الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: منهجه في تفسير القرآن بأقوال أئمة اللغة
إن علم اللغة العربية وما يشتمل عليه من بيان معاني المفردات، وتعريف الكلمات واشتقاقها، ووجوه الإعراب من العلوم التي يحتاج إليها المفسر، ومن أهم أركان التفسير وعليه فلابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله جل وعلا من الرجوع إلى اللغة العربية والاستعانة بها في شرح ألفاظه ومعرفة مشتقاته وإعراب كلماته.
ولذا لا نجد مفسرًا إلا وتناول هذا الجانب في تفسيره إجمالاً أو تفصيلاً.
والإمام الطحاوي كان له اهتمام وعناية بهذه الجانب بالقدر الذي يحتاج إليه في تفسير كلام الله جل وعلا من غير توسع واستطراد، إذ أن القصد من تفسير كتاب الله جل وعلا استجلاء هداياته وتوجيهاته. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:-
1 -
ما ذكره عند قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
حيث قال: اللعن في كلام العرب هو الطرد والإبعاد، ومنه قول الله عز وجل:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] فكان لعنة الله عز وجل إياهم: طردهم عنه، وإبعادهم منه.
عن أبي عبيدة معمر بن المثنى (لعنهم الله) أي: أطردهم وأبعدهم، يقال: ذئبٌ لعين، أي: مطرود.
قال شماخ بن ضرار:
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه مقام الذئب كالرجلِ اللعينِ.
(شرح مشكل الآثار -9/ 168).
2 -
ما ذكره عند قوله جل وعلا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95].
حيث قال: وفيما ذكرنا ما قد دل على أن القراءة في ذلك كما قرأها من قرأها بالرفع وهم: عاصم: والأعمشى، وأبو عمرو، وحمزة، لا كما قرأها مخالفوهم:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غيرَ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]. بالنصب، وهم: أبو جعفر، وشيبة، ونافع، وابن كثير، وعبد الله بن عامر، وقد كان أبو عبيد القاسم بن سلام ذهب إلى قراءة هؤلاء المدنيين، وقال مع ذلك:(إن الرفع وجه في العربية ممكن غير مستنكر)، وكذلك كان الفراء يذهب إلى صحته في العربية، ويقول:(هو على النعت للقاعدين).
قال: وما كان من نعتهم كان كذلك إعرابه بالرفع لا بغيره، كما قال عز وجل:{التَّابِعِينَ غيرَ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور:31] فكان نعته إياهم بمثل ما ذكرهم به من الجر لا ما سواه. والله نسأله التوفيق.
وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام في السبب الذي به اختار: {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] بالنصب، فقال:(وروي عن أصحاب رسول الله j - غير واحدٍ ذكرهم - أن نزولها كان على الاستثناء، فوجب بذلك أن تكون منصوبة).
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه لم يرو عن واحدٍ من أصحاب النبي j أنه قال: إنما نزلت للاستثناء مما كان نزل قبلها، وإنما روي عنه منهما في سبب نزولها ما قد رويناه في ذلك في صدر هذا الباب، ولو كانت كلها نزلت معاً، لجاز أن يكون ذلك على الاستثناء فيكون النصب فيه أولى من الرفع، ولكنه إنما كان الذي نزل أولاً منها، هو قوله عز وجل:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] ونحن نحيط علماً أن الله عز وجل لم يعن القاعدين بالزمانة مع النية أنهم لو أطاقوا الجهاد لجاهدوا، وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن المجاهدون أفضل منهم، لأنهم جاهدوا بقوتهم، وتخلف الآخرون عن الجهاد بعجزهم عنه. وقد قال الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (92)} [التوبة:91 - 92]، ثم أعلم بعد ذلك أن السبيل على خلاف هؤلاء بقوله عز وجل:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:93]، وقال عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ومن حل الأمر على غير ما ذكرنا، كان قد قال قولاً عظيماً، ونسب الله عز وجل إلى أنه قد تعبد خلقه بما هم عاجزون عنه.
وإذا كان نزول ما قد تلونا على ما قد ذكرنا، كان ما أنزل الله عز وجل بعد ذلك من قوله:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] تبياناً لما كان أنزله قبل ذلك من القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدين، فكان الرفع أولى به من غيره.
(شرح مشكل الآثار - 4/ 141 - 156)