الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: منهجه في إيراد أسباب النزول
إن معرفة أسباب النزول تزيل الإشكال عن كثير من الآيات، وتعين على فهم الآية وتفسيرها، لذا نجد المفسرين اهتموا بها، فصنفوا فيها المصنفات، وذكروها في تفاسيرهم.
ولقد كان للإمام الطحاوي عناية بها، فنجده يذكر أسباب النزول لكثير من الآيات، ويلتزم غالباً الترجيح أو التوفيق بين تلك الأسباب إن كان للآية أكثر من رواية في سبب نزولها.
- ومن الأمثلة على ذلك: -
ما ذكره عند قوله جل وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128].
حيث قال: عن سالم عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح حين رفع رأسه من الركوع قال: "ربنا ولك الحمد" في الركعة الآخرة، ثم قال:"اللهم العن فلاناً وفلاناً" يدعو على ناس من المنافقين، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج، فجعل يسلت الدم عن وجهه، ويقول:"كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم؟ " فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
فتأملنا هذه الآثار وكشفناها لنقف على الأولى منها بما نزلت فيه هذه الآية من المعنيين المذكورين فيها، فاحتمل أن يكون نزولها في وقت واحد يراد بها السببان المذكوران في هذه الآثار، فوجدنا ذلك بعيداً في القلوب، لأن غزوة أحد كانت في سنة ثلاث، وفتح مكة كان في سنة ثمان، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان لمن دعا له في صلاته قبل فتح مكة، فبعيد في القلوب أن يكون السببان اللذان قيل: إن هذه الآية نزلت في كل واحد منهما كان نزولها فيهما جميعاً.
واحتمل أن يكون نزولها كان مرتين: مرة في السبب الذي ذكر عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، أن نزولها كان فيه، ومرة في السبب الذي ذكر أنس أن نزولها فيه، فدخل على ذلك ما نفاه، لأنه لو كان ذلك كذلك لكانت موجودة في القرآن في موضعين كما وجدت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] الأية في موضعين:
أحدهما في سورة براءة] 73]، والآخر في سورة التحريم] 9]، ولما لم يكن ذلك كذلك في الآية المتلوة في هذه الآثار، بطل هذا الاحتمال أيضاً.
واحتمل أن يكون نزلت قراناً لواحد من السببين المذكورين في هذه الآثار، والله أعلم بذلك السبب أيهما هو؟ ثم أنزلت بعد ذلك للسبب الآخر، لا على أنها قرآن لاحق لما نزل فيه من القرآن، ولكن على إعلام اله تعالى نبيه عليه السلام بها أنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمور إلى الله تعالى وحده، يتوب على من يشاء، ويعذب من يشاء، ولم نجد من الاحتمالات لما في هذه الآثار أحسن من هذا الاحتمال، فهو أولاها عندنا بما قيل في احتمال نزول الآية المتلوة فيها بها، والله نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار - 2/ 39 - 44)