينه دون ماله. ولما اتفقوا على أنه لا يدفع إليه في هذه الحالة وهي إذا رشد في دينه دون ماله، جعلنا الحالة الأخرى مثلها، إذ ليس إحدى الحالتين أولى من الأخرى، ولما فيه من حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه.

(3)

2 -

ولأن الفاسق لا يوثق في دينه، فكيف يؤتمن على ماله، كما أنه إذا لم يوثق على صدق مقالته لم تجز شهادته.

(4)

3 -

أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد لدينه أو ماله لا يكون مصيباً للخير.

4 -

أن الرشد نقيض الغي قال جل وعلا: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] والغي هو الضلال والفساد في الدين. وقال جل وعلا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] فجعل العاصي غوياً، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين.

وقال جل وعلا: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97] فنفى جل وعلا الرشد عن فرعون، لأنه لم يكن مراعياً لمصالح الدين.

(5)

(1)

تفسير السمعاني (1/ 398).

(2)

انظر: المغني لابن قدامة (6/ 607) - والإنصاف للمرداوي (5/ 238) وتفسير الماوردي (1/ 453).

(3)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 510).

(4)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 322).

(5)

تفسير الرازي (9/ 188).

ص: 343

- وقد رُد هذا القول الذي يشترط صلاح الدين: بأن الرشد في الدين غير معتبر، لأنه لو كان هناك رجل فاسق ضابط لأموره، عالماً بالتصرف في وجوه التجارات لم يجز أن يمنع ماله لأجل فسقه. كما أنه لو طرأ فسق على مسلم بعد دفع المال إليه فإنه لا يحجر عليه، لأنه لم يزل رشده بسبب فسقه الطارئ. ولذلك فإن الكافر لا يحجر عليه مع أنه غير رشيد في دينه. فعلمنا بذلك أن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب إذ لا معنى له.

(1)

- القول الثاني: أن المراد (بالرشد) هو: العقل.

- وهذا قول: مجاهد - والشعبي.

(2)

- وحجة هذا القول: أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشداً منكراً، ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل، فقد حصل ما هو الشرط المذكور في الآية.

(3)

- وقد رُد هذا القول الذي قصر الرشد على صلاح العقل:

بأنه لو كان هناك رجل ذا عقل إلا أنه غير ضابط لماله، يغبن في تصرفه، ويفسد ما يجمعه، فإنه يكون ممنوعاً من ماله عند القائلين بالحجر، لقلة الضبط وضعف العقل. فعلمنا بذلك أن القول باعتبار العقل دون القدرة على إصلاح المال وصرفه، قول قاصر لا يعتد به.

(4)

- القول الثالث: أن المراد (بالرشد) هو: الصلاح في العقل والإصلاح في المال.

- وهذا قول: ابن عباس - وسفيان الثوري - ومالك - وأبي حنيفة - وأحمد.

(5)

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 63) والمغني لابن قدامة (6/ 607).

(2)

تفسير الماوردي (1/ 453).

(3)

تفسير الرازي (9/ 189).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 63).

(5)

انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 20) وتفسير ابن عطية (4/ 23) - والمغني لابن قدامة (6/ 607) والإنصاف للمرداوي (5/ 238).

ص: 344

- وحجة هذا القول: أن الله جل وعلا قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ] النساء: 6 [ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال جلا وعلا: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}] النساء: 6 [فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشداً في حفظ المال وضبط مصالحه. لأنه إذ لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو: حصول الرشد في رعاية مصالح المال.

(1)

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد (بالرشد) في الآية: الصلاح في العقل والإصلاح في المال. وأن الاعتبار بهما دون الدين، فإنه ليس شرطاً في الرشد في المال. كما أن الخطاب في الآية مع الأولياء جاء بصدد المال، ولم يقصد به شئ من أمر الدين، فينبغي أن يصرف الرشد إلى الصلاح في المال لقرينة القصد. فالقصد قرينة قوية تخص الأسماء ببعض مسمياتها، بل تعدل بها عن حقائقها إلى مجازاتها.

(2)

وقد رجح هذا القول الطبري حيث قال: وأولى هذه الأقوال عندي بمعني الرشد - في هذا الموضع - العقل وإصلاح المال، لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه، وإن كان فاجراً في دينه. أ هـ.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء:10]

(1)

تفسير الرازي (9/ 189).

(2)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 511).

(3)

تفسير الطبري (3/ 595).

ص: 345

قال أبو جعفر الطحاوي: ووجدنا قوله .. (تأكل) بمعنى تقدر كقوله الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10]. ليس يعني بذلك آكليها دون محتجبيها عن اليتامى لا بأكل لها، وكقوله عز وجل:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] بمعنى قوله: تغلبوا عليها إسرافاً على أنفسكم وبداراً أن يكبروا، فيقيمون عليكم الحجة فيها، فينتزعونها منكم لأنفسهم، فكان الأكل فيما ذكرنا يراد به الغلبة على الشيء، لأن كل آكل لشيء غالب عليه.

(شرح مشكل الآثار- 5/ 82)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بأكل أموال اليتامى) في الآية هو:

الغلبة والاستيلاء عليها، وإنفاقها في الأكل وغيره. وهذا قول جمهور المفسرين.

فقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] وقوله جل ذكره: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] هو عموم في النهي عن سائر وجوه التصرف المحرمة في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول منها وغير المأكول، فليس المأكول بأولى بمعنى الآية من غيره.

وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أعظم ما يبتغى له المال، إذ به قوام الإنسان وحياته. وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه، ومثال ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فخص الله جل وعلا البيع بالذكر، وإن كان ما عداه من سائر ما يشغل المسلم عن الصلاة بمثابة البيع في النهي عنه، لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم. فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه، وأنه أولى بالنهي، إذا قد نهاهم عماهم إليه أحوج والحاجة إليه أشد.

ص: 346

وكقوله جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] فخص لحم الخنزير بالذكر والتحريم مع أن سائر أجزائه مثله في التحريم، لأن اللحم معظم ما يراد منه وينتفع به، فكان في تحريمه أعظم منافعه، دلالة على تحريم ما دونه من منافعه.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية هو قول جمهور المفسرين.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} [النساء: 11]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع

(2)

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 58). وتفسير الرازي (9/ 201).

(2)

سعد هو: سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي، كان أحد نقباء الأنصار، وكان كاتباً في الجاهلية، شهد العقبة الأولى

والثانية، وقتل يوم أحد شهيداً. (أسد الغابة -2/ 348).

ص: 347

بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فاستفاءه، فلم يدع لهما مالاً، ولا يُنكحان إلا ولهما مال، فقال:" سيقضي الله في ذلك" فأنزل الله آية الميراث، فبعث إلى عمهما، فقال:" أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، ولك ما بقي".

(1)

قال أبو جعفر: وآية الميراث المذكورة في هذا الحديث هي قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} الآية [النساء:11]

قال أبو جعفر: فتأملنا قوله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] فكان ظاهره على أن الثلثين في هذه الآية إنما جعل لمن فوق الاثنتين من البنات لا الاثنتين منهن، وكان ذلك مما قد تعلق به قوم وذهبوا إلى ما يروى عن عبد الله بن عباس في الاثنتين من البنات أن لهما النصف من ميراث أبيهما كما يكون للواحدة من البنات من ميراث أبيهما، وأن الثلثين إنما يستحق في ذلك من البنات من كان عدده فوق الاثنتين ثلاث أو أكثر من ذلك، وهذا قول لم نجده عند أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عبد الله بن عباس.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الفرائض - باب: ما جاء في ميراث البنات (حـ 2097 - 8/ 242) وقال: هذا حديث صحيح. أهـ. -

والحاكم في المستدرك - كتاب: الفرائض - (حـ 7954 - 4/ 370) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. أهـ.

ص: 348

ووجدنا قول فقهاء الأمصار من بعد عبد الله بن عباس إلى يومنا هذا على خلاف ما روي عن ابن عباس فيه، وكان قول الله عز وجل:{فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11] في هذا عندهم في معنى: فإن كن نساء اثنتين، وقوله:{فَوْقَ} صلة كما قال عز وجل: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] في معنى: فاضربوا الأعناق، وقال:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] وهي الأعناق، و (فوق) صلة، لأن ما فوق الأعناق هو عظام الرأس، وليست الأعناق منها في شئ، والضرب المراد بذلك المستعمل فيه هو ضرب الأعناق، لا ما سواها.

ووجدنا ما قد دل على ما قالوا من توريثهم البنتين الثلثين ما في آخر السورة المذكورة فيها هذه الآية، وهي سورة النساء، وهي قوله عز وجل:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] إلى قوله عز وجل: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176] فكان عز وجل قد جعل للأخت الواحدة من ميراث أختها في هذه الآية، كما جعل للبنت الواحدة من ميراث أبيها في الآية الأخرى، وكانت البنت أوكد نسباً من أبيها من الأخت من أختها، ثم قال عز وجل:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء:176] يعني من الأخوات: {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176] يعني: ما تركه أخوهما، فلما كان للاثنتين من الأخوات الثلثان مما تركه أخوهما كانت الاثنتان من البنات فيما تركه أبوهما بذلك أولى، واستحقاقهما إياه منه أحرى، والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار-3/ 320 - 322)

ص: 349

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن هذه الآية دالة على أن ميراث البنتين الثلثان، بدلالة سبب نزول الآية، وبدلالة الآية لأن (فوق) صلة، وبدلالة آخر آية من سورة النساء حيث دلت على أن نصيب الأختين الثلثان، والبنتان أقرب إلى الميت من الأختين، فلزم أن يكون نصيب البنتين كنصيب الأختين. وفي هذه الأدلة تأييد لقول جمهور الأمة من أن للبنتين الثلثان، ورد لقول ابن عباس رضي الله عنه من أن للبنتين - النصف كما للبنت الواحدة. وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة، وأدلة كل قول فيما ذهب إليه:-

- القول الأول: أن للبنتين النصف.

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه.

- ودليل هذا القول:

قوله جل وعلا: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] فكلمة (إن) في اللغة للإشتراط، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثاً فصاعداً، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين

(1)

، لأن أقل الجمع ثلاثة.

(2)

فقوله جلا وعلا: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11] تقييد للنص، ونفي لما دون هذا العدد.

(3)

وعليه فإن نصيب البنتين يكون النصف، ونصيب الثلاث فصاعداً يكون الثلثين.

- وقد رُد هذا الاستدلال:

1 -

بأنه استدلال لازم لابن عباس رضي الله عنه لأن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة، وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله.

2 -

لا نسلم أن (إن) تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

(1)

تفسير الرازي (9/ 205).

(2)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 522).

(3)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 341).

ص: 350

ويدل عليه: أنه لو كان الأمر كذلك للزم التناقض بين هاتين الآيتين، لأن الإجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف وإما الثلثان، وبتقدير أن كلمة (إن) للإشتراط وجب القول بفسادهما.

فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلاً.

(1)

3 -

أن إلحاق البنتين بالثلاث أولى من إلحاقهما بالواحدة، لمشاركتهما في وقوع الجمع عليهما إما مجازاً وإما حقيقة كالثلاث. فالبنتان كالجماعة، لأن منزلة الاثنتين منزلة الجمع في كثير من الأحكام، فصلاة الاثنين جماعة، والأخوان كالأخوة في حجب الأم من الثلث إلى السدس، فالجمع بالجمع أولى أن يقاس من الجمع بالواحد.

وعليه فإنه ليس في الآية دليل على أن للبنتين النصف، كما أنه ليس فيها نفي لأن يكون للبنتين الثلثان، وإنما فيها نص على أن ما فوق البنتين فلهن الثلثان.

(2)

قال محمد بن علي الموزعي في رد هذا القول المروي عن ابن عباس رضي الله عنه:

وظني أن هذا النقل عن ابن عباس رضي الله عنه غير صحيح، فإنه لا يُظن به أن يجعل نصيب البنات دون نصيب الأخوات، ولا أنه يجعل إلحاق الاثنتين بالواحدة أولى من إلحاقهما بالثلاث، ولكن لما كان مذهبه في الأخوة في نقصان الأم، أنهم لا يقعون الاثنين لكونهما ليسا بجمع عنده، ولا في لسان قومه، اعتقد من اعتقد أن مذهبه هنا كذلك لكون (النساء) جمعاً فلا يقع على الاثنتين، فنقل مذهباً له وليس كذلك، فالطريق هنا غير الطريق هناك، والله أعلم - أ هـ -

(3)

- القول الثاني: أن للبنتين الثلثين.

- وهذا قول: جمهور الأمة.

ومن أدلة هذا القول:

(1)

تفسير الرازي (9/ 205).

(2)

انظر: تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 523) - وتفسير البسيط للواحدي (1/ 134).

(3)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 523).

ص: 351

1 -

قوله جل وعلا: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] والاستدلال بهذه الآية من أوجه عده:

أ - سبب نزول هذه الآية: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فاستفاءه

(1)

، فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم:"سيقضي الله في ذلك " فأنزل الله آية الميراث - وهي الآية الحادية عشر من سورة النساء - فبعث إلى عمهما، فقال:" أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن، ولك ما بقي".

(2)

فدل سبب نزول الآية: على أن للبنتين الثلثين.

ب - أن (فوق) في الآية: زائدة، والمعنى:(فإن كن نساء اثنتين فلهن ثلثا ما ترك).

كما قال الله جل وعلا: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] والمعنى: فاضربوا الأعناق، فجاءت كلمة (فوق) زائدة للتأكيد.

(3)

- وقد رد هذا الاستدلال بأمور:

1 -

أن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام أن تزاد لغير معنى.

(4)

(1)

قوله (فاستفاءه) معناه: أنه استرد واسترجع حقهما من الميراث، وأصله من الفيئ وهو الرجوع، ومنه الفيئ الذي يؤخذ من أموال الكفار، سمي

بذلك: لأنه مال رده الله إلى المسلمين كان في أيدي الكفار. (معالم السنن للخطابي - (3/ 314).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الفرائض - باب ما جاء في ميراث الصلب (حـ 2891 - 3/ 314).

والترمذي في سننه - كتاب: الفرائض - باب: ما جاء في ميراث البنات. (حـ 2097 - 8/ 242) وقال: هذا حديث صحيح. أهـ.

(3)

معاني القرآن للنحاس (2/ 28).

(4)

إعراب القرآن للنحاس (1/ 439).

ص: 352

2 -

أنه لو كانت (فوق) زائدة لقال: (فإن كن نساء اثنتين فلهما ثلثا ما ترك). فلما قال: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] تبين أنها مقصودة غير زائدة.

(1)

3 -

أن كلمة (فوق) في قوله جل وعلا: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] ليست بزائدة بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ. فمعنى (فوق الأعناق) أي: على ذات العنق، لا على الجزء الذي فوق العنق، إذ أنه لم يقل:(فاضربوا ما فوق الأعناق) وإنما قال: (فاضربوا فوق الأعناق).

(2)

وبهذا يتضح أن القول بزيادة كلمة (فوق) قول لا صحة له، ولذلك فإن المحققين من العلماء كانوا يتحاشون مثل ذلك.

قال ابن هشام في رد القول بالزيادة: وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى إنه زائد، لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزه عن ذلك.

والزائد عند النحويين معناه: الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد: صلة، وبعضهم يسميه: مؤكداً، وبعضهم يسميه: لغواً، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب. أ هـ.

(3)

ج - أن في الآية تقديم وتأخير، والتقدير:(فإن كن نساء اثنتين فما فوق ذلك). ومثال ذلك قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] أي: فاضربوا الأعناق فما فوقها.

وهذا الاستدلال أحسن من القول بالزيادة لكلمة فوق، لأن فيه الدلالة على حكم الثنتين فما فوق، وأما القول بالزيادة ففيه الدلالة على حكم الثنتين فقط.

(4)

.

(1)

تفسير القاسمي (2/ 238).

(2)

تفسير ابن عطية (4/ 34).

(3)

الإعراب عن قواعد الإعراب (108) - وانظر: البرهان للزركشي (1/ 305) والدر المصون (5/ 263) وتفسير ابن كثير (2/ 214).

(4)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 522).

ص: 353

والصحيح أنه ليس في الآية تقديم ولا تأخير، وأن ترتيب الآية على ظاهره، ولفظ (فوق) على حقيقته وبابه. وحكم البنتين يؤخذ من الإجماع والقياس والسنة.

(1)

د - أن الله جل وعلا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]: فأوجب الله جل وعلا للبنت الواحدة مع الابن الثلث، وإذا كان لها مع الذكر الثلث، كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى، ولو جعلنا نصيب البنتين النصف، لنقصت حصة الواحدة من الثلث. فدل ذلك على أن نصيب البنتين الثلثان، لأن الله جل وعلا جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان.

(2)

هـ - أن الله جل وعلا ذكر فرض الواحدة من البنات وهو النصف، وذكر فرض البنات مجتمعات وهو الثلثان، فإذا أمتنع كون فرض الواحدة يتناول البنتين، وجب أن يكون فرض البنات يتناول البنتين.

(3)

(1)

تفسير الطبري (3/ 618) -.

(2)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 80). وأحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 341).

(3)

معاني القرآن للنحاس (2/ 30).

ص: 354

و - أن النصف سهم لم يُجعل فيه اشتراك، بل شرع خالصاً للواحدة، بخلاف الثلثين، فإنه سهم الاشتراك بدليل دخول الثلاث فيه فما فوقهن، فدخلت فيه الاثنتان ابتداء.

(1)

2 -

أن الله جل وعلا قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176] فدلت الآية على أن فرض الأخت كفرض البنت، فلذلك يجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين الذي نص عليه في الآية.

(2)

قال الكياالهراسي: وأقوى الأدلة في ذلك أن الله جل وعلا جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176] ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت، فدل ذلك على أن بيان نصيب الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى.

واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد الأخوات فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان لذلك.

ولم يتعرض لبيان فرض البنتين في ميراث البنات، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان لذلك.

فاشتملت الآيتان - (11،176 - من سورة النساء) - على بيان ميراث الأختين والبنتين، وعلى نفي الزيادة على الفرض عند زيادة العدد، وهذا غاية البيان. أ هـ.

(3)

- الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لإجماع الأمة - ما عدا ابن عباس في رواية عنه - على أن للبنتين الثلثين كما للثلاث، ولقوة الأدلة المتقدمة وصحتها.

(1)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 336).

(2)

معاني القرآن للنحاس (2/ 29).

(3)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 342).

ص: 355

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي، هو القول الصواب في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء:12]

قال أبو جعفر الطحاوي: والعرب قد تذكر الشيئين، وتقدم ذكر أحدهما على ذكر الآخر، والمؤخر منهما في الذكر قد كان مقدماً في الفعل على المقدم منهما في الذكر، وذلك موجود في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].

فذكر الركوع مؤخراً وهو في الصلوات التي يصليها المسلمون، وفي الصلوات التي كان أهل الكتاب يصلونها قبلهم مقدم على السجود، ومثل ذلك قول الله عز وجل في آي المواريث:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] فكان ذكر الدين فيها مؤخراً على ذكر الوصية، وكان المراد فيها أن يكون مقدماً على الوصية.

(شرح مشكل الآثار -10/ 305)

ص: 356

بين الإمام الطحاوي أن في هذه الآية تقديم وتأخير، لأنه جل وعلا ذكر الوصية قبل الدين لفظاً مع أن الدين مقدم على الوصية حكماً.

وعليه فإن هذه الآية غير دالة على جواز تقديم الوصية على الدين عند تقسيم تركة الميت. لأن (أو) في الآية جاءت للإباحة وليست تعطي ترتيباً كـ (الفاء - وثم). وإذا كان ذلك، فليس في الآية دليل على تبدئه الوصية على الدين أو الدين على الوصية

(1)

، لأن معنى الآية: هو بيان أن الذي فرض فيها إنما هو لمن فرض له بعد إخراج أي هذين كان في مال الميت من وصية أو دين. ولذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم الدين قبل ذكر الوصية. لأنه جل وعلا لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين - الدين والوصية - من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية.

(2)

ولكن السنة قد دلت على أن الدين أولى بالتقديم، لأن أداء الدين فرض، والوصية إنما هي تطوع، والفرض أولى بالتقديم من التطوع.

(3)

ولهذا أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.

- وأما فائدة تقديم الوصية على الدين لفظاً مع أنه مقدم عليها حكماً، فللأمور التالية:-

1 -

أن وجود الوصية أغلب وأكثر من وجود الدين، فإنه قد يموت كثير من الناس ولا دين عليه، ولا يموت الإنسان غالباً إلا ويكون قد أوصى بوصية، فقدم في الذكر ما يقع غالباً في الوجود.

(4)

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (127) - وتفسير ابن عادل (6/ 219).

(2)

تفسير الطبري (3/ 625).

(3)

أحكام القرآن لابن الفرس (127).

(4)

انظر: أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 369) - وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 343).

ص: 357

الدراسة

2 -

أنه لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، لكون المشهور بين الناس أنه لابد من أدائه لأن فيه من يطالب به، فلذلك قدمت الوصية على الدين بعثاً على وجوب تنفيذها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جئ بكلمة (أو) للتسوية بينهما في الوجوب.

ومثل هذه الآية: قوله جل وعلا: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] فقدم الصغيرة على الكبيرة لأنها مظنة للتساهل والتفريط، وللتأكيد على عظم خطرها، وأن المحاسبة عليها لازمة كما أن المحاسبة على الكبيرة ثابتة.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء:12].

(1)

تفسير الزمخشري (2/ 37).

ص: 358

قال أبو جعفر الطحاوي: عن جابر بن عبد الله، قال: اشتكيت وعندي سبع أخوات لي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفخ في وجهي ماء، فأفقت، فقلت يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال:(أَحْسِن). قلت: الشطر؟ قال: (أحسن). ثم خرج رسول الله، وتركني، ثم رجع فقال:"يا جابر، إن الله قد أنزل، فبين الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين"، فكان جابر يقول: فيَّ نزلت هؤلاء الآيات: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176].

(1)

ففي هذا الحديث: أن الأخوات اللاتي ذكر جابر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كلالة مما لم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الولد، وقد تكون بحجب الأخوات إذا كان ذكراً، ولا يحجبهن إذا كان أنثى، ليس بكلالة، كان الوالد الذي لا يحجبهن في الأحوال كلها، أحرى أن لا يكون كلالة.

وفيما قد ذكرنا ما قد دل أن الكلالة من يرث لا من يورث، وفي ذلك ما قد دل على صحة قراءة من قرأ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورِّث كَلَالَةً} [النساء:12] والله أعلم.

(شرح مشكل الآثار -13/ 235 - 236)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن قوله جل وعلا: {يورِّث} [النساء:12] قرأ بالكسر للراء، كما بين رحمه الله تعالى - أن هذه القراءة صحيحة من حيث المعنى لدلالة حديث جابر رضي الله عنه وغيره على أن لفظ (الكلالة) يطلق ويراد به الورثة.

وإليك بيان القراءات الواردة في الآية:

القراءة الأولى: بفتح الراء: {يُورَثُ} .

- وهذه قراءة: الجمهور.

- والمراد (بالكلالة) على هذه القراءة هو: المورث.

القراءة الثانية: بكسر الراء وتخفيفها: {يورِث} .

(1)

أخرجه أبوداود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: من كان ليس له ولد وله أخوات (حـ 2887 - 3/ 308).

والبيهقي في سننه - كتاب: الفرائض - باب: فرض الأخت والأختين فصاعداً (حـ 1 - 6/ 231).

ص: 359

- وهذه قراءة: الحسن البصري - وأيوب.

- والمراد (بالكلالة) على هذه القراءة هو: الورثة.

القراءة الثالثة: بكسر الراء وتشديدها: {يورِّث} .

- وهذه قراءة: الحسن البصري - وأبي رجاء العطاردي - والأعمش.

- والمراد (بالكلالة) على هذه القراءة هو: الورثة.

الترجيح: وكلا القراءتين - بالفتح أو بالكسر - صحيحة من حيث المعنى، إلا أن قراءة الفتح أولى، لكون القراءة بالكسر قراءة شاذة.

(1)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} [النساء:15 - 16]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن البراء قال: مُرَّ على رسول الله برجل حمم وجه، وقد ضرب، يطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما شأن هذا " قالوا: زنى، قال:" فما تجدون في كتابكم " قالوا: يحمم وجهه، ويعزر، ويطاف به. فقال:" أنشدكم الله، ما تجدون حده في كتابكم؟ " فأشاروا إلى رجل منهم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: نجد في التوراة الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكرهنا أن نقيم الحد على سفلتنا، وندع أشرافنا، فاصطلحنا على شيء، فوضعنا هذا. فرجمه صلى الله عليه وسلم وقال:" أنا أولى من أحيا ما أماتوا من أمر الله "

(2)

(1)

انظر: المحتسب لابن جني (1/ 182) وتفسير ابن عطية (4/ 42) وتفسير القرطبي (5/ 82).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الحدود - باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (حـ 4415 - 11/ 208).

وأبو داود في سننه - كتاب: الحدود - باب: في رجم اليهوديين - (حـ 4448 - 4/ 596).

ص: 360

إن الحكم كان في الزناة، في عهد موسى عليه السلام، هو الرجم على المحصن وغير المحصن. وكذلك كان جواب اليهودي الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حد الزاني في كتابهم، فلم ينكر ذلك عليه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان على النبي صلى الله عليه وسلم، اتباع ذلك، والعمل به، لأن على كل نبي، اتباع شريعة النبي الذي كان قبله، حتى يحدث الله شريعة تنسخ شريعته، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين على ذلك الحكم، ولا فرق حينئذ، في ذلك بين المحصن وغير المحصن.

ثم أحدث الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم شريعة، فنسخت هذه الشريعة فقال:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].

وكان هذا ناسخاً لما كان قبله، ولم يفرق في ذلك بين المحصن وغير المحصن.

ثم نسخ الله تعالى ذلك، فجعل الحد، هو الإيذاء بالآية التي بعدها، ولم يفرق في ذلك أيضا بين المحصن وغيره. ثم جعل لهن سبيلاً:" البكر باالبكر، جلد مائة، وتغريب عام، والثيب جلد مائة، والرجم ".

(1)

وفرق حينئذ بين المحصن، وحد غير المحصن.

(شرح معاني الآثار -4/ 142 - 143)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن الآيتين عامتين في أصناف الزناة، كما بين أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، وأن الآية الثانية منسوخة بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الحدود - باب: حد الزاني - (حـ 4390 - 2/ 189).

وابن ماجة في سننه - كتاب: الحدود - باب: حد الزنا - (حـ 2578 - 2/ 85).

ص: 361

وإليك أولاً: بيان المقصود بالحد الثابت في الآيتين:

- القول الأول: أن الآيتين عامة في كل رجل وامرأة.

- وهذا قول: أبي جعفر الطحاوي - وهبة الله بن سلامة.

(1)

- و دليل هذا القول:

1 -

قوله جل وعلا:: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] فقد كنى الله جل وعلا فيها بذكر النساء عن ذكر النساء والرجال، وعليه فالمراد بالآية: عامة الزناة.

وقد رُد هذا الاستدلال: بأن: (اللاتي) هو جمع (التي) وهي كلمة يعبر بها عن المؤنث خاصة، وذلك هو المراد هنا، أخذاً من اختلاف العقوبتين في الآيتين.

(2)

2 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فقوله: (واللذان) قد غلب فيه المذكر على المؤنث، وإن كان المراد به العموم في كل زان وزانية.

(3)

- القول الثاني: أن الآية الأولى عامة في كل محصن، والآية الثانية عامة في كل بكر.

- وهذا قول: قتادة - والسدي - وابن زيد - ورجحه الطبري.

- ودليل هذا القول:

1 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16]. فلفظ (اللاتي) لفظ خاص بالإناث، والحبس عقوبة أغلظ من الأذى، فاستحقته المرأة المحصنة، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى.

(4)

وقد رُد هذا الاستدلال: بأنه قول حسن لولا أن لفظ الآية ينبو عنه فيضعف، لأن قوله (واللاتي) لا يعطى إلا للنساء خاصة، والمؤنث لا يغلب على المذكر إلا في موضعين ليس هذا منهما، إلا أن يكون المراد باللفظ إنما هو النساء خاصة ثم دخل الرجال في ذلك الحكم حملاً لهم على النساء فيصح الاستدلال به.

(5)

(1)

الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (33).

(2)

دراسات الإحكام والنسخ لمحمد حمزة (166).

(3)

تفسير أبي حيان (4/ 558).

(4)

انظر: تفسير الطبري (3/ 636) - وتفسير أبي حيان (4/ 559).

(5)

أحكام القرآن لابن الفرس (142).

ص: 362

2 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فلفظ (اللذان) لفظ للمذكر لكن يدخل فيه المؤنث. والأذى عقوبة أقل من الحبس فاستحقته البكر.

(1)

- القول الثالث: أن الآية الأولى عامة في كل امرأة، والآية الثانية عامة في كل رجل وامرأة.

- وهذا قول: ابن عباس - وعطاء - وعكرمة - والحسن البصري.

- ودليل هذا القول:

1 -

قوله جلا وعلا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] فلفظ (اللاتي) لفظ خاص بالإناث، وعليه فإن الحكم في الآية جاء عام في المرأة المحصنة وغير المحصنة.

2 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فلفظ (اللذان) لفظ للمذكر لكن يدخل فيه المؤنث، وعليه فإن حكم الآية جاء عاماً في المرأة والرجل.

(2)

- القول الرابع: أن الآية الأولى عامة في كل امرأة، والآية الثانية عامة في كل رجل.

- وهذا قول: مجاهد - ورجحه ابن العربي - وأبو حيان - وأبو جعفر النحاس.

- ودليل هذا القول:

1 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] فلفظ (اللاتي) لفظ مختص بالنساء على العموم، وقوله:(من نسائكم) تصريح باسمهن المخصوص لهن، فلا سبيل لدخول الرجال فيه.

2 -

قوله جل وعلا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فلفظ (اللذان) لفظ مختص بالذكور على العموم. ولا يصح دخول النساء معهم في هذا الحكم، لأن حكم النساء قد تقدم في الآية الأولى، فينبغي أن يكون ما في هذه الآية حكماً خاصاً بالرجال.

(1)

تفسير الطبري (3/ 636).

(2)

ناسخ القرآن لابن الجوزي (318).

ص: 363

ولأن هذه الآية لو كانت مستقلة عن الآية الأولى لكانت متضمنة لحكم آخر متعارض مع الحكم الوارد في الآية الأولى، ولكن لما جاءت هذه الآية مرتبطة بالآية الأولى، محالة بالضمير عليها بقوله:{يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء:16] علم أنه أراد الرجال ضرورة دون النساء.

(1)

الترجيح: والراجح هو القول بأن الآية الأولى عامة في كل امرأة، والآية الثانية عامة في كل رجل.

لأن قوله: (واللاتي - ونسائكم) دال على أن المراد بالآية النساء خاصة.

وقوله: (واللذان - ومنكم) دال على أن المراد بالآية الرجال خاصة. فلا يغلب المذكر على المؤنث، ولا المؤنث على المذكر إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك.

كما أن اللائق بحال النساء هو الحبس، لأن المرأة السافلة إنما تفعل الفاحشة عند الخروج والاتصال بالرجال، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة المعصية.

وأما الرجل فإنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه، واكتساب قوت عياله، فمصلحة عياله تقتضي أن تكون عقوبته بغير الحبس، وهي الأذية بالقول والفعل.

كما أن تأثير هذه العقوبة على الرجال أشد

(2)

.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: بيان هل في الآيتين نسخ؟:-

أ- القول الأول: أن في الآيتين نسخ، والمنسوخ منهما: الحبس والأذى فقط، وأما استشهاد أربعة رجال، فإن هذا الحكم باق لم ينسخ.

(3)

وتحت القول بأن في الآيتين نسخ، أربعة أقوال في بيان الناسخ لها:

القول الأول: أن الناسخ هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 465) - وتفسير أبي حيان (4/ 556).

(2)

انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 40) - ودراسات الإحكام والنسخ (167).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 156).

ص: 364

ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: " خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة "

(1)

- وهذا قول: أبي جعفر الطحاوي - وهبة الله بن سلامة.

(2)

- وقد اعترض على هذا القول: بأنه لا نسخ في الآية، وأن حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه مبين للحكم الموعود ببيانه في الآية، فكأنه قال: عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا، فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية، فلما انتهت مدة الحبس، وحان وقت مجيء السبيل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني .. " الحديث، فهذا الحديث تفسير للسبيل وبيان له، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه صلى الله عليه وسلم وإنما هو بيان لأمر كان ذكر (السبيل) منطوياً عليه، فأبان مبهمه، وفصل مجمله.

(3)

- وقد أجيب عن هذا الاعتراض: بأن القول بأن الآية مغياة قول لا يصح، لأن الغاية المبهمة لما كان بيانها إبطالاً لحكم المغيّى، فاعتبارها اعتبار النسخ، وهل النسخ كله إلا إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله جل وعلا، غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسوا النزول غير شعار النسخ.

(4)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب حد الزاني (حـ 4390 - 11/ 189)

وأبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب: الرجم (حـ 4415 - 4/ 569).

(2)

الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (33).

(3)

انظر: معالم السنن للخطابي (3/ 316) - والبرهان في علوم القرآن (2/ 42) وأصول الفقه للسرخسي (2/ 71).

(4)

تفسير ابن عاشور (4/ 275).

ص: 365

القول الثاني: أن الناسخ هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، ثم نسخ هذا الحديث، والناسخ له آية الجلد وهي قوله جل وعلا:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وذلك لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على الحديث، لما كان لقوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني. . . " الحديث - فائدة، فوجب أن يكون الحديث متقدماً على آية الجلد.

- وهذا قول: أبي بكر الجصاص.

(1)

القول الثالث: أن الناسخ هو آية الجلد وآية الرجم.

وآية الجلد هي قوله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. وآية الرجم هي: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة} .

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى، لكتبتها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته) فإنا قد قرأناها.).

(2)

- وهذا قول: ابن عباس - وعمر بن الخطاب - ومجاهد - وقتادة - وعكرمة - والحسن البصري.

(3)

القول الرابع: أن الآية الثانية منسوخة بالآية الأولى، فالآية الثانية قبل الآية الأولى. ولكن التلاوة أخرت الآية الثانية، وقدمت الآية الأولى.

- وهذا قول: أبي بكر محمد بن الحسن الأصفهاني، المعروف بابن فورك.

(4)

(1)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 154).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المحاربين - باب رجم الحبلى في الزنا (حـ 6442 - 6/ 2503).

ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم الثيب في الزنا - (حـ 4394 - 11/ 191).

(3)

تفسير الطبري (3/ 639).

(4)

تفسير ابن عطية (4/ 46).

ص: 366

- وقد رُد هذا القول: بأنه قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد ومردود.

(1)

وعلى جميع الأقوال المتقدمة يكون المراد بـ (الفاحشة) في الآية: الزنا.

- وهذا قول: جمهور المفسرين.

(2)

ب- القول الثاني: أنه ليس في الآيتين نسخ.

- وهذا قول: أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني - وقد عزاه إلى مجاهد.

(3)

ونسبه السيوطي: إلى ابن جرير - وابن المنذر - وابن أبي حاتم.

(4)

- وحجة هذا القول: أن المراد بالفاحشة في الآية الأولى: المساحقة. والمراد بالفاحشة في الآية الثانية: اللواط. وذلك لأن قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] مخصوص بالنسوان. وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء:16] مخصوص بالرجال.

(5)

- وقد رد هذا القول: بما ورد في الآية من الأمر باستشهاد أربعة، فإنه غير معهود في الشرع فيما عد الزنا.

كما أن جمهور المفسرين قد أجمعوا على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا، وعليه فلا مجال لعدم القول بالنسخ.

(6)

الترجيح: والقول الراجح هو أن الناسخ للآيتين هو آية الجلد وآية الرجم، وقد دل على ذلك وأكده ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في الناسخ للآيتين.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء:21]

(1)

تفسير أبي حيان (3/ 559).

(2)

تفسير الرازي (9/ 231).

(3)

تفسير أبي السعود (2/ 111).

(4)

الدر المنثور للسيوطي (2/ 130).

(5)

تفسير الرازي (9/ 231).

(6)

انظر: تفسير أبي السعود (2/ 111) وتفسير الخازن (1/ 336).

ص: 367

قال أبو جعفر الطحاوي: وكان (الإفضاء) المذكور في هذه الآية هو: الجماع الذي كان بينهم، (والميثاق) المذكور فيها هو: العقد الذي كان فيه إحلالهن فروجهن لمن تزوجهن.

(شرح مشكل الآثار - 12/ 352)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالإفضاء) في الآية هو: الجماع - كما بين - رحمة الله تعالى - أن المراد (بالميثاق) في الآية هو: عقد النكاح.

وإليك أولاً: بيان أقوال المفسرين في المراد (بالإفضاء) الوارد في الآية:

- القول الأول: أن المراد (بالإفضاء) هو: الجماع.

- وهذا قول: ابن عباس - وابن مسعود - ومجاهد - والسدي - وأكثر المفسرين.

(1)

وهو اختيار: الزجاج - وابن قتيبة - والشافعي - والرازي.

(2)

- ومعنى الآية على هذا القول: وكيف تأخذون ما آتيتموهن من مهر، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع.

- وهذا القول قد دلت عليه اللغة: لأن الإفضاء إلى الشيء: هو الوصول إليه بالمباشرة له.

والعرب تقول: (أفضى الرجل إلى امرأته) أي: باشرها. والمعنى فيه أنه شبَّه مقدَّم جسمه بفضاء، ومقدم جسمها بفضاء، فكأنه لاقى فضاءها بفضائه.

(3)

- القول الثاني: أن المراد بالإفضاء هو: الخلوة.

- وهذا قول: عمر بن الخطاب - وعلي بن أبي طالب.

(4)

وهو اختيار: الفراء - وأبي حنيفة.

(5)

- ومعنى الآية على هذا القول: وكيف تأخذون ما آتيتموهن من مهر، وقد خلا بعضكم إلى بعض.

(1)

تفسير الطبري (3/ 656).

(2)

انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 31) - وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (122). والأم للشافعي (5/ 215) - وتفسير الرازي (10/ 16).

(3)

انظر: تفسير الطبري (3/ 656) - ومعجم مقاييس اللغة (مادة: فضى - 4/ 508).

(4)

تفسير أبي حيان (3/ 574).

(5)

انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 259) - وتفسير البسيط للواحدي (1/ 170).

ص: 368

- وهذا القول قد دلت عليه اللغة: لأن أصل الإفضاء مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الواسع الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه، فسميت الخلوة إفضاء: لزوال المانع من الجماع.

(1)

الترجيح: وكلا القولين صحيح، لأن اللغة جاءت بهما، فالعرب تقول:(أفضى الرجل): أي دخل على أهله، وتقول (أفضى الرجل) بمعنى: جامع أهله.

(2)

إلا أن أولى القولين بالصحة، القول بأن المراد بالإفضاء هو: الجماع - للأمور التالية:

1 -

أن الله جل وعلا قال في الآية في معرض التعجب: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع، لا مجرد الخلوة. فوجب حمل اللفظ عليه.

2 -

أن الإفضاء إليها لابد وأن يكون مفسراً بفعل منه ينتهي إليه، لأن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك، لأنه عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر. فامتنع تفسير الإفضاء بمجرد الخلوة.

3 -

أن هذا القول هو قول جمهور المفسرين.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

ثانياً: بيان أقوال المفسرين في المراد (بالميثاق) الوارد في الآية:

القول الأول: أن المراد (بالميثاق) هو: ما أخذته الزوجة على زوجها عند عقدة النكاح من عهد على إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، فأقربه الرجل. لأن الله جل وعلا أوصى بذلك الرجال فقال:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231].

(1)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 383).

(2)

انظر: تفسير البسيط للواحدي (1/ 170) - وتهذيب اللغة للأزهري (مادة: فضا -12/ 76).

(3)

تفسير الرازي (10/ 16).

ص: 369

- وهذا قول: ابن عباس - والحسن - وقتادة - والضحاك - ومحمد بن سيرين - والطبري.

(1)

القول الثاني: أن المراد (بالميثاق) هو: عقد النكاح الذي استحل به الفرج.

- وهذا قول: ابن عباس - ومجاهد - وعطاء - وجابر بن زيد.

(2)

الترجيح: وكلا القولين صحيح مراد بالآية، إذ لا تعارض بينهما.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)} [النساء:23]

قال أبو جعفر الطحاوي: قد يجرى الكلام كثيراً، بذكر معنى، فلا يكون ذلك المعنى بذلك الحكم، الذي جرى في ذلك الذكر، مخصوصاً.

من ذلك قول الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]

فذكر الربيبة التي قد كانت في حجر ربيبها، فلم يكن ذلك، على خصوصيتها، لأنها كانت في حجره بذلك الحكم، وأخرجها منه إذا لم تكن في حجره.

(1)

انظر: تفسير الطبري (3/ 657) - ومعاني القرآن للنحاس (2/ 49).

(2)

انظر: تفسير ابن الجوزي (2/ 103) - وتفسير البسيط للواحدي (1/ 171).

ص: 370

ألا ترى أنها لو كانت أسن منه أنها عليه حرام، كحرمتها لو كانت صغيرة في حجره؟.

وقال عز وجل أيضاً في الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فأجمعت العلماء - إلا من شذ منهم - أن قتله إياه ساهياً، كذلك في وجوب الجزاء. فلم يكن ذكره ما ذكرنا من هاتين الآيتين يوجب خصوص الحكم.

(شرح معاني الآثار -4/ 359)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن قوله جل وعلا: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] هو وصف خرج مخرج الغالب، وليس بوصف لازم في التحريم. وهذا المسألة للعلماء فيها قولان:

القول الأول: أن قوله جل وعلا: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23].

هو وصف خرج مخرج الغالب، وليس بوصف لازم.

وعليه فإن الزوج إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته وحجره، أو في تربية وحجر غيره.

- وهذا قول: جمهور العلماء.

(1)

- ومثل هذه الآية في أن الوصف فيها خرج مخرج الغالب: قوله جل وعلا: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} قيد خرج مخرج الغالب، ولذلك لا يجوز إكراه الأمة على الزنا حتى وإن لم ترد التحصن.

(2)

(1)

انظر: تفسير السمعاني (1/ 413) - وتفسير الرازي (10/ 33).

(2)

تفسير الرازي (23/ 221).

ص: 371

ومثال آخر على ذلك قوله جل وعلا: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فقوله جلا وعلا: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] قيد خرج مخرج الغالب، ولذلك قال أكثر العلماء: إن قتل الصيد حال الإحرام محرم حال العمد ولخطأ، والكفارة ثابتة في الحالتين.

(1)

القول الثاني: أن قوله جل وعلا: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23].

هو وصف لازم، وليس بوصف خرج مخرج الغالب.

وعليه فإن الزوج إذ دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها، بشرط أن تكون في تربيته وحجره.

- وهذا قول: روي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه وإليه ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن الإمام مالك - واختاره ابن حزم.

(2)

- وقد رُد هذا القول: بأن قوله جل وعلا: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء:23] لم يقتض أن تكون تربية زوج الأم للبنت شرطاً في التحريم، وأنه متى لم يربها لم تحرم، وإنما سميت بنت المرأة (ربيبة) لأن الأعم الأكثر أن زوج الأم يربيها. فليس بوقوع هذا الاسم على هذا المعنى بموجب أن تربيته إياها شرطاً في تحريمها.

وكذلك قوله جل وعلا: {فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] كلام خرج على الأعم الأغلب من كون الربيبة في حجر الزوج، فليست هذه الصفة شرطاً في التحريم.

- ومثل هذه الآية في أن الوصف قد يكون وصفاً غالباً، وليس شرطاً لازماً: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون ".

(3)

(1)

تفسير القرطبي (6/ 289).

(2)

انظر: تفسير القرطبي (3/ 118) - وتفسير ابن كثير (1/ 482).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الزكاة - باب في زكاة السائمة (حـ 1567 - 2/ 214)

والنسائي في سننه - كتاب الزكاة - باب زكاة الإبل (حـ 2446 - 5/ 20).

ص: 372

فليس كون المخاض أو اللبن بالأم شرطاً في المأخوذ من الإبل، وإنما ذكره لأن الأغلب أن الإبل إذا دخلت في السنة الثانية كان بأمها مخاض، وإذا دخلت في السنة الثالثة كان بأمها لبن، فجرى الكلام على غالب الحال. وكذلك قوله جل وعلا:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23].

(1)

الترجيح: والراجح هو القول بأن الوصف الوارد في الآية: وصف خرج على الأعم الأغلب، وليس بوصف أو شرط لازم في التحريم.

وقد دل على صحة هذا القول:

1 -

قوله جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23] فعلق - جل وعلا - رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن المقتضي لحصول الجناح والتحريم هو مجرد الدخول دون شرط آخر.

(2)

2 -

ما روته أم حبيبة بنت أبي سفيان، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: "أفعل ماذا"؟ قلت: تنكحها، قال:"أوتحبين ذلك؟ " قلت: لست لك بمُخْلِية، وأحب من شركني في الخير أختي. قال:"فإنها لا تحل لي": قلت: فإني أخبرت أنك تخطب دُرَّة بنت أبي سلمة، قال:"بنت أم سلمة؟ " قلت: نعم، قال:"لو أنها لم تكن في حجري، ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة، فلا تعرضنّ عليّ بناتكن ولا أخواتكن".

(3)

فدل هذا الحديث على أن تحريم بنت الزوجة ثابت بمجرد تزوج أمها. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل المناط في التحريم مجرد تزوجه من أم سلمة رضي الله عنها.

(1)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 129).

(2)

تفسير الرازي (10/ 33).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)(حـ 4813 - 5/ 1961).

ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تحريم الربيبة وأخت المرأة - (ح 3571 - 10/ 267).

ص: 373

فظهر بذلك أن الوصف الوارد في الآية هو وصف لغالب الأحوال، وليس بشرط لازم لا يتم التحريم إلا به.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)} [النساء:24].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أصبنا نساء يوم أوطاس،

(2)

ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] فاستحللناهن.

(3)

قال أبو جعفر: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في المحصنات المرادات بما ذكر في هذه الآية من هن؟

فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24]، قال علي: المشركات إذا سُبين حللن به.

وقال ابن مسعود: المشركات والمسلمات.

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 482).

(2)

أوطاس هو: موضع عند الطائف. (شرح صحيح مسلم للنووي - 10/ 277).

(3)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى (حـ 5491 - 3/ 308) وأبو يعلى في مسنده (حـ 1148 - 2/ 381).

ص: 374

قال أبو جعفر: فكان تأويل هذه الآية عند علي رضي الله عنه على المحصنات المسبيات المملوكات بالسباء، وكان عند ابن مسعود على اللاتي طرأت عليهن الإملاك من الإماء بالسباء وبما سواه، ومن أجل ذلك كان يقول: بيع الأمة طلاقها، وقد تابعه على ذلك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد خالفهما عبد الله بن عباس فيما تأولا هذه الآية عليه، فتأولها على خلافه.

كما عن عكرمة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24]، قال: لا يحل لمسلم أن يتزوج فوق أربعةٍ، فإن فعل، فهي عليه مثل أمه وأخته.

فكان المحصنات عند ابن عباس المرادات في هذه الآية هن الأربع اللاتي يحللن للرجل دون من سواهن.

غير أنه قد روي عنه في تأوليها ما يخالف ذلك من وجه دون هذا الوجه.

كما عن عطية بن سعد

(1)

، عن ابن عباس:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، قال: هن ذوات الأزواج.

قال أبو جعفر: فاحتمل أن يكون بهذا القول موافقاً لعلي أو موافقاً لابن مسعود رضي الله عنهما.

وفي حديث أبي سعيد الذي رويناه في هذا الباب في إخباره بالسبب الذي نزلت فيه هذه الآية ما قد حقق في تأويلها ما تأولها عليّ عليه.

(شرح مشكل الآثار - 10/ 70 - 76)

(1)

عطية هو: أبو الحسن عطية بن سعد بن جُنادة العوفي الجدلي الكوفي، قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وكانت وفاته سنة (111 هـ).

(تهذيب الكمال -5/ 184).

ص: 375

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال في المراد بقوله جل وعلا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] مرجحاً أن المراد بهن: المشركات ذوات الأزواج، إذا سبين حللن لمن سباهن، وذلك بدلالة سبب نزول الآية.

وإليك ذكر أقوال المفسرين في المراد بقوله جل وعلا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24]:

- القول الأول: أن المراد هو: ذوات الأزواج من المشركين، لا تحل واحدة منهن إلا أن تسبى.

والمعنى: أن المرأة الكافرة إذا كان لها زوج ثم سُبيت، جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها بملك اليمين بعد أن يستبرئها بحيضة.

- وهذا قول: ابن عباس - وابن عمر - وعلي - وعبد الرحمن بن عوف - وأبي سعيد الخدري- ومالك - وأبي حنيفة، وأصحابه - والشافعي - وأحمد - وإسحاق - وأبي ثور - وغيرهم.

(1)

- ودليل هذا القول: الأخبار التي رويت أن هذه الآية نزلت فيمن سبي من أوطاس.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدواً فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكان المسلمون يتأثمون من غشيانهن، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] أي: هن حلال لكم إذا ما انقضت عددهن).

(2)

- القول الثاني: أن المراد هو: كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل لمشتريها، ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها.

- وهذا قول: ابن مسعود - وأُبي بن كعب - وجابر بن عبد الله - وأنس بن مالك - وابن عباس -وسعيد بن المسيب - والحسن البصري - وغيرهم.

(3)

(1)

انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 56) - وتفسير ابن الجوزي (2/ 106) وتفسير الطبري (5/ 127).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الرضاع - باب: جواز وطء المسبية (حـ 3593 - 10/ 276).

وأبو داود في سننه - كتاب: النكاح - باب: في وطء السبايا - (حـ-2155 - 2/ 612).

(3)

انظر: تفسير الطبري (4/ 4) - ومعاني القرآن للنحاس (2/ 56).

ص: 376

- ودليل هذا القول: عموم قوله جل وعلا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] فإنه لا يختص بالنساء المسبيات، بل ظاهر الآية العموم في أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر، فهي تحل له بملك اليمين، ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك.

والآية وإن نزلت في خصوص النساء المسبيات، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(1)

- وقد رُد هذا الاستدلال: بأن حديث بريرة يخصه ويرده، لأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات كما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

فعن عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة، قالت:(كان زوجها عبداً فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، ولو كان حراً لم يخيرها).

(3)

فدل هذا الحديث على: أن بيع الأمة لا يعد طلاقاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها، وبين فراقه، ولم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم عتق عائشة رضي الله عنها إياها طلاقاً من زوجها، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إياها أي معنى.

- وهذا هو مذهب جمهور العلماء: أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً، ولا طلاق لها إلا الطلاق.

(4)

- القول الثالث: أن المراد هو: أن الحرائر حرام بعد الأربع، إلا ما ملكت إيمانكم من الإماء، فإنهن لم ويُحصرن بعدد.

- وهذا قول: عروة بن الزبير - وابن عباس رضي الله عنهم.

- وقد رد هذا القول: بأنه لا دليل عليه، وفيه خروج بالنص عن ظاهره.

(1)

تفسير الشنقيطي (1/ 197).

(2)

تفسير القرطبي (5/ 128).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: العتق - باب: إنما الولاء لمن أعتق (حـ 3759 - 10/ 384).

وأبو داود في سننه - كتاب: الطلاق - باب: في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (حـ 2233 - 2/ 672).

(4)

انظر: تفسير ابن عطية (4/ 76) - وتفسير ابن الجوزي (2/ 107).

ص: 377

- القول الرابع: أن المراد هو: أن العفائف من النساء حرام على الرجال إلا بعقد نكاح أو ملك يمين.

- وهذا قول: ابن عباس - وعمر بن الخطاب - وعطاء - ومجاهد - والسدي - وسعيد بن جبير

- وأبي العالية - وعبيدة السلماني.

(1)

- وقد رد هذا القول: بأنه أدخل النكاح تحت ملك اليمين، وهو غير داخل فيه، لأن الله جل وعلا قال:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون:5 - 6]

فميز - جل وعلا - بين عقد النكاح وملك اليمين، كما أنه لم يطلق أحد من أرباب الشريعة على الحرة في عقد النكاح بأنها ملك اليمين.

(2)

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بالآية: النساء ذوات الأزواج من المشركين، لا تحل واحدة منهن إلا أن تسبى. وذلك بدلالة سبب نزول الآية، ولأن الله جل وعلا قال:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، ثم قال:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ} [النساء:24]، فعطف المحصنات على المحرمات، فلا بد وأن يكون الإحصان سبباً للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف والإسلام لا تأثير له في ذلك، فوجب أن يكون المراد منه (المزوجة) لأن كون المرأة ذات زوج هو الأمر الذي له تأثير في كونها محرمة على الغير.

وقد رجح هذا القول: الواحدي - والرازي - والقرطبي.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصحيح في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 8) - وتفسير ابن الجوزي (2/ 107).

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 383).

(3)

انظر: تفسير البسيط للواحدي (1/ 192) - وتفسير الرازي (10/ 39) - وتفسير القرطبي (5/ 127).

ص: 378

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} [النساء:25]

قال أبو جعفر الطحاوي: قول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]. وهذا الحرف مما قد اختلف القراء فيه، فقرأه بعضهم بالفتح، وممن قرأه كذلك عبد الله بن مسعود.

كما عن النخعي أن معقل بن مقرن

(1)

سأل ابن مسعود فقال: أمتي زنت، فقال: اجلدها خمسين، قال: إنها لم تحصن، فقال: أليست مسلمة؟ قال: بلى، قال: فإسلامها إحصانها

قال خلف: وكذلك يقرؤه الأعمش وعاصم وحمزة.

وقرأه بعضهم بالضم: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25]، وممن قرأه كذلك عبد الله بن عباس.

كما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] يعني بالزواج.

وممن قرأه كذلك نافع وأبو عمرو بن العلاء.

(شرح مشكل الآثار - 9/ 345 - 347)

(1)

معقل هو: الصحابي الجليل مَعْقل بن مُقَرِّن بن عائذ المزني، شهد بيعة الرضوان (أسد الغابة - 5/ 231).

ص: 379

الدراسة

بين الإمام الطحاوي القراءات الواردة في قوله جل وعلا: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] مع نسبة كل قراءة إلى من قرأ بها، ومعنى الآية على كل قراءة.

وإليك بيان هذه القراءات:

القراءة الأولى: {فإذا أَحصَن} [النساء:25] بفتح الألف والصاد.

- وهذه قراءة: ابن مسعود رضي الله عنه وعاصم - وحمزة - والكسائي - والأعمش.

والمعنى: فإذا أسلمن، فصرن ممنوعات من الحرام بالإسلام.

وهذا قول: ابن مسعود - وأنس - وابن عمر - وقول السدي - والشعبي - والنخعي - وابن جبير - وعطاء - وغيرهم.

(1)

- وقد اعترض على هذه القراءة التي بمعنى (أسلمن): بأن الله جل وعلا قال قبل ذلك: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء:25] فوصفهن بالإيمان، فدل ذلك على أن المراد بقوله جل وعلا:: {فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] أي: فإذا تزوجن، لكون الوصف بالإسلام والإيمان قد تقدم قبل ذلك.

- ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن الله جل وعلا أراد بالآية ذكر حكمين:

الأول: حكم نكاح الإماء، وقد اعتبر الإيمان فيه بقوله:{فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25].

والثاني: حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة، وقد اعتبر الإيمان فيه أيضاً فقال:{فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] بمعنى أسلمن وآمن. وعليه فإنه لا يجوز لأحد صرف معنى قوله: {فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] إلى أنه التزوج، دون الإسلام، من أجل ما تقدم من وصف الله لهن بالإيمان.

(2)

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 25) - وتفسير السمرقندي (1/ 347) - وتفسير ابن كثير (1/ 487).

(2)

انظر: تفسير الرازي (10/ 64) - وتفسير الطبري (4/ 24).

ص: 380

القراءة الثانية: {فإذا أُحصِن} [النساء:25] بضم الألف وكسر الصاد.

- وهذه قراءة: ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد - والحسن - وقتادة - والزهري.

(1)

الترجيح: وكلا القراءتين معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب.

وليس اختلاف المعنى في القراءتين بمتضاد، إذ أن الله جل وعلا قد أوجب على الأَمَة الحد متى زنت.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم".

(2)

فلم يشترط صلى الله عليه وسلم في إقامة الحد الإسلام أو الزوجية. فالحدود واجب إقامتها على الإماء إذا فجرن بكتاب الله، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29]

قال أبو جعفر الطحاوي:

عن أبي هريرة، قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)

(4)

فسأل سائل عن بيع الحصة المنهي عنه ما هو؟

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 26) - وتفسير السمرقندي (1/ 347).

(2)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحدود (حـ 228 - 3/ 158) والإمام أحمد في مسنده (1/ 145).

(3)

انظر: تفسير الطبري (4/ 23) - وحجة القراءات لأبي زرعة (198).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: البيوع - باب: بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر (حـ 3787 - 10/ 395).

وأبو داود في سننه - كتاب: البيوع والإجارات - باب: في بيع الغرر (حـ 3376 - 3/ 672).

ص: 381

فكان جوابنا له في ذلك أنه بيع كان من بيوع أهل الجاهلية التي يتعاقدونها بينهم، فكان أحدهم إذا أراد أخذ ثوب صاحبه، وملكه عليه بما يعوضه إياه به، ألقى عليه حصاة أو حجراً، فاستحقه بذلك عليه، ولم يسطع رب الثوب منعه من ذلك، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورد البيع إلى خيار المتبايعين اللذين يتعاقدان به البيع بينهما عند إنزال الله تعالى عليه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. فرد الله تعالى الأشياء إلى رضا أصحابها بإخراجها عن ملكهم إلى من يخرجونها إليه، أو إلى احتباسها لأنفسهم، وأخبر أن من جرى على خلاف ذلك كان آكلاً للمال بالباطل، وبالله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 14/ 83 - 85)

الدراسة

استدل الإمام الطحاوي بهذه الآية على أن التخاير من شروط صحة البيع، لأنه جل وعلا قال:{عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والتراضي لا يتحقق إلا بأن يُجعل وقت للخيار يتم فيه إمضاء البيع أو فسخه.

وإليك بيان أقوال العلماء في المراد بـ (التراضي) في الآية:

- القول الأول: أن التراضي تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، فيقول اخترت، وذلك بعد العقد وقبل الافتراق، فيتم البيع وإن لم يتفرقا.

(1)

- وقد دل على أن هذا هو المراد بالتراضي: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار".

(2)

(1)

انظر: تفسير ابن عطية (4/ 92) - وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 522).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: البيوع - باب: كم يجوز الخيار - (حـ 2001 - 2/ 742).

ومسلم في صحيحه - كتاب: البيوع - باب: ثبوت خيار المجلس - (حـ 3831 - 10/ 413).

ص: 382

فدل هذا الحديث على أن تمام التراضي هو أن يكون المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما حتى يفترقا بأبدانهما، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، لأن اختياره دليل رضاه وقبوله.

(1)

- وهذا قول: ابن عمر - وأبي برزة - والشافعي - وأحمد - والثوري - والأوزاعي - والليث- وابن عيينة - وإسحاق - وغيرهم. ورجحه الطبري - والقرطبي.

- القول الثاني: أن التراضي تمامه وجزمه أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار.

- وهذا قول: مالك - وأبي حنيفة.

(2)

- ودليل هذا القول: قوله جل وعلا: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. فظاهر الآية يقتضي الحل عند حصول التراضي، سواء حصل التفرق أو لم يحصل.

(3)

- وقد رد هذا الاستدلال: بأن إطلاق الآية محمول على ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من شروط البيع والتجنب لمفسداته، والسلامة من البيوع المنهي عنها، وإلا فذلك بيع باطل وإن تراضى به المتبايعان.

(4)

الترجيح: والقول الراجح هو قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما عن تراضٍ منهما بالعقد الذي جرى بينهما، أو عن تخيير كل واحد منهما لصاحبه ورضاه بذلك لصحة الحديث المتقدم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(5)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير ابن عطية (4/ 93).

(2)

انظر: تفسير القرطبي (5/ 158) - وتفسير الماوردي (1/ 475).

(3)

تفسير الرازي (10/ 71).

(4)

تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 597).

(5)

تفسير الطبري (4/ 37).

ص: 383

قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} [النساء:32].

قال أبو جعفر الطحاوي: الحسد ينقسم قسمين: فقسم منهما حسد لمن أوتي شيئاً على ما أوتيه منه، وتمن من الحاسد أن يكون ذلك الشيء له دون الذي آتاه الله إياه، فذلك ما هو مذموم ممن يكون منه.

وقسم منهما حسد لمن آتاه الله شيئاً، وتمنّ من الحاسد أن يؤتى مثل ذلك الشيء، لا أن ينقل ذلك الشيء بعينه من المحسود حتى يخلو منه، ويكون للذي حسده دونه،

وقد بين الله هذين المعنيين في كتابه، فقال:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]. إلى قوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] أي: حتى يؤتيكم مثله، ويبقى من حسدتموه معه ما آتاه الله إياه غير مستنقص منه شيئاً.

فكان الحسد الذي فيه تمني نقل الشيء المحسود عليه عمن آتاه الله إياه إلى حاسده عليه مذموماً، والحسد الذي ليس فيه ذلك التمني، وإنما فيه حسد الحاسد المحسود على ما آتاه الله حتى يؤتيه الله من فضله مثله ليس بمذموم.

(شرح مشكل الآثار - 1/ 402)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن هذه الآية دالة على نوعين من التمني:

- النوع الأول: أن يتمنى الرجل زوال النعمة عن غيره، سواء تمنى مع ذلك انتقال هذه النعمة له أو لم يتمنى ذلك.

وهذا النوع من التمني هو الحسد المنهي عنه.

ص: 384

فالحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، ويتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم، كما قال جل وعلا: وَنَحْنُ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].

وكما قال جل ذكره: {ودَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].

فالحسود عدو للنعمة متمن لزوالها من المحسود كما زالت عنه.

(1)

وفي قوله جل وعلا: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32].

نهي عن التحاسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من أمور الدنيا والدين، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له، من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له، علماً بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، فلا يحسد أحد أخاه على حظه ورزقه.

(2)

- النوع الثاني: أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما لغيره من غير تمن لزوال تلك النعمة عن غيره.

وهذا النوع من التمني هو الحسد المباح، أو ما يسمى بالغِبْطة.

فالغبطة هي: المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه، فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر، قال جلا وعلا في ذلك:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

(1)

الروح لابن القيم (373).

(2)

تفسير الزمخشري (2/ 64).

ص: 385

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً عليه، مع تنافسهم فيه، وهو نوع من المسابقة التي دعا الله جل وعلا إليها بقوله:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].

وبقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21].

(1)

وهذا النوع من الحسد هو المراد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار".

(2)

وقد دل على هذا النوع من الحسد المباح: قوله جل وعلا: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} } [النساء:32].

فللإنسان أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره. إلا أن بعض المحققين قال بعدم جواز ذلك، لأن تلك النعمة التي يتمناها الإنسان ربما كانت مفسدة له إما في دينه وإما في دنياه.

وعليه فينبغي للمسلم أن لا يعين شيئاً في الأمنية والطلب والدعاء، ولكن ليطلب من فضل الله ما يكون سبباً لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الإطلاق. كما قال جل وعلا:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32].

(1)

الروح لابن القيم (373).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: التوحيد - باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "رجل آتاه الله القرآن"(حـ 7091 - 6/ 2737).

ومسلم في صحيحه - كتاب: صلاة المسافرين - باب: فضل من يقوم بالقرآن (حـ 1891 - 6/ 338).

ص: 386

ولذلك كان أحسن الدعاء وأفضله ما ورد في قوله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهذا أولى من التمني والطلب لشيء معين، إذ كان أعم الدعاء وأكمله.

(1)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)} [النساء:33]

(1)

قال أبو جعفر الطحاوي: عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام، وأيُّما حلف كان في الجاهلية، فلم يزده الإسلام إلا شدة"

(2)

فقال قائل: كيف تقبلون هذا وأنتم تروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد حالف في الإسلام بين المهاجرين والأنصار.

فذكر عن أنس بن مالك، قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا حلف في الإسلام" فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا.

(3)

(1)

تفسير الرازي (10/ 81).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: فضائل الصحابة - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه (حـ 6412 - 16/ 299).

وأبو داود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: في الحلف (حـ 2925 - 3/ 338).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الكفالة - باب: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ] النساء:33]

(حـ 2172 - 2/ 803) - ومسلم في صحيحه - كتاب: فضائل الصحابة - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه - (حـ 6410 - 16/ 298).

ص: 387

قال سفيان: فسرته العلماء: آخى بينهم.

قال: فلم يلتفت هذا المعارض الذي ذكرنا إلى ما حكيناه له عن ابن عيينة عن العلماء الذين حكاه عنهم.

وقال: قد جاء كتاب الله عز وجل بما يخبر أنه قد كانت محالفة في الإسلام، وذكر قول الله عز وجل:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33].

فكان جوابنا له في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه -: أن الذي تلاه علينا من كتاب الله كما تلاه، ولكن الله عز وجل قد نسخه عن ابن عباس في قوله عز وجل:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة تُورَّثُ الأنصار دون رحمه، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت الآية:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:33] نسختها: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] من النصر والنصيحة والرِّفادة ويوصي له، وقد ذهب الميراث.

(1)

فأخبر ابن عباس رضي الله عنه أن هذه الآية قد نسخها غيرها، يعني أنه نسخها قول الله عز وجل:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الكفالة - باب: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}

] النساء:33]- (حـ 2170 - 2/ 802) وأبو داود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: نسخ ميراث العقد بميراث الرحم (حـ 2922 - 3/ 336).

ص: 388

فأخبر ابن عباس في حديثه هذا أن الذي بقي لهم يعني الأحلاف بعد نزول هذه الآية هو النصر والنصيحة والوصية، وأن الميراث قد ذهب. قال: فإذا جمع ما في هذا الحديث وما في حديث أنس بن مالك دلّ على أنه قد كان هناك تحالف، ووكَّد ذلك قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] قال: ففي هذا ما قد خالف ما قد رويتموه أن "لا حلف في الإسلام"!!

قيل له: ما خالفه، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا حلف في الإسلام" إنما كان منه عند فتحه مكة.

كما عن عمرو بن شعيب،

(1)

عن أبيه

(2)

عن جده عبد الله بن عمرو،

(3)

قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام خطيباً، فقال:"أيها الناس؛ إنه ما كان من حلف في الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام".

(4)

(1)

عمرو هو: أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، وثقة العجلي وغيره، وكانت وفاته سنة

(118 هـ). (تهذيب الكمال - 5/ 422).

(2)

وأبوه هو: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، وهو تابعي في الطبقة الأولى من أهل الطائف، وثقة ابن حبان

وغيره. (تهذيب الكمال - 3/ 400).

(3)

وجده هو: الصحابي الجليل محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي. (سير أعلام النبلاء - 5/ 181).

(4)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب: الزكاة - باب: النهي عن الجلب عند أخذ الصدقة من المواشي - (حـ 2280 - 4/ 26).

والبيهقي في سننه - كتاب: قسم الفيء والغنيمة - باب: السرية تخرج من عسكر في بلاد العدو (حـ 2 - 6/ 335).

ص: 389

فأخبر عبد الله بن عمرو أن هذا القول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة والذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم من المؤاخاة بينهم التي حالف بينهم فيها، كان قبل ذلك بالمدينة، وكان الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة مما ذكره عبد الله بن عمرو ناسخاً لذلك، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم بعد قوله:"لا حلف في الإسلام" حلف إلى أن قبضه الله، صلوات الله عليه.

فقال قائل: فقد روي عن سعيد بن المسيب في تأويل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] خلاف ما رويتموه عن عبد الله بن عباس في ذلك

عن سعيد بن المسيب، قال: قال الله عز وجل: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] قال ابن المسيب: إنما نزلت هذه الآية للذين يتبنون رجالاً غير آبائهم فيورثونهم، فأنزل الله عز وجل فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، وجعل الميراث للرحم والعصبة، وأبى الله عز وجل أن يجعل للمُدَّعين ميراثاً ممن ادَّعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيباً في الوصية مكان ما تعاقدوا فيه من الميراث الذي رد الله عز وجل فيه أمرهم.

(1)

(1)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب: الفرائض - باب: نسخ التوارث بالتحالف وغيره - (حـ 11 - 6/ 263).

والطبري في تفسيره - سورة النساء - الآية (33)(حـ 9289 - 4/ 57).

ص: 390

فكان جوابنا له في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه -: أن الذي رويناه عن عبد الله بن عباس في ذلك عندنا أولى بتأويل الآية - والله أعلم - بل في الآية ما قد دل على ما قال ابن عباس، وعلى خلاف من خالفه، لأن فيها:: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] وقد كان التحالف فيه أيمان، والتَدعِّي والتبني لم يكن فيهما أيمان، فكان ذلك معقولاً به أن التأويل الذي ذكره عبد الله بن عباس في هذه الآية أولى مما ذكره غيره في تأويلها. والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 4/ 296 - 303)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن في المراد بقوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] قولين:

القول الأول: أن المراد هو: المهاجرين الذين كانوا يورثون الأنصار.

والقول الثاني: أن المراد هو: الذين يتبنون رجالاً غير آبائهم.

مرجحاً أن المراد به القول الأول بدلالة قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] إذ أن (الأيمان) إنما كانت في التحالف، ولم تكن في التبني.

وإليك بيان جميع الأقوال الواردة في المراد بالآية:

- القول الأول: أن المراد بالآية هو: أنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الإسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية، فقال جل ذكره:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] ثم نُسخ ذلك الحكم بما فرض الله جل وعلا - من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات، والناسخ لذلك هو قوله جل وعلا: تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6].

فالمراد (بالمعاقدة): المحالفة في الجاهلية. والمراد (بالنصيب): الميراث.

ص: 391

- وهذا قول: جمهور العلماء، منهم ابن عباس - وعكرمة - وقتادة - والضحاك - وسعيد بن جبير - والثوري - والأوزاعي - ومالك - والشافعي - وأحمد بن حنبل

(1)

- ورجحه الطحاوي.

- وقد رد هذا القول: بأن الآية محكمة غير منسوخة، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باق لم ينسخ، غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة العصبات وذوي الأرحام، وعليه فإن الآية غير متعارضة مع آية الأنفال حتى يقال بالنسخ.

(2)

والقول بعدم النسخ هو ما تؤيده السنة: فعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن رجلاً مات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثاً إلا عبداً هو أعتقه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه).

(3)

- القول الثاني: أن المراد بالآية هو: أنهم كانوا يتحالفون في الجاهلية، فأمروا أن يؤتي بعضهم بعضاً نصيبه من المشورة والنصرة وما أشبه ذلك، دون الميراث.

فالمراد (بالمعاقدة): المحالفة في الجاهلية. والمراد (بالنصيب): النصرة والتأييد.

وعلى هذا القول: فالآية محكمة غير منسوخة، لأن الله جل وعلا أمر بالوفاء بالعقود، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد - وعطاء - والسدي - ورجحه الطبري.

(4)

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 55) - وناسخ القرآن لابن الجوزي (334).

(2)

تفسير الألوسي (2/ 83).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الفرائض - باب: في ميراث المولى الأسفل (حـ 2111 - 8/ 256) وقال: هذا حديث حسن. أهـ.

وأخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب: الفرائض - باب: من لا وارث له - (حـ 2772 - 2/ 123).

(4)

انظر: تفسير الطبري (4/ 56) - وتفسير البسيط للواحدي (1/ 229).

ص: 392

- القول الثالث: أن المراد بالآية هو: أن المهاجرين حين قدموا المدينة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، فكان بعضهم يرث بعضاً بتلك المؤاخاة، ثم نسخ الله هذا الحكم بالفرائض، وبقوله جل وعلا:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6].

فالمراد بـ (المعاقدة): المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. والمرد بـ (النصيب): الميراث.

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه وجابر بن زيد.

(1)

- القول الرابع: أن المراد بالآية هو: أنهم كانوا في الجاهلية يتبنون أبناء غيرهم ويورثونهم، فأمر الله جل وعلا بأن يُجعل لهم نصيب من الوصية، ورد الميراث إلى ذوي الأرحام والعصبة.

فالمراد بـ (المعاقدة): التبني في الجاهلية. والمراد بـ (النصيب): الوصية من الميراث.

- وهذا قول: سعيد بن المسيب رضي الله عنه والحسن البصري - واختاره ابن كيسان.

(2)

الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لأن الله جل وعلا وصف هذا التعاقد بكونه قائماً على الأيمان، فقال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] وهذا إنما كان متحققاً في التعاقد والتحالف الذي كان في الجاهلية، وأما ما كان من أمر التبني والمؤاخاة، فلم يكن قائماً على الأيمان، حتى يكون داخلاً في الآية.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير الطبري (4/ 55).

(2)

تفسير البسيط للواحدي (1/ 230).

(3)

انظر: تفسير الطبري (4/ 57) - وتفسير ابن عطية (4/ 105).

ص: 393

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء:60].

قال أبو جعفر الطحاوي: قال النبي عليه السلام: "بئس مطية الرجل زعموا"

(1)

قال أبو جعفر: فتأملنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه "زعموا" بما وصفها به، وذكره إياها أنها بئس مطية الرجل، فوجدنا "زعموا" لم تجئ في القرآن إلا في الإخبار عن المذمومين بأشياء مذمومة كانت منهم، فمن ذلك قول الله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] ثم أتبع ذلك بقوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7].

ومن ذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:56] ثم أتبع ذلك بإخباره بعجزهم أن دعوهم بذلك بقوله: {فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56].

ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94] ثم رد عليهم بقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94].

ومن ذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:136].

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الأدب - باب: في قول الرجل (زعموا) - (حـ 4972 - 5/ 254) والشهاب في مسنده (حـ 1334 - 2/ 268).

ص: 394

ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:138].

ومن ذلك قوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22].

ومن ذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60] الآية.

وكل هذه الأشياء، فإخبار عن الله تعالى بها عن قوم مذمومين في أحوال لهم مذمومة، وبأقوال كانت منهم كانوا فيها كاذبين مفترين على الله تعالى، فكان مكروهاً لأحد من الناس لزوم أخلاق المذمومين في أخلاقهم، الكافرين في أديانهم، الكاذبين في أقوالهم.

(شرح مشكل الآثار - 1/ 173 - 175)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن الله جل وعلا جاء في الآية بالفعل (يزعمون) للإخبار بأن القوم كاذبون فيما ادعوا وذمهم على ذلك، إذ أن الفعل (زعم) لم يجئ في القرآن إلا في الإخبار عن قوم مذمومين بأشياء كانت منهم مذمومة.

ومما يؤكد صحة ماذهب إليه الإمام الطحاوي:

أن (الزعم) في اللغة هو: حكاية قول يكون مظنة للكذب. ومن ذلك قول العرب: (زعم فلان كذا) في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق والصحة، وتتقوى فيه شُبه الإبطال، فغاية درجة (الزعم) إذا قوي أن يكون مظنوناً.

ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بئس مطية الرجل: زعموا".

(1)

فهذا دليل على الجهة التي تستعمل فيها (زعموا) فهي لا تستعمل في الأكثر إلا في القول الذي لا تتحقق صحته.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الأدب - باب: في قول الرجل (زعمو) - (حـ 4972 - 5/ 254) وأحمد في مسنده (5/ 401).

ص: 395

ولهذا جاءت (زعموا) في القرآن الكريم: في كل موضع ذم القائلون به،

(1)

كما في قوله جل وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]. فجاء بالفعل (زعم) في الآية للإخبار بأن القوم كاذبون فيما ادعوا من أنه لا بعث ولا حساب، ولذمهم على هذا القول الباطل.

وكما في الآية التي معنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء:60]. فالمراد (بالزعم) في الآية هو: الكذب، لأن الآية نزلت في المنافقين واليهود الذين كذبوا في قولهم: أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما نزل على الرسل من قبله.

(2)

فعن عامر الشعبي: أنه قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء:60].

(3)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: بصائر ذوي التمييز (3/ 129) - والمفردات للراغب الأصفهاني (مادة: زعم - 213).

(2)

تفسير الرازي (10/ 153).

(3)

خرجه الطبري في تفسيره - سورة النساء - الآية (60). (حـ 9896 - 4/ 155) والواحدي في أسباب النزول (161).

ص: 396

قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء:78]

قال أبو جعفر الطحاوي: تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم: "والشر ليس إليك"

(1)

فوجدناه محتملاً أن يكون أراد به: والشر غير مقصود به إليك، لأن من يعمل الخير يقصد به إلى الله عز وجل رجاء ثوابه، وإنجاز ما وعد عليه، ومن عمل شراً، فليس يقصد به إلى الله عز وجل. وإن كان كل واحد من الخير ومن الشر فمن الله عز وجل، كما قال عز وجل:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] أي: فإن ذلك كله من عند الله، فييسر أهل السعادة للخير فيعملونه، فيثيبهم ويجازيهم عليه، وييسر أهل الشقاء للشر، فيعملونه، فيعاقبهم عليه، إلا أن يعفو عنهم فيما يجوز عفوه عن مثله، وهو ما خلا الشرك به، والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 4/ 222)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] دال على أن كل خير أو شر فمن الله جل وعلا، خلقاً وتقديراً. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لمذهب القدرية. وإليك بيان هذه المسألة:

القدر هو: قدرة الله على العباد.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه - (حـ 1809 - 6/ 299).

وأبو داود في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء - (حـ 760 - 1/ 481).

ص: 397

والآيات المثبتة له كثيرة ومنها:

قوله جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. وقوله جل ذكره: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] وقوله جل ذكره: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78].

وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في إثبات القدر من الكثرة بمكان، اذكر منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".

(1)

فقد دلت هذه الآيات والأحاديث دلالة ظاهرة على أن القدر خيره وشره، حلوه ومره، من الله جل وعلا خلقاً وتقديراً، فيجب الإيمان به، والتسليم لأمره جل وعلا، والرضا بقضائه، لأن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".

(2)

فلا يتحقق الإيمان الكامل إلا بتحقق الإيمان بجميع أركانه، والتي منها: الإيمان بالقدر خيره وشره. ومن لم يؤمن بالقدر ورده، فقد ضاد الله عز وجل في أمره، ورد على رسوله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، وجحد القرآن وما أنزل فيه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: القدر - باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام (حـ 6690 - 16/ 419).

والترمذي في سننه - كتاب: القدر - باب: (18)(حـ 2161 - 8/ 320).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الإيمان - باب: الإيمان والإسلام والإحسان (حـ 93 - 1/ 101).

وأبو داود في سننه - كتاب: السنة - باب: في القدر (حـ 4695 - 5/ 69).

ص: 398

كما دلت هذه الآيات والأحاديث المتقدمة على رد الإدعاء بأن العبد هو الموجد لفعله من غير أن يكون لله جل وعلا تقدير ومشيئة في ذلك، وهذا الإدعاء هو الذي عليه جمهور القدرية.

وقد جعلته المعتزلة أحد أصولهم الخمسة وسموه بالعدل، وستروا تحته نفي القدر، وقالوا: إن العباد هم الذين يقصدون الخير والشر بمشيئتهم، وأما الله جل وعلا فإنه لا يريد ولا يقدر إلا الخير دون الشر.

فالله جل وعلا لا يخلق الشر ولا يقضي به، إذ لو خلقه فعمل به العباد، ثم عذبهم عليه، لكان ذلك جوراً، والله تعالى عدل لا يجور.

وقدر رد هذا الادعاء: بأنه يلزم على هذا الأصل الفاسد، أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه جل وعلا بالعجز والضعف إذ أن مشيئة العباد أغلب من مشيئته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

(1)

ومذهب القدرية هذا، خلاف مذهب أهل السنة والجماعة الذين يرون أن أفعال العباد كلها من طاعات ومعاص مخلوقة لله عز وجل، مقدرة على العباد مقضية عليهم بل وقوعها منهم.

وهذا لا يعني أن العبد مسلوب المشيئة والإرادة كما يدعي الجبرية، لكن أهل السنة يرون أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة غير خارجة عن مشيئة الله وتقديره، بل هي تابعة لمشيئته جل وعلا.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: (الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة، كما قال جل ذكره:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير:28 - 29]. أهـ.

(2)

(1)

انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد (1/ 135) وشرح العقيدة الطحاوية (119).

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 63).

ص: 399

ومما ينبغي التنبه له أن هناك فرق بين الخير والشر الذي هو من تقدير الله جل وعلا، وقد بين هذا الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول في دعاء الاستفتاح:" والخير كله بيديك والشر ليس إليك".

(1)

ومعنى هذا الدعاء: أن الله جل وعلا لا يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شرٌ كلي أو شرٌ مطلق، فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو (الشر الذي ليس إليه).

ولهذا لم يضف الشر إلى الله جل وعلا مفرداً قط، وإنما يكون داخلاً في عموم المخلوقات، كما في قوله جل وعلا:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]. وقوله جل ذكره: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62].

(2)

وبهذا يظهر جلياً أن القدر خيره وشره، قليله وكثيره، ظاهره وباطنه، من الله جل وعلا قضاءً وقدراَ، قدره على خلقه، فلا يعدو واحداً منهم مشيئته، ولا يجاوز قضاءه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وكل هذا عدل منه فيهم.

فيجب على العبد المؤمن بربه، الإيمان بالقدر خيره وشره، إذ في الإيمان به سعادة للعبد في الدنيا والآخرة، لأنه متى علم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه وتعلق بربه وصرف أمره إليه.

هذا مع ما في الإيمان بالقدر من تحقيق العبودية المطلقة لله جل وعلا.

(3)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الصلاة - باب: دعاء الاستفتاح (حـ 1 - 1/ 296).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (517).

(3)

المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد (1/ 139).

ص: 400

قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} [النساء:85].

قال أبو جعفر الطحاوي: الكِفْلْ هو المثلُ، كما قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] بمعنى: مثلُ منها، من جنسها، وكمثل قوله:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] أي: مثلين، كماعن أبي عبيدة:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: مثلين.

(شرح مشكل الآثار -4/ 203)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: (كفل) أي: مثل.

وهذا قول: جمهور المفسرين، وأهل اللغة.

فالمراد بالكفل هو: الحظ والنصيب، والمثل من كل شيء.

قال الزجاج: (الكِفْلُ) في اللغة: النصيب. أُخذ من قولهم (اكَتفلْت البعير) إذا وضعت على موضع من ظهره كساء، وركبت عليه، وإنما قيل له (كِفْل) لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإنما استعمل نصيباً منه.

ويقال: (ما لفلان كِفْل) أي: ماله مثل.

فالكفل هو: النصيب والمثل من الخير والشر.

ومن استعماله في الخير قوله جل وعلا:: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] وإن كان أكثر ما يستعمل في الشر، ولذلك عبر به - في الآية التي معنا - في الشفاعة السيئة دون الحسنة، فقال جل ذكره:{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85]. أي: يكن له حظ ومثل من الوزر والإثم، والحظ من الوزر والإثم وزر وإثم.

(1)

(1)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 135) - وتهذيب اللغة للأزهري - (مادة: كفل-10/ 250)

وتفسير البسيط للواحدي (1/ 354) - وتفسير أبي حيان (3/ 732).

ص: 401

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} [النساء:92].

قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا، وعثمان البتي،

(1)

والحسن بن حي:

(2)

دية الكافر مثل دية المسلم، واليهودي، والنصراني، والمجوسي والمعاهد والذمي سواء.

وقال مالك: دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وديات نسائهم على النصف من ذلك.

وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث الدية، ودية المجوسي ثمانمائة، والمرأة على النصف.

قال أبو جعفر: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قال في خطبته: (دية الكفار نصف دية المسلم).

(3)

(1)

عثمان هو: أبو عمرو عثمان بن مسلم البَتّي، وثقة أحمد وغيره، قال فيه ابن سعد: له أحاديث، وكان صاحب رأي وفقه، وكانت وفاته سنة

(143 هـ). (سير أعلام النبلاء-6/ 148).

(2)

الحسن هو: أبو عبد الله الحسن بن صالح بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي، الفقيه العابد، وثقة أبو حاتم وغيره، وكانت وفاته سنة

(169 هـ)(سير أعلام النبلاء - 7/ 361).

(3)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب: الزكاة - باب: النهي عن الجلب عند أخذ الصدقة من المواشي (حـ 2280 - 4/ 26)

والدار قطني في سننه - كتاب: الحدود والديات وغيره - (حـ 260 - 3/ 171).

ص: 402

قال أبو جعفر: لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم في دية الكافر أنها النصف، أعلى من هذا الحديث، وليس كل أهل العلم بالحديث يقبلون هذا الإسناد ولا يحتجون به.

وروي عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب قال:(دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم). قال سعيد: وقضى عثمان

(1)

في دية المعاهد بأربعة آلاف

وروى ابن شهاب قال: كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، يجعلون دية اليهود والنصارى إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم سواء.

وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42].

قال: (نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يؤدون الدية كاملة، وبني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، فجعل الدية سواء).

(2)

(1)

عثمان هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، يجتمع هو

ورسول الله صلى الله عليه وسلم في (عبد مناف) كان رابع من أسلم، وثالث الخلفاء الراشدين، وكانت وفاته سنة (35 هـ). (أسد الغابة- 3/ 584).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الأقضية - باب: الحكم بين أهل الذمة (حـ 3591 - 4/ 17)

والنسائي في سننه - كتاب: القسامة - باب: تأويل قول الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (حـ 4747 - 8/ 387).

ص: 403

قال أبو جعفر: ومن جهة النظر أن الله تعالى قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] كما قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء:92] فذكر الدية في كل واحد منهما والكفارة.

واتفقوا على أن الكفارة فيهما واحدة، كذلك الدية، فتأول مالك على أن المقتولين في هذه الآية مؤمنون، لأنه قال في أول هذه الآية:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء:92] ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92]: أي: إن كان ذلك المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق والحجة عليه: أن الله تعالى قد قال في هذه الآية: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] فدل ذلك على أنه تعالى لم يعطفه على ما تقدم من قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء:92]؛ لأنه لو كان معطوفاً عليه، لأغنى ذلك عن وصفه بالإيمان.

وكذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} {النساء:92] غير مضمر فيه المؤمن الذي تقدم ذكره؛ لأن قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92]: هو الذي يلي قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء:92] فإذا لم يكن ما يليه معطوفاً، عليه فما بعده أولى بذلك، فثبت أن دية المسلم والكافر سواء.

وروي عن علقمة، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والزهري.

(مختصر اختلاف العلماء - 5/ 155 - 157)

ص: 404

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال في دية الكافر، مرجحاً أن دية الكافر مثل دية المسلم بدلالة الآية.

حيث دل قوله جل وعلا: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] على أن المؤمن المقتول يجب له الدية والكفارة.

ودل قوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] على أن الكافر المقتول يجب له الدية والكفارة.

وإليك أولاً: بيان الأقوال في المراد بقوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92]:

القول الأول: أن المراد بالآية هو: المؤمن.

والتقدير في الآية: (وإن كان المقتول مؤمناً من قوم بينكم وبينهم ميثاق).

- وهذا قول: النخعي - وجابر بن زيد - والحسن - ومالك.

فالمراد بالآية هو: المقتول المؤمن، لأن موضوع الآية فيمن قتل مؤمناً خطأ، فقد ذكر الله جل وعلا أولاً حال المؤمن المقتول خطأ، ثم ذكر حال المؤمن المقتول خطأ إذا كان في قوم هم من أهل الحرب، ثم ذكر حال المؤمن المقتول خطأ إذا كان في قوم من أهل الذمة والعهد.

ولا شك أن هذا ترتيب حسن، فكان حمل اللفظ عليه لا شك في جوازه.

- والذي يؤكد صحة هذا القول: أن قوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ} [النساء:92] لابد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم، والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ، فوجب حمل اللفظ عليه.

القول الثاني: أن المراد بالآية هو: الكافر.

وقد لزمت المؤمن القاتل دية الكافر المقتول، لأن له ولقومه عهداً، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، ولأنها مال من أموالهم، ولا يحل للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب من أنفسهم.

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه والزهري - والشعبي - والنخعي - وقتادة - وابن زيد.

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

ص: 405

1 -

أن الله جل وعلا قال في الآية: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]. فلو كان المراد بالآية المؤمن لما كانت الدية مسلمة إلى أهله، لأن أهله كفار لا يرثونه.

(1)

فلزم أن يكون المراد بالآية: الكافر.

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الدية جبر لأولياء القتيل، وليست مالاً موروثاً عن القاتل، حتى يقال بأن أهله كفار لا يرثونه.

(2)

2 -

أن المؤمن المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت عموم قوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فلو كان المراد من قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] هو المؤمن، لكان هذا عطفاً للشيء على نفسه، وهذالا يجوز بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب، فإن الله جل وعلا إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله.

وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة، فلو كان المراد منه المؤمن، لكان هذا إعادة وتكراراً من غير فائدة، وهذا لا يجوز.

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الله جل وعلا ذكر أولاً حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ إجمالاً، ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب فبين أن الدية لا تجب في قتله.

ثم ذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة وبين وجوب الدية والكفارة في قتله.

فالغرض من هذا التقسيم إظهار الفرق بين هذا القسم وبين القسم الذي قبله.

(3)

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 210) - وتفسير الرازي (10/ 235).

(2)

تفسير ابن عاشور (5/ 162).

(3)

انظر: تفسير الرازي (10/ 235) والاستذكار لابن عبد البر (25/ 169).

ص: 406

وعليه فإنه ليس في الآية تكرار من غير فائدة.

3 -

أن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] فإطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهداً مثلهم. ومثال ذلك قول القائل: (إن هذا رجل من أهل الذمة) يفيد أنه ذمي مثلهم، فكذلك ظاهر قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] يوجب أن يكون معاهداً مثلهم، ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] فقيده بذكر الإيمان، لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه أنه كافر مثلهم.

(1)

وقد رد هذا الاستدلال: بأمرين:

1 -

أن كلمة (من) صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة (في). فكان المعنى: (وإن كان في قوم عدو لكم) فكذلك هنا يجب أن يكون المعنى: (وإن كان في قوم بينكم وبينهم ميثاق).

(2)

2 -

أن فائدة التقييد بالإيمان في قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] هو على سبيل التوكيد، لا على سبيل التقييد إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء وفي جملة الشرط، فلو أطلق ولم يأت بقوله:(وهو مؤمن) لكان الضمير الذي في (كان) عائداً على المقتول خطأ، لأنه لم يجر ذكر لغيره، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر، ويترك عوده على ما جرى ذكره.

(3)

وعليه فإن فائدة وصفه بالإيمان هي:

دفع التوهم الذي قد يفهم من قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء:92] بحيث قد يظن ظان أنه أيضاً عدو لنا في الدين، فجاء الوصف (بالإيمان) لإزالة هذا التوهم، وتأكيد وصفه بالإيمان.

القول الثالث: أن الآية عامة في المؤمن والكافر.

(1)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 337).

(2)

تفسير الرازي (10/ 235).

(3)

تفسير أبي حيان (4/ 26).

ص: 407

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه والشعبي - والنخعي - والشافعي - والطبري.

(1)

- وقد استدل أصحاب هذا القول: بأن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] فأطلق اللفظ ولم يقيده بذكر (الإيمان) فوجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكافرين من قوم بيننا وبينهم ميثاق.

وغير جائز تخصيصه بالمؤمنينن أو بالكافرين لعدم الدليل.

(2)

الترجيح: والراجح هو القول الأولى. لأن موضوع الآية فيمن قتل مؤمناً خطأ، فوجب حمل اللفظ عليه دون غيره.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: بيان الأقوال في مقدار دية الكافر:

القول الأول: أن دية الكافر المعاهد مثل دية المسلم.

- وهذا القول: روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.

وهو قول: النخعي - والشعبي - والثوري - وعلقمة - ومجاهد - وسعيد بن المسيب - والزهري - وعثمان البتي - والحسن بن حي. وإليه ذهب: الحنفية - وأصحاب الرأي.

(3)

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (دية الذمي مثل دية المسلم).

(4)

وقد رد هذا الحديث: بأن في سنده أبو كرز وهو متروك الحديث. ولو يروه عن نافع غيره.

(5)

(1)

انظر: تفسير الطبري (4/ 211) - وتفسير ابن عاشور (5/ 162).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 336). وتفسير القرطبي (5/ 327).

(3)

انظر: المغني لابن قدامة (12/ 51). وتفسير القرطبي (5/ 327)

(4)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحدود (حـ 149 - 3/ 129).

(5)

سنن الدار قطني (3/ 129).

ص: 408

2 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: (ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجيلن من المشركين - وكانا منه في عهد- دية الحرين المسلمين).

(1)

وقد رد هذا الحديث: بأن في سنده الحسن بن عمارة وهو متروك لا يحتج به.

(2)

3 -

ما رواه أبو الهيثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا: (دية المعاهد: دية الحر المسلم).

(3)

وقد رد هذا الحديث: بأن في سنده عثمان الوقاصي وهو متروك الحديث.

(4)

كما يرد على جميع الروايات المتقدمة:

أ- بأن ما ثبت فيها من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى في ذي العهد مثل دية المسلم، فإنما كان على معنى الاستئلاف لقومهم، إذ كان يؤديها من قبل نفسه ولا يرتبها على العاقلة.

(5)

ب- أما ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فهي روايات مضطربة منقطعة فلا حجة فيها.

(6)

4 -

أن الكافر آدمي حر معصوم الدم، فتكمل ديته كالمسلم.

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الكفر نقص مؤثر في الدية.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الديات - باب: حدثنا أبو كريب - (حـ 1408 - 6/ 176) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا

الوجه. أهـ. وأخرجه البيهقي في سننه- كتاب: الديات - باب: دية أهل الذمة (حـ 16129 - 8/ 102).

(2)

السنن الكبرى للبيهقي (8/ 102).

(3)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحدود (حـ 192 - 3/ 145) والطبراني في المعجم الكبير - (حـ 9738 - 9/ 350).

(4)

سنن الدار قطني (3/ 145).

(5)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 605).

(6)

الاستذكار لابن عبد البر (25/ 166).

ص: 409

5 -

أن الله جل وعلا قال في المسلم المقتول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] وقال في الكافر الذمي المقتول مثل ذلك، فقال جل ذكره:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فلم يفرق جل وعلا بين مايجب للمسلم المقتول، وبين ما يجب للكافر المقتول، فدل ذلك على أن ديتهما سواء، كما أن الكفارة عنهما سواء.

(1)

كما أن الدية اسم لمقدار من المال بدلاً من نفس الحر، كانت معلومة المقدار عندهم قبل الإسلام وبعده، وهي (مائة من الإبل). فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا المقدار.

فإطلاق لفظ الدية في الآية قد أنبأ عن هذا المعنى، وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها (دية مسلمة) قد اقتضى ذلك أيضاً. فوجب أن تكون الدية المذكورة للذمي هي الدية المذكورة للمؤمن، وإلا كان لفظ (الدية) لفظاً مجملاً مفتقراً إلى البيان، وليس الأمر كذلك.

(2)

وقد رد هذا الاستدلال بالأمور التالية:

1 -

أنه ليس المراد بالآية الكافر المقتول، وإنما المراد بها المؤمن المقتول، وقد تقدم بيان صحة هذا القول، ورجحانه على غيره.

2 -

أن (الدية) اسم لما يعطى عوضاً عن دم القتيل إلى وليه. فلفظ (الدية) لفظ مجمل لا تعلق له بالمقدار.

ومثال ذلك قول القائل: (من أتلف ثوباً فعليه ضمانه، ومن أتلف دماً فعليه ضمانه) فهذا اللفظ لا يفهم منه المساواة في المقدار ولا التفاوت فيه، وإنما يعلم ذلك من بيان آخر.

(1)

المغني لابن قدامة (12/ 52).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 336).

ص: 410

وعليه: فإن الآية غير دالة على مقدار ما يعطى في الدية، وإنما فيها إيجاب الدية مطلقاً، وقد جاءت السنة الصحيحة مبينة هذا المقدار، فعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:(دية الكافر مثل نصف دية المسلم).

(1)

فوجب الأخذ بهذا التقدير دون غيره.

(2)

القول الثاني: أن دية اليهودي والنصراني المعاهد: ثلث دية المسلم، ودية المجوسي: ثمانمائة درهم.

- وهذا القول: روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهم وهو قول: عطاء - والحسن - وعكرمة - وسعيد بن المسيب - وعمرو بن دينار - وإسحاق - وأبي ثور. وإليه ذهب: الشافعية.

(3)

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم).

(4)

2 -

أن المرأة المسلمة فوق الرجل الكتابي، فوجب أن تنقص ديته عن ديتها، فتكون ديته ثلث دية المسلم.

(5)

3 -

أن المجوسي لا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان دينه وأحكامه عنهما، فينبغي أن تنقص ديته كنقص دية المرأة عن دية الرجل.

(6)

4 -

ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (دية المجوسي ثمانمائة درهم).

(7)

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الديات - باب: الدية كم هي - (حـ 4542 - 4/ 679)

وابن ماجة في سننه - كتاب: الديات - باب: دية الكافر (حـ 2676 - 2/ 104).

(2)

انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 480) - وتفسير القرطبي (9/ 316).

(3)

المغني لابن قدامة (12/ 51).

(4)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحدود (حـ 190 - 3/ 145).

(5)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 604).

(6)

المغني لابن قدامة (12/ 55).

(7)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحدود (حـ 148 - 3/ 129)

والبيهقي في سننه - كتاب: الديات - باب: دية أهل الذمة (حـ 16116 - 8/ 100).

ص: 411

القول الثالث: أن دية اليهودي والنصراني المعاهد: نصف دية المسلم. ودية المجوسي: ثمانمائة درهم.

- وهذا قول: عمر بن عبد العزيز - وعروة بن الزبير - وعمرو بن شعيب.

وإليه ذهب: المالكية - والحنابلة.

(1)

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(دية المعاهد نصف دية المسلم).

(2)

8)

قال الخطابي: وليس في دية أهل الكتاب شيء أثبت من هذا، ولا بأس بإسناده. أهـ.

(3)

2 -

ولأن الكفر نقص مؤثر في الدية، فأثر في تنصيفها كالأنوثة.

(4)

الترجيح: والراجح هو القول الثالث، لصحة الخبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء:94].

قال أبو جعفر الطحاوي: قوله عز وجل: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، وفي قراءة غيره منهم:(فَتَثَبَّتُوا).

(شرح مشكل الآثار - 8/ 140)

(1)

المغني لابن قدامة (12/ 51).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الديات - باب: دية الذمي (حـ 4583 - 4/ 707)

وابن ماجة في سننه - كتاب: الديات - باب: دية الكافر- (حـ 2676 - 2/ 104).

(3)

معالم السنن للخطابي (4/ 37).

(4)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 604).

ص: 412

بين الإمام الطحاوي القراءات الواردة في قوله جل وعلا: (فتبينوا)[النساء:94] من غير نسبة إلى من قرأ بها.

وإليك بيان هذه القراءات:

القراءة الأولى: (فَتَثَبَّتُوا).

- وهذه قراءة: حمزة - والكسائي - والحسن - والأعمش.

(1)

- ومن اختار هذه القراءة فحجته: أنه لما كان معنى الآية الحض للمؤمنين على التأني، وترك الإقدام على القتل، دون تثبت وتبين، أتى بالتثبت، لأنه خلاف الإقدام، ولأنه أفسح للمأمور من التبين، لأن كل من أراد أن يتثبت قدر على ذلك، وليس كل من أراد أن يتبين قدر على ذلك، لأنه قد يتبين، ولا يتثبت له ما أراد بيانه.

(2)

القراءة الثاني: {فَتَبَيَّنُوا}

- وهذه قراءة: الباقين من القراء.

(3)

- ومن اختار هذه القراءة فحجته: أنه لما كان معنى الآية: افحصوا عن أمر من لقيتموه، واكشفوا عن حاله قبل أن تبطشوا بقتله، حتى يتبين لكم حقيقة ما هو عليه من الدِّين - لما كان هذا هو معنى الآية - كانت هذه القراءة أولى. وأيضاً فإن التبين يعم التثبت، لأن كل من تبين أمراً، فليس يتبينه إلا بعد تثبت، ظهر ذلك الأمر أو لم يظهر له، لابد من التثبت مع التبين، ففي التبين معنى التثبت، وليس كل من تثبت في أمر تبينه، فقد يتثبت ولا يتبين له الأمر، فالتبين أعم من التثبت في المعنى لاشتماله على معنى التثبت.

وعليه فالاختيار لقراءة {فَتَبَيَّنُوا} لعموم لفظها، ولأن أكثر القراء عليها.

(4)

(1)

انظر: حجة القراءات لأبي زرعة (209) - والسبعة لابن مجاهد (236).

(2)

انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 394) - وتهذيب اللغة للأزهري (مادة - ثبت -14/ 267).

(3)

انظر: حجة القراءات لأبي زرعة (209) - والنشر في القراءات العشر (1/ 254).

(4)

انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 394) - وتفسير الرازي (11/ 2).

ص: 413

الدراسة

الترجيح: والراجح هو أن كلاً القراءتين صواب، لأنهما قراءتان متواترتان، ولأنهما بمعنى واحد، وإن اختلف لفظهما، فبأيهما قرأ القارئ فقد أصاب.

(1)

قال ابن خالويه: والأمر بينهما قريب، لأن من تبين فقد تثبت، ومن تثبت فقد تبين. أهـ.

(2)

وقال ابن عطية: وهو الصحيح، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له، بل يقتضي محاولة اليقين، كما أن التثبت يقتضي محاولة اليقين، فهما سواء. أهـ.

(3)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في القراءات الواردة في الآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} [النساء:95].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عبد الكريم

(4)

أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث يحدث عن ابن عباس أنه سمعه يقول: لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر، قال: لما نزل غزو بدر، قال عبدُ بن جحش الأسدي أبو أحمد

(5)

(1)

تفسير الطبري (4/ 227).

(2)

الحجة في القراءات السبع لابن خالويه (126).

(3)

تفسير ابن عطية (4/ 217).

(4)

عبد الكريم هو: أبو سعيد عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، مولى عثمان بن عفان، وثقة ابن معين وغيره، وكانت وفاته سنة (127 هـ)

(تهذيب الكمال -4/ 541).

(5)

أبو أحمد هو: عبدُ بن جحش الأسدي، كان من السابقين إلى الإسلام، ومن أوائل المهاجرين إلى المدينة، وكانت وفاته سنة (20 هـ)

(أسد الغابة -6/ 7).

ص: 414

وابن أم مكتوم

(1)

: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا من رخصة؟ فنزلت:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]

(2)

وعن سهل بن سعد الساعدي

(3)

أنه قال: رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، فقال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى - فأنزل الله على رسوله، وفخذه على فخذي فثقلت حتى خفت أن ترض فخذي ثم سُرَّيَ عنه فأنزل الله:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]

(4)

(1)

ابن أم مكتوم هو: عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب القرشي العامري، هاجر إلى المدينة واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة

مرة في غزواته، شهد فتح القادسية ومات بها شهيداً. (أسد الغابة-4/ 263).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة النساء (حـ 3040 - 11/ 161) وقال: هذا حديث حسن غريب.

أهـ. والبيهقي في سننه - كتاب - السير - باب: النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية - (حـ 1 - 9/ 47).

(3)

سهل هو: أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد الخزرجي الأنصاري الساعدي، وكان آخر من بقي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة،

حيث كانت وفاته سنة (91 هـ). (أسد الغابة-2/ 472).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الجهاد - باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ

وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}] النساء:95] (حـ 2677 - 3/ 1042) - والترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن

سورة النساء - (حـ 3041 - 11/ 162) وقال: هذا حديث حسن صحيح. أهـ.

ص: 415

وعن البراء بن عازب، قال: لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] دعا رسول الله رجلاً، فجاء ومعه اللوح والدواة، أو الكتف، فقال: اكتب: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95]- وخلف ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم الأعمى - فقال: يا رسول الله أنا ضرير البصر، قال: فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95].

(1)

.

وعن أبي نضرة

(2)

، قال: سألت ابن عباس عن قوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] الآية. قال ابن عباس: أقوام حبستهم أمراض وأوجاع، وكان أولئك أولي الضرر، وكان القاعد المريض أعذر من القاعد الصحيح.

(3)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الجهاد - باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95]. (حـ 2676 - 3/ 1042). والترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة

النساء - (حـ 3039 - 11/ 160) وقال: هذا حديث حسن صحيح. أهـ.

(2)

أُبو نضرة هو: المنذر بن مالك بن قطعة العبدي البصري، وثقة ابن حبان وغيره، وكانت وفاته سنة (108 هـ). (تهذيب الكمال -7/ 226).

(3)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب: السير - باب: من اعتذر بالضعف والمرض والزمانة والعذر في ترك الجهاد. (حـ 7 - 9/ 24)

والطبراني في المعجم الكبير - (حـ 12775 - 12/ 165).

ص: 416

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: أفيكون ما في حديث أبي نضرة هذا عن ابن عباس مخالفاً لما في حديث مقسم، عن ابن عباس الذي قد رويته في هذا الباب، لأن في ذلك أنه نزلت:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] ثم أنزل بعدها: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]. وفي حديث أبي نضرة ذكر ذلك كله نسقاً، فظاهره يوجب أن نزولها كلها كان معاً.

قيل له: ما بينهما اختلاف، لأن حديث مقسم إنما فيه إخبار ابن عباس عن سبب نزولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان، وحديث أبي نضرة إنما فيه عن ابن عباس الإخبار بتأوليها الذي استقر عليه أمرها، وكان ذلك منه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل واحد منه ومن حديث مقسم في معنى غير المعنى الذي فيه صاحبه، وإن كان ما استقرت عليه الآية فيهما جميعاً مؤتلفاً غير مختلف.

عن الفلتان بن عاصم الجرمي

(1)

أنه قال: كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه - وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفَرَّغ سمعه وبصره لما جاءه من الله عز وجل فلما فرغ، قال للكاتب، اكتب:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء:95] فقام الأعمى فقال: يا رسول الله ما ذنبنا؟ فأنزل الله عليه، فقلنا للأعمى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه.

(1)

الفَلَتَان هو: الصحابي الجليل الفلتان بن عاصم الجرمي. (أسد الغابة-4/ 368).

ص: 417

قال: فبقي قائماً يقول: أتوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال للكاتب: اكتب: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95].

(1)

فقال قائل: كيف تقبلون هذه الأخبار، وتثبتون بها أن نزول هذه الآية كان في البدء:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] وفي ذلك تفضيل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بعذر وبغير عذر، والقاعدون بعذر لم يقعدوا اختياراً لترك الجهاد، وإنما قعدوا عجزاً عن الجهاد، فكيف يجوز أن يستوي في ذلك فضل المجاهدين على القاعدين المعذورين، ويكونون في ذلك مع العذر الذي معهم كمن سواهم من القاعدين، ممن لا عذر معهم، وكيف يجوز أن يكون ذوو الضرر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الفقه على ما هم عليه منه، والقرآن أيضاً نزل بلغتهم يظنون بالله عز وجل أنه سوى في ذلك بينهم مع العذر الذي معهم، وبين غيرهم من القاعدين عن الجهاد ممن لا عذر معه، وقد سمعوا الله عز وجل يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، ولم يؤتهم الله القوة على الجهاد، وسمعوه يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وأعظَمَ أن تكون هذه الأخبار على ما قد ذكر فيها، وقال: محال أن يكون كان نزول هذه الآية إلا كما يقرؤها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95] الآية.

(1)

أخرجه ابن حبان في صحيحه - (حـ 4712 - 11/ 10) - والطبراني في المعجم الكبير 0 (حـ 856 - 18/ 334).

ص: 418

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن هذه الآثار التي رويناها آثار صحاح ثابتة لا يدفع العلماء صحتها، ولا يطعنون في أسانيدها، ولا يختلفون أن الآية المذكورة فيها كان بدء نزولها:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95]. وأن ابن أم مكتوم وأبا أحمد بن جحش لما ذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عجزهما عن الجهاد بالضر الذي بهما أنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]، فصارت الآية:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] ولم يكن ذلك عندنا - والله أعلم - على أن الله عز وجل أرادهما وأمثالهما بهذه الآية، مع عجزهما عن المعنى الذي فيها مما يفضل به المجاهدون على القاعدين غير أولي الضرر، ولكنهما ذهب ذلك عنهما، حتى كان منهما من القول ما ذكر عنهما في هذه الآثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل عند ذلك على رسوله:: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] إعلاماً منه إياهما أنه لم يردهما ولا أمثالهما بذلك التفضيل الذي فضل به المجاهدين على القاعدين، فكيف يجوز أن يكون الأمر بخلاف ذلك وقد سمعوا الله عز وجل يقول:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] يعني: في تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: أفيجوز أن يذهب عنهما مثل هذا من مراد الله عز وجل بهذه الآية؟

ص: 419

قيل له: وما تنكر من هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه في الصيام: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْودِ} [البقرة:187] وتلاها عليهم، حملوها على ما قد ذكره سهل بن سعد الساعدي من حملهم إياها عليه حتى أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أعلمهم به أن مراده جل وعز غير ما ظنوه به جل وعز. كما عن سهل بن سعد الساعدي، قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ} [البقرة:187] جعل الرجل يأخذ خيطاً أبيض وخيطاً أسود، فيجعلهما تحت وسادة، فينظر متى يتبينهما، فيترك الطعام. قال: فبين الله ذلك ونزلت: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].

(1)

فكان في هذا الحديث تبيان الله أن الذي أراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود غير الذي ظنوا أنه أراده بهما.

وكذلك عدي بن حاتم الطائي

(2)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الصوم - باب: قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة:187](حـ 1818 - 2/ 677) - ومسلم في صحيحه - كتاب: الصيام - باب: بيان أن الدخول

في الصوم يحصل بطلوع الفجر - (حـ 2529 - 7/ 201).

(2)

عدي هو: الصحابي الجليل أبو طريف عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، شهد فتوح العراق والقادسية وغيرها، وكانت وفاته سنة (67 هـ).

(أسد الغابة-4/ 8).

ص: 420

فيما روي عنه في هذا المعنى. كما عن الشعبي قال: أخبرنا عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] عمدت إلى عقالين أحدهما أسود، فجعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت، غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال:(إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل)).

(1)

أفلا ترى أنهم لما سمعوا قول الله جل وعز: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] حملوا ذلك على ما حملوه عليه حتى بين الله عز وجل لهم في كتابه وعلى لسان رسوله أن الذي أراده خلاف ما ظنوه، وكذلك ما كان من قصة ابن أم مكتوم وأبي أحمد لما تلا عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلا ظناً أنهما من المفضولين فيما تلاه عليهما، فبين الله عز وجل لهما بإنزاله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] أنه لم يردهما ولا أمثالهما من ذوي الضرر، وإنما أراد غيرهما ممن لا ضرر به.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الصوم - باب: قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]- (حـ 1817 - 2/ 677)

ومسلم في صحيحه - كتاب: الصيام - باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر - (حـ 2528 - 7/ 200).

ص: 421

وفيما ذكرنا ما قد دل على أن القراءة في ذلك كما قرأها من قرأها بالرفع وهم: عاصم، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة، لا كما قرأها مخالفوهم:{غيرَ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] بالنصب، وهم: أبو جعفر

(1)

، وشيبة

(2)

، ونافع، وابن كثير

(3)

، وعبد الله بن عامر

(4)

، وقد كان أبو عبيد القاسم بن سلام ذهب إلى قراءة هؤلاء المدنيين، وقال مع ذلك: إن الرفع وجه في العربية ممكن غير مستنكر، وكذلك كان الفراء

(5)

يذهب إلى صحته في العربية، ويقول: هو على النعت للقاعدين. قال: وما كان من نعتهم كان كذلك إعرابه بالرفع لا بغيره كما قال عز وجل: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور:31] فكان نعته إياهم بمثل ما ذكرهم به من الجر لا ما سواه. والله نسأله التوفيق.

(1)

أبو جعفر هو: القارئ المدني يزيد بن القعقاع، مولى عبد الله بن عياش المخزومي، وثقة ابن معين وغيره، وكانت وفاته سنة (127 هـ).

(تهذيب الكمال-8/ 277).

(2)

شيبة هو: شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المدني المقرئ، مولى أم سلمة رضي الله عنها، وأحد شيوخ نافع في القراءة، وثقة النسائي

وغيره، وكانت وفاته سنة (130 هـ). (معرفة القراء الكبار - 79).

(3)

ابن كثير هو: أُبو معبد عبد الله بن كثير بن المطلب الداري المكي، إمام المكيين في القراءة، وثقة ابن معين وغيره، وكانت وفاته سنة

(120 هـ). (معرفة القراء الكبار-86).

(4)

عبد الله هو: أبو عمران عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، وثقة العجلي وغيره، وكانت وفاته سنة

(118 هـ). (معرفة القراء الكبار - 82).

(5)

الفراء هو: أبو زكريا يحي بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الكوفي، كان أعلم أهل الكوفة بالنحو واللغة وفنون الأدب، وكانت وفاته

سنة (207 هـ). (وفيات الأعيان - 6/ 176).

ص: 422

وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام في السبب الذي به اختار: {غيرَ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] بالنصب، فقال: وروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد ذكرهم - أن نزولها كان على الاستثناء، فوجب بذلك أن تكون منصوبة.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه لم يرو عن واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما نزلت للاستثناء مما كان نزل قبلها، وإنما روي عنه منهما في سبب نزولها ما قد رويناه في ذلك في صدر هذا الباب. ولو كانت كلها نزلت معاً، لجاز أن يكون ذلك على الاستثناء، فيكون النصب فيه أولى من الرفع، ولكنه إنما كان الذي نزل أولاً منها هو قوله عز وجل:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] ونحن نحيط علماً أن الله عز وجل لم يعن القاعدين بالزمانة مع النية أنهم لو أطاقوا الجهاد لجاهدوا، وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن المجاهدون أفضل منهم، لأنهم جاهدوا بقوتهم، وتخلف الآخرون عن الجهاد بعجزهم عنه. وقد قال الله عز وجل:: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:91 - 92]، ثم أعلم بعد ذلك أن السبيل على خلاف هؤلاء بقوله عز وجل:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:93]. وقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61].

ص: 423

ومن حمل الأمر على غير ما ذكرنا، كان قد قال قولاً عظيماً، ونسب الله عز وجل إلى أنه قد تعبد خلقه بما هم عاجزون عنه. وإذا كان نزول ما قد تلونا على ما قد ذكرنا، كان ما أنزل الله عز وجل بعد ذلك من قوله:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] تبياناً لما كان أنزله قبل ذلك من القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدين، فكان الرفع أولى به من غيره.

(شرح مشكل الآثار-4/ 141 - 155)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي سبب نزول قوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] كما بين - رحمه الله تعالى - أن سبب نزول الآية دال على أن نزولها كان على مرحلتين. ورد الاعتراض الوارد على ذلك والقول بأن نزولها كان مرة واحدة، ثم ذكر القراءات الواردة في الآية، مختاراً القراءة بالرفع.

[وإليك أولاً: بيان سبب نزول قوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]:

وردت روايات متعددة وكلها متقاربة في بيان أن سبب نزول قوله جل وعلا:: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] هو ما كان من فهم خاطئ للآية عند بعض الصحابة، حيث فهموا أن الآية عامة في القاعدين مطلقاً، فنزل قوله جل وعلا:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] لتصحيح هذا الفهم الخاطئ، وتحديد المقصود بالآية على وجه لا يدخله لبس ولا إشكال. ومن هذه الروايات:

ص: 424

ما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فجاء بكتف يكتبها، فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95].

(1)

فدلت هذه الرواية الصحيحة على: أن نزول هذه الآية كان على مرحلتين:

ففي المرحلة الأولى: نزلت الآية عامة في القاعدين، وكان نص الآية:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95].

وقد أشكل هذا العموم في الآية على بعض الصحابة القاعدين من عذر، فظنوا أنهم داخلون في عموم هذه الآية، فكان لابد من قيد يزيل هذا الفهم الخاطئ.

وهذا ما كان في المرحلة الثانية حيث نزل قوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فكان هذا قيداً أخرج الآية من عمومها، وجعلها خاصة في القاعدين بغير عذر، وصار نص الآية:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95].

وقد اعترض على هذا الاستدلال، والقول بأن الآية نزلت على مرحلتين: بأمرين:

1 -

عدم صحة هذه الآثار لأن فيها بيان أن نص الآية في المرحلة الأولى كان عاماً في القاعدين بدون تفريق بين القاعدين بعذر والقاعدين بغير عذر.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: التفسير - باب: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

[النساء:95]. (حـ 4316 - 4/ 1677) ومسلم في صحيحه - كتاب: الجهاد - باب: سقوط فرض الجهاد عن المعذورين (حـ 4888 - 13/ 45).

ص: 425

2 -

على فرض أن الآية نزلت على مرحلتين، كيف يفهم الصحابة - رضوان الله عليهم - من هذه الآية - في المرحلة الأولى - هذا الفهم الخاطئ، مع أنهم رضوان الله عليهم كانوا على قدر كبير من العلم والفقه والفهم، ومع علمهم بأن الله جل وعلا قد رفع التكليف عن كل عاجز فقال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

وقد أجيب عن هذا الاعتراض:

1 -

بأن هذه الآثار الواردة في سبب نزول الآية، والدالة على أن نزولها كان على مرحلتين آثار صحيحة ثابتة، فلا مدخل للاعتراض عليها.

2 -

أن الآية في المرحلة الأولى وإن كانت عامة إلا أنه جل وعلا لم يقصد بها إلا القاعدين بغير عذر، إذ الأدلة الدالة على إخراج ذوي الأعذار ظاهرة الدلالة على ذلك ومن هذه الأدلة:

قوله جل وعلا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله جل وعلا:: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] وقوله جل ذكره: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].

ولكن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - غابت عن عقولهم هذه الآيات وما دلت عليه، وخافوا أن يكون المقصود بالآية القاعدين مطلقاً.

فلما حصل هذا الفهم الخاطئ عند بعض الصحابة استلزم الأمر نزول ما يزيل هذا الفهم الخاطئ بالكلية، ويؤكد أن المراد بالآية هو: القاعدين من غير عذر.

(1)

(1)

شرح مشكل الآثار للطحاوي (4/ 149).

ص: 426

وحدوث مثل هذا الفهم الخاطئ للمراد بالآية عند بعض الصحابة له أمثلة كثيرة، ولا مانع منه، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ولا الناس من بعدهم على درجة واحدة في فهم كتاب الله جل وعلا، بل كانوا يتفاوتون في ذلك، فقد كان يشكل على بعضهم ما لا يشكل على الآخر.

ويرجع ذلك التفاوت إلى تفاوتهم في معرفة اللغة العربية، ومعرفة ما يحيط بنزول الآية من أحداث وملابسات، زد على ذلك تفاوتهم في القدرة العقلية شأنهم شأن سائر البشر.

(1)

لهذا فمن غير المستبعد أن يكون ما جاء من تكملة للآية التي معنا - من قوله جل وعلا {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] لإزالة هذا الإشكال الوارد عند بعض الصحابة في فهم المراد بالآية. ومن الأمثلة على وجود تفاوت عند الصحابة في فهم المراد بالآيات:

ما حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة ويحتجان بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] ولو أنهما علما سبب النزول لما قالا ذلك، ولكن خفي عليهما فوقعا في هذا الفهم الخاطئ

(2)

، فسبب نزول الآية:(أن أناساً قالوا لما حرمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل الله وكانوا يشربون الخمر، فنزلت الآية).

(3)

فدل سبب النزول على أن المقصود بالآية، من كان يشرب الخمر قبل تحريمها،.

(1)

انظر: دراسات في علوم القرآن للرومي (168) - وتفسير ابن عاشور - (5/ 170).

(2)

الإتقان في علوم القرآن (1/ 93).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: المظالم - باب: صب الخمر في الطريق (حـ 2332 - 2/ 869)

ومسلم في صحيحه - كتاب: الأشربة - باب: تحريم الخمر 0 (حـ 5102 - 13/ 147).

ص: 427

إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في فهم المراد بكتاب الله تبارك وتعالى.

[المسألة الثانية: بيان القراءات الواردة في قوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95].

القراءة الأولى: بالنصب: {غيرَ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95].

- وهذه قراءة: نافع - والكسائي - وابن عامر - وأبو جعفر - وخلف.

(1)

- وفي هذه القراءة من الناحية الإعرابية وجهين:

1 -

النصب على الاستثناء من القاعدين.

والمعنى: (لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين).

(2)

2 -

النصب على أن (غير) في موضع الحال.

والمعنى: (لا يستوي القاعدون في حال الصحة وانتفاء الضرر مع المجاهدين، كما تقول: (جاءني أحمد غير مريض) أي: جاءني أحمد صحيحاً).

(3)

وحجة من اختار هذه القراءة:

أنه ثبت أن قوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] نزل بعد نزول قوله جل وعلا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] فلو كان صفة لم يكن النزول فيهما إلا في وقت واحد، فلما نزل قوله:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]. في وقت بعد وقت نزول قوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] علم أنه استثناء.

(4)

فالقراءة بالنصب على الاستثناء أولى، لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج، كما دلت الروايات المتقدمة على ذلك.

وقد رد هذا القول:

(1)

انظر: النشر في القراءات العشر (2/ 251) - والسبعة لابن مجاهد (5/ 237).

(2)

معاني القرآن للنحاس (2/ 170).

(3)

تفسير الرازي (11/ 7).

(4)

الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 396).

ص: 428

1 -

بأن اقتران (غير)(بالقاعدين) يكاد يوجب الرفع على أنه صفة، لأن الاستثناء ينبغي أن يكون بعد تمام الكلام. فتقول مثلاً:(لا يستوي المحسنون والمسيئون إلا فلاناً).

(1)

2 -

أنه يلزم من هذا القول: أن الله جل وعلا كلف عباده بما لا يطيقون حيث سوى بين القاعدين الأصحاء والقاعدين لعجز، ثم رفع التكليف عن القاعدين لعجزهم، وهذا قول باطل لا يصح الأخذ به.

(2)

القراءة الثانية: بالرفع: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95].

- وهذه قراءة: ابن كثير - وأبي عمرو - وعاصم - وحمزة.

(3)

- وفي هذه القراءة من الناحية الإعرابية وجهين:

1 -

الرفع على أن كلمة (غير) صفة للقاعدين.

لأنه لم يقصد بالقعدين قوم بأعيانهم، بل أراد بهم الجنس، فصاروا نكرة، فجاز وصفهم بـ (غير). والمعنى:(لا يستوي القاعدون الأصحاء الذي هم غير أولي الضرر والمجاهدون).

(4)

2 -

الرفع على أن كلمة (غير) بدل من القاعدين.

والمعنى: (لا يستوي من كان من غير أولي الضرر مع المجاهدين).

(5)

وحجة من اختار هذه القراءة: أن (غير) متى كانت صفة، كان المقصود من الاستثناء حاصلاً منها، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت (أولي الضرر) من تلك المفضولية.

إلا أنه لما كان الأصل في كلمة (غير) أن تكون (صفة). كانت القراءة بالرفع على أنها صفة أولى.

(6)

القراءة الثالثة: بالجر: {غيرِ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95].

- وهذه قراءة: الأعمش - وأبي حيوة.

(7)

- وفي هذه القراءة من الناحية الإعرابية وجهين:

1 -

الجر لكلمة (غير) على أنها صفة للمؤمنين.

(1)

معاني القرآن للفراء - (122).

(2)

شرح مشكل الآثار للطحاوي (4/ 155).

(3)

السبعة لابن مجاهد (5/ 237).

(4)

انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 100) - ومعاني القرآن للأخفش (1/ 453).

(5)

تفسير أبي حيان (4/ 35).

(6)

تفسير الرازي (11/ 7).

(7)

تفسير ابن عطية (4/ 219).

ص: 429

2 -

الجر لكلمة (غير) على أنها بدل من المؤمنين.

والمعنى على هذه القراءة: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحاء الذين هم غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله).

(1)

الترجيح: القراءة الأولى والثاني قراءة صحيحة متواترة، إلا أن القراءة بالرفع أولى، لأن الصفة أغلب على (غير) من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائزاً.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء:97 - 99].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن عباس، أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم برماية، فيصيب أحدهم، فيقتله، أويضرب فيقتل، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97]. إلى آخر الآية

(2)

(1)

انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 170) ومشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (1/ 202).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب - التفسير - باب:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. "[النساء:97](حـ 4320 - 4/ 1678)

والطبراني في المعجم الكبير (حـ 11505 - 11/ 205).

ص: 430

وعن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم بعض قبل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم. فنزلت هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} النساء:97]. إلى آخر الآية

(1)

.

فقال قائل: ما معنى قوله عز وجل الذي وصله بما تلوته علينا من قوله عز وجل في هذه الآية {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ (99)} [النساء:98 - 99]، وهم لم يكن لهم ذنوب، فيعفى لهم عنها، والعفو، فإنما يكون عن مستحقي العقوبات بذنوبهم، وهؤلاء لا ذنوب لهم فيما ذكروا به من هذه الآية يستحقون العقوبة عليها.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن العفو عفوان، فعفو منهما: هو العفو الذي ذكر، وعفو منهما: هو رفع العبادة فيما يرفع فيه، فيعاد لا عبادة فيه يجب بالقيام بها الثواب، ويستحق بالترك لها العقاب، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"

(2)

ليس ذلك على أن شيئاً قد كان عليهم فيه فعفا لهم عن ذلك الشيء، ولكنه على الترك لهم إياهم بلا حق عليهم فيهم، ولا عبادة تعبدوا بها فيهم.

(1)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب السير - باب ما جاء في عذر المستضعفين (حـ 7 - 9/ 14)

والطبراني في المعجم الكبير (حـ 12260 - 11/ 444).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه كتاب الزكاة - باب في زكاة السائمة (حـ 1574 - 2/ 232).

وابن ماجة في سننه - كتاب: الزكاة - باب زكاة الورق والذهب (حـ 1794 - 1/ 329).

ص: 431

ومن ذلك قول ابن عباس: (كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويدعون أشياء تقذراً، فلما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم أحل حلاله وحرم حرامه، فما حرم من شيء فهو حرام، وما أحل من شيء فهو حلال، وما سكت عنه فهو عفو). فكان معناه في قوله: وما سكت عنه فهو عفو ليس يريد به العفو عن عقوبات ذنوب كانت منهم في ذلك، ولكنه يريد به ترك ما عفي لهم عنه من ذلك بلا عبادة تعبدهم بها يوجب إتيانهم بها لهم الثواب، ويوجب تركهم الإتيان بها عليهم العقاب.

فمثل ذلك - والله أعلم - عفوه عز وجل المذكور في الآية التي تلوناها على المستضعفين من الرجال والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً بقوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99] وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، هو على إيجابه العفو منه لهم، إذ لم يكن لهم في المقام الذي كانوا فيه حيلة في التحول عنه، وفي الانتقال منه إلى ضده في الأماكن المحمودة، فرفع الله ذلك عنهم، فلم يتعبدهم فيه بما تعبد به من سواهم فيه من قوله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم:"أنا بريء من كل مسلم مع مشرك، لا تَرَاءَي ناراهما"

(1)

وكان ما في هذا الحديث في وعيد غليظ، فرفع الله مثله عن المقيمين في تلك الأمكنة بلا استطاعة منهم الهرب عنها والتحول منها إلى الأمكنة المحمودة، ورفع عنهم التعبد في ذلك بهذا، والله أعلم بما أراد في ذلك، وإياه نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 8/ 448 - 452).

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير - (حـ 2264 - 2/ 303).

ص: 432

بين الإمام الطحاوي سبب نزول قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء:97] ثم بين رحمه الله تعالى - أن المراد بالعفو في قوله جل وعلا: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99] هو: رفع الأمر بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وعدم التكليف به ابتداءً.

[وإليك أولاً: بيان سبب نزول الآية:

نزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء:97] في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ثم أسروا النفاق، وأظهروا الإيمان، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فقتلوا، فاعتذروا عن كفرهم وعدم هجرتم بكونهم مستضعفين في أرضهم، فأبى الله جل وعلا قبول معذرتهم، واستوجبوا العذاب من ربهم

(1)

.

وقد ذكر الإمام الطحاوي نص الروايات الورادة في سبب نزول الآية فأغنى ذكره عن ذكرها.

[ثانياً: بيان المراد (بالعفو) في قوله جل وعلا: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]: إن المراد بالعفو في الآية هو: رفع التكليف بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وليس المراد بأنهم مكلفون بذلك ولم يفعلوا فاستحقوا العقوبة على ذلك، ولكن الله جل وعلا رفع العقوبة عنهم.

وذلك لأن القوم كانوا عاجزين عن الهجرة والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة

(2)

.

فالآية دليل على أن من عجز عن القيام بالأمر الواجب فإنه معذور غير مكلف به. كما قال جل وعلا في العاجزين عن الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]،

(1)

تفسير الطبري (4/ 235).

(2)

تفسير الرازي (11/ 13).

ص: 433

وكما قال جل ذكره في عموم الأوامر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

(1)

.

ولكن لا يعذر الإنسان من القيام بالواجب إلا إذا بذل جهده، وانسدت عليه أبواب الوصول إليه، كما قال جل وعلا:{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]

(2)

وهذا النوع من (العفو) جاءت به اللغة العربية، قال ابن فارس في مادة (عفو): العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على (ترك الشيء) والآخر (على طلبه) فالأول: كعفو الله عن خلقه وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم فضلاً منه. وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه.

والثاني: أن يعفو الإنسان عن شيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"

(3)

فليس العفو هنا عن استحقاق، ومعنى الحديث: تركت أن أوجب عليكم الصدقة في الخيل أهـ

(4)

وقد دل على أن هذا النوع من العفو هو المراد بالآية:

1 -

أن الله جل وعلا جاء في الآية بـ (عسى) و (عسى) من الله واجب وقوعها بمقتضى كرمه وإحسانه.

(5)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (حـ 6858 - 6/ 2658)

والدار قطني في سننه - كتاب الحج - باب المواقيت (حـ 204 - 2/ 281).

(2)

تفسير السعدي (2/ 139)

(3)

تقدم تخرجه (369)

(4)

معجم مقاييس اللغة (4/ 56)

(5)

تفسير السمرقندي (1/ 381).

ص: 434

2 -

أن الله جل وعلا قال في آخر الآية: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99] وهذا تأكيد لوقوع هذا العفو منه جل وعلا عن هؤلاء ا لمستضعفين، لانه جل وعلا لم يزل متصفاً بالعفو والمغفرة

(1)

، فلو كان المراد بالعفو في الآية ترك العقوبة لذنب حدث لكان العفو متردداً بين القبول والرد، وأما مع تأكيد تحقيق العفو فهذا لا يعني إلا أن المراد بالعفو في الآية هو: رفع التكليف بأمرتعذر القيام به.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101].

قال أبو جعفر الطحاوي:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، وأتم)

(2)

.

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن المسافر بالخيار، إن شاء أتم صلاته، وإن شاء قصرها. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. وبما .. عن يعلى بن منية

(3)

(1)

تفسير أبي حيان (4/ 43)

(2)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب الصيام - باب القبلة للصائم (حـ 44 - 2/ 189) وقال هذا إسناد صحيح. أ. هـ،

وأخرجه البيهقي في سننه - كتاب الصلاة - باب من ترك العصر في السفر (حـ 4 - 33/ 141).

(3)

يعلي هو: أبو خلف يعلى بن منية بن عبيد بن همام التميمي. أسلم يوم فتح مكة وشهد حنيناً وتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم صفين -

(تهذيب الكمال - 8/ 181).

ص: 435

قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنما قال الله عز وجل:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فقد أمن الناس. فقال: إني عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته"

(1)

.

وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يزيد على اثنتين، وإن أتم الصلاة، فإن كان قعد في اثنتين في الظهر والعصر والعشاء، قدر التشهد، فصلاته تامة، وإن كان لم يقعد فيها قدر التشهد، فصلاته باطلة.

وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من الحديثين اللذين ذكرناهما في أول هذا الباب أن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب، فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر، عاد إلى صلاته الأولى)

(2)

.

فهذه عائشة رضي الله عنها تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين، حتى قدم المدينة فصلى إلى كل صلاة مثلها وأنه كان إذا سافر، عاد إلى صلاته الأولى.

فأخبرت أنه كان يصلي في سفره كما كان يصلي قبل أن يؤمر بتمام الصلاة، وذلك ركعتان.

فذلك خلاف حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة في السفر، وقصر.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - وكتاب صلاة المسافرين - باب صلاة المسافرين (حـ 1571 - 5/ 200)

وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر (حـ 1199 - 2/ 7).

(2)

أ خرجه البيهقي في سننه - كتاب الصلوات - باب عدد ركعات الصلوات الخمس (حـ 5 - 1/ 363). والإمام أحمد في مسنده (6/ 265).

ص: 436

الدراسة

وأما حديث يعلى بن منية فإن أهل المقالة الأولى احتجوا بالآية المذكورة فيه، وهي قول الله عز وجل:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء:101] الآية قالوا فذلك على الرخصة من ا لله عز وجل لهم في التقصير، لا على الحتم عليهم بذلك، وهو كقوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة:230] فذلك على التوسعة منه لهم في المراجعة، لا على إيجابه ذلك عليهم.

فكان من حجتنا عليهم لأهل المقالة الأخرى: أن هذا اللفظ قد يكون على ما ذكروا، ويكون على غير ذلك، قال الله تعالى:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وذلك على الحتم عند جميع العلماء، لأنه ليس لأحد حج أو اعتمر أن لا يطوف بهما.

فلما كان نفي الجناح، قد يكون على التخيير، وقد يكون على الإيجاب، لم يكن لأحد أن يحمل ذلك على أحد المعنيين دون المعنى الآخر إلا بدليل يدله على ذلك، من كتاب، أو سنة، أو إجماع.

وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقصيره في أسفاره كلها.

(شرح معاني الآثار - 1/ 415 - 416).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال في حكم قصر الصلاة في السفر، مرجحاً وجوب ذلك. كما رجح أن المراد بنفي الجناح في الآية هو: على الإيجاب، بدلالة الأحاديث الدالة على قصر الصلاة في السفر.

[وإليك بيان الأقوال مفصلة في حكم قصر الصلاة في السفر:

القول الأول: أنه لا يجوز قصر الصلاة في السفر.

- وقد قيل إنه مذهب: عائشة رضي الله عنها.

وقال عطاء: كان يتم الصلاة في السفر من الصحابة: عائشة، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، رضى الله عنهم.

- وحجة من ذهب إلى هذا القول:

ص: 437

قوله جل وعلا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فهذه الآية في صلاة الخوف خاصة.

- وقد رد هذا الاستدلال:

بالأحاديث الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر الذي فيه أمان

(1)

.

ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين فصلى ركعتين)

(2)

القول الثاني: أنه يجب قصر الصلاة في السفر.

- وهذا قول: روي عن عمر - وعلي - اوبن عمر - وجابر - وابن عباس، رضي الله عنهم.

وهو قول: الحسن - وعمر بن عبد العزيز - وقتادة -والثوري - والأوزاعي - وحماد بن أبي سليمان - ومحمد بن سحنون - وابن حزم - وغيرهم.

وإليه ذهب: الحنفية - ومالك - وأصحاب الرأي

(3)

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

(1)

أحكام القرآن لابن الفرس (293)

(2)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب السفر - باب ما جاء في التقصير في السفر _ (حـ 546 - 3/ 17) وقال هذا حديث حسن صحيح. أهـ.

والبيهقي في سننه - كتاب الصلاة - باب رخصة القصر في كل سفر - (حـ 7 - 3/ 135)

(3)

انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (294) وتفسير البغوي (2/ 274) وأحكام القرآن للجصاص (2/ 357).

ص: 438

1 -

قوله جل وعلا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101] فنفي الجناح في الآية لا يدل على التخيير، وإنما يدل علىلوجوب، كما في قوله جل وعلا:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فالطواف بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجب عند جميع العلماء، وليس في نفي الجناح في الآية دلالة على التخيير في ذلك.

2 -

ماروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال:"صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

3 -

ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلى ركعتين حتى يرجع"

(2)

.

4 -

ماروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: "حججت مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: صلوا أربعاً فإنا قوم سَفْرُ "

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي في سننه -كتاب الجمعة - باب عدد صلاة الجمعة (حـ 1419 - 3/ 123)

وابن ماجة في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب تقصير الصلاة في السفر (حـ 1049 - 1/ 191).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب تقصير الصلاة - باب ما جاء في التقصير (حـ 1031 - 1/ 367).

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين - باب صلاة المسافرين وقصرها - (حـ 1584 - 5/ 207).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب متى يتم المسافر (حـ 1229 - 2/ 23)

والترمذي في سننه - كتاب السفر - باب ما جاء في التقصير في السفر (حـ 544 - 3/ 16) وقال: هذا حديث حسن وهو صحيح. أهـ.

ص: 439

5 -

ماروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى"

(1)

.

فهذه أخبار متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، دالة على أنهم كانوا يقصرون الصلاة في السفر، ولا يتمونها. وهذا الدلالة حاصلة من جهتين:

أ- أن فرض الصلاة في كتاب الله جل وعلا مجمل مفتقر إلى البيان، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان، فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب، وفي فعله صلى الله عليه وسلم صلاةالسفر ركعتين، بيان منه أن ذلك، مراد الله. كفعله صلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات، فوجب اتباعه في ذلك، والعمل بما ثبت عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

.

ب- أنه لو كان مراد الله جل وعلا في الآية - التي معنا - الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر، لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر، فلما ورد البيان إلينا منه صلى الله عليه وسلم بالقصر دون الإتمام، دل ذلك على أنه مراد الله جل وعلا دون غيره.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب تقصير الصلاة - باب من لم يتطوع في السفر (حـ 1051 - 1/ 372)،

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين (حـ 1577 - 5/ 203).

(2)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب الصلاة - باب من سها فترك ركناً. (حـ 1 - 2/ 345).

والدار قطني في سننه - كتاب: الصلاة - باب: في ذكر الأمر بالأذان والإمامة وأحقهما (حـ 1 - 1/ 272).

ص: 440

ألا ترى أنه لما كان مراد الله جل وعلا في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم، ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالإفطار وتارة بالصوم، وأما الصلاة فقد ورد البيان بالقصر دون الإتمام فوجب العمل به دون غيره.

(1)

6 -

ماروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"

(2)

وصدقة الله علينا هي: إسقاطه عنا الإتمام، فدل ذلك على أن الفرض في السفر ركعتان. وقوله:(فاقبلوا صدقته) يوجب ذلك، لأن الأمر للوجوب، فإذا كنا مأمورين بالقصر، فالإتمام منهي عنه.

(3)

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الحديث دال على التخيير، لأن المتصدق عليه يكون مختاراً في قبول الصدقة وردها، كما في التصدق من العباد.

(4)

.

7 -

ماروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على ما كنت عليه)

(5)

فأخبرت عائشة رضي الله عنها: أن فرض المسافر في الأصل ركعتان، وفرض المقيم أربع كفرض صلاة العصر وصلاة الظهر، فغير جائز الزيادة عليها، كما لا تجوزالزيادة على سائر الصلوات

(6)

.

وقد رد هذا الاستدلال بثلاثة أمور:

(1)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 357)

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين (حـ 1571 - 5/ 200).

وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر - (حـ 1199 - 2/ 7).

(3)

أحكام القرآن للجصاص. (2/ 357).

(4)

بدائع الصنائع (1/ 258).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب تقصير الصلاة - باب يقصر إذا خرج من موضعه (حـ 1040 - 1/ 369)

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين - (حـ 1568 - 5/ 199).

(6)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 359)

ص: 441

1 -

مخالفة عائشة رضي الله عنها لما روته، فإنها كانت تتم الصلاة في السفر.

2 -

إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل معتبر في صلاة المسافر خلف المقيم.

3 -

أن قولها: (فرضت الصلاة) ليس على ظاهره، فقد خرج عنه صلاة المغرب والفجر، لأنه ما زيد فيها ولا نقص منها.

وهذا كله يضعف الاحتجاج به في وجوب قصر الصلاة في السفر

(1)

.

القول الثالث: أنه يجوز القصر والإتمام للصلاة في السفر.

- وهذا قول: روي عن عثمان - وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

وإليه ذهب: الشافعي - وأحمد - ومالك وأصحابه في المشهور عنهم

(2)

.

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

قوله جل وعلا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101] فظاهر الآية يشعر بعدم الوجوب، لأن لفظ (لاجناح) إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً، فهو دال على الإباحة لا على الوجوب، ومثال ذلك: قوله جل وعلا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] وقوله جل وعلا {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]. فقد دلت هذه الآيات على أن لفظ (لاجناح) إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء، فأما إيجابه على وجه التعيين، فهذا اللفظ غير مستعمل فيه.

(3)

(1)

تفسير القرطبي (5/ 351).

(2)

انظر: المغني لابن قدامة (3/ 122) وتفسير البغوي (2/ 274) وتفسير القرطبي (5/ 352).

(3)

انظر: تفسير البغوي (2/ 275) وتفسير الرازي (11/ 18).

ص: 442

2 -

ماروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم"

(1)

.

3 -

ماروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يارسول الله، بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة، وما عاب عليَّ"

(2)

4 -

أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتم ويقصر الصلاة في السفر، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

(3)

فدلت هذه الأحاديث والآثار: على جواز القصر والإتمام للصلاة في السفر، خاصة وأن رخص السفر جاءت على التخيير كالصوم والإفطار للصائم، فكذلك القصر والإتمام للمصلي

(4)

.

الترجيح: والراجح هو القول الثالث، لأن الآية الكريمة التي معنا، وأفعال الصحابة، دالت على جواز القصر والإتمام. وأما الأحاديث الدالةعلى القصر، فإنها لا تعدو أن تكون مؤكدة لأفضلية القصر،. وليست بدالة على وجوب القصر، والمنع من الإتمام.

وبهذا يتبين أن ماقاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه (371)

(2)

أخرجه النسائي في سننه - كتاب تقصير الصلاة في السفر - باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة (حـ 1455 - 3/ 138)

والبيهقي في سننه الكبرى - كتاب الصلاة - باب من ترك القصر في السفر (حـ 8 - 3/ 142).

(3)

أخرج البخاري في صحيحه - كتاب تقصير الصلاة - باب الصلاة بمنى (حـ 1032 - 1/ 367)

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين - باب قصر الصلاة بمنى (حـ 1588 - 5/ 208).

(4)

تفسير آيات الأحكام للصابوني (1/ 577).

ص: 443

قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)} [النساء:102].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (فرض الله عز وجل على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أربعاً في الحضر، وركعتين في السفر، وركعة في الخوف).

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين - باب صلاة المسافرين (حـ 1574 - 5/ 202).

وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون (حـ 1247 - 2/ 40).

ص: 444

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه، وجعلوه أصلاً فجعلوا صلاة الخوف ركعة. فكان من الحجة عليهم في ذلك: أن الله عز وجل قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] ففرض الله عز وجل صلاة الخوف ونص فرضها في كتابه هكذا. وجعل صلاة الطائفة بعد تمام الركعة الأولى مع الإمام. فثبت بهذا، أن الإمام يصليها في حال الخوف ركعتين وهذا خلاف هذا الحديث، ولا يجوز أن يؤخذ بحديث يدفعه نص الكتاب. ثم قد عارضه عن ابن عباس رضي الله عنهما غيره

عن عبيد الله بن عبد الله

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد

(2)

، صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفاً خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة).

(3)

(1)

عبيد الله هو: أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكانت وفاته سنة (94 هـ)

(تهذيب الكمال - 5/ 42).

(2)

قوله: (بذي قرد): بفتح القاف والراء وبالدال المهملة، هواسم لماء على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان - (انظر: شرح صحيح

مسلم للنووي (12/ 381) والنهاية في غريب الحديث (4/ 37).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب صلاة الخوف (حـ 1247 - 1/ 485) وقال: هذا حديث صحيح. أ. هـ.

والبيهقي في سننه - كتاب صلاة الخوف - باب من قال صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا (حـ 3 - 3/ 262).

ص: 445

قال أبو جعفر: فهذا عبيد الله بن عبد الله قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما خالف ماروى مجاهد عنه، ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعة فيصليها بأخرى بلا قعود للتشهد، ولا تسليم.

فلما تضاد الخبران، عن ابن عباس رضي الله عنهما تنافياً، ولم يكن لأحد أن يحتج في ذلك بمجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، لأن خصمة يحتج عليه بعبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما بخلاف ذلك

فثبت بما ذكرنا أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الإمام، ثم لم يُذَكر المأمومين بقضاء ولا غيره في هذه الآثار.

فاحتمل أن يكونوا قضوا، ولا بد فيما يوجبه النظر من أن يكونوا قد قضوا ركعة ركعة، لأنا رأينا الفرض على الإمام في صلاة الأمن والإقامة مثل الفرض على المأموم سواء، وكذلك الفرض عليهما في صلاة الأمن في السفر سواء، ومحال أن يكون المأموم فرضه ركعة فيدخل مع غيره ممن فرضه ركعتان إلا وجب عليه ما وجب على إمامه.

ألا ترى أن مسافراً لو دخل في صلاة مقيم صلى أربعاً، فكان المأموم يجب عليه ما يجب على إمامه، ويزيد فرضه بزيادة فرض إمامه، وقد يكون على المأموم ما ليس على إمامه.

من ذلك أنا رأينا المقيم يصلي خلف المسافر فيصلي بصلاته، ثم يقوم بعد ذلك فيقضي تمام صلاة المقيم، فكان المأموم قد يجب عليه ما ليس على إمامه، ولا يجب على إمامه ما لا يجب عليه.

فلما ثبت بما ذكرنا وجوب الركعتين على الإمام ثبت أن مثلهما على المأموم

وقد كان أبو يوسف رحمه الله قال مرة: لا يصلى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن الناس إنما صلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلوها لفضل الصلاة معه، وهذا القول -عندنا- ليس بشيء لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد صلوها بعده، قد صلاها حذيفة بطبرستان، وما في ذلك فأشهر من أن يحتاج إلى أن نذكره هاهنا.

ص: 446

فإن احتج في ذلك بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء:102] الآية، فقال: إنما أمر بذلك، إذا كان فيهم، فإذا لم يكن فيهم، انقطع ما أمر به من ذلك.

قيل له: فقد قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] الآية، فكان الخطاب هاهنا له، وقد أجمع أن ذلك كان معمولاً به بعده، كما كان يعمل به في حياته.

(شرح معاني الآثار - 1/ 309 - 320).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال الواردة في عدد ركعات صلاة الخوف، مرجحاً القول بأنها ركعتان كما بين أن الخطاب في الآية لعامة المؤمنين، وإن كان موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم راداً بذلك على أبي يوسف في قوله: إن صلاة الخوف لا تكون إلا مع الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة.

[وإليك أولاً: بيان أقوال العلماء في عدد ركعات صلاة الخوف:

القول الأول: أن صلاة الخوف ركعة واحدة:

- وهذا قول: جابر بن عبد الله - وحذيفة بن اليمان - وأبي هريرة - وابن عباس وابن عمر - وزيد بن ثابت - وأبي موسى الأشعري - وسعيد بن جبير - والثوري - وأحمد - وإسحاق، وغيرهم

(1)

.

- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

قوله جل وعلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً، لأنها غير دالة على أنهم يقضون ركعة ثانية، وأما الإمام فتكون صلاته ركعتان.

(1)

انظر: تفسير ابن عطية (4/ 235) - والمنهل العذب المورود (7/ 122)

ص: 447

2 -

ماروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة)

(1)

.

3 -

ما روي عن ثعلبة بن زَهْدَم، أنه قال: "كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان

(2)

، فقام فقال:

أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة، ولم يقضوا)

(3)

.

فقد دلت هذه الأحاديث على أن من صفات صلاة الخوف: أن يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، فتكون صلاة الإمام ركعتان، وصلاة المأموم ركعة واحدة.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين (حـ 1574 - 5/ 202).

وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون (حـ 1247 - 2/ 40).

(2)

قوله: (بطبرستان): بفتح أوله وثانيه وكسر الراء، اسم لبلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم. والغالب على هذه البلدان الجبال، ومن أعيان

بلدانها، دهستان وجرجان وآمُل. و (طبرستان) مركبة من كلمتين (طبر) وهي بالفارسية اسم للفأس، و (استان) وهي الناحية لكثرة اشتباك

أشجارها لا يتمكن الجيش من سلوكها إلا بعد قطع الأشجار بالفأس، فلذا سميت (طبرستان). وقيل سميت (طبرستان) لأن أهل تلك الجهة

كثيرو الحروب وأكثر أسلحتهم الفؤوس. فتحت في عهد عثمان رضي الله عنه على يد سعيد بن العاص سنة (تسع وعشرين من الهجرة)

(انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (4/ 13) والمنهل العذب المورود (7/ 122).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب: من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون. (حـ 1246 - -2/ 38)

والنسائي في سننه - كتاب صلاة الخوف: (حـ 1529 - 3/ 188)

ص: 448

وقد اعترض على هذا الاستدلال: بأن المراد بالحديث أن كل طائفة صلت مع الإمام ركعة، وأتموا لأنفسهم ركعة. وأما قوله:(ولم يقضوا) أي: لم يعيدوا الصلاة بعد تحقق الأمن لهم.

وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن هذا قول بعيد جداً، لأن المتبادر من قوله:(ولم يقضوا) أي: لم يصلوا ركعة أخرى غير التي صلوها مع الإمام.

القول الثاني: أن صلاة الخوف ركعتان.

- وهذا قول: جمهور العلماء

(1)

.

- وقد استدلال أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:

1 -

قوله جل وعلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] فقد دلت الآية على أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الإمام، وعلى المأموم ركعة بنص الآية، وركعة يقضيها لكون الواجب عليه متابعة الإمام في الزيادة لا في النقصان.

(2)

2 -

ما روي عن سَهْل بن أبي حثمة أنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام، فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم"

(3)

(1)

المنهل العذب المورود (7/ 122).

(2)

شرح معاني الآثار - (1/ 309)

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - (حـ 3902 - 5/ 1514)

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة الخوف - (حـ 1944 - 5/ 366).

ص: 449

3 -

ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة)

(1)

.

فقد دلت هذه الأحاديث على أن من صفات صلاة الخوف: أن يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، فتكون صلاة الإمام ركعتين، وصلاة المأموم ركعتين، ركعة مع الإمام، وركعة يقضيها قبل سلام الإمام أو بعده.

الترجيح: وكلا القولين صحيح، لأن الأحاديث الدالة عليها أحاديث صحيحة ثابتة، ولا مانع من العمل بها.

قال الإمام أحمد: كل حديث في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. أهـ.

كما أنه لا منافة بين هذه الأحاديث لجواز حمل أحاديث القول الأول على: أن الركعة الواحدة أقل ما يجزئ في صلاة الخوف، وحمل أحاديث القول الثاني على: أن الركعتين هي الأكمل في صلاة الخوف، لورود صلاة الخوف بكيفيات مختلفة في أحاديث متساوية من حيث الثبوت والصحة

(2)

.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في هذه المسألة والله تعالى أعلم.

[المسألة الثانية: هل الخطاب في الآية خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، أم لعامة المؤمنين؟:

- القول الأول: أن الخطاب في الآية خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وبناء على هذا القول: فإنه لا يجوز تصلى صلاة الخوف بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع (حـ 3904 - 4/ 1514).

ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة الخوف - (حـ 1939 - 6/ 363).

(2)

المنهل العذب المورود (7/ 122)

ص: 450

- وهذا قول: أبي يوسف - وإسماعيل بن عُليه - والحسن بن زياد - والمزني.

(1)

- ودليل هذا القول: قوله جل وعلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} {النساء:102] فخص الله جل وعلا هذا الصلاة بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه خاصة، ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه، التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره.

فغير جائز لأحد بعده أن يصليها إلا بإمامين، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج عند ذلك إلى تغيير هيئة الصلاة المعهودة

(2)

.

وقد رد هذا الاستدلال: بأن الخطاب في الآية عام للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره ممن يأتي بعده، وإنما جاء الخطاب موجهاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الغالب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ملازماً للصحابة في غزواتهم وسراياهم إلا للضرورة

(3)

.

وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة، لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض، فاندفع هذا الاستدلال

(4)

.

ولو كان ما ذكره دليلاً على الخصوص للزم قصر الخطابات الشرعية على من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها. ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم اطرحوا توهم الخصوص في هذا الصلاة، وعدوه إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال

(5)

.

(1)

تفسير الشنقيطي (1/ 216)

(2)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 369)

(3)

تفسير ابن عاشور (5/ 185)

(4)

تفسير الرازي (11 (24)

(5)

تفسير القرطبي (5/ 364)

ص: 451

القول الثاني: أن الخطاب في الآية عام للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمته إلى يوم القيامة، إذا كان على مثل حاله في خوفه، لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد، كما فعل الصحابة بعده عند ما أحاط الخوف بهم.

- وهذا قول: الجمهور.

(1)

- ودليل هذا القول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

.

وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة حال الخوف، فوجب اتباعه في ذلك والصلاة حال الخوف، كما كان عليه الصلاة والسلام يصلى حال الخوف، حتى يقوم الدليل الواضح على خصوصيته عليه الصلاة والسلام بذلك

(3)

.

ومن الأمثلة الدالة على أن الخطاب قد يكون موجهاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به عامة الأمة: قوله جل وعلا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وقوله جل وعلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ففي هذه الآيات تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة، مع أن الأئمة من بعده مرادون بالحكم معه.

فظهر بهذا أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم جائز بعده كماجاز معه

(4)

.

(1)

تفسير الماوردي (1/ 524).

(2)

تقدم تخريجه (376)

(3)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 621).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 369).

ص: 452

الترجيح: الراجح هو قول الجمهور الدال على أن الخطاب في الآية لعامة الأمة، فتصح صلاة الخوف بعد الرسول صلى الله عليه وسلم متى أحاط الخوف بالمسلمين. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى صلاة الخوف حال الخوف. وقد أمر الله جل وعلا باتباعه في كل أمر يفعله على الوجه الذي فعله، فقال جل ذكره {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] فما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت في حقنا، مالم يقم دليل على اختصاصه به دون غيره من أمته.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء:119]

قال أبو جعفر الطحاوي:

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخصى الإبل، والبقر، والغنم، والخيل.

(1)

وكان عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يقول: منها نشأت الخلق، ولا تصلح الإناث إلا بالذكور ..

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا يحل إخصاء شيء من الفحول، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وبقول الله عز وجل:{فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] قالوا: وهو الإخصاء.

وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ما خيف عضاضه من البهائم، أو ما أريد شحمه منها، فلا بأس بإخصائه، وقالوا: هذا الحديث الذي احتج به علينا مخالفنا، إنما هو عن ابن عمر موقوف، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

لم أقف عليه عند غير الإمام الطحاوي في هذا الموضع.

ص: 453

فأما ماذكروامن قول الله عز وجل: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] فقد قيل: تأويله ما ذهبوا إليه، وقيل: إنه دين الله. وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين، وهما: المرضوضان خصاهما

(1)

، والمفعول به ذلك، قد انقطع أن يكون له نسل فلو كان إخصاؤهما مكروهاً، إذاً لما ضحى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لينتهي الناس عن ذلك، فلا يفعلونه، لأنهم متى ما علموا أن ما أخصي تجتنب أو تجافى، احجموا عن ذلك، فلم يفعلوه.

(شرح معاني الآثار - 4/ 317)

الدراسة

[بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] إما الإخصاء، وإما دين الله، وهو الراجح فيما يراه. وإليك بيان هذه الأقوال، وذكر من قال بها:

- القول الأول: أن المراد بالآية: الإخصاء.

ومعنى الآية: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم بإخصائهم إياها.

- وهذا قول: ابن عباس - وأنس - وعكرمة رضي الله عنهم

(2)

.

- القول الثاني: أن المراد بالآية: دين الله

ومعنى الآية: ولآمرنهم فليغيرن دين الله الذي ولدوا عليه. وتغيير دين الله يكون بتحريم الحلال، وتحليل الحرام.

- وهذا قول: الجمهور ومنهم: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والسدي، وغيرهم

(3)

.

القول الثالث: أن المراد بالآية: الوشم، وما جرى مجراه من التصنع للحسن.

ومعنى الآية: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من الناس بالوشم فيهم.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب الأضاحي - باب أضاحي الرسول صلى الله عليه وسلم (ح 3159 - 2/ 203)

والبيهقي في سننه - كتاب الضحايا - باب الرجل يضحي عن نفسه وعن أهل بيته (ح 3 - 9/ 267).

(2)

تفسير الطبري (4/ 281).

(3)

معاني القرآن للنحاس (2/ 195).

ص: 454

- وهذا قول: ابن مسعود رضي الله عنه والحسن البصري.

(1)

ويشهد لهذا القول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى"

(2)

.

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بالآية: تغيير دين الله بتحليل الحرام وتحريم الحلال، وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله جل وعلا:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]. كما يشهد لهذا القول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة - أي: على دين الإسلام - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"

(3)

.

(1)

انظر: تفسير الطبري (1/ 284) وأحكام القرآن لابن الفرس (314).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب اللباس-باب المتفلجات للحسن (حـ 5587 - 5/ 2216)

ومسلم في صحيحه - كتاب اللباس والزينة - باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (ح 5538 - 14/ 331).

ومعنى (الوشم) هو: أن تغرز أبرة أو نحوها في ظهر الكف أو في أي موضع من البدن حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل

ونحوه فيخضر ذلك الموضع - ومعنى (النمص) هو: أن تزيل الشعر من الوجه - ومعنى (الفلج) هو: أن تبرد ما بين أسنانها الثنايا

والرباعيات. (انظر: صحيح مسلم بشرح النووي - 14/ 332)

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب إذا أسلم الصبي فمات (حـ 1293 - 1/ 456).

ومسلم في صحيحه - كتاب القدر - باب معنى: (كل مولود يولد على الفطرة)(ح 6697 - 16/ 423).

ص: 455

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأمرتهم أن يغيروا خلقي"

(1)

.

فإذا كان معنى الآية هو هذا: دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من إخصاء مالا يجوز إخصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه، وغير ذلك من المعاصي، لأن الشيطان هو الداعي إلى جميع تلك المعاصي، والناهي عن كل أمر فيه طاعة للرب جلا وعلا

(2)

.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)} [النساء:129]

قال أبو جعفر الطحاوي: وقد روي في تأويل قول الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129]، أن ذلك أريد به ما يقع في قلوبكم لبعضهن دون بعض، وذلك معفو لهم عنه، إذ لا يستطيعون دفعه عن قلوبهم، غير أنه قد يجوز أن يكون يزيد على ذلك ما يجتلبونه إلى قلوبهم.

(شرح مشكل الآثار -1/ 216)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنة - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار - (حـ 7136 - 17/ 194).

والطبراني في المعجم الكبير (ح 987 - 17/ 358).

ومعنى: (فاجتالتهم الشياطين). أي: استخفتهم، فجالوا معهم في الضلال، يقال:(جال واجتال): إذا ذهب وجاء، ومنه (الجولان) في الحرب.

(النهاية في غريب الحديث - 1/ 317).

(2)

تفسير الطبري (4/ 285).

ص: 456

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بالآية هو: بيان أن ما يحدث من ميل قلبي عند بعض الرجال إلى إحدى الزوجات دون الأخريات، هو ميل معفو عنه، لأنه مما لا يملكه البشر.

وهذا قول: جمهور المفسرين.

فالأمر الذي يتعذر العدل فيه هو الحب والجماع، فالحب مما لا يستطاع العدل فيه، والجماع تابع له، لأنه عنه يكون، فأمر الله جل وعلا أن يؤتى من ذلك بما يطاق، ولا يؤثر من يهوى فوق القدر الذي يغلب على القلب.

(1)

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم: (يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "

(2)

يعني: ميل قلبه.

وعليه فإن معنى قوله جل وعلا: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء:129] أي: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثل ما لصاحبتها، لأن ذلك مما لا تملكونه وليس إليكم، ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك.

(3)

بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع لكل واحد، ولذا كان من الواجب القيام به والعدل فيه.

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم

قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130]

قال أبو جعفر الطحاوي: فكأن الزوج إذا قال لامرأته: قد طلقتك على كذا، فقالت هي له: قد قبلت ذلك منك، صارا مفترقين الفرقة التي قال الله عز وجل، وإن لم يتفرقا بأبدانهما.

(1)

أحكام القرآن لابن الفرس (321).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب النكاح - باب في القسم بين النساء - (ح 2134 - 2/ 601).

والترمذي في سننه - كتاب النكاح - باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (ح 1142 - 5/ 79).

(3)

تفسير الطبري (4/ 312).

ص: 457

(شرح مشكل الآثار -13/ 258)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالتفرق) في الآية هو: التفرق القولي، الذي هو الطلاق.

وهذه الآية للمفسرين فيها قولين:

- القول الأول: أن المراد بالتفرق في الآية هو: التفرق القولي.

- وهذا قول: بعض فقهاء المالكية.

- القول الثاني: أن المراد بالتفرق في الآية هو: التفرق بالأبدان.

- وهذا قول: جمهور المفسرين.

- الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لأن نسبة الفعل (يتفرقا) إلى الزوجين بتثنية الضمير يدل على أن لكل واحد منهما مدخلاً في هذا التفرق، وهو التفرق بالأبدان، كما أن تراخي المدة بزوال العصمة وحصول الإغناء مترتب على التفرق بالأبدان.

وأما التفرق القولي الذي هو الطلاق فإنه مختص بالزوج، ولاحظ للمرأة فيه حتى يسند إليها، وإنما حظها في التفرق البدني الذي هو نتيجة الطلاق.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم

قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} [النساء:176]

(1)

انظر: تفسير القرطبي (5/ 160) - وتفسير ابن عطية (4/ 92، 276) - وتفسير أبي حيان (4/ 90).

ص: 458

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عمر، قال:(ثلاثة لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا قبل أن يموت، أحب إلي مما على الأرض: الخلافة، والربا، والكلالة، فقلت: الكلالة لا شك فيه هو ما دون الولد والأب، فقال: الأب يشكون فيه)

وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري

(1)

، قال:(قام عمر بن الخطاب خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إني والله ما أدع شيئاً هو أهم إليَّ من أمر الكلالة، وقد سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عنها، فما أغلظ لي في شيء قط ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في صدري أو في جنبي، وقال: " يا عمر، أما يكفيك آية أنزلت في آخر سورة النساء "، وإني إن أعش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحد يقرأ القرآن أو لا يقرأ القرآن)

(2)

وعن البراء بن عازب، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال:" يكفيك آية الصيف ".

(3)

فكان جميع ما في هذه الآثار، ترك المسؤول عنها الجواب عنها، ما هي؟ تورعاً عن القول في كتاب الله عز وجل بما لم يوقف على حقيقته من عند الله، حتى مات عمر على ذلك.

(1)

معدان هو: معدان بن أبي طلحة اليعمري الكناني الشامي، وثقه ابن حبان وغيره. (تهذيب الكمال-7/ 171).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الفرائض - باب: ميراث الكلالة (ح 4126 - 11/ 58).

وابن ماجة في سننه - كتاب: الفرائض - باب: الكلالة - (ح 275 - 2/ 120).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: من كان ليس له ولد وله أخوات - (ح 2889 - 3/ 311).

والترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة النساء - (ح 3050 - 11/ 171).

ص: 459

كما عن طاووس

(1)

، قال:(سمعت ابن عباس يقول: كنت آخر الناس عهداً بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت. قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة: من لا ولد له). وكان الذي في ذلك من عمر - يعني الولد - أن يكون كلالة، والوقوف عن الوالد، هل هو كلالة، أم لا؟

وقد روي عنه رضي الله عنه في ذلك خلاف ما في هذا الحديث. كما عن سعيد بن المسيب، قال:(كان عمر كتب كتاباً في الكلالة، فلما حضرته الوفاة دعا بالكتاب، فمحاه، وقال: ترون فيه رأيكم) ثم نظرنا فيما روي في الكلالة سوى ذلك؟ فوجدنا عن الشعبي، قال: أمر المغيرة بن شعبة

(2)

صعصعة بن صوحان

(3)

أن يخطب الناس، فتكلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل بعث محمداً حين درست الآثار، وتهدمت المنار، فبلَّغ ما أرسل به، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فأقام المصحف، ووَّرث الكلالة، وكان قوياً في أمر الله عز وجل، ثم قبض أبو بكر، واستخلف عمر، فمصر الأمصار، وفرض العطاء، وكان قوياً في أمر الله عز وجل، ثم قبض عمر، واجتمع الناس على عثمان، فكانت خلافته قدراً، وقتله قدراً. فقال المغيرة: انظروا ما يقول حين انتهى إلى عثمان. فقال: أمرتني أن أخطب، فخطبت، ثم أمرتني أن أجلس، فجلست.

(1)

طاووس هو: أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان اليماني الحميري، وكانت وفاته بمكة سنة (105 هـ)(تهذيب الكمال 30/ 495).

(2)

المغيرة هو: أبو عبد الله المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أسلم عام الخندق، وكان موصوفاً بالدهاء، وكانت وفاته بالكوفة سنة

(50 هـ)(أسد الغابة-5/ 247).

(3)

صَعْصَعةُ بن صوحان بن حُجْر بن الحارث العبدي، تابعي من الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وثقه ابن حبان وغيره، وكانت وفاته بالكوفة في

خلافة معاوية (تهذيب الكمال -3/ 453).

ص: 460

قال أبو جعفر: ففي هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه قد كان ورَّث الكلالة، ولم نجد فيه ذكر ما كانت الكلالة عنده، فنظرنا في ذلك فوجدنا عن الشعبي: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر، قالا: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

ففي هذا الحديث مع انقطاعه: أن أبا بكر وعمر، قالا: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

ثم نظرنا فيما روي في ذلك من غير هذه الوجوه التي ذكرناها؟

فوجدنا عن حميد بن عبد الرحمن

(1)

قال: حدثني ثلاثة من بني سعد: أن سعد بن أبي وقاص

(2)

رضي الله عنه مرض بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً كثيراً، وليس لي وارث إلا كلالة، أفاوصي بمالي كله؟ قال:"لا". قال: أفأوصي بنصفه؟ قال: "لا". قال: أفأوصي بثلثه؟ قال: " الثلث، والثلث كثير "

(3)

فكان في هذا الحديث قول سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لي وارث إلا الكلالة، وكانت له ابنة قد ذكرها الزهري، عن عامر بن سعد

(4)

.

(1)

حُمَيد هو: حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري، وثقه العجلي وغيره. (تهذيب الكمال-2/ 306).

(2)

سعد هو: أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف القرشي، وكان سادس من أسلم من الصحابة، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم

بالجنة، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها. (أسد الغابة. 2/ 366).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الوصية - باب: الوصية بالثلث - (ح 4191 - 11/ 84). وابن خزيمة في صحيحه - كتاب: الزكاة - باب:

ذكر الدلائل الأخرى على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: إن الصدقة لا تحل لآل محمد: صدقة الفريضة، دون صدقة التطوع -

(ح 2355 - 4/ 61).

(4)

عامر هو: عامر بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المدني، وثقه ابن حبان وغيره، وكانت وفاته سنة (96 هـ).

(تهذيب الكمال -4/ 26).

ص: 461

فعقلنا بتصحيح أحاديث: أن معنى قوله: " وليس لي وارث إلا الكلالة " أي: ليس لي وارث مع ابنتي إلا الكلالة، لأن الابنة ليست بكلالة عند أهل العلم جميعاً.

ثم نظرنا هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلالة غير ما ذكرنا، أم لا؟

فوجدنا سفيان يقول: سمع ابن المنكدر

(1)

جابر بن عبد الله، يقول: مرضت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوجدني قد أغمي علي ومعه أبو بكر يمشيان، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصب وضوءه عليَّ، فأفقت، فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ فمل يجبني، حتى نزلت آية الميراث: قال: فكان له سبع أخوات، ولم يكن له والد ولا ولد. فقالوا: أيها هذه الآية؟ فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176] إلى آخر الآية.

وقال محمد بن المنكدر: قال جابر: فيَّ نزلت هذه الآية.

(2)

ووجدنا عن جابر بن عبد الله، قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ، فصب الوضوء عليَّ، فعقلت، فقلت: كيف الميراث، فإنما ترثني كلالة؟ فنزل آية الفرائض.

(3)

(1)

ابن المنكدر هو: أبو عبد الله محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي، وهو تابعي من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وثقه ابن حبان

وغيره، وكانت وفاته سنة (130 هـ)(تهذيب الكمال -6/ 527).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الفرائض - باب: ميراث الكلالة - (ح 4121 - 11/ 56).

وأبو داود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: في الكلالة - (ح 2886 - 3/ 308).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الفرائض - باب: ميراث الأخوات والإخوة (ح 6362 - 6/ 2479).

ومسلم في صحيحه - كتاب: الفرائض - باب: ميراث الكلالة - (ح 4124 - 11/ 58).

ص: 462

ففي هذا الحديث: أن جابراً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ترثني كلالة)، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فدل ذلك أن الكلالة هي الوارث لا الموروث

ووجدنا عن جابر بن عبد الله، قال: اشتكيت وعندي سبع أخوات لي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفخ في وجهي ماءً، فأفقت، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال:"أحسن". قلت: الشطر؟ قال: "أحسن". ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركني، ثم رجع فقال:" يا جابر، إن الله قد أنزل، فبين الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين "

فكان جابر يقول: فيَّ نزلت هؤلاء الآيات: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176]

(1)

.

ففي هذا الحديث: أن الأخوات اللاتي ذكر جابر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كلالة مما ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الولد، وقد تكون بحجب الأخوات إذا كان ذكراً، ولا يحجبهن إذا كان أنثى، ليس بكلالة، كان الوالد الذي لا يحجبهن في الأحوال كلها، أحرى أن لا يكون كلالة.

وفيما قد ذكرنا ما قد دل أن الكلالة من يرث لا من يُورَثُ، وفي ذلك ما قد دل على صحة قراءة من قرأ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء:12]، والله أعلم

قال أبوعبيدة معمر بن المثنى: الكلالة: كل من أورث غير أب أو ابن أو أخ، فهو عند العرب كلالة:" يورث كلالة ": وهي مصدر من تكلله النسب.

الكلالة: ما يُكَلَّلُ به النسب من الأعمام، وبني العم، والعصبة. قال: وقال بعضهم: الإخوة من الكلالة.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الفرائض - باب: من كان ليس له ولد وله أخوات (ج 2887 - 3/ 308).

والبيهقي في سننه - كتاب الفرائض - باب: فرض الأخت والأختين فصاعداً لأب وأم أو لأب (ح 1 - 6/ 231).

ص: 463

قال أبو جعفر: والقول عندنا في ذلك ما رويناه في حديثي جابر وسعد: أن الكلالة هم الوارثون، لا الموروث.

وقد روي أن آية الكلالة هي آخر آية أنزلت. كما عن البراء قال: آخر آية أنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:12] وآخر سورة نزلت براءة.

وقد روي عن ابن عباس في الكلالة أيضاً. كما عن الحسن بن محمد

(1)

، قال:(سألت ابن عباس عن الكلالة، قال: هو من لا ولد له ولا والد. قلت: فإن الله يقول: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] فغضب علي وانتهرني).

وقد يحتمل أن يكون الذكر للولد في هذه الآية، وترك الذكر للوالد، لأن المخاطبين في ذلك يعلمون أن الوالد في هذا المعنى أوكد من الولد، فيكون الذكر للولد يغني عن ذكر الوالد، كما قال جل وعز:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] وسكت عما سوى هؤلاء مما تحرمه الرضاعة من العمات والخالات وما أشبههن، لعلم المخاطبين بما خاطبهم به بمراده عز وجل فيما سكت عنه، وهكذا كلام العرب: تخاطب بالشيء حتى إذا علمت فهم المخاطبين بما أريد منهم، أمسكوا عن بقيته، لأنهم قد علموا عنه.

والقرآن قد جاء بهذا، قال الله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ، ثم قال:{بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]

فلم يخبر بغير ذلك مما قد اختلف أهل العلم باللغة في مراده عز وجل بذلك، فقال بعضهم: هو: لكان هذا القرآن، وقال بعضهم: هو: لكفروا به، والله أعلم بمراده في ذلك.

(1)

الحسن هو: أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، وهو تابعي في الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وثقه العجلي

وغيره، وكانت وفاته سنة (95 هـ)(تهذيب الكمال -2/ 165).

ص: 464

وقال عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور:10] ولم يذكر ما كان يكون له، ووصل ذلك بقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10]

وهذا كثير في كلام العرب، وكان معقولاً أن الكلالة ما يُكَلَّلُ على الموروث والميراث الذي تركه من يستحقه بالسبب الذي يتكلل به عليه، وكان الولد غير متكلَّل عليه، لأنه منه، فكان مثل ذلك الوالد غير متكلَّل عليه، لأنه منه، فثبت بذلك: أن الكلالة ما عدا الوالد والولد جميعاً، والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 13/ 223 - 239).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالكلالة) في هذه الآية هو: الوارث الذي ليس بولد ولا والد.

ثم بين - رحمه الله تعالى - أن عدم الذكر للوالد في الآية، مع كونه داخلاً في المراد بالكلالة، لأن المخاطبين في ذلك يعلمون أن الوالد في هذا المعنى أوكد من الولد، فكان الذكر للولد مغنياً عن الذكر للوالد.

وإليك بيان: أقوال العلماء في المراد (بالكلالة):

القول الأول: أن المراد بالكلالة هو: الميت المورث الذي لا ولد له ولا والد.

- وهذا قول: أهل البصرة - وروي عن أبي بكر - وعمر - وعلي - وزيد بن ثابت - وابن عباس - وابن مسعود.

(1)

- وحجة هذا القول: أن ظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى كلالة، لأنهم قالوا:(الكلالة من لا ولد له ولا والد). وهذه صفة المورث الميت. لأنه من المعلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي ليس له ولد ولا والد، إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من مورثه، وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث.

(2)

ومما يدل على أن الميت المورث يسمى كلالة، قول الشاعر الفرزدق:

(1)

معاني القرآن للنحاس - (2/ 34).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 86).

ص: 465

ورثتم قناة الملك لا عن كلالةٍ

عن ابني منافٍ عبد شمس وهاشم

(1)

.

كما يؤيد هذا القول: قراءة الجمهور في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء:12] يعني: وإن كان رجل يورث متكلَّل النسب.

فالكلالة على هذا القول مصدر من قولهم: (تكلله النسب تكللاً وكلالة) بمعني: تعطف عليه النسب.

(2)

وقيل سمي المورث كلالة: إشتقاقاً من (الكلال) وهو التعب والإعياء، فكأن المورث الميت يصير الميراث إلى الوارث من بعد تعب وإعياء.

(3)

القول الثاني: أن المراد بالكلالة هو: الورثة عدا الولد والوالد.

- وهذا قول: أهل المدينة - وأهل الكوفة.

(4)

وحجة هذا القول:

1 -

ما رواه ابن المنكدر قال: (سمعت جابراً يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه، فعقلت، فقلت يا رسول الله لمن الميراث؟ إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الفرائض).

(5)

فدل هذا الحديث على أن المراد بالكلالة هو: الورثة عدا الولد والوالد، لأن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لم يكن له ولد يومئذ، ولا والد لأنه قتل يوم أحد.

(1)

انظر: ديوان الفرزدق (62) - وتهذيب اللغة للأزهري (مادة: كل -9/ 448).

(2)

تفسير الطبري (3/ 625).

(3)

تفسير ابن عادل (6/ 225).

(4)

معاني القرآن للنحاس (2/ 35).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب: صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه - (ح 191 - 1/ 82).

ومسلم في صحيحه - كتاب الفرائض - باب ميراث الكلالة - (حـ 4121 - 11/ 56).

ص: 466

2 -

وما رواه عامر بن سعد: (أن أباه - سعد بن أبي وقاص - مرض بمكة، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال سعد: يا رسول الله، إني لأدع مالاً وليس لي وارث إلا الكلالة، أفاوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تدع أهلك بعيش - أو قال: بخير - خير لك من أن تدعهم يتكففون الناس).

(1)

فدل هذا الحديث على أن المراد بالكلالة هو: الورثة عدا الولد والوالد.

3 -

كما يؤيد هذا القول: قراءة الكسر للراء في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورِّث كَلَالَةً} [النساء:12]

(2)

فالمراد بالكلالة على هذه القراءة هو: الورثة عدا الولد والوالد.

وعلى هذا القول، فإن الورثة سموا كلالة لأنهم: يتكللون الميت من جوانبه - أي يحيطون به من جوانبه - وليس في عمود نسبه أحد، كالإكليل يحيط بالرأس، ووسط الرأس منه خالٍ.

(3)

القول الثالث: أن المراد بالكلالة هو: المال الذي لا يرثه ولد ولا والد.

- وهذا قول: عطاء، وهو قول شاذ.

(4)

قال ابن العربي في رد هذا القول: وهذا أفسد الأقوال، لأنه غير مسموع لغة، ولا مقيس معني.

(5)

القول الرابع: أن المراد بالكلالة: هو: الورثة عدا الوالد.

- وهذا قول: الحكم بن عتيبة.

(6)

- ويرد هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] فدلت الآية على أن الولد خارج من وصف الكلالة.

(1)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب: السير - باب: من كره أن يموت بالأرض التي هاجر منها (ح 1 - 9/ 18). وأحمد في مسنده (4/ 60)

(2)

المحتسب لابن جني (1/ 182).

(3)

تفسير البغوي (2/ 179).

(4)

أحكام القرآن لابن الفرس (135).

(5)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 349).

(6)

تفسير الماوردي (1/ 460).

ص: 467

2 -

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه المتقدم - فإنه دال على أن الكلالة هم الورثة ما عدا الولد والوالد.

القول الخامس: أن المراد بالكلالة هو: الورثة عدا الولد.

- وهذا قول: عمر - وابن عباس رضي الله عنهم، في رواية عنهم.

- وهذا القول خلاف قول الجمهور، فإن الجمهور قد اتفقوا على أن (الوالد) ليس من الكلالة.

(1)

وهو القول الصواب لأمور:

1 -

أن الله جل وعلا قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] فأطلق جل وعلا اسم الكلالة، ولابد أن يكون المعنى هاهنا:(ليس له ولد ولا والد)، لأن المذكور من الميراث لا يتصور إلا عند فقد الولد والوالد جميعا.

(2)

لأن الله جل وعلا قال: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] ولو كان معها (أب) لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه لا ولد له بنص القرآن، ولا والد له بنص القرآن عند التأمل أيضاً. لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية.

(3)

2 -

أن الله جل وعلا قال: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] فلم يجعل جل وعلا للإخوة ميراثاً مع الأب، فخرج الولد من الكلالة والوالد جميعاً، لأنه لم يورثهم مع الأب، كما لم يورثهم مع الابن.

(4)

(1)

الاستذكار لابن عبد البر - (15/ 462).

(2)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 359).

(3)

تفسير ابن كثير - (1/ 607).

(4)

أحكام القرآن للكياالهراسي (2/ 359).

ص: 468

3 -

ولأن حكم انتفاء الولد يستدل به على انتفاء حكم الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد.

4 -

أن الله جل وعلا وإن نص على انتفاء الولد في كتابه، فقد وكَّل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة

(1)

، وذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" ألحقو الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر "

(2)

5 -

أن لفظ الكلالة في كلام العرب يتناول الولد والوالد جميعاً، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالاً على انتفاء الآخر.

(3)

ومما يدل على أن الوالد ليس بكلالة في كلام العرب، قول الشاعر:

فإن أبا المرء أحمى له

ومولى الكلالة لا يغضبُ

والمعنى: أن أبا المرء يغضب لابنه إذا ظلم، وأما أقرباؤه كالإخوة والأعمام وسائر القرابات، فإنهم لا يغضبون من أجل غضب الولد.

(4)

فأصل (الكلالة) في اللغة هو: الإحاطة، ومنه:(الإكليل) لإحاطته بالرأس. فالكلالة في النسب من أحاط بالولد والوالد من الإخوة والأخوات وتكللهما وتعطف عليهما.

والولد والوالد ليسا بكلالة، لأن أصل النسب وعموده الذي ينتهي إليه هو الولد والوالد، ومن سواهما فهو خارج عنهما. وهذا يدل على صحة قول من تأول (الكلالة) على من عدا الولد والوالد، وأن الولد إذا لم يكن من الكلالة، فكذلك الوالد، لأن نسبة كل واحد منهما إلى الميت من طريق الولادة، وليس كذلك الأخوة والأخوات، لأن نسب كل واحد منهم لا يرجع إلى الميت من طريق ولادة بينهم.

(5)

(1)

تفسير الزمخشري (2/ 188).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفرائض - باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج (ح 6365 - 6/ 2480).

ومسلم في صحيحه - كتاب - الفرائض - باب: ألحقو الفرائض بأهلها (ح 4117 - 11/ 54).

(3)

تفسير الزمخشري (2/ 188).

(4)

معاني القرآن للزجاج (2/ 24).

(5)

أحكام القرآن للجصاص (2/ 88).

ص: 469

وبهذا يظهر أن القول بأن المراد بالكلالة هو: الورثة عدا الولد، قول باطل، لتظاهر الأدلة المتقدمة على خلافه.

القول السادس: أن المراد بالكلالة هو: الميت والحي جميعاً.

فالكلالة هو الميت المورث الذي لا ولد له ولا والد. أو الحي الوارث الذي ليس بولد ولا والد. فالميت يورث بالكلالة، والحي يرث بالكلالة، فاسم الكلالة يتناول الميت تارة، وبعض الورثة تارة أخرى.

- وهذا قول: جابر بن زيد

(1)

. وأيده: الراغب الأصفهاني

(2)

- وأبو منصور الأزهري.

الترجيح: والراجح هو القول السادس، لأن كل من مات ولا ولد له ولا والد، فهو كلالة ورَثَتِه، وكل وارث ليس بولد للميت ولا والد له، فهو كلالة مُوْرثِه. فكان هذا القول صحيحاً لكونه مستو من جهة العربية، ومتوافقاً من جهة الكتاب والسنة النبوية.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الصحيحة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير الطبري (3/ 628).

(2)

المفردات للراغب الأصفهاني (437).

(3)

تهذيب اللغة للأزهري (9/ 448).

ص: 470