المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البقرة قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ - أقوال الطحاوي في التفسير: الفاتحة - التوبة

[محمد بن عبد الله الوزرة الدوسري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ أهمية هذا الموضوع وسبب اختياره

- ‌خطة البحث

- ‌التمهيد: التعريف بالإمام الطحاوي

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه، ومولده ونشأته

- ‌أولاً: اسم ونسب الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانيا: مولد ونشأة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌1 - مولده:

- ‌2 - نشأته:

- ‌المبحث الثاني: عقيدته. ومذهبه الفقهي

- ‌أولاً: عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: المذهب الفقهي للإمام الطحاوي

- ‌المبحث الثالث: طلبه للعلم، وشيوخه وتلاميذه

- ‌أولاً: أبو جعفر الطحاوي وطلبه للعلم

- ‌ثانياً: شيوخ الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثالثاً: تلاميذ الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌المبحث الرابع: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه

- ‌أولاً: المكانة العلمية لأبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: ومن العلوم والمجالات التي لم يشتهر فيها الإمام الطحاوي مع كونه إماماً فيها:

- ‌المبحث الخامس: مصنفاته، ووفاته

- ‌أولاً: مصنفات الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌ثانياً: وفاة الإمام أبي جعفر الطحاوي

- ‌الفصل الأول: منهج الإمام أبي جعفر الطحاوي في التفسير

- ‌المبحث الأول: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن

- ‌المبحث الثاني: منهجه في تفسير القرآن بالسنة

- ‌المبحث الثالث: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين

- ‌المبحث الرابع: منهجه في تفسير القرآن بأقوال أئمة اللغة

- ‌المبحث الخامس: منهجه في إيراد أقوال أهل التفسير ومناقشته لها

- ‌المبحث السادس: منهجه في إيراد القراءات والتعليق عليها

- ‌المبحث السابع: منهجه في تفسير آيات العقائد

- ‌المبحث الثامن: منهجه في تفسير آيات الأحكام الفقهية

- ‌المبحث التاسع: منهجه في إيراد أسباب النزول

- ‌المبحث العاشر: منهجه في بيان الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الثاني أقوال الطحاوي فى التفسير

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة البقرة قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ

‌سورة البقرة

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة:78].

قال أبو جعفر الطحاوي: قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78].

أي: إلا تلاوة، فلم يحمد ذلك منهم، كما حمد أهل الاستنباط على الاستنباط.

(شرح مشكل الآثار- 15/ 316)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة.

وإليك بيان أقوال المفسرين في المراد بقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} :

القول الأول: أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة من غيرفهم لمعناه.

وهذا كما في قوله تعالى {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] أي: في تلاوته

(1)

.

وسميت التلاوة. (أماني) لأمور:

أ- أن الإشتقاق من (مني) إذا قدر، لأن المتمني: يقدر في نفسه ما يتمناه، وكذلك القارئ: يقدر أن كلمة كذا بعد كذا.

(2)

ب- ولأن تالي القرآن إذا مر بآية رحمة تمناها، وإذا مر بآية عذاب تمنى أن يوَّقاه

(3)

.

(1)

انظر: تفسير السمرقندي (1/ 131) - وتفسير الماوردي (1/ 150). وتفسير البغوي (1/ 115) - وتفسير ابن الجوزي (1/ 90)

(2)

تفسير الزمخشري (1/ 288).

(3)

لسان العرب (15/ 294).

ص: 102

ج- ولأن التلاوة المجردة من المعرفة تجري عند صاحبها مجرى أمنية تمناها على الظن والتخمين

(1)

- وإلى هذا القول ذهب: ابن عباس رضي الله عنه، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج، والفراء.

- وحجة أصحاب هذا القول:

1 -

أن حمل الآية على هذا القول أليق بطريقة الاستثناء إذا الأصل في الاستثناء: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه

(2)

، فإذا حملنا الآية على ذلك كان له نوع تعلق بما قبله، فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنهم لايتمكنون من التدبر والتأمل.

وإذا حمل على أن المراد (الأكاذيب، أو التمني والتقدير) كان الاستثناء فيه نادراً.

2 -

أن قوله تعالى في هذا الآية: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، يؤيد هذا القول.

وذلك أن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها، فهي ظن، فيكون قوله:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] تكراراً لما سبق.

بخلاف ما لوحملنا معنى الآية على التلاوة فإنه لا يكون في المتأخر تكرار للمتقدم.

واعترض على هذا الاحتجاج: بأن الظن غير التمني والتقدير.

وعليه فلا يلزم من القول بهذا المعنى التكرار

(3)

.

- وقد رد هذا القول: بأنه لا يتناسب مع ما وصفهم الله جل وعلا به في قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] أي: جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا مما فيها

(4)

.

القول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا كذباً

(5)

(1)

انظر: المفردات للراغب (476) والقاموس المحيط (1721).

(2)

تفسير القاسمي (1/ 318).

(3)

تفسير الرازي (3/ 139).

(4)

تفسير البيضاوي (1/ 71).

(5)

انظر: تفسير ابن كثير (1/ 121). وتفسير الطبري (1/ 418) وتفسير ابن الجوزي (1/ 90).

ص: 103

والمعنى: إلا أكاذيب مختلقة مفتعلة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد

(1)

.

تقول العرب: (أنت تَمْتني هذا القول)، أي: تختلقه. فالتمني: هو الكذب، تفعل من (مَنَى يَمْني) إذا قدَّر، لأن الكاذب يُقدَّر في نفسه الحديث ثم يقوله

(2)

.

كما أن (التمني) تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك في الغالب يكون عن تخمين وظن، لذلك كان التمني كالمبدأ للكذب، فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني

(3)

.

- وإلى هذا القول ذهب: ابن عباس رضي الله عنه، ومجاهد، وعبد الرحمن بن زيد.

وهو اختيار: الفراء، وأبو جعفر الطبري.

- وحجة هذا القول: قوله جل وعلا بعد ذلك: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78].

فأخبر جل وعلا أنهم يتمنون مايتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقينًا.

ولو كان معنى ذلك: أنهم (يتلونه) لم يكونوا ظانين. وكذلك لو كان معناه (يشتهونه).

لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه، ولا يستحق بتركه التدبر لما قرأه، أن يقال عنه: إنه ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكاً في نفس ما يتلوه. ولم يكن اليهود شاكين في التوارة أنها من عند الله.

وكذا المتمني فإنه في حال تمنية موجود ما يتمناه، فغير جائز أن يقال: هو شاك فيما يتمناه.

فصح بذلك هذا القول وانتفى ماعداه

(4)

.

القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: يتمنون على الله الباطل، وما ليس لهم

(5)

.

وعلى هذا القول: تكون (إلا) بمعنى (لكن) استثناء منقطع.

(1)

تفسير الزمخشري (1/ 288).

(2)

انظر: لسان العرب (15/ 295). والقاموس المحيط (1721).

(3)

المفردات للراغب (475).

(4)

تفسير الطبري (1/ 419).

(5)

انظر: تفسير الطبري (1/ 418). وتفسير ابن كثير (1/ 121).

ص: 104

والمعنى: لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أشياء باطلة لن تحصل لهم كتمنيهم أن يعفو الله عنهم ويرحهم ولايؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء سيشفعون لهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة

(1)

.

فقوله جل ذكره: {أَمَانِيَّ} [البقرة:78] مأخوذ من التمني الذي هو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. وهذا مستعمل في كلام العرب، يقولون للذي يقول ما لاحقيقة له وهو يحبه (هذا مُنَّي - وهذه أُمْنِيةَ)

(2)

.

- وإلى هذا القول ذهب: ابن عباس رضي الله عنه، والحسن البصري، وقتادة، وأبو العالية، والربيع. واختار هذا القول: أبو مسلم الأصفهاني: حيث قال: (وحمله على تمني القلب أولى، بدليل قوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] أي: تمنيهم

(3)

.

الترجيح: جميع الأقوال المتقدمة يصح إرادتها من الآية.

لأن هذه المعاني جاءت في اللغة وليس بعضها أولى من بعض.

قال ابن فارس: (منى) الميم والنون والحرف المعتل أصل واحد صحيح، يدل على تقدير شيء ونفاذ القضاء به).

(4)

وقال الرازي: (الأماني) جميع أمنية، ولها معان مشتركة في أصل واحد)

(5)

.

وقال البيضاوي: (إلا أماني) استثناء منقطع. (والأماني):جمع أمنية، وهي في الأصل: ما يقدره الإنسان في نفسه من (منى): إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يُتمنى، وعلى ما يقرأ. والمعنى:

1 -

ولكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليداً من المحرفين.

2 -

أو مواعيد فارغة سمعوها منهم، من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة.

(1)

تفسير السمعاني (1/ 99).

(2)

لسان العرب (15/ 294).

(3)

تفسير الرازي (3/ 139).

(4)

معجم مقاييس اللغة (5/ 276).

(5)

تفسير الرازي (3/ 139).

ص: 105

3 -

وقيل: إلا ما يقرؤون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره)

(1)

.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة:130]

قال أبو جعفر الطحاوي: السفه قد يكون في تضييع المال، وقد يكون فيما سواه مما لا تضييع للمال معه، كذلك هو في كلام العرب، يقولون: سفه فلان في ماله، سفه فلان في دينه، ومنه قول الله عز وجل:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].

قال أبو جعفر: عن أبي عبيدة معمر بن المثنى

(2)

، قال: (سفه نفسه أهلكها وأوبقها

(3)

، وقد يكون ذلك ممن معه من الحزم في ماله ما ليس مع من لا يختلف في صلاحه في دينه).

وقال الكسائي

(4)

: (السفيه: الذي يعرف الحق وينحرف عنه عناداً، وقرأ: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] قال: يقول: الذين عرفوا الأمر، وعندوا عنه).

(شرح مشكل الآثار - 12/ 344 - 345)

(وانظر: مختصر اختلاف العلماء - 5/ 218)

(1)

تفسير البيضاوي (1/ 71).

(2)

أبو عبيدة هو: معمر بن المثنى التيمي بالولاء، تيم قريش، البصري النحوي، وتصانيفه تقارب مائتي تصنيف، فمنها: (مجاز القرآن

الكريم) و (غريب الحديث) و (الحدود) و (القبائل). وغير ذلك من الكتب النافعة. وكانت وفاته سنة (210 هـ). (وفيات الأعيان - 5/ 235).

(3)

مجاز القرآن (1/ 56).

(4)

الكسائي هو: أبوالحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي، أحد القراء السبعة، كان إماماً في النحو واللغة والقراءات، وكانت وفاته

سنة (189 هـ). (وفيات الأعيان - 3/ 295).

ص: 106

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بالسفه في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، أنه السفه في الدين، الذي هو الانصراف عن الحق إلى الضلال والذي يترتب عليه الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة. وذكر قول أبي عبيدة، مؤيداً به ما ذهب إليه.

وإليك بيان أقوال المفسرين في المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]:-

القول الأول: أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، أي: إلا من سَفَّه نفسه.

- ومعنى الآية: أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من امتهن نفسه وظلمها وأهلكها بانصرافه عن سبيل الهداية إلى سبيل الضلال.

- وإلى هذا القول ذهب: أبو عبيدة - ويونس النحوي - والأخفش- والزمخشري- وأبو حيان الأندلسي - وابن كثير.

(1)

قال أبو عبيدة: (معنى سفه نفسه: أهلك نفسه وأوبقها).

(2)

وقال ابن كثير:: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفى في الدنيا للهداية والرشاد، وهو في الآخرة من الصالحين).

(3)

القول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، أي: إلا من جهل أمر نفسه.

(4)

- ومعنى الآية: أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا سفيه جاهل بما ينفع نفسه وما يضرها.

(5)

وذلك أن من جهل نفسه جهل أنه مخلوق، وإذا جهل أنه مخلوق جهل خالقه، وإذا جهل خالقه جهل أمره ونهيه.

(6)

(1)

انظر: تهذيب اللغة (6/ 133) - وتفسير الزمخشري (1/ 324) - وتفسير أبي حيان (1/ 628).

(2)

تهذيب اللغة (6/ 132).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 190).

(4)

تفسير السمرقندي (1/ 159).

(5)

تفسير الطبري (1/ 609).

(6)

انظر: تفسير القاسمي (1/ 368)، وتفسير السعدي (1/ 141).

ص: 107

ولكون معرفة النفس طريق إلى معرفة الخالق - قال جلّ وعلا: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].

- وإلى هذا القول ذهب الإمام الطبري - والزجاج - - والقاسمي - والسعدي.

قال الزجاج: (والقول الجيد عندي في هذا: أن (سفه) في موضع (جهل)، فالمعنى والله أعلم: إلا من جهل نفسه - أي لم يفكر في نفسه).

(1)

الترجيح: كلا القولين مراد بالآية، وذلك لأن من أعرض عن طريق الهدى مبتغياً طريق الضلال فهو جاهل بحقيقة نفسه ظالم لها، حاكم على نفسه بالهلاك والخسران في الدنيا ويوم الدين.

كما أن اللغة جاءت بهذا، يقال (سفه نفسه) أي: امتهنها واستخف بها.

(2)

ويقال: (سفه فلان رأيه) أي جهله، وكان رأيه مضطرباً لا استقامة له.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة:158]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن شهاب

(4)

، قال: قال عروة

(5)

:

(1)

تهذيب اللغة (6/ 133).

(2)

تفسير الزمخشري (1/ 324).

(3)

انظر: تهذيب اللغة (6/ 135)، والقاموس المحيط (1609).

(4)

ابن شهاب هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني، ولد سنة (50 هـ) وكانت وفاته سنة (124 هـ).

(سير أعلام النبلاء 5/ 326).

(5)

عروة هو: أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أحد الفقهاء السبعة، وكانت وفاته سنة (93 هـ)

- (سير أعلام النبلاء - 4/ 421).

ص: 108

سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: أرأيت قوله الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] فقلت: والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بين الصفا والمروة، قالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها عليه كانت:(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)، وإنها إنما أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية

(1)

التي كانوا يعبدون عند المُشلّل

(2)

، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما.

قال ابن شهاب: فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام

(3)

(1)

(يهلون) أي: يحجون - (المناة) بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية، وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل

وكانوا يعبدونها - (الطاغية) صفة لمناة، وهي صفة إسلامية.

(2)

(عند المشلل): بضم أوله وفتح المعجمة ولامين الأولى مفتوحة مثقلة هي الثنية المشرفة على قُديد - وقُديد: بضم القاف مصغراً: قرية جامعة

بين مكة والمدينة كثيرة المياه - (فتح الباري - 3/ 583).

(3)

أبو بكر هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي، وكنيته اسمه، وهو من سادات التابعين، وأحد

الفقهاء السبعة، وكانت وفاته سنة (94 هـ) - (وفيات الأعيان- 1/ 282).

ص: 109

بالذي حدثني عروة من ذلك عن عائشة، فقال أبو بكر: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يزعمون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة الطاغية كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله عز وجل الطواف بالبيت ولم يذكر الطوف بين الصفا والمرة، قالوا: هل علينا يا رسول الله من حرج في أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ] البقرة:158].

قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية أنزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون في الجاهلية أن يطوفوا بالصفا والمروة. والذين كانوا يطوفون في الجاهلية بين الصفا والمروة، ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله عز وجل أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة مع الطواف بالبيت حين ذكره.

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الحج - باب: وجوب الصفا والمروة (حـ 1561 - 2/ 592)

ومسلم في صحيحه - كتاب: الحج - باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. (حـ 3070 - 9/ 25).

ص: 110

وعن هشام

(1)

بن عروة عن أبيه عن عائشة أن مناة كانت على ساحل البحر وحولها الفروث

(2)

والدماء يذبح بها المشركون، فقالت الأنصار: يا رسول الله إنا إذا كنا أحرمنا في الجاهلية لم يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ] البقرة:158]، قال عروة: أما أنا فما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة، قالت عائشة: لِمَ يا ابن أختي؟ قال: لأن الله عز وجل يقول: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ] البقرة:158]، قالت عائشة: لو كانت كما تقول، لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، قالت عائشة: وما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة.

(3)

(1)

هشام هو: أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، وهو أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين من الحديث، وكانت

وفاته سنة (146 هـ). (وفيات الأعيان - 6/ 80)

(2)

الفروث: جمع (فَرْثُ) وهو ما كان في الكرش، (وفَرَثْتُه) أي: فَتَتُّه.، و (أفرثت الكرش): إذا نثرت فرثها. (المحيط في اللغة -10/ 138).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: العمرة - باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج (حـ 1698 - 2/ 635)

ومسلم في صحيحه - كتاب: الحج - باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به (حـ 3068 - 9/ 24).

ص: 111

قال أبو جعفر: ففي هذه الآثار أن السبب الذي فيه نزلت هذه الآية: هو لتحرج الأنصار من الطواف بين الصفا والمروة للسبب المذكور في هذا الحديث، وأن الله عز وجل أنزل هذه الآية، فأعلمهم بها أن لا جناح عليهم في الطواف بينهما، فأعلمهم فيها أنهما من شعائر الله عز وجل، وقد ذكر شعائره في غيرها، قوله عز وجل:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقد كان في حديث هشام، عن عروة، عن عائشة من قولها: ولعمري ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة. ومثل هذا لا يقال بالرأي، فعلقنا بذلك أنها لم تقله إلا توقيفاً، والتوقيف لا يكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال قائل: أما ما حكيتموه عن عائشة من قولها لعروة: لو كانت كما تقول، لكانت:(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)، وقد كان عبد الله بن عباس يقرؤها كذلك. وذكر عن عطاء

(1)

عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]

(2)

(1)

عطاء هو: أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم القرشي، نشأ بمكة، وولد في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه، وكانت وفاته سنة (114 هـ).

(سير أعلام النبلاء - 5/ 78).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره - تفسير سورة البقرة - (حـ 2364 - 2/ 53) وابن أبي داود في المصاحف (83).

ص: 112

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن الذي في حديث ابن عباس من التلاوة قد يجوز أن يكون معناه يرجع إلى ما في حديث عائشة منها، ويكون قوله عز وجل:{أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] في قراءة ابن عباس على الصلة، كما قال عز وجل:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:29]. بمعنى: ليعلم أهل الكتاب أن يقدرون على شيء. وكما قال عز وجل: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]، بمعنى: أنهم يرجعون. وكقوله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، بمعنى: ما منعك أن تسجد.

فيكون مثل ذلك إن كانت القراءة كما روي عن ابن عباس فيها: (أن لا يطوف بهما) بمعنى: أن يطوف بهما على ما في قراءة غيره، وهي القراءة التي قامت بها الحجة التي تضمنتها مصاحفنا.

وقد روي عن أنس بن مالك في تلاوة هذا الحرف مثل الذي روي فيه عن عائشة، كما عن عاصم

(1)

2) قال: (سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كانتا من مشاعر الجاهلية، فلما جاء الإسلام، أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} البقرة:158]، وهما تطوع)

(2)

(1)

عاصم هو: أبو عبد الرحمن عاصم بن سليمان الأحول البصري، قال أحمد بن حنبل وابن معين وأبو زرعة وطائفة: ثقة، وكانت وفاته سنة

(142 هـ)(سير أعلام النبلاء - 6/ 13).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - تفسير سورة البقرة - باب قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}

البقرة:158] (حـ 4226 - 4/ 1635). ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به

- (حـ 3073 - 9/ 27).

ص: 113

وكان ما في حديث أنس من ذكر الطواف بينهما أنه تطوع مما لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يجوز أن يكون ذلك رأياً رآه، وقد خالفته عائشة في ذلك، فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سن الطواف بهما في الحج والعمرة جميعاً، وقالت هي: ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، فكان ذلك عندنا أولى من قول أنس لا سيما وفقهاء الأمصار عليه لا يختلفون فيه، ولم يقولوا ذلك كابراً عن كابر إلا بما وجب أن يقولوه به، وكان ما خالف ما هم عليه من ذلك مما لا معنى له، ولا يصلح القول به، والله عز وجل نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 10/ 84 - 93)

قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة:158].

قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا: من ترك السعي في الحج والعمرة حتى رجع، فعليه دم، وهو قول الثوري

(1)

، والأوزاعي.

(2)

قال مالك

(3)

: إذا ترك السعي حتى رجع، فإنه يرجع فيسعى. فإن كان قد أصاب، فعليه العمرة والهدي، وإن لم يترك إلا شوطاً واحداً، عاد وسعى.

(1)

الثوري هو: أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكانت وفاته بالبصرة سنة (161 هـ).

(وفيات الأعيان - 2/ 386).

(2)

الأوزاعي هو: أبو عمروعبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي، عالم أهل الشام، كان يسكن دمشق ثم تحول إلى بيروت مرابطاً بها إلى

أن مات سنة (157 هـ)(سير أعلام النبلاء - 7/ 107).

(3)

مالك هو: أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأعلام، وكانت وفاته بالمدينة

سنة (179 هـ)(وفيات الأعيان - 4/ 135).

ص: 114

وقال الشافعي:

(1)

وهو محرم كما كان حتى يرجع فيسعى، فإن كان معتمراً كان حراماً من كل شيء، وإن كان حاجاً قد حلق ورمى كان حراماً من النساء حتى يرجع، ولو ترك بعض شوط حراماً كان ذلك

عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كانا من مشاعر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} {البقرة:158].

(2)

وعن ابن شهاب قال: قال عروة: سألت عائشة عن قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]. قال: فقلت والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بين الصفا والمروة. قالت عائشة: بئس ما قلت، إنه لو كان على ما تأولت كانت (ولا جناح عليه أن لا يطوف)، وإنما نزلت في شأن الأنصار حين تحرجوا من ذلك.

قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

(3)

فأخبرت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سن ذلك.

وفي الآية: أنها من شعائر الله، والشعائر: هي العلامات لما دعا الله إليه، فصار كرمي الجمار، والذكر عند المشعر الحرام، فهما سواء في قيام الدم عنهما.

فإن قيل: هلا جعلته كطواف يوم النحر.

قيل: لأنه قد قرن بطوفا القدوم، فكان أشبه به منه بطواف الزيارة.

(مختصر اختلاف العلماء - 2/ 145 - 146)

الدراسة

ذكر الإمام الطحاوي سبب نزول الآية. ثم استدل بالآية والسبب الوارد في نزولها على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، ومن تركه فعليه دم.

(1)

الشافعي هو: أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس القرشي المطلبي الشافعي، وهو أول من تلك في أصول الفقه، وكانت وفاته بمصر سنة

(204 هـ)(وفيات الأعيان - 4/ 163).

(2)

تقدم تخريجه (80).

(3)

تقدم تخريجه (78).

ص: 115

ورد على من قال بأن السعي تطوع اعتماداً على قراءة ابن عباس رضي الله عنه.

مرجحاً القول بأن السعي واجب في الحج والعمرة.

وإليك. أولاً: بيان سبب نزول الآية:

وردت روايات متعددة في سبب نزول الآية - وقد ذكر الإمام الطحاوي بعضاً منها - وكلها صحيحة ثابتة لا تعارض بينها، وهي تفيد بمجموعها: أن الآية نزلت في دفع التحرج من الطواف بين الصفا والمروة، لما كان من أمر الجاهلية.

قال القاسمي: وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أن تحرج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة، فنزلت في الكل.

(1)

ثانياً: القراءات الواردة في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]:

القراءة الأولى:- (أن يطوف) - وهذه قراءة: الجمهور.

القراءة الثانية:- (أن يطاف) - وهذه قراءة: ابن عباس - وأبي السَّمال.

القراءة الثالثة:- (أن لا يطوف) - وهذه قراءة: ابن عباس - وابن مسعود - وأُبيّ بن كعب - وأنس بن مالك - وعلي بن أبي طالب - وابن سيرين - وعطاء - وميمون.

(2)

ثالثاً: الأقوال في المراد بـ {شَعَائِرِ اللَّهِ} ] البقرة:158]:

القول الأول:- أن (الشعائر) جمع (شعيرة) وهو: الخبر الذي أخبر الله تعالى عنه، ومن إشعار الله تعالى عباده أمر الصفا والمروة، وما عليهم من الطواف بهما.

- وهذا قول: مجاهد.

القول الثاني:- أن المراد بـ (شعائر الله) معالم الله الظاهرة للحواس، التي جعلها الله معلماً لطاعته،

- وهذا قول: الجمهور - وهو الأولى.

(3)

(1)

انظر: تفسير القاسمي (1/ 417) - وفتح الباري (3/ 585).

(2)

انظر: المحتسب (1/ 115)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 95)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 225)، والإملاء للعكبري (1/ 41)، وتفسير أبي حيان

(1/ 456). وتفسير الزمخشري (1/ 104)، وتفسير الرازي (2/ 45)، وتفسير القرطبي (2/ 182).

(3)

تفسير الماوردي (1/ 212).

ص: 116

قال الأصمعي: (الإشعار: الإعلام - والشعار: العلامة، ولا أرى مشاعر الحج إلا من هذا، لأنها علامات له).

(1)

رابعاً: الأقوال في حكم السعي بين الصفا والمروة:

القول الأول: أن السعي بين الصفا والمروة: (سنة)، إن فعله كان محسناً، وإن تركه لم يلزمه شيء.

(2)

- وهذا قول: ابن عباس - وأبيّ بن كعب - وابن الزبير - وأنس بن مالك، رضي الله عنهم وابن سيرين - وعطاء - ومجاهد - وأحمد في رواية.

(3)

- ومن أدلة هذا القول:

أ- قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} {البقرة:158]:

فلما نفى جلّ وعلا الحرج والجناح عن فاعله، دل على عدم وجوبه. فرفع الإثم علامة المباح.

- الرد على هذا الاستدلال من وجوه:

1 -

ليس في قوله (فلا جناح) دليل على الإباحة دون الوجوب، لخروجه على السبب الذي بينته عائشة رضي الله عنها، وهو أن نفي الجناح عمن طاف بهما لإزالة ما في نفوسهم من أن الطواف بهما من شعائر الجاهلية.

2 -

ظاهر قوله (فلا جناح عليه) أنه لا إثم عليه. والذي يصدق عليه أن لا إثم في فعله يدخل تحته: الواجب، والمندوب، والمباح. ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد.

فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي واجب أو ليس بواجب. لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية بأحدها، ولابد من الرجوع إلى دليل الآخر لبيان الخصوصية.

(4)

3 -

أنه لا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل، نفي الإثم عن التارك.

4 -

أنه لو كان المراد مطلق الإباحة، لنفي الإثم عن التارك، كما نفي عن الفاعل.

(5)

(1)

تهذيب اللغة (1/ 417).

(2)

تفسير الطبري (2/ 52).

(3)

انظر: المغني لابن قدامة (5/ 238) والمجموع للنووي (8/ 77) والإنصاف (4/ 58) والتمهيد لابن عبد البر (2/ 97) وبداية المجتهد (1/ 344).

(4)

تفسير الرازي (4/ 159).

(5)

فتح الباري (3/ 583).

ص: 117

ب- قراءة: (أن لا يطوف بهما): وهذا وإن لم يكن قرآناً فلا ينحط عن رتبة الخبر فيكون تفسيراً للآية، دالاً على إباحة الطواف بين الصفا والمروة.

(1)

- الرد على هذا الاستدلال من وجوه:

1 -

أن هذه قراءة شاذة، ولا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهور.

(2)

2 -

وعلى أنها حجة، فلا حجة فيها على إباحة السعي بين الصفا والمروة. لأن (لا) التي مع (أن) صلة في الكلام، إذا تقدمها جحد في الكلام.

وقد تقدمها جحد في الآية وهو قوله تعالى: {جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158]. فيكون التقدير: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

مثال ذلك: قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12].

بمعنى: ما منعك أن تسجد إذا أمرتك.

(3)

جـ- قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} {البقرة:158]

فبين جلّ وعلا أن السعي تطوع وليس بواجب، فمن تركه فلا شيء عليه، عملاً بظاهر الآية.

- الرد على هذا الاستدلال من وجوه:

1 -

لا حجة لمن قال إن السعي مستحب لقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].

ولإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع.

(4)

2 -

أن قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:158] لا يقتضي أن يكون المراد منه: التطوع بالسعي دون غيره، بل يجوز أن يكون المراد منه غير ذلك.

وعليه فإن المراد بـ (خيراً) في الآية أحد الأمور التالية:-

أ- أن يتطوع بجميع أنواع الطاعات.

ب- أن يتطوع بعد الحج والعمرة الفرض مرة أخرى، فيكون طوافه تطوعاً.

ج- أن يزيد في الطواف، فيطوف أكثر من الطواف الواجب، كأن يطوف ثمانية أو أكثر

(5)

،

(1)

المغنى لابن قدامة (5/ 239).

(2)

فتح الباري (3/ 583).

(3)

تفسير الطبري (2/ 55).

(4)

فتح الباري (3/ 583).

(5)

تفسير الرازي (4/ 160).

ص: 118

وقد رد هذا القول: بأن الزيادة في عدد أشواط الطواف، أمر مبتدع غير مشروع.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كل أمر مبتدع لم يرد فيه دليل من كتاب أو سنة

(1)

، وقال:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

(2)

- وهذا القول هو الأولى لأمور:

- أن الجملة عطفت بـ (الواو) دون الفاء، لئلا يكون الخير قاصراً على السعي.

- ولأن (خيراً) نكرة في سياق الشرط فهي عامة.

- ولأن الجملة تذييل للآية لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع خاص.

وعليه فإن الآية عامة في الدعوة لأفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل.

(3)

القول الثاني: أن السعي بين الصفا والمروة: (واجب)

يجزئ تاركه فدية، ولا يلزمه العود لقضائه بعينه، وإن عاد فحسن.

- وهذا قول: الحسن البصري - وقتادة - والثوري - وأبي حنيفة - ومالك - وأحمد في رواية عنهما.

(4)

- ومن أدلة هذا القول:-

1 -

قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].

فالآية دلت على رفع الإثم عمن تطوف بهما، ورفع الإثم يدل على الإباحة لا على أنه ركن، ولكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم جعله واجباً. فصار الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار يجزئ عنه الدم إذا تركه.

(5)

2 -

قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] دال على وجوب السعي بين الصفا والمروة.

(1)

كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث (53).

(2)

أخرج البخاري في صحيحه - كتاب الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جور (حـ 2550 - 2/ 959).

ومسلم في صحيحه - كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة (حـ 4468 - 12/ 242).

(3)

تفسير ابن عاشور (1/ 64).

(4)

انظر: المغني لابن قدامة (5/ 238) والمجموع للنووي (8/ 77)، والإنصاف (4/ 58)، وفتح الباري (3/ 582).

(5)

أحكام القرآن للجصاص - (1/ 96).

ص: 119

ورد هذا الاستدلال: بأن شعائر الله منها الواجبة، ومنها المندوب إليها.

(1)

3 -

قول عائشة رضي الله عنها: (ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي)

(2)

فيه إشارة إلى أنه واجب، وليس بفرض، لأنها وصفت الحج بدون السعي بالنقصان لا بالفساد، وفوت الواجب هو الذي

يوجب النقصان، أما فوت الركن فيوجب الفساد والبطلان).

(3)

القول الثالث: أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به. ولا يجزئ تاركه غير قضائه بعينه.

- وهذا قول الجمهور، ومنهم: عائشة - وعروة رضي الله عنهم والشافعي - ومالك - وفقهاء الحرمين - وأحمد في رواية المذهب - وإسحاق - وأبي ثور - وداود الظاهري - وغيرهم.

(4)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]. فشعائر الله هي: أعلام دين الله الظاهرة التي تعبد الله بها عباده. وقد أمر الله جلّ وعلا بتعظيم شعائره فقال:: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].

فدل مجموع النصين على أن الصفا والمروة من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره من تقوى القلوب، والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم لا يتم الحج والعمرة إلا به.

(5)

(1)

تفسير ابن جزي (1/ 90).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب أن السعي بين الصفا والمروة ركن (ح 3069 - 9/ 25).

وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب السعي بين الصفا والمروة (ح 3020 - 2/ 173).

(3)

بدائع الصنائع (2/ 317).

(4)

انظر: المغني لابن قدامة (5/ 238) - وتفسير الماوردي (1/ 213) - وتفسير الطبري (2/ 52). -

وفتح الباري (3/ 582). وبداية المجتهد (1/ 644) والتمهيد لابن عبد البر (2/ 97).

(5)

تفسير السعدي (1/ 183).

ص: 120

2 -

حديث حبيبة بنت أبي تجراه

(1)

رضي الله عنها قالت: (دخلت مع نسوة قريش دار آل أبي الحسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه حتى إني لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي).

(2)

فثبت بهذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، وأمر أمته بالسعي بهما لأنه فرض من الله عليهم.

وإذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، فيجب علينا السعي بهما اتباعاً له، وامتثالاً لقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]

ولقوله عليه الصلاة والسلام: " لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".

(3)

والأمر للوجوب، وعليه فالسعي فرض لا يتم الحج والعمرة إلا به.

(1)

حبيبة بنت أبي تجراه: إحدى نساء بني عبد الدار، وهي (العبدرية): يقولون إنهم من الأزد حلفاء بني عبد الدار - صحابية جليلة.

(الطبقات الكبرى لابن سعد - 8/ 180).

(2)

أخرجه الدار قطني في سننه (حـ 85 - 2/ 255) وأحمد في مسنده (6/ 421) والطبراني في المعجم الكبير (حـ 574 - 24/ 226).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب رمي جمرة العقبة (حـ 3124 - 9/ 49)،

وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب في رمي الجمار - (حـ 1970 - 2/ 495).

ص: 121

3 -

إجماع الجمهور على أن الطواف بالبيت لا تجزئ منه فدية ولا بدل، ولا يجزئ تاركه إلا العود لقضائه، وقياساً عليه كان نظيراً له: الطواف بالصفا والمروة، لا تجزئ منه فدية ولا بدل، ولا يجزئ تاركه إلا العود لقضائه، إذ كان كلاهما طوافين أحدهما بالبيت والآخر بالصفا والمروة.

(1)

الترجيح: والقول الصواب هو: أن الطواف بالصفا والمروة فرض واجب، وعلى من تركه ناسياً أو عامداً العود لقضائه لا يجزئه غير ذلك، استناداً لقوة الدليل، واحتياطاً لأمور الدين.

(2)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة:159]

قال أبو جعفر الطحاوي: اللعن في كلام العرب هو الطرد والإبعاد - ومنه قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].

فكان لعنة الله عز وجل إياهم: طردهم عنه، وإبعادهم منه.

عن أبي عبيدة معمر بن المثني: (لعنهم الله) أي: أطردهم الله وأبعدهم، يقال: ذئب لعين، أي: مطرود، قال شَمَّاخ بن ضرار:

ذَعرتُ به القطا ونفيتُ عنه

مقام الذئب كالرجل اللعين.

(3)

(1)

تفسير الطبري (2/ 54).

(2)

انظر: تفسير الطبري (2/ 53)، وتفسير القرطبي (2/ 188) وتفسير ابن كثير (1/ 205).

(3)

مجاز القرآن (1/ 46)، والبيت في ديوان الشماخ (92).

والضمير في (به) يعود إلى (ماء) في البيت الذي قبله وهو: وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين.

وقوله (مقام الذئب كالرجل اللعين) يعني: مقام الذئب الطريد، واللعين: من نعت الذئب، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل.

ويقال: أراد مقام الذئب الذي هو كالرجل اللعين، وهو المنفي، والرجل اللعين لا يزال منتبذاً عن الناس، فشبه الذئب به.

(انظر: تفسير الطبري (2/ 58) - وتهذيب اللغة للأزهري (2/ 396).

وشماخ هو: الشماخ بن معقل بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، جمع بعض

شعره في ديوانه، شهد القادسية، وكانت وفاته في غزوة (موقان) سنة (22 هـ). (الأعلام لزركلي - 3/ 175).

ص: 122

(شرح مشكل الآثار - 9/ 168)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله تعالى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} [البقرة:159] أي: طردهم عنه، وإبعادهم منه.

وما ذكره الإمام الطحاوي في المراد بالآية هو قول: جمهور المفسرين.

قال ابن فارس: (اللام والعين والنون - أصل صحيح، يدل على إبعاد وطرد. وكل من لعنه الله فقد أبعده عن رحمته، واستحق عقوبته).

(1)

وهذه الآية نزلت: في شأن رؤساء اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف، حيث كانوا يخفون عن الناس ما أنزل الله جلّ وعلا في التوارة من بيان للحلال والحرام وبيان لأمر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وبهذا الكتمان للحق استحقوا لعنة الله والخلق أجمعين.

(2)

وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة:178]

قال أبو جعفر الطحاوي: قال الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة:178].

فأعلمنا الله عز وجل أن الذي كتب مما معناه فرض في قتلانا، فأمن عقوبة قاتليهم، هو القصاص بغير ذكر منه في هذه الآية مع ذلك غيره.

(1)

انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 252). وتهذيب اللغة (2/ 396).

(2)

تفسير السمرقندي (1/ 171).

ص: 123

فعلمنا بذلك: أن الواجب على القاتل في قتله الذي قد دخل في هذه الآية هو القصاص لا ما سواه، ثم أعقب عز وجل ذلك بقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].

فعلمنا بذلك: أن الواجب بالعفو المذكور في هذه الآية طارئ على القصاص المذكور وجوبه فيها، ومغير لحق القاتل الذي كان له من القصاص إلى ما سواه مما يتبع من هو عليه بمعروف، ويؤديه إليه بإحسان.

وقد اختلف أهل العلم في ذلك العفو، ما هو؟

فقال أكثرهم، منهم: أبو حنيفة،

(1)

ومالك، والثوري في متبعيهم: إنه أن يعفو الذي له الدم عن الذي هو له عليه على شيء يشترط لنفسه عليه بدلاً من القصاص، فيتبعه به بمعروف، ويؤديه إليه الذي كان عليه القصاص بإحسان، وإن ذلك لا يكون إلا باجتماع الفريقين جميعاً عليه، وإن القاتل لو أبى ذلك لم يجبر عليه، ولم يؤخذ به.

وقال الأوزاعي: إن للذي له الدم أن يأخذ الذي هو له عليه بالدية، شاء ذلك الذي هو له عليه أو أبى.

وقال آخرون سواه: إن لولي الدم أن يأخذ الذي هو عليه بالدية شاء أو أبى، من جهة ذكر أنها توجب له ما قال من ذلك، وهي أنه قال: رأيت الله عز وجل قد أوجب في القتل الخطأ الدية، وأوجب في القتل العمد ما هو أغلظ من الدية وهو القصاص، فإذا وجب على القاتل بالقتل العمد الذي كان منه القصاص، وهو أغلظ من الدية، فاختار الذي له الدم رد الأغلظ الذي وجب له على القاتل بقتله إلى الأيسر الذي كان يجب له لو كان الذي كان منه أيسر من القتل العمد الذي يوجب له القصاص، كان قد نزل عن بعض الواجب له إلى ما دونه، وهو الدية، فاستحق ذلك على الذي عليه القصاص شاء القاتل أو أبى.

(1)

أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه، الإمام الفقيه الكوفي، وكانت وفاته ببغداد سنة (150 هـ)(وفيات الأعيان - 5/ 405).

ص: 124

وقال آخرون: إن العفو من الذي قال له القصاص توجب الدية له على الذي كان له عليه القصاص، شاء ذلك الذي له عليه القصاص أو أبى، وهو القول الذي ذكر المزني

(1)

: أنه الأولى بالشافعي، بعقب حكايته عن الشافعي: أن الدم العمد لا يُملكُ به المال إلا بمشيئة المجنى عليه، إن كان حياً، وبمشيئة الورثة إن كان ميتاً.

لا نعلم في تأويل العفو المذكور في هذه الآية قولاً غير هذه الأقوال التي ذكرنا، فتأملناها لنقف على الأولى منها بتأويل الآية إن شاء الله.

فبدأنا بقول من قال: إن من عفا عن القصاص إلى الدية استحق الدية بذلك، لأن تارك لبعض حقه. طالبُ لبقيته. فوجدنا ما قال من ذلك فاسداً، لأن الله عز وجل أوجب في القتل العمد غير الذي أوجب في القتل الخطأ، ولم يجعل واحداً منهما جزاءً من الآخر، ولما كان ذلك كذلك، عقلنا: أن من نزل عن المجعول له منهما، فقد نزل عن الذي أوجبه الله له إلى غيره، مما لم يوجبه له، فكان معقولاً: أن لا يجب ذلك له إلا برضا من كان له عليه الذي أوجبه الله عز وجل له عليه، ولأنه لو كان بنزوله عن ما أوجبه الله عز وجل له من القصاص يوجب له الدية الواجبة في القتل الخطأ، لوجبت له على من كانت تجب عليه، وهي العاقلة

(2)

،

(1)

المزني هو: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، وهو قليل الرواية، ولكنه كان رأساً في الفقه،

وامتلأت البلاد بـ (مختصره) في الفقه. وصنف كتباً كثيرة منها: (الجامع الكبير) و (الجامع الصغير)، وكانت وفاته سنة (264 هـ).

(سير أعلام النبلاء - 12/ 492).

(2)

العاقلة هي: العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة عاقلة. و (العقل) هو الدية، وأصله: أن القاتل كان

إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل فعقلها - بمعنى ربطها وقيدها - بفناء دار أولياء المقتول ليسلمها إليهم، ويقبضونها منه، وكان أصل الدية من

الإبل، ثم قومت بعد ذلك بالذهب والفضة، والبقر والغنم وغيرها. (النهاية في غريب الحديث - 3/ 278).

ص: 125

وفي إجماعهم على خلاف ذلك، وجوب بطلان هذا القول.

ثم ثنينا بقول من قال: إن العفو يوجب له الدية على القاتل شاء أو أبى، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روي عنه ما قد دفع ذلك مما قد ذكرناه فيما قد تقدم منا في كتابنا هذا في حديث

(1)

ذي النسعة

(2)

من قوله لولي المقتول: (اعف عنه) - يعني قاتل وليه - فأبى، فقال له:(فخذ أرشاً)،

(3)

فعقلنا بذلك: أن عفوه لا أرش معه لو عفا، لأنه قال له لما أباه:(فخذ أرشاً).

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في ذلك عن أبي شريح الخزاعي

(4)

(1)

نص الحديث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء رجل بقاتل وليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: اعف عنه، فأبى، قال: خذ إرشاً،

فأبى، قال: أتقتله؟ فإنك مثله، قال: فخلى سبيله، فرئي يجر نسعته ذاهباً إلى أهله).

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الديات - باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم (حـ 4498 - 4/ 637).

وابن ماجة في سننه - كتاب: الديات - باب: العفو عن القاتل - (حـ 2723 - 2/ 112).

(2)

قوله (النِّسعة): سير يضفر على هيئة الحبل، تشد به الرحال، ويجعل زماماً للبعير وغيره. (لسان العرب - (مادة: نسع - 8/ 352).

(3)

قوله (أرشاً) الأرش: الدية، وأروش: الجنايات والجراحات هي: جائزة لها عما حصل فيها، من النقص، وسمي أرشاً لأنه من أسباب النزاع،

يقال: أرَّشْتُ بين القوم، إذا أوقعت بينهم. (لسان العرب - مادة: أرش -6/ 263).

(4)

أبو شريح هو: أبو شريح الخزاعي الكعبي، اختلفوا في اسمه فقيل: خويلد بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل:

هانئ بن عمرو، أسلم قبل فتح مكة، وكانت وفاته سنة (68 هـ)(أسد الغابة -6/ 164).

ص: 126

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بدم أو بخبل - يعني بالخبل الجراح - فوليه بالخيار بين إحدى ثلاث: بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية، فإن أبى الرابعة، فخذوا على يديه، فإن قبل واحدة منهن، ثم عدا بعد ذلك، فله النار خالداً فيها مخلداً).

(1)

قال أبو جعفر: ففي هذا الحديث: أن ولي المقتول بالخيار بين أن يعفو أو يقتص، أو يأخذ الدية، فكان معقولاً في ذلك أن عفوه لا أخذ دية معه، كما أن أخذه الدية لا عفو معه، ففسد بذلك هذا القول أيضاً.

ثم ثلثنا بما قال الأوزاعي: من إيجابه للولي أخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، بعد وقوفنا على ما في الآية التي تلونا، وهي أن الله عز وجل إنما كتب علينا في قتلانا القصاص لا ما سواه، وكان معقولاً أن لا يتحول الحق الذي جعله الله له إلى ما سواه إلا برضا من يتحول عليه بذلك، ففسد بذلك هذا القول أيضاً.

ولم يبق في هذا الباب غير القول الذي قد ذكرنا فيه عن الطائفة الأولى، وهو القصاص، وأن لا يتحول إلى ما سواه إلا برضا القاتل، ومن له الدم جميعاً بذلك، والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار -12/ 423 - 427)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي مسألة هل يشترط رضى القاتل في الانتقال من القود

(2)

إلى الدية.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الديات - باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم - (حـ 4496 - 4/ 636) -

وابن ماجة في سننه - كتاب: الديات - باب: من قتل نفسه فهو بالخيار بين إحدى ثلاث - (حـ 2654 - 2/ 100).

(2)

(القود) هو: القصاص، وقد اقدت ولي الدم من قاتل وليه، إذا مكنته من قتله، (انظر: منال الطالب لابن الأثير - 231).

ص: 127

وذكر الأقوال في ذلك، مرجحاً القول باشتراط الرضا بدلالة الآية، وهي: أن القصاص هو الواجب في القتل العمد، وأن العفو المذكور في الآية طارئ على القصاص ومغير لحق القاتل الذي كان له من القصاص، فيشترط رضاه في الحكم به عليه. وإليك بيان الأقوال في هذه المسالة، وأدلة كل قول فيها:

الأقوال في مسألة: هل يشترط رضى القاتل في الانتقال من القود إلى الدية:-

القول الأول: لا يشترط رضى القاتل في الانتقال من القود إلى الدية.

- وهذا قول: سعيد بن المسيب - وابن سيرين - وعطاء - ومجاهد - وأبي ثور - وابن المنذر وأحمد - وداود - وإسحاق - والشافعي - وأكثر فقهاء المدينة - وأصحاب مالك.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]. فأوجب الله جلّ وعلا على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم، مطلقاً عن شرط الرضا.

(2)

- ورد هذا الاستدلال: بأن العفو مشروط برضا القاتل إلا أنه تعالى ذكره لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتاً لا محالة، لأن الظاهر من حال كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه، لأنه إذا قُتل لا يبقى له لا النفس ولا المال، أما إذا بذل المال ففيه إحياء النفس.

فلما كان هذا الرضا حاصلاً في الأعم الأغلب، ترك ذكره مع اعتباره.

(3)

2 -

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُؤدى، وإما أن يُقاد).

(4)

(1)

انظر: المغني (11/ 592) - وبداية المجتهد (2/ 712).

(2)

انظر: بدائع الصنائع (6/ 284) - وتفسير أبي حيان (2/ 152).

(3)

تفسير الرازي (5/ 52).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الديات - باب: ولي العمد يرضى بالدية (حـ 4505 - 4/ 645)

والترمذي في سننه - كتاب الديات - باب: ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص (حـ 1409 - 6/ 177).

ص: 128

وما رواه أبو شريح الكعبّي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة: (ألا إنكم معشر خزاعة، قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قُتل له بعد مقالتي قتيل، فأهله بين خيرتين، بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يَقتلوا).

(1)

فظاهر هذه الأحاديث أنه لا يشترط رضى القاتل في الانتقال من القود إلى الدية.

(2)

- ورد هذا الاستدلال: بأن هذه الأحاديث غير موجبة الاستدلال، لاحتمال أن يكون المراد بها:

أن أخذ الدية لا يكون إلا برضى القاتل، وإنما أغفل ذكره لعلم المخاطبين به.

كقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] فلم يذكر الرضا، والمراد: فداء برضى الأسير، فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم المخاطبين عند ذكر المال، بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه، كذلك ما جاء في هذه الأحاديث.

(3)

3 -

أن في أداء الدية صيانة للنفس عن الهلاك، قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال جل ذكره: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29].

فلما كان عليه إحياء نفسه، وجب أن يحكم عليه بذلك إذا اختار الولي الدية.

(4)

- ورد هذا الاستدلال: بأن على كل واحد أن يحي غيره إذا خاف عليه التلف، مثل أن يرى إنساناً يموت من الجوع فعليه إحياؤه بإطعامه وإن كثرت قيمته.

وإذا كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه، فعلى الولي أيضاً إحياؤه إذا أمكنه ذلك.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الديات - باب ولي العهد يرضى بالدية (حـ 4504 - 4/ 643) - والترمذي في سننه - كتاب الديات -

باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص (حـ 1410 - 6/ 177) وقال: حديث حسن صحيح أ هـ ..

(2)

فتح الباري (12/ 214).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 155).

(4)

انظر: بدائع الصنائع (6/ 284) - وبداية المجتهد (2/ 713).

ص: 129

فوجب بناء على هذا الأمر: إجبار الولي على أخذ المال إذا بذله القاتل.

(1)

وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص، الذي أوجبه الله بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] لأنه إذا كان على كل واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود.

وبناء على هذا الأمر - أيضاً -: يلزم القاتل إذا طلب الولي داره وجميع ماله وإن كثر، أن يعطيه إياه، لأنه لا يختلف فيمن يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير، فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة، كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده.

(2)

وعليه فإن غاية ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] غاية ما يدل عليه:

أن يصير القاتل آثماً بالامتناع عن الدية، لا أن يملك الولي أخذها منه بغير رضاه.

(3)

القول الثاني: يشترط رضى القاتل في الانتقال من القود إلى الدية.

- وهذا قول: النخعي - والأوزاعي - والثوري - ومالك - وأبي حنيفة - وأحمد في أحد قوليه.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] فالذي أوجبه الله جل وعلا في هذه الآية هو القصاص، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص، فلا يجوز إلا برضى القاتل.

(4)

2 -

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 156).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 156).

(3)

بدائع الصنائع (6/ 285).

(4)

انظر: المغني (11/ 592)، وتفسير ابن كثير (1/ 216)

ص: 130

وعن عمرو بن يثربي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه)

(1)

فدلت الآية وهذا الحديث على أنه متى لم يرض المسلم بإعطاء المال ولم تطب به نفسه فماله محظور على كل أحد.

(2)

الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لقوة الدليل، وعدم المعارض.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة:180]

قال أبو جعفر الطحاوي: قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] فكان ذلك منه عز وجل قبل أن تفرض المواريث في التركات، ثم فرضها فيها بعد ذلك، فنسخ الوصية للوارث على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)

(3)

، وإن كان ذلك لم يرو إلا من جهة واحدة وهي عن أبي أمامة

(4)

عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. غير أن أهل العلم قد قبلوا ذلك، واحتجوا به، فغني بذلك عن طلب الأسانيد فيه.

(1)

أخرجه الدار قطني في سننه (حـ 90 - 3/ 26) والإمام أحمد في مسنده (3/ 422).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 150).

(3)

أخرجه أبوداود في سننه - كتاب الوصايا - باب ما جاء في الوصية للوارث (حـ 2870 - 3/ 290).

والترمذي في سننه - كتاب: الوصايا - باب: ماجاء لاوصية لوارث. (حـ 2125 - 8/ 275). وقال: حديث حسن صحيح أ. هـ.

(4)

أبي أمامة هو: أبو أمامة صُدَى بن عجلان الباهلي، صحابي جليل سكن مصر ثم حمص ومات بها، وكانت وفاته سنة (81 هـ)

(أسد الغابة- 6/ 16).

ص: 131

(شرح مشكل الآثار - 9/ 264 - 265)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن الأمر بالوصية للوارث في هذه الآية منسوخ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث "

(1)

.

ويبقى حكم الآية في الأمر بالوصية - ثابتاً لمن لا يرث من القرابة.

وإليك أولاً: بيان الأقوال في مسألة: هل الآية منسوخة أم محكمة؟

القول الأول: أن الآية محكمة، ظاهرها: العموم في كل قريب. ومعناها: الخصوص في كل قريب لا يرث

(2)

والمخصص لها حديث: " لا وصية لوارث ".

القول الثاني: أن الآية منسوخة.

ثانياً: الأقوال في المنسوخ من الآية:

1 -

جميع ما في الآية من إيجاب الوصية منسوخ.

- وهذا قول: ابن عباس - وابن عمر - وجابر بن زيد - وسعيد بن جبير - وعكرمه ومجاهد.

2 -

المنسوخ من الآية هو: الوصية لمن يرث.

- وهذا قول: ابن عباس - والضحاك - والحسن - وأبي العالية - وقتادة

(3)

.

ثالثاً: الأقوال في الناسخ للآية:

1 -

الناسخ للآية هو: آية المواريث

(4)

وهي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11]

2 -

الناسخ للآية هو: الحديث الذي رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث

(5)

".

الترجيح: والراجح هو القول بأن الآية محكمة. وبيان ذلك من وجوه:

(1)

تقدم تخريجه. (97)

(2)

تفسير ابن عطية (2/ 68).

(3)

انظر: ناسخ القرآن لابن الجوزي (187) - وتفسير الطبري (2/ 124).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 166)

(5)

تقدم تخريجه -. (97)

ص: 132

I- أن القول بأن الآية منسوخة بآية المواريث مردود بأمور:

1 -

أنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية حتى تكون ناسخة لها.

2 -

ن ظاهر آية الوصية وسياقها ينافي القول بالنسخ، فإن لله تعالى إذا شرع للناس حكماً وفي علمه أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن، فإنه لا يؤكده بمثل ما أكد به أمر الوصية في هذه الآية.

من كون (كُتَب) وكونه: (حقاً على المتقين). وتوعده لمن بدله

(1)

بقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} [البقرة:181]

3 -

ليس في إيجاب الميراث للورثة بآية المواريث ما ينفي جواز الوصية لهم، لإمكان اجتماع الحقان للورثة. بالطريقين، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه، والله تعالى جعل الميراث بعد الوصية بقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] فجعل الإرث بعد الوصية مطلقة من غير فصل بين القريب والبعيد، فما الذي يمنع أن يعطى الوارث نصيبه من الوصية، ثم يعطى الميراث بعدها.

(2)

* - أن القول بأن حديث أبي أمامة ناسخ للآية مردود بأمور:

1 -

أن هذا الحديث المروي عن أبي أمامة حديث آحادي، وخبر الآحاد ظني الثبوت، والظني لا يقوى على نسخ القطعي الذي هو الآية الكريمة.

2 -

أن الحديث ليس على إطلاقه حتى ينسخ الآية، لأن من الفقهاء من أجاز الوصية في حدود الثلث مطلقا

(3)

. كما أنه لا ينفي الوصية للأقربين الذين لا يرثون. فغاية ما في الحديث تخصيص العموم الوارد في الآية.

(4)

وبهذا تبين أن القول الصواب هو: أن الآية محكمة، وأن آية المواريث غير ناسخة لها، بل مؤكدة لحكمها. كما أن الحديث غير ناسخ لها، بل مخصص لعمومها.

وإلى هذا القول ذهب: جمهور المفسرين.

(1)

فتح المنان (272).

(2)

أحكام القرآن للكياالهراسي (1/ 58).

(3)

فتح المنان (271).

(4)

أحكام القرآن للكياالهراسي (1/ 59).

ص: 133

قال الطبري: وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة، بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى.

(1)

وقال مكي بن أبي طالب: فحكم القرآن جار أبداً على ظاهره إلا ما بينته السنة وخصصته أو الإجماع أو القرآن، فلا يقال في شئ خصصته السنة وبينته إنه منسوخ، إنما يقع لنسخ في الحكم الذي زال بكليته

(2)

.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير الطبري (2/ 121).

(2)

الإيضاح لناسخ القرآن (92).

ص: 134

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة:185]

قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا: إنه يكبر في طريق الأضحى، ويجهر في ذهابه إلى المصلى، ولا يكبر يوم الفطر.

وقال مالك، والأوزاعي: يكبر في خروجه إلي المصلى في العيدين جميعاً.

وقال مالك: يكبر في المصلى إلي أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع التكبير، ولا يكبر إذا رجع.

وقال الشافعي: يجب إظهار التكبير ليلة الفطر، وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام، وفي موضوع آخر: حتى يفتتح الإمام الصلاة.

قال أبو جعفر: ومن كبر يوم الفطر تأول فيه قول الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

وروي عن زيد بن أسلم

(1)

: أنه تأول ذلك على تكبير يوم الفطر. وعن ابن عمر

(2)

: (أنه كان يوم الفطر، ويوم الأضحى، يكبر ويرفع بذلك صوته، حتى يخرج إلى المصلى).

(1)

زيد هو: أبو عبد الله زيد بن أسلم العَدَوي العمري المدني، وكانت له حلقة للعلم في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة (136 هـ)

(طبقات المفسرين - 1/ 182).

(2)

ابن عمر هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، صحابي جليل، أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، وهاجر

معه إلى المدينة، وكانت وفاته بمكة سنة (73 هـ)(وفيات الأعيان - 3/ 28).

ص: 135

قال أبو جعفر: ويحتمل قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]: تعظيم الله تعالى: بالأفعال وبالأقوال، كقوله تعالى:{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]

وقد روى شعبة

(1)

مولى ابن عباس

(2)

، قال:(كنت أقود ابن عباس إلى المصلى، فيسمع الناس يكبرون، فيقول ما شأن الناس؟ أكبر الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: أمجانين الناس!).

فأنكر ابن عباس التكبير في الطريق إلى المصلى، وهو يدل على أن المراد عنده هو: التكبير الذي يكبره الإمام في الخطبة، مما يصح أن يكبره الناس معه.

وقد روي عن علي

(3)

: (أنه ركب بغلته يوم الأضحى، فلم يزل يكبر).

وروي عن أبي قتادة

(4)

: (أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى).

قال أبو جعفر: القياس أن يكبر في العيدين جميعاً، لأن صلاة العيدين لا تختلفان في التكبير والخطبة بعدهما وسائر سننهما، كذلك في سنة التكبير في الخروج إليهما.

(1)

شعبة هو: أبو عبد الله شعبة بن دينار الهاشمي المدني، مولى ابن عباس، وكانت وفاته سنة (100 هـ)، (تهذيب الكمال - 3/ 392).

(2)

ابن عباس هو: الصحابي الجليل أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ثلاثة عشرة سنة، وكان قد دعا له

فقال (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)، وكانت وفاته بالطائف سنة (78 هـ)(وفيات الأعيان - 3/ 62).

(3)

علي هو: الصحابي الجليل أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وصهره

على ابنته فاطمة، وأول خليفة من بني هاشم، ورابع الخلفاء الراشدين، وكانت وفاته سنة (40 هـ)(أسد الغابة- 4/ 91).

(4)

أبو قتادة هو: الصحابي الجليل أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلْدَمة الأنصاري الخزرجي، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته بالمدينة سنة

(54 هـ)(أسد الغابة - 6/ 250).

ص: 136

(مختصر اختلاف العلماء - 1/ 376 - 378).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بـ (التكبير) في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] يحتمل ثلاثة أقوال:

1 -

أنه التكبير يوم الفطر.

2 -

أنه التكبير الذي يكبره الإمام في خطبته.

3 -

أنه تعظيم الله تعالى بالأقوال وبالأفعال.

وإليك بيان هذه الأقوال مع بيان القول الراجح منها:

القول الأول: أن المراد بالتكبير في الآية هو: أنه التكبير يوم الفطر.

- وهذا قول: جمهور المفسرين ومنهم: زيد بن أسلم، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، رضي الله عنهم.

قال الطبري: (والتكبير الذي حضهم الله على تعظيمه به: التكبير يوم الفطر)

(1)

. فيكون تكبير الإمام في خطبته داخلاً في ذلك.

قال أبو بكر الجصاص: (التعظيم المذكور في هذه الآية ينبغي أن يكون متعلقاً بإكمال عدة رمضان، وأولى الأشياء به إظهار لفظ التكبير. ثم جائز أن يكون تكبيراً يفعله الإنسان في نفسه عند رؤية هلال شوال، وجائز أن يكون المراد به التكبير المفعول في الخروج الي المصلى، وجائز أن يراد به تكبيرات صلاة العيد. وجائز أن يراد به التكبير الذي يكبره الإمام في خطبته.

وكل ذلك يحتمله اللفظ ولا دلالة فيه على بعض دون بعض. فأيها فعل المؤمن فقد قضى عهدة الآية وفعل مقتضاها)

(2)

.

القول الثاني: أن المراد بالتكبير في الآية هو: تعظيم الله تعالى في كل وقت وحين اعتقاداً وقولاً وعملاً

(3)

.

فلا يختص هذا الثناء والتعظيم بلفظ "التكبير"، بل يعظم الله تعالى ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم

(4)

.

(1)

انظر: تفسير الطبري (2/ 164) وتفسير السمعاني (1/ 185).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 225).

(3)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 225) وتفسير السمرقندي (1/ 185).

(4)

تفسير أبي حيان (3/ 203).

ص: 137

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بالتكبير في الآية هو: التكبير يوم الفطر، وذلك بدلالة سياق الآية: فإن الآية واردة في صيام شهر رمضان

(1)

.

وأما القول بأن المراد بالتكبير في الآية هو: التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة.

فالجواب عليه: أن هذا التعظيم لله تعالى واجب في جميع الأوقات، ومع كل الطاعات، فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات ومع جميع الطاعات.

(2)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة:187]

قال أبو جعفر الطحاوي: قوله عز وجل: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فعمم المساجد كلها بذلك.

(1)

تفسير الطبري (2/ 164).

(2)

تفسير الرازي (5/ 93).

ص: 138

وكان المسلمون عليه من الاعتكاف في مساجد بلدانهم، أما مساجد الجماعات التي تقام فيها الجمعات، وإما هي وما سواها من المساجد التي لها الأئمة والمؤذنون على ما قاله أهل العلم في ذلك. والله عز وجل نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 7/ 205).

الدراسة

استدل الإمام الطحاوي بقوله عز وجل: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] على جواز الاعتكاف في سائر المساجد أخذاً بظاهر الآية وعمومها.

وإليك بيان الأقوال في حكم الإعتكاف في سائر المساجد:

القول الأول: أن الاعتكاف جائز في كل مسجد.

- وهذا قول: سعيد بن جبير - وأبي قلابة - وإبراهيم النخعي - والثوري.

وهو قول: أبي حنيفة - والشافعي- وأحمد - وأحد قولي مالك.

- ودليل هذا القول: عموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فعمم المساجد كلها

(1)

.

القول الثاني: أن الاعتكاف لا يجوز إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة.

- وهذا قول: علي بن أبي طالب - وابن مسعود - وعروة بن الزبير رضي الله عنهم، والزهري وهو أحد قولي مالك.

- ودليل هذا القول: أن الإشارة في الآية ترجع إلى المساجد التي تقام فيها الجمعة دون غيرها.

ولكي لا يضطر المعتكف للخروج من معتكفه لحضور الجمعة في مسجد آخر

(2)

.

القول الثالث: أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة.

- وقد روي هذا القول عن: حذيفة بن اليمان - وسعيد بن المسيب - وعطاء.

- ودليل هذا القول:

1 -

ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي عليه صلى الله عليه وسلم يقول:

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص- (1/ 243). وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 95).

(2)

انظر: تفسير القرطبي (2/ 332) - والتمهيد لابن عبد البر (8/ 325).

ص: 139

" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا "

(1)

وما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام "

(2)

.

فهذا يدل على اعتبار اختصاص هذه المساجد الثلاثة بالفضيلة دون غيرها.

(3)

2 -

ما روي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس .. "

(4)

.

فدل هذا الحديث على أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة.

الترجيح: والراجح هو القول بأن الاعتكاف جائز في سائر المساجد.

وذلك لأن ظاهر قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ.

ومن خصصها بالمساجد التي تقام فيها الجمعة، لا دليل على ما ذهب إليه.

كما أن صلاة الجمعة تجوز في سائر المساجد فكذلك يجوز الاعتكاف فيها.

ومن خصصها بالمساجد الثلاثة، فإن ما استدل به مما رواه حذيفة بن اليمان، حديث مُتكلم في سنده ومتنه، والصحيح فيه: أنه موقوف على حذيفة بن اليمان.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التطوع - باب مسجد بيت المقدس - (حـ 1139 - 1/ 400).

ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (حـ 3248 - 9/ 107)

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التطوع - باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. (حـ 1133 - 1/ 398) -

ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة. (حـ 3361 - 9/ 165).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 242).

(4)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب الصيام - باب الاعتكاف في المسجد (حـ 7 - 4/ 316).

والطبراني في المعجم الكبير - (حـ 9511 - 9/ 302).

ص: 140

أما تخصيصه صلى الله عليه وسلم هذه المساجد الثلاثة بالذكر، فهو دليل على تفضيلها على سائر المساجد، وليس فيه دلالة على نفي الاعتكاف في غيرها، كما لا دلالة فيه على نفي جواز الجمعات والجماعات في غيرها، فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على التخصيص.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، قال جلست مع أبي هريرة، فسأله رجل عن الصائم إذا أصبح وهو جنب، فقال له أبو هريرة: فلا صيام له، فقال أبو بكر قد ذكرت ذلك لأبي عبد الرحمن بن الحارث، فذكر ذلك أبي لمروان بن الحكم

(2)

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 243).

(2)

مروان هو: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي، ويكنى أبا القاسم، وأبا الحكم، من كبار التابعين، وكانت وفاته سنة

(65 هـ)(سير أعلام النبلاء - 3/ 476).

ص: 141

- وهو أمير المدينة -، فقال له مروان: لتأتين عائشة وأم سلمة زوجي. النبي صلى الله عليه وسلم، فلتسألهما عن هذا من أمر رسول الله عليه السلام، فإنه لا أحد أعلم بهذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، قال: فخرج أبي، وخرجت معه حتى دخلنا على أم سلمة، فسألها عن ذلك، فقالت: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح وهو جنب من نكاح غير احتلام، ثم يصوم، قال: ثم خرجنا من عندها، فجلسنا على باب عائشة، فبعث إليها أبي، ذكوان

(1)

(1)

ذكوان هو: أبو عمرو ذكوان المدني، مولى عائشة، قال فيه العجلي: مدني تابعي ثقة، وكانت وفاته بالحرة سنة (63 هـ)

(تهذيب الكمال - 2/ 441).

ص: 142

مولاها، فسألها عن ذلك، فجاءه ذكوان، فقال: تقول لك: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح وهو جنب من نكاح غير احتلام، ثم يصوم، قال: فرجع أبي إلى مروان، فذكر ذلك له، فقال: إني عزمت عليك لتأتين أبا هريرة حتى تخبره بهذا، قال: فقال له أبي: يغفر الله لك أيها الأمير، بلغتك حديثاً عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فتجيئه، حتى إذا وجدت خلافه، أمرتني أن أُعِّرفه به، قال: فقال له مروان: عزمت عليك لتفعلن، فخرج مروان حاجاً أو معتمراً، فخرجنا معه، حتى إذا كنا بذي الحليفة

(1)

- ولأبي هريرة بها أرض هو فيها - قمنا إليه وأنا مع أبي، فقال له أبي: يا أبا هريرة، إني أخبرت الأمير أنك قلت: من أدرك الفجر وهو جنب، فلا صيام له، فأمرني أن أسأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففعلت، فحدثتني أم سلمة وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح وهو جنب من نكاح غير احتلام، ثم يصوم، قال: فقال أبو هريرة: لا أدري، أخبرني بذلك الفضل بن عباس

(2)

.. عن النبي عليه السلام.

(3)

ففيما روينا من هذه الآثار ما ذكره أبو هريرة فيها عن الفضل بن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعه من الصوم من أصبح جنباً، وفيها إخبار عائشة وأم سلمة مما يخالف ذلك في منعه.

(1)

ذي الحُلَيْفة هي: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، ومنها ميقات أهل المدينة. (معجم البلدان - 2/ 295).

(2)

الفضل هو: أبو عبد الله الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة (13 هـ).

(أسد الغابة - 4/ 366).

(3)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب الصيام - باب: ذكر خبر روي في الزجر عن الصوم إذا أدرك الجنب الصبح قبل أن يغتسل

(حـ 201 - 3/ 250). والبيهقي في سننه - كتاب الصيام - باب: من أصبح جنباً في شهر رمضان. (حـ 7 - 4/ 214).

ص: 143

فقال قائل: من أين اتسع لكم أن تميلوا في هذه إلى ما روته عائشة وأم سلمة عن النبي عليه السلام، وتتركوا ما رواه أبو هريرة، عن الفضل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يخالفه دون أن تصححوهما جميعاً، فتجعلون حديث عائشة وأم سلمة عنه عليه السلام إخباراً منهما عن حكمه، كان في ذلك في نفسه، وتجعلون حيث الفضل عنه في حكم غيره من أمته، حتى لا يضاد واحد من هذين المعنيين المعنى الآخر منهما.

فكان جوابنا له في ذلك: أنا قد وجدنا عنه ما قد دل على أن حكمه في نفسه، كان في ذلك، كحكم سائر أمته فيه، وذلك: عن عائشة أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب، وأنا أسمع: يا رسول الله، إني أصبح جنباً وأنا أريد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأنا أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم " فقال الرجل: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:(والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى، وأعلمكم بما أتقي)

(1)

ولما وقفنا بذلك على استواء حكمه وحكم سائر أمته في ذلك، عقلنا أن ذينك المعنيين قد كانا حكمين لله تعالى، نسخ أحدهما الآخر، وكان ما في حديث الفضل منهما التغليظ، وما في حديث عائشة وأم سلمة التخفيف.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الصيام - باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (حـ 2588 - 7/ 223).

وأبو داود في سننه - كتاب: الصوم - باب: فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان (حـ 2389 - 2/ 782).

ص: 144

وقد ذكرنا فيما تقدم منا في كتابنا هذا أن النسخ بلا معصية لله تعالى رحمة من الله، ورد التغليظ إلى التخفيف، ولم يكن بحمد الله في شيء مما كان من أجله هذا النسخ معصية يكون معها التغليظ، فجعلنا النسخ في هذا الحكم كان من التغليظ إلى التخفيف، وكان في ذلك وجوب استعمال ما جاء في حديث عائشة وأم سلمة دون ما في حديث الفضل، مع أنا قد وجدنا كتاب الله قد أوجب ذلك، وهو قول الله تعالى فيه:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وكان في ذلك ما قد دل على إباحة إتيان النساء في الليل إلى طلوع الفجر، ولا يكون الاغتسال الذي يوجبه ذلك الإتيان إلا في النهار، وفي ذلك ما يبيح الصوم مع الجنابة، وفيه موافقة ما في حديث عائشة وأم سلمة عن رسول الله عليه السلام فيه.

(شرح مشكل الآثار - 2/ 14 - 18)

الدراسة

استدل الإمام الطحاوي بهذه الآية على: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.

وما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال في هذه المسألة.

وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة، مع بيان القول الراجح منها:

الأقوال في حكم صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب:

القول الأول: أن من طلع عليه الفجر وهو جنب: فصومه صحيح.

- وهذا قول: عامة أهل العلم - ومنهم: علي بن أبي طالب - وابن عباس - وابن مسعود - وابن عمر - وأبو الدرداء - وأبوذر - وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم.

وبه قال: أبو حنيفة - ومالك - والشافعي - والثوري - والأوزاعي - وأبو عبيدة - وغيرهم.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] الآية.

(1)

المغني لابن قدامة (4/ 391).

ص: 145

ففي هذه الآية الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لم فيها من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم بأن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر فإنه يصبح جنباً ولا يتأتى له الغسل إلا بعد الفجر، ومع ذلك حكم بصحة صومه بقوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]

(1)

.

2 -

حديث يعلى بن عقبة قال: أصبحت جنباً وأنا أريد الصوم، فأتيت أبا هريرة فسألته، فقال لي: أفطر، فأتيت مروان فسألته، وأخبرته بقول أبي هريرة فبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى عائشة، فسألها، فقالت: كان النبي عليه السلام يخرج لصلاة الفجر ورأسه يقطر من جماع، ثم يصوم ذلك اليوم، فرجع إلى مروان، فأخبره، فقال: ائت أبا هريرة، فأخبره، فأتاه، فقال: إني لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما حدثنيه الفضل، عن النبي عليه السلام ".

(2)

فدل هذا الحديث على: أن من طلع عليه الفجر وهو جنب: فإن صومه صحيح.

3 -

أن الغسل شيء يجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنهار فيجب الغسل ولا يحرم عليه، بل يتم صومه إجماعاً، فكذلك إذا احتلم ليلاً، بل هو من باب أولى.

(3)

القول الثاني: أن من طلع عليه الفجر وهو جنب: فلا صوم له.

- وهذا قول: أبي هريرة - والحسن بن صالح.

وكان أبو هريرة يروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع عنه.

(4)

- ومن أدلة هذا القول:-

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 232).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصوم - باب الصائم يصبح جنباً (حـ 1825 - 2/ 679).

ومسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (حـ 2584 - 7/ 220)

(3)

فتح الباري (4/ 175).

(4)

تفسير الرازي (5/ 110).

ص: 146

استدل أصحاب هذا القول بالحديث المتقدم - حديث يعلي بن عقبة - من جهة أن ما ذكرته عائشة رضي الله عنها هو مما أختص به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكره أبو هريرة فهو حكم غيره من أمته.

(1)

- وقد رد هذا الاستدلال من وجوه:

1 -

أن حمل قول عائشة رضي الله عنها على الخصوصية لا يصح، وذلك لأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. بل ورد صريحاً ما يدل على عدم الخصوصية

(2)

، وهو:

ما ورد عن أبي يونس مولى عائشة عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب، وأنا أسمع: يا رسول الله، إني أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأنا أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم " فقال الرجل: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى، وأعلمكم بما أتقي ".

(3)

فدل هذا الحديث على: أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك كحكم سائر أمته فيه

(4)

.

2 -

أن قول أبي هريرة رضي الله عنه يحمل على أحد الأمور التالية:

أ - يحمل على من أدركه الفجر مجامعاً وبقي على ذلك بعد طلوع الفجر عالماً بذلك.

(1)

شرح مشكل الآثار (2/ 17).

(2)

فتح الباري (4/ 175).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (حـ 2588 - 7/ 223).

وأبو داود في سننه - كتاب الصوم - باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان (حـ 2389 - 2/ 287).

(4)

شرح مشكل الآثار، (2/ 17).

ص: 147

ب - يحمل على أنه قول منسوخ بالآية، وبقول عائشة رضي الله عنها، وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع والأكل والشراب محرماً في الليل بعد النوم، ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة، فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه.

(1)

وإلى دعوى النسخ، ذهب: ابن المنذر - والخطابي - وابن دقيق العيد - وابن حجر - وغيرهم.

(2)

.

ورد هذا الاحتمال: بأن من ادعى النسخ لا تاريخ معه يثبت صحة ذلك.

(3)

ج - يحمل على أنه إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر. فلو خالف ذلك جاز، ولذلك فعله الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز.

(4)

وهذا الاحتمال هو الأقرب، جمعاً بين الأقوال.

وحديث عائشة أولى بالاعتماد، لأنها أعلم بمثل هذا من غيرها، ولأن قولها هو الموافق لظاهر القرآن.

القول الثالث: أن من طلع عليه الفجر وهو جنب، وكان عالماً بجنابته: فلا صوم له.

- وهذا قول: عروة بن الزبير - وعطاء - وطاووس - والنخعي.

(5)

القول الرابع: أن من طلع عليه الفجر وهو جنب: فإنه يتم صومه ويقضي.

- وهذا قول: الحسن البصري - وسالم بن عبد الله.

(6)

الترجيح: والراجح هو القول بصحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، لظاهر الأدلة المتقدمة. وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المسألة. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة:195]

(1)

شرح صحيح مسلم للنووي (07/ 221) ..

(2)

فتح الباري (4/ 175).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 229).

(4)

شرح صحيح مسلم للنووي (4/ 221).

(5)

انظر: تفسير القرطبي (2/ 325) - وشرح صحيح مسلم للنووي (4/ 222).

(6)

المغني لابن قدامة (4/ 392).

ص: 148

قال أبو جعفر الطحاوي: عن أسلم أبو عمران

(1)

، قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر

(2)

، وعلى أهل الشام رجل، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم، حتى دخل فيه، ثم خرج إلينا، فصاح الناس إليه: سبحان الله، ألقى بيده الي التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري

(3)

،

(1)

أسلم هو: أبو عمران أسلم بن يزيد التُّجيبي المصري، قال فيه النسائي: ثقة، روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي.

(تهذيب الكمال - 1/ 210).

(2)

عقبة بن عامر هو: الصحابي الجليل عقبة بن عامر الجهني المصري، كان عالماً مقرئاً فصيحاً فقيهاً فرضياً شاعراً كبير الشأن، ولي إمرة

مصر، وكانت وفاته بالمقطم سنة (58 هـ). (سير أعلام النبلاء -2/ 467).

(3)

أبو أيوب هو: أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الخزرجي النجاري، شهد سائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته

بالقسطنطينية سنة (51 هـ)(أسد الغابة -6/ 25).

ص: 149

صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، إنما أنزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا لبعضنا بعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها، وأصلحنا منها ما قد ضاع، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما قد هممنا به، فقال:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها، فأمرنا بالغزو، فما زال أبو أيوب غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله تعالى.

(1)

ففي هذا الحديث أن التهلكة المذكورة في هذه الآية هي التهلكة في الدين

وكان معنى ذلك: أن من بلغت حاله من ترك الغزو الامتناع من النفقة في سبيل الله، كما قد كانت الأنصار عليه، ثم همت بخلافه، هلاك.

ومثله ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم "

(2)

.

وكان ذلك على الهلاك في الدين لا فيما سواه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ] البقرة:195] (حـ 251 - 3/ 27)

والترمذي في سننه - كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة البقرة (حـ 2978 - 11/ 95) وقال: هذا حديث حسن

صحيح غريب - أ هـ.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب البر والصلة - باب النهي من قول: هلك الناس - (حـ 6626 - 16/ 391).

وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب (حـ 4983 - 5/ 260).

ص: 150

ثم نظرنا فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بهذه الآية عندهم مما لم يذكروا فيه أن نزولها كان فيه، كما ذكره أبو أيوب في حديثه الذي ذكرناه عنه.

فوجدنا عن قيس

(1)

، قال: قال رجل لعمر - وقُتل خاله -: يا أمير المؤمنين، إن قوماً يزعمون أن خالي ممن ألقى بيده إلى التهلكة، قال: بل هو من الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

قال أبو جعفر: ولم يذكر في هذا الحديث السبب الذي قيل لخاله من أجله ما قيل، غير أنا قد أحطنا علماً أنه من أسباب القتال في سبيل الله.

ووجدنا عن أبي إسحاق

(2)

: أن رجلاً قال للبراء

(3)

: أحمل على الكتيبة في ألف بالسيف من التهلكة؟ قال: لا، إنما التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، ثم يلقي بيديه، يقول: لا يغفر لي

وعن ابن عباس: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ] البقرة:195] قال: أنفقوا في سبيل الله، ولا تمسكوا النفقة في سبيل الله، فتهلكوا

قال أبو جعفر: يريد أنه ينفق في سبيل الله من قليل المال كما ينفق من كثيره، على التحذير منه إياه أن يترك ذلك، فيدخل في الوعيد الذي قد ذكرنا

وقال حذيفة

(4)

(1)

قيس هو: قيس بن أبي حازم حصين بن عوف، أدرك الجاهلية وهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ليبايعه، فقبض وهو في الطريق سنة (98 هـ)

(تهذيب التهذيب-3/ 444).

(2)

أبو إسحاق هو: عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد السبيعي الهمداني الكوفي، وكان من جلة التابعين، وكانت وفاته سنة (127 هـ)

(سير أعلام النبلاء-5/ 392).

(3)

البراء هو: البراء بن عازب بن الحارث أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني، نزيل الكوفة، من أعيان الصحابة، وكانت وفاته سنة (72 هـ)

(سير أعلام النبلاء-3/ 194).

(4)

حذيفة هو: حذيفة بن اليمان حسل بن جابر العبسي اليماني، أبو عبد الله، حليف الأنصار، ومن أعيان المهاجرين، وكانت وفاته بالمدائن سنة

(36 هـ)(سير أعلام النبلاء-2/ 361).

ص: 151

في تأويل هذه الآية: (في النفقة)

وعن ابن عباس، في قوله عز وجل:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] قال: (لا يقولن أحدكم: إني هالك، لا أجد شيئاً، إن لم يجد إلا مِشْقصِاً

(1)

فليجاهد به في سبيل الله عز وجل.

فكل هؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار يخبرون: أن التهلكة المذكورة في الآية التي تلونا ليست في لقاء العدو بالقتال الذي ليس مع من لقيهم من الطاعة ما لا يؤمن عليه منهم قتلهم إياه، وأنه في فعله ذلك غير مذموم فيه.

فقال قائل: كيف تقبلون هذا، وقد رويتم في تأويل هذه الآية خلافه؟

فذكر عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري

(2)

، أخبره: أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده يستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلىعمرو بن العاص

(3)

، وهو على جند من الأجناد، فأرسل إليه عمرو، فرده، وقال له عمرو: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].

(1)

قوله (إلا مشقصاً): المِشقص بكسر الميم هو: السهم، والمشقص أيضاً هو: نصل من نصال السهام طويل، (انظر: منال الطالب لابن الأثير -

(452)

وغريب الحديث لأبي إسحاق الحربي (1/ 96).

(2)

عبد الرحمن بن الأسود هو: أبو محمد عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب القرشي الزُهري المدني، من كبار التابعين، (تهذيب

الكمال -4/ 370).

(3)

عمرو بن العاص هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي، وكانت وفاته بمصر سنة (43 هـ).

(أسد الغابة - 4/ 244)

ص: 152

قال: فهذا عمرو بن العاص قد جعل لقاء العدو بمثل ما طلب ذلك الرجل لقاءهم عليه من التهلكة.

وكان جوابنا له في ذلك: أن هذا الذي كان من عمرو ليس فيه إخبار عن السبب الذي فيه نزلت الآية، وحديث أبي أيوب فيه الإخبار عن السبب الذي فيه نزلت، وفي خبر أبي أيوب التوقيف على السبب الذي فيه نزلت، وهم فلم يعلموا نزولها، ولا السبب الذي أريد بنزولها فيه، إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوته إياها عليهم، وبإخباره إياهم السبب الذي نزلت فيه.

وعمرو بن العاص قد يحتمل أن يكون ما قاله مما في حديثه الذي رويناه عنه كان ما تأولها عليه مما هو له واسع، إذ كانت محتملة لما تأولها عليه، ولو وقف على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يخالف ذلك لتمسك به، ولرد تأويله إليه، ولم يقل في تأوليها خلافه، والذي يكون ممن يطلب في قتال العدو، وتأول في حديث عمرو هذا مما يطلب به النكاية في العدو، وصاحبه محمود عليه، والله أعلم، الذي أراده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الذي رويناه عنه في هذا الباب، حتى تلا من أجله الآية التي تلاها، وهي:{الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء:74]، وهي أجل المراتب وأعلاها.

وقد كان من جعفر بن أبي طالب

(1)

يوم مؤتة مثل ذلك.

(1)

جعفر هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله جعفر بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخو علي بن

أبي طالب لأبويه، وكان أشبه الناس برسوله الله صلى الله عليه وسلم خُلقاً وخَلقاً، وكانت وفاته في غزوة مؤتة سنة (8 هـ)(أسد الغابة - 1/ 341).

ص: 153

كما عن يحي بن عباد بن عبد الله بن الزبير

(1)

، عن أبيه، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة، قال: شهد مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم، فرأيت جعفراً حين لاحمه القتال، اقتحم على فرس له شقراء، ثم عقرها، وقاتل القوم حتى قتل، فكان أول رجل عَقَر في سبيل الله يومئذ.

قال أبو جعفر: وذلك كان منه بحضرة من بقي من الأمراء الذين كانوا معه، وهو بحضرة عبد الله بن رواحة

(2)

، وبحضرة من خلفه في القتال، وهو خالد بن الوليد

(3)

الذي حمده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماه لذلك: سيف الله، وبحضرة من كان سواهما من المسلمين ذلك منه، ولم ينكروه عليه.

ومما نحيط علماً به: أنه قد تناهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله، فلم ينكره عليه، ولم ينه المسلمين عن مثله، فدل ذلك على أن هذا الفعل من أجلّ الأفعال، وأن الثواب عليه من أعظم الثواب من الله عز وجل، وأن تأويل الآية التي تلوناها كما رويناه، عن أبي أيوب في تأويلها لا كما سواه مما يخالف ذلك. والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 12/ 99 - 108)

(1)

يحي هو: يحي بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي المدني، مات وهو ابن ست وثلاثين سنة، (تهذيب الكمال - 8/ 54).

(2)

عبد الله بن رواحة هو: أبو محمد عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا

الفتح وما بعده، وكانت وفاته في غزوة مؤتة سنة (8 هـ)(أسد الغابة - 3/ 234).

(3)

خالد بن الوليد هو: أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله القرشي المخزومي، وكانت وفاته بحمص أو بالمدينة سنة (21 هـ)

(أسد الغابة- 2/ 109).

ص: 154

بين الإمام الطحاوي الأقوال الواردة في المراد (بالتهلكة) في الآية، مرجحاً أن المراد بها: ترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والركون إلى الدنيا، اعتماداً على ما روي عن أبي أيوب الأنصاري في سبب نزول الآية.

وإليك بيان الأقوال في المراد (بالتهلكة) في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]:-

- القول الأول: أن المراد بالتهلكة: ترك النفقة في سبيل الله.

- فعن أبي جبيرة بن الضحاك رضي الله عنه قال: كان الأنصار يتصدقون ويعطون ما شاء الله، فأصابتهم سنة،

(1)

فأمسكوا فأنزل الله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].

(2)

- وهذا قول: ابن عباس - وحذيفة بن اليمان - والحسن - ومقاتل - وعطاء - وعكرمة ومجاهد - والضحاك - وجمهور الناس.

(3)

- القول الثاني: أن المراد بالتهلكة: ترك الجهاد في سبيل الله.، والركون إلى الدنيا.

(1)

قوله: (فأصابتهم سنة): أي أصابهم قحط وجدب. (انظر: منال الطالب لابن الأثير (114) - وغريب الحديث لأبي إسحاق الحربي (3/ 969).

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (حـ 970 - 22/ 390).

(3)

انظر: تفسير الطبري (2/ 206) وتفسير ابن عطية (2/ 107).

ص: 155

الدراسة

- فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا بيننا معشر الأنصار، خَفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله الخبر من السماء: {أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد)

(1)

- وهذا قول: أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

- القول الثالث: أن المراد بالتهلكة: ترك التوبة من المعاصي.

- فعن البراء بن عازب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].

قال: هو الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفر الله له.

(3)

- وهذا قول: البراء بن عازب - والنعمان بن بشير - وعبيدة السلماني - ومحمد بن سيرين.

(4)

- القول الرابع: أن المراد بالتهلكة: الخروج في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . (حـ 2512 - 3/ 27). -

والترمذي في سننه -كتاب: تفسير القرآن -باب ومن سورة البقرة (حـ 2978 - 11/ 95)، وقال: حديث حسن صحيح غريب أهـ.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1/ 210) وتفسير السمرقندي (1/ 190).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين - كتاب التفسير - تفسير سورة البقرة (حـ 3089 - 2/ 302) وقال: هذا حديث صحيح على

شرط الشيخين أهـ. وأخرجه الطبري في تفسيره - سورة البقرة - الآية (195)(حـ 3175 - 2/ 209) - وصححه الهيثمي في مجمع

الزوائد (6/ 317) وابن حجر في فتح الباري (8/ 185).

(4)

انظر: تفسير السمعاني (1/ 194) وتفسير البغوي (1/ 217).

ص: 156

- فعن زيد بن أسلم رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]

قال: (إذا لم يكن عندك ما تنفق، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة، فتلقي بيديك إلى التهلكة).

- وهذا قول: زيد بن أسلم.

(1)

- القول الخامس: أن المراد بالتهلكة: التقحم في القتال من غير نكاية في العدو.

- فعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن عبد الرحمن بن الاسود الزهري، أخبره: أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده يستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، وهو على جند من الأجناد، فأرسل إليه عمرو، فرده، وقال له عمرو: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].

(2)

- وهذا قول: عمرو بن العاص - وأبي القاسم البلخي.

(3)

الترجيح: والقول الراجح هو: أن جميع الأقوال المتقدمة يصح إرادتها بالآية. لأن وقوع الفعل (تلقوا) في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد إلى التهلكة. كما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الوارد في الآية.

(4)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تفسير الطبري (2/ 208).

(2)

أورده السيوطي في الدر المنثور (1/ 501).

(3)

انظر: تفسير الماوردي (1/ 253) - وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 116).

(4)

انظر: تفسير الطبري (2/ 211) - وتفسير ابن عاشور (2/ 215).

ص: 157

قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} [البقرة:196].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن سالم بن عبد الله

(1)

أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج)

(2)

(1)

سالم هو: أبو عمرو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أحد فقهاء المدينة، من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم، وكانت وفاته سنة

(106 هـ)(وفيات الأعيان 2/ 349).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الحج - باب: من ساق البدن معه. (حـ 1606 - 2/ 607) ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب:

وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله (حـ 2972 - 8/ 434).

ص: 158

فقال قائل: ممن كره القران والتمتع، لمن استحبهما: اعتللتم علينا بقول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. في إباحة المتعة، وليس ذلك كذلك. وإنما تأويل هذه الآية، ما روي عن عبد الله بن الزبير.

(1)

عن إسحاق بن سويد،

(2)

قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول: (يا أيها الناس، ألا إنه والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج الرجل حاجاً، فيحبسه عدو، أو مرض، أو أمر يعذر به، حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف به سبعاً، ويسعى بين الصفا والمروة، ويتمتع بحله إلى العام المقبل، فيحج ويهدي).

قالوا: فهذا تأويل هذه الآية.

قيل لهم: لئن وجب أن يكون تأويلها كذلك لقول ابن الزبير، فإن تأوليها أحرى أن لا يكون كذلك، لما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه من بعده، مثل عمر، وعلي رضي الله عنهما، ومن ذكرنا معهما فيما تقدم من هذا الباب ..

(1)

عبد الله بن الزبير هو: أبو خبيب عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين بعد الهجرة، وكانت وفاته

سنة (73 هـ)(وفيات الأعيان -3/ 71).

(2)

إسحاق هو: إسحاق بن وسويد بن هُبيرة العدوي التميمي، قال ابن معين وغيره: ثقة، وكانت وفاته سنة (131 هـ). (تهذيب الكمال -1/ 188).

ص: 159

قال أبو جعفر: فهذا من ذكرنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صرف تأويل قول الله عز وجل:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] إلى خلاف ما صرف إليه عبد الله بن الزبير، وهو أصح التأويلين عندنا، والله أعلم، لأن في الآية ما يدل على فساد تأويل ابن الزبير، لأن الله عز وجل قال:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] والصيام في الحج، لا يكون بعد فوت الحج، ولكنه قبل فوته.

ثم قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] فكان الله عز وجل إنما جعل المتعة، وأوجب فيها ما أوجب على من فعلها إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

وقد أجمعت الأمة أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام، أو غير حاضري المسجد، ففاته الحج، أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء، وأن حاله بحضور أهله المسجد الحرام، لا يخالف حاله ببعدهم عن المسجد الحرام.

فثبت بذلك أن المتعة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية، هي التي يفترق فيها من كان أهله بحضرة المسجد الحرام، ومن كان أهله بغير حضرة المسجد الحرام، وذلك في التمتع بالعمرة إلى الحج التي كرهها مخالفنا.

(شرح معاني الآثار - 2/ 142 - 157).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال الواردة في المراد بالتمتع في الآية، ورجح أن المراد بالتمتع هو: تمتع من خلي سبيله، دون تمتع المحصر، وذلك بدلالة الآية والسنة.

وإليك بيان الأقوال في المراد (بالتمتع) في الآية:

- القول الأول: أن الآية فيمن خلي سبيله.

ص: 160

وصفة هذا التمتع: أن يهل الحاج بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، وذلك إذا كان مسكنه خارجاً عن الحرم، ثم يأتي حتى يصل البيت، فيطوف لعمرته، ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها، ثم يحل بمكة، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه، وفي تلك الأشهر بعينها، من غير أن ينصرف إلى بلده.

- وهذا قول: الجمهور، وقد رجحه الإمام الطحاوي.

- ودليل هذا القول: قوله جل وعلا في الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196]. فثبت بذلك أن المتعة التي ذكرها الله في هذه الآية هي التي يفترق فيها من كان أهله بحضرة المسجد الحرام، ومن كان أهله بغير حضرة المسجد الحرام، وهي المتعة الواردة في حق من خلي سبيله، لأن الأمة قد أجمعت على أن من فاته الحج بالإحصار، أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء، وأن حاله لا يختلف سواء كان أهله بحضرة المسجد الحرام أو بغير حضرة المسجد الحرام.

- القول الثاني: أن الآية في المحصورين.

وصفة هذا التمتع: أن يحصر الحاج حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت ويحل بعمرة، ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل، ثم يحج ويهدي.

- وهذا قول: عبد الله بن الزبير - وابن مسعود - وإبراهيم النخعي - وسعيد بن جبير، وقد رجحه الإمام الطبري.

(1)

- ودليل هذا القول: قوله جل وعلا في هذه الآية: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]: فثبت بذلك أن التمتع المذكور في هذه الآية هو تمتع المحصر، لأن الآية جاءت في مخاطبة المحصر دون غيره.

- القول الثالث: أن الآية في المحصر، وغيره ممن خلي سبيله.

- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه وإليه ذهب: الإمام أبو جعفر النحاس - وأبو حيان الأندلسي.

(1)

انظر: بداية المجتهد (1/ 624) وتفسير ابن عطية (2/ 114) ومعاني القرآن للنحاس (1/ 123) وتفسير الطبري (2/ 255).

ص: 161

الترجيح: والراجح هو القول الثالث، بدلالة قول جل وعلا في هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196]. فهذا الحكم الوارد في الآية ثابت للمحصر وغيره، فكذلك ينبغي أن يكون التمتع المذكور في الآية ثابت للمحصر وغيره.

وبدلالة قول الله جل وعلا في هذه الآية: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]: فالمراد بالآية: أي: إذا كنتم في حال أمن وسعة من أول الأمر، أو كان حاصلاً لكم بعد الإحصار، فتمتعوا بالعمرة إلى الحج.

فظاهر الآية دال على أنها عامة في المحصر وغيره، فوجب حمل الآية علىلقول بالعموم، لعدم المانع من ذلك، وثبوت حكم التمتع للمحصر وغيره.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة:197]

قال أبو جعفر الطحاوي: أن الأشياء قد تجمع في شيء واحد، وأحكامها في أنفسها مختلفة، من ذلك قول الله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. فجمع الله عز وجل هذه الأشياء في آية واحدة، ونهى عنها نهياً واحداً، وكانت مختلفة في أحكام ما نهى عنها فيه، لأن الرفث هو الجماع، وهو يفسد الحج، وما سوى الرفث من الفسوق والجدال لا يفسد الحج.

(شرح مشكل الآثار - 7/ 414)

(1)

انظر: معاني القرآن للنحاس (1/ 123) وتفسير أبي حيان (2/ 263).

ص: 162

بين الإمام الطحاوي أن المراد بـ (الرفث) المنهي عنه في الحج هو: الجماع.

وإليك بيان الأقوال في المراد بالرفث في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} :-

- القول الأول: أن المراد بالرفث في الآية: هو الجماع خاصة دون غيره

- وهذا قول: ابن عباس - وابن عمر - وابن مسعود - وعطاء بن أبي رباح - وعطاء بن يسار - وعكرمة - ومجاهد - وقتادة - والنخعي - والزهري - وغيرهم.

وإليه ذهب الإمام أبو جعفر الطحاوي.

- ودليل هذا القول: أن كلمة (الرفث) جاءت في موضع آخر من كتاب الله تعالى، وأريد بها الجماع

(1)

وذلك في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187].

- القول الثاني: أن المراد بالرفث في الآية: هو الإفحاش للمرأة في الكلام فيما يتعلق بالجماع.

وذلك بأن يقول الرجل لامرأته: إذاحللنا فعلت بك كذا وكذا، صراحة لا يكني عن ذلك.

- وهذا قول: ابن عباس - وقتادة.

(2)

- ودليل هذا القول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه، فليقل إني صائم).

(3)

ومعلوم أن الرفث في هذا الحديث لا يحتمل إلا الإفحاش في القول، فكذلك الرفث في الآية ينبغي أن يحمل على الإفحاش في القول دون غيره.

- القول الثالث: أن المراد بالرفث في الآية: هو كل ما يتعلق بالجماع، فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها، والرفث باليد اللمس والغمز، والرفث بالفرج الجماع.

- وهذا قول: ابن عباس - والحسن - والطبري.

(4)

(1)

المغني لابن قدامة (5/ 112).

(2)

تفسير الطبري (2/ 273).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب: فضل الصوم (حـ 1795 - 2/ 670)،

ومسلم في صحيحه- كتاب الصيام - باب: حفظ اللسان للصائم - (حـ 2697 - 8/ 270).

(4)

انظر: تفسير الرازي (5/ 164) - وتفسير الطبري (2/ 278).

ص: 163

الدراسة

- الترجيح: والراجح هو القول الثالث بدلالة اللغة، فإن الرفث في اللغة: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من أهله.

(1)

فيجب حمل الآية على هذا المعنى العام. إذ لم يرد دليل يخص بعضه دون سائره.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} [البقرة:198].

قال أبو جعفر الطحاوي: فذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض، لا يجوز إلا بإصابته.

واحتجوا في ذلك بقول الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198].

وقالوا: ذكر الله عز وجل في كتابه المشعر الحرام، كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، فحكمها واحد، لا يجزئ الحج إلا بإصابتها.

وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: أما الوقوف بعرفة، فهو من صلب الحج الذي لا يجزئ الحج إلا بإصابته، وأما الوقوف بمزدلفة، فليس كذلك.

وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ليس فيه دليل على أن ذلك على الوجوب لأن الله عز وجل إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة، ولم يذكر الله عز وجل أن حجه تام.

فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب، ليس من صلب الحج، فالموطن الذي يكون ذلك الذكر فيه، الذي لم يذكر في الكتاب، أحرى أن لا يكون فرضاً.

(1)

تهذيب اللغة للأزهري (15/ 77).

ص: 164

وقد ذكر الله تعالى أشياء في كتابه من الحج، ولم يرد بذكرها إيجابها، حتى لا يجزئ الحج إلا بإصابتها في قول أحد من المسلمين.

من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وكل قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة، أن حجه قد تم، وعليه دم مكان ما نزل من ذلك.

فكذلك ذكر الله عز وجل المشعر الحرام في كتابه، ليس في ذلك دليل على إيجابه حتى لا يجزئ الحج إلا بإصابته.

(شرح معاني الآثار - 2/ 208 - 209)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198].

غير دال على فرضية الوقوف بالمزدلفة، وإليك بيان هذه المسألة: فأقول وبالله التوفيق:

لم يختلف أهل العلم في أن المراد بالمشعر الحرام المذكور في الآية هو: المزدلفة.

ولكن اختلفوا في مسألة: هل الآية دالة على فرضية الوقوف بالمزدلفة؟ وذلك على قولين:

- القول الأول: أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يصح الحج إلا به. ومن تركه كان عليه الهدي، والحج من السنة التي بعدها.

- وهذا قول: عكرمة - والحسن البصري - والأوزاعي - والنخعي - والشعبي - والشافعي.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قول تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]. فظاهر الآية يقتضي فرضية الوقوف بالمزدلفة.

- وقد رد هذا الاستدلال: بأن هذه الآية ليس فيها دلالة على ما ذكروا، لأن الله جل وعلا أمر في هذه الآية بالذكر عند المشعر الحرام، ولم يأمر بالوقوف عند المشعر الحرام.

كما أن جمهور الأمة قد اتفقوا على أن الذكر عند المشعر الحرام غير فرض، فتركه لا يوجب نقصاً في الحج.

ص: 165

فكيف نقول بفرضية أمر لم يرد له ذكر في الآية.

(1)

2 -

حديث عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه).

(2)

- وقد رد هذا الاستدلال: بأن الحديث غير دال على فرضية الوقوف بالمزدلفة، وذلك لأن الحاج لو بات بالمزدلفة ولم يذكر الله تعالى، ولم يشهد الصلاة فيها، فإن حجه صحيح.

والمبيت ليس من ضرورة ذكر الله بها فكان أولى بالحكم.

فيتعين حمل الحديث على مجرد الإيجاب لا الفرضية.

(3)

3 -

أن في الحج وقوفان: وقوف بعرفة، ووقوف بالمزدلفة، وقد ذكرا في القرآن والسنة، واتفقنا على فرضية أحدهما، فيجب القول بفرضية الآخر.

كما أن الركوع والسجود لما ذكرا معنا كان لهما حكم واحد وهو فرضيتهما في الصلاة.

- وقد رد هذا الاستدلال من وجوه:

أ- أن هذا القول يقتضي أن يكون كل مذكور في القرآن والسنة فرضاً، وهذا لم يقل به أحد.

ب- أنه لا يلزم من فرضية أمر، فرضية مشاكله وملازمه.

جـ- أن الله جل وعلا لم يذكر الوقوف بالمزدلفة، وإنما ذكر الذكر بالمزدلفة، والذكر ليس بمفروض عند الجميع، فالوقوف الذي لم يذكر أولى منه بهذا الحكم.

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 314) - والمغنى لابن قدامة (5/ 284).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الحج - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (حـ 891 - 4/ 128) وقال هذا حديث حسن

صحيح أهـ. والنسائي في سننه - كتاب المناسك - باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، (حـ 3039 - 5/ 290).

(3)

المغني لابن قدامة (5/ 84).

ص: 166

- القول الثاني: أن الوقوف بالمزدلفة واجب، ومن تركه فحجه صحيح، وعليه دم.

- وهذا قول: جمهور أهل العلم.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي: رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة، من أدرك عرفة، فقد أدرك الحج).

(2)

فظاهر الحديث يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة هو الركن دون غيره.

ولو كان الوقوف بالمزدلفة ركناً لم يكن الوقوف بعرفة كل الحج بل بعضه، ولم يكن مدركاً للحج بدونه، ولكن الحديث دل على خلاف ذلك.

2 -

أن ترك الوقوف بالمزدلفة جائز لعذر، ولو كان فرضاً لما جاز تركه مطلقاً، فدل ذلك على أنه ليس بفرض، بل واجب.

الترجيح: والراجح هو القول بأن الوقوف بالمزدلفة واجب، وذلك لأن الفرضية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به، ولا دليل على ذلك.

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} [البقرة:203].

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 313 ب) وبداية المجتهد (1/ 653).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب: من لم يدرك عرفة (حـ 1949 - 2/ 485)

وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع - (حـ 3049 - 2/ 180).

(3)

بدائع الصنائع (2/ 320).

ص: 167

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عبد الرحمن الديلي،

(1)

قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات، فأقبل أناس من أهل نجد، فسألوه عن الحج، فقال: "الحج يوم عرفة، من أدرك جمعاً قبل صلاة الصبح، فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، ثم أردف خلفه رجلاً ينادي بذلك)

(2)

فسأل سائل، فقال: ما معنى قوله عز وجل: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203].، والمتأخر فقد استوفى الأيام التي أمره الله عز وجل بالمقام فيها بمنى، ومن كانت هذه سبيله لم يجز أن يقال: فلا إثم عليه فيما فعل، كما لا يجوز أن يقال: لا إثم على من صلى صلاة الظهر، ولا على من صلى الصلوات الخمس كلها، وإنما يجوز أن يقال: لا إثم على من قصر عن شيء أمر به، ورخص له مع ذلك ترك بعضه أو ترك كله.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله: أنه قد يحتمل أن يكون ذلك، لأن الله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فكان المقيم إلى النفر الآخر تاركاً لرخصة الله عز وجل، فيرفع الله عز وجل عنه الإثم في ذلك لقوله:{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203].

والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار - 8/ 438 - 440).

(1)

عبد الرحمن الديلي هو: الصحابي الجليل عبد الرحمن بن يعمر الديلي، كانت وفاته بخرسان (تهذيب الكمال - 4/ 492).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: المناسك - باب: من لم يدرك عرفة (حـ 1949 - 2/ 485) والترمذي في سننه - كتاب: الحج - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (حـ 889 - 4/ 126) وقال والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. أهـ.

ص: 168

الدراسة

أجاب الإمام الطحاوي عن إشكال يرد على قوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]، وهذا الإشكال هو: كيف ينفي الله جل وعلا الإثم عمن أتم المناسك، وأكمل أيام منى ثلاثة أيام، مع أن مثل هذا هو في مقام من يستحق الثواب وليس في مقام من ينفى عنه العقاب؟

أجاب الإمام الطحاوي عن ذلك، ببيان أن المتأخر لما كان تاركاً لرخصة الله عز وجل في جواز التعجل، رفع الله عنه الإثم في ذلك.

- وقد أجاب المفسرون عن هذا الإشكال الوارد على الآية بالأجوبة التالية:

1 -

أن قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] نفي عام، وتبرئة مطلقة، وعليه فالمراد بالآية: أن من تعجل في يومين فمغفور له لا إثم عليه، ومن تأخر فمغفور له لا إثم عليه.

- وهذا قول: علي بن أبي طالب - وابن مسعود - وأبي ذر رضي الله عنهم.

(1)

- وهذا القول مؤيد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه).

(2)

2 -

أن المراد بقوله جل وعلا: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]: أن الله جل وعلا لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم، فلما كان هذا الاحتمال قائماً. أزال الله تعالى هذه الشبهة، وبين أن لا إثم في الأمرين، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة، وإن شاء لم يستعجل، ولم يجر على موجب الرخصة، إذ لا إثم عليه في الأمرين جميعاً.

(1)

انظر: تفسير الماوردي (1/ 264) وتفسير ابن عطية (2/ 135) وتفسير أبي حيان (2/ 322).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب: فضل الحج المبرور - (حـ 1449 - 3/ 553)

والنسائي في سننه - كتاب: المناسك - باب: فضل الحج - (حـ 2626 - 5/ 120).

ص: 169

- وإلى هذا القول ذهب: الإمام الطحاوي - والإمام أبو المظفر السمعاني.

(1)

- وهذا القول مؤيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه).

(2)

3 -

أن قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] جاء للدلالة على أن التعجل والتأخر، مخير فيهما، وبيان أن كلا الأمرين مباح لا حرج فيه. إذ أن أهل الجاهلية كانوا فريقين:

منهم من جعل المتعجل آثماً، ومنهم من جعل المتأخر آثماً، فورد القرآن بنفي الإثم عنهم جميعاً.

- وهذا قول: ابن عباس - ومجاهد - والحسن - وعكرمة.

(3)

4 -

أن قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] المرا د منه: أنه لا إثم عليه، إن اتقى الله جل وعلا فيما بقي من عمره.

وهذا قول: ابن عباس - وقتادة - وأبي العالية.

(4)

الترجيح: جميع الأقوال المتقدمة يصح أن تكون جواباً عن الإشكال الوارد على الآية، وبياناً للمراد بها، وليس بعضها أولى بالترجيح من بعض.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: تفسير أبي المظفر السمعاني (1/ 207) وتفسير الزمخشري (1/ 415).

(2)

أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصوم - باب: صوم المسافر - (حـ 3568 - 8/ 333)

والطبراني في المعجم الكبير (حـ 10030 - 10/ 84).

(3)

انظر: تفسير ابن عطية (2/ 134) وتفسير الزمخشري (1/ 415).

(4)

تفسير الماوردي (1/ 264)

ص: 170

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} [البقرة:223].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].

(1)

وعن أبي سعيد:

(2)

أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: أثْفَرَها،

(3)

فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].

(4)

ففي هذين الحديثين ما قد ذكر قوم أنهم استدلوا به على الإباحة لهذا المعنى المذكور فيها.

فتأملنا ما روي في ذلك من غير هذين الحديثين، فوجدنا عن جابر بن عبد الله:

(5)

(1)

أخرجه النسائي في عشرة النساء (95) والطبري في تفسيره (حـ 4336 - 2/ 408).

(2)

أبو سعيد هو: الصحابي الجليل مفتي المدينة سعد بن مالك بن سنان الخدري الخزرجي، وكانت وفاته سنة (74 هـ)

(سير أعلام النبلاء - 3/ 168).

(3)

أثْفَرَها: أي أتاها من خلفها، ومنه (الثَّفَرُ) وهو: السير في مؤخر السرج يلي الذنب، ومنه قولهم (فلان يثفر فلاناً) أي: يسوقه من خلفه.

(المحيط في اللغة - مادة: ثفر -10/ 139).

(4)

أخرجه أبو يعلي الموصلي في مسنده (1103) - والطبري في تفسيره (حـ 4337 - 2/ 408).

(5)

جابر هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي، من أهل بيعة الرضوان، وكانت وفاته سنة

(78 هـ)(سير أعلام النبلاء - 3/ 189).

ص: 171

أن اليهود قالوا: من أتى امرأته في فرجها من دبرها خرج ولده أحول. فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].

(1)

فكان ما في هذه الآثار مما يدفع ذلك.

ووجدنا عن جابر بن عبد الله: أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة مدبرة جاء ولدها أحول، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج من قبلها لا إلى ما سواه).

(2)

فعادت هذه الآثار في الحظر لوطء النساء في أدبارهن لا إلى الإباحة لذلك.

وقد ذكر قوم أن الآية كان نزولها في غير هذا المعنى، وذكر في ذلك: عن ابن عباس أنه قال: جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال:(وما أهلكك)؟ قال: حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئاً، فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ] البقرة:223] " أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة "

(3)

فكان في هذا الحديث أن سبب نزول هذه الآية غير السبب الذي ذكر فيما تقدم مما ذكرناه وفيما تقدم منا في هذا الباب، وكان فيه المنع من وطء النساء في أدبارهن، كالمنع من وطئهن في حيضهن.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: النكاح - باب: جواز جماع امرأته في قبلها، من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر (حـ 3521 -

9/ 247). والترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة البقرة (حـ 2984 - 11/ 102) وقال: هذا حديث حسن صحيح. أهـ.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار - كتاب: النكاح - باب: وطء النساء في أدبارهن (حـ 4392 - 3/ 41).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة البقرة (حـ 2986 - 11/ 102) وقال: هذا حديث حسن غريب. أهـ.

والإمام أحمد في مسنده (1/ 297).

ص: 172

فكان في هذا الحديث إنما دار على ابن عباس، فنظرنا: هل روي عن ابن عباس ما يخالفه أم لا؟ فوجدنا ابن عباس، يقول: إن ناساً من حمير أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن النساء، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} {البقرة:223].

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج).

(1)

ففي هذا الحديث: أن سبب نزول هذه الآية في خلاف السبب المذكور نزولها فيه لما سبقت روايتنا له عن ابن عباس في هذا الباب، والمنع من إتيان النساء فيما سوى فروجهن

ووجدنا عن زائدة بن عمير الطائي،

(2)

قال: (سألت ابن عباس عن العزل، فقال: قد أكثرتم، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئاً، فهو كما قال، وإن لم يكن قال فيه صلى الله عليه وسلم، فأنا أقول فيه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]، فإن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، أي ذلك فعلتم فلا بأس).

(3)

فهذا ابن عباس قد حمل تأويل الآية على خلاف ما روي عنه مما ذكر أن نزولها كان فيه.

ثم نظرنا: هل روي في نزولها شيء عن غير ابن عباس، وعن غير من ذكرنا في هذا الباب سواه؟ فوجدنا .. عن كعب بن علقمة

(4)

،

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره - سورة البقرة - الآية (223) - (حـ 4351 - 2/ 410)

وابن أبي حاتم في تفسيره - سورة البقرة - الآية (223)(حـ 2130 - 2/ 404).

(2)

زائدة هو: زائدة بن عمير الطائي، كوفي تابعي ثقة (معرفة الثقات -1/ 366).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب: التفسير - باب: من سورة البقرة (حـ 3104 - 2/ 306)

والطبراني في المعجم الكبير (حـ 12663 - 12/ 125).

(4)

كعب هو: أبو عبد الحميد كعب بن علقمة بن كعب التنوخي المصري، ذكره ابن حبان في كتاب (الثقات) وكانت وفاته سنة (127 هـ)

(تهذيب الكمال - 6/ 168).

ص: 173

عن أبي النضر

(1)

: أنه أخبره أنه قال لنافع

(2)

- مولى عبد الله بن عمر - إنه قد أكثر عليك القول: أنك تقول عن ابن عمر- أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال نافع: كذبوا علي، ولكني سأخبرك كيف كن الأمر إن ابن عمر عرض المصحف يوماً، وأنا عنده حتى بلغ قوله عز وجل:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ] البقرة:223] قال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قال: قلت: لا. قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة، ونكحنا نساء الأنصار، أردنا منهُنّ مثل الذي نريد، فإذا هُنّ قد كرهن وأعظمن ذلك، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود، إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ] البقرة:223]

(3)

.

فكان في هذا الحديث عن ابن عمر أن نزول هذه الآية كان للمعنى المذكور نزولها فيه، لا لما سوى ذلك من إباحته لوطء، النساء في أدبارهن.

(1)

أبو النْضر هو: سالم بن أبي أمية القرشي التيمي، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وثقة الإمام أحمد بن حنبل، وغيره، وكانت

وفاته سنة (129 هـ)(تهذيب الكمال - 3/ 92).

(2)

نافع هو: أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، وهو من كبار الصالحين التابعين، المشهورين بالحديث، وكانت وفاته سنة (117 هـ)

(وفيات الأعيان - 5/ 367).

(3)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى (حـ 8978 - 5/ 315). والطحاوي في شرح معاني الآثار (حـ 4399 - 3/ 42)

ص: 174

فقال قائل: فقد روي عن ابن عمر إباحته، وذكر عن أبي الحُباب سعيد بن يسار

(1)

: (أنه سأل ابن عمر عنه - يعني وطء النساء في أدبارهن - فقال: لا بأس به)

(2)

.

فكان جوابنا له: أنه قد روي عن ابن عمر من ناحية سعيد بن يسار ما يخالف هذا كما عن سعيد بن يسار بي الحباب، قال: (قلت: لابن عمر: ما تقول في الجواري أحمض لهن. قال: وما التحميض؟

(3)

فذكرت الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟!).

(4)

.

فهذا ابن عمر قد روي عنه ضد ما ذكرت، وإذا كان ذلك كذلك، كان كأنه لم يرو عنه فيه.

ولقد قال ميمون بن مهران

(5)

في ذلك .. . - وذكر له عن نافع ما حكي عنه من إباحة وطء النساء في أدبارهن، فقال:- إنما قال ذلك نافع بعدما كبر، وذهب عقله.

(1)

أبو الحباب هو: سعيد بن يسار، قال ابن معين وغيره: ثقة، وكانت وفاته بالمدينة سنة (117 هـ). (تهذيب الكمال - 3/ 210).

(2)

أخرجه النسائي في عشرة النساء (93). والطبري في تفسيره - سورة البقرة - الآية (223)(حـ 4329 - 2/ 407).

(3)

معنى (التحميض) هو: أن يأتي الرجل المرأة في دبرها، وهو مأخوذ من قولهم (أحمضت الإبل) إذا ملت رعي الخُلَّة - هو الحلو من

النبات - واشتهت الحمض، فتحولت إليه. (النهاية في غريب الحديث - 1/ 441).

(4)

أخرجه الدارمي في سننه -كتاب الطهارة- باب: من أتى أمراته في دبرها (حـ 1130 - 1/ 275).

والطحاوي في شرح معاني الآثار - (حـ 4396 - 3/ 41).

(5)

ميمون هو: أبو أيوب ميمون بن مهران الجزري الرقي، وثقة أبوزرعة وغيره، وكانت وفاته سنة (117 هـ)(تهذيب الكمال - 7/ 292).

ص: 175

وقد روي عن سالم نفي ذلك عن ابن عمر كما .. عن موسى بن عبد الله بن الحسن

(1)

: أن أباه سأل سالم بن عبد الله: أن يحدثه بحديث نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأساً في إتيان النساء في أدبارهن. فقال سالم: كذب العبد، أو قال: أخطأ، إنما قال: لا بأس أن يؤتين في فروجهن من أدبارهن

(2)

.

ثم رجعنا إلى تأويل قول الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ] البقرة:223]. فوجدنا الحرث إنما يطلب منه النسل، وكان النسل موجوداً في الوطء في الفرج، ومعدوماً في الوطء في غيره، فدل أن المراد فيها هو ما أبيح منها مما يكون عنه النسل لا ما لا يكون عنه نسل، وهكذا كان الفقهاء الكوفيون جميعاً يذهبون إليه في هذا الباب.

(شرح مشكل الآثار - 15/ 410 - 434).

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} [البقرة:223].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن أبي سعيد أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: أتعزبها

(3)

،

(1)

موسى هو: موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن العلوي وثقة يحيى بن معين: (لسان الميزان - 6/ 123).

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (حـ 4397 - 3/ 42). والطبري في تفسيره: سورة البقرة الآية (223)(حـ 4332 - 2/ 407).

(3)

قوله (أتعزبها): (العزب) قال فيه ابن فارس: العين والزاء والباء: أصل صحيح يدل على تباعد وتنح - كقولهم تعزب، لمن ترك النكاح.

فكل شيء يفوتك حتى لا تقدر عليه، فقد عزب عنك. وعليه فإن معنى قوله - (أتعزبها):أي ابتعد عن جماعها. فكأنه بإتيانه في دبرها قد

جعلها عزباء لا زوج لها. (انظر: معجم مقاييس اللغة- مادة: عزب - 4/ 310 - والقاموس المحيط - مادة: عزب - 147. والنهاية في

غريب الحديث - مادة -: عزب -3/ 227)

ص: 176

فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].

(1)

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن وطء، المرأة في دبرها جائز، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وتأولوا هذه الآية على إباحة ذلك.

وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا وطء، النساء في أدبارهن، ومنعوا من ذلك، وتأولوا هذه الآية على غير هذا التأويل.

عن جابر، أن اليهود قالوا: من أتي امرأته في فرجها، من دبرها، خرج ولدها أحول، فأنزل الله عز وجل:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]

(2)

قالوا: فإنما كان من قول اليهود، ماذكرنا، فأنزل الله عز وجل ذلك، دفعاً لقولهم، وإباحة للوطء في الفرج من الدبر ومن القبل جميعاً. ..

وقد روى آخرون هذا الحديث .. على ما ذكرنا وزاد فيه: (إذا كان ذلك في الفرج).

عن جابر بن عبد الله أن اليهود قالوا للمسلمين: (من أتى امرأته وهي مدبرة، جاء ولدها أحول) فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مقبلة ومدبرة، ما كان في الفرج)

(3)

ففي توقيف النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في ذلك على الفرج، إعلام منه إياهم أن الدبر بخلاف ذلك

وقد احتج أهل المقالة الأولى أيضاً لقولهم، بما .. عن محمد بن كعب القرظي

(4)

(1)

أخرجه أبو يعلى في مسنده (حـ 1103). والطحاوي في شرح مشكل الآثار - 15/ 415).

(2)

تقدم تخريجه (132).

(3)

تقدم تخريجه (132)

(4)

محمد هو: أبو حمزة محمد بن كعب بن حيان بن سليم القرظي المدني، من كبار التابعين، وثقه أبو زرعة وغيره: وكانت وفاته سنة

(108 هـ)(سير أعلام النبلاء - 5/ 65).

ص: 177

أنه كان لا يرى بأساً بإتيان النساء في أدبارهن، ويحتج في ذلك بقوله عز وجل:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء:165 - 166] أي: من أزواجكم مثل ذلك، إن كنتم تشتهون 0

قيل لهم: ومن يوافق محمد بن كعب على هذا التأويل؟

قد قال مخالفوه: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما قد أحل لكم من جماعهن في فروجهن).

وهذا التأويل - عندنا- أولى من التأويل الأول، لموافقته لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرنا.

(شرح معاني الآثار- 3/ 40 - 46).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الخلاف الوارد في المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]. والمبني على الآثار الواردة في سبب نزول هذه الآية. مرجحاً أن المراد بها إباحة إتيان المرأة على أي صفة كانت، ولكن في الموضع الذي يكون منه النسل دون غيره.

وإليك بيان الأقوال الواردة في المراد بالآية:

القول الأول: أن المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]. أي: كيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج دون غيره.

- وهذا قول: جمهور علماء الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين

(1)

.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة:223] خص الإتيان بالموضع الذي يكون فيه الحرث والذي يكون منه الولد، وهو الفرج دون غيره

(2)

.

(1)

تفسير ابن الجوزي (1/ 226).

(2)

تفسير السمعاني (1/ 226).

ص: 178

2 -

الرواية الواردة في سبب نزول الآية: فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: (كانت اليهود تقول: إذا أتي الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد أحول، فنزلت:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].

(1)

فدل السبب الوارد في نزول الآية على أن المراد بها: إباحة إتيان المرأة على كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج دون غيره.

القول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] أي: إذا شئتم، ومتى شئتم، في أي وقت من أوقات الحل، يعني إذا لم تكن في زمن إحرام أو صوم أو نفاس أو حيض أو نحو ذلك.

وهذا قول: ابن عباس- والضحاك.

(2)

القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]،أي: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلاتعزلوا.

- وهذا قول: ابن عباس - وسعيد بن المسيب

(3)

.

ويرد هذا القول: أن العزل لا يدخل تحت (أنى)، لأن (أنى) حرف استفهام عن الحال والمحال، ولأن حال الجماع لا يختلف بذلك العزل.

(4)

القول الرابع: أن المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] أي: حيث شئتم، وأين شئتم. وهو قول يوهم جواز الإتيان في الدبر.

- وهذا القول: محكي عن ابن عمر - ومالك بن أنس رضي الله عنهم.

- ومن أدلة هذا القول:

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا

لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:223]. (حـ 4254 - 4/ 1645). ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب جواز جماعه امرأته في قبلها

(حـ 3521 - 9/ 247).

(2)

تفسير ابن الجوزي (1/ 226).

(3)

انظر: تفسير السمعاني (1/ 226) وتفسير ابن الجوزي (1/ 226).

(4)

تفسير الرازي (6/ 74).

ص: 179

1 -

ماروي في سبب نزول هذه الآية: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]

(1)

.

2 -

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون:5 - 6]

فدلت الآية على جواز الإتيان في الدبر، لأن العموم يقتضي الإباحة.

- وهذا القول ظاهر الفساد من وجوه عدة:-

1 -

أن سالم بن عبد الله لمابلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن بن عمر رضي الله عنه قال: كذب العبد إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن. كما أن ابن عباس رضي الله عنه، عند ما سمع هذا عن ابن عمر وهمه فيه، كما أنه قد روي عنه خلاف ذلك، وتكفيره لمن فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه.

وأما مالك فقد تبرأ من ذلك، وقال إنما الحرث في موضع الزرع، كما أنكر أصحابه أن يكون هذا من قوله

(2)

.

وبناء على هذا فإن السبب الوارد عن ابن عمر في الآية غير محتج به في المراد بها، ويبقي السبب الوراد عن جابر رضي الله عنه هو السبب الصحيح الدال على المراد بالآية.

2 -

أن الآية دالة بلفظها على بطلان هذا القول، فإن الآية نبهت على أن محل الولد الفرج، بقوله جل ذكره (فأتوا حرثكم) فلا يجوز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه الولد، وعليه فلا يجوز حمل (أنى شئتم) على التخيير في المكان.

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي في عشرة النساء (95) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (حـ 6117 - 15/ 410).

(2)

انظر: فتح الباري (8/ 189) وتفسير ابن جزي (1/ 109). وتفسير القرطبي (3/ 93) وتفسير ابن عطية (2/ 256).

(3)

تفسير الرزاي (6/ 74).

ص: 180

3 -

أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون:5 - 6] غير دال على جواز الإتيان في الدبر، لأن الآية دالة على الإباحة المطلقة، غير دالة على موضع الإباحة ولا وقتها

(1)

.

4 -

أن الله جل وعلا حرم وطء المرأة في الفرج حال الحيض، لأجل النجاسة العارضة، فقال جل ذكره:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222].

فالأولى بالتحريم، الوطء في الدبر، وذلك لأجل النجاسة اللازمة

(2)

.

5 -

قوله جل وعلا في إتيان الحائض: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] والمعني: فأتوهن من الجهة التي أمر الله وهي الفرج، لأنه هو المنهي عنه، والمأمور باعتزاله حال الحيض

(3)

، فدلت الآية على أن إتيان المرأة يكون في الفرج دون الدبر.

6 -

تعدد الأحاديث الدالة على تحريم إتيان المرأة في دبرها، ومنها:

أ- عن علي بن طلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يستحي من الحق لاتأتوا النساء في أدبارهن"

(4)

.

(1)

أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 141).

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 174).

(3)

انظر: تفسير البغوي (1/ 259). وتفسير أبي حيان (2/ 403).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الرضاع - باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن (حـ 1166 - 5/ 112). وقال حديث حسن -

أ. هـ. - والدارمي في سننه -كتاب النكاح- باب النهي عن إتيان النساء في أعجازهن (حـ 2133 - 2/ 584).

ص: 181

ب- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها"

(1)

.

ج- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتي حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "

(2)

إلى ذلك من الأحاديث الدالة على تحريم إتيان المرأة في دبرها.

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]: أي: كيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج دون غيره. وكان هذا القول راجحاً لأنه قول جمهور الأمة، ولأن سبب نزول الآية - الثابت عن جابر - دال عليه، فلا يكون المعنى المراد بالآية خارجاً عن هذا السبب، خاصة مع دلالة نص الآية عليه دون غيره.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه -كتاب الرضاع - باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن (حـ 1167 - 5/ 112) وقال هذا حديث حسن

غريب أ. هـ - والإمام أحمد في مسنده (2/ 344).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الطب - باب في الكاهن (حـ 3904 - 4/ 225).

والترمذي في سننه - كتاب الطهارة - باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض (حـ 102 - 1/ 217).

ص: 182

قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} [البقرة:228].

قال أبوجعفر الطحاوي: اختلف الناس في الأقراء التي تجب على المرأة إذا طلقت.

فقال قوم: هي الحيض، وقال آخرون: هي الأطهار.

فكان من حجة من ذهب إلى أنها الأطهار، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر، حين طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض:"مُرْهُ أن يراجعها، ثم يتركها حتى تطهر، ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء"

(1)

قالوا: فلما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها في الطهر، وجعله العدة دونها، ونهاه أن يطلقها في الحيض، وأخرجه من أن يكون عدة، ثبت بذلك أن الأقراء هي الأطهار.

(1)

وأخرجه البيهقي في سننه - كتاب الخلع والطلاق - باب الطلاق يقع على الحائض وإن كان بدعياً (حـ 4 - 7/ 326).

والدار قطني في سننه - كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره. (حـ 26 - 4/ 10).

ص: 183

فكان من الحجة عليهم للآخرين، أن هذا الحديث قد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كما ذكروا، وقد روي عنه ما هو أتم من ذلك. فروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يأمره أن يراجعها ثم يمهلها، حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء وقال:"تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء"

(1)

فلما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة، التي طلق فيها، حتى يكون طهر وحيضة أخرى بعدها، ثبت بذلك أنه لو كان أراد بقوله:(فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء الأطهار) إذاً لجعل له أن يطلقها بعد طهرها من هذه الحيضة، ولا ينتظر ما بعدها، لأن ذلك طهر.

فلما لم يبح له الطلاق في ذلك الطهر حتى يكون طهراً آخر بينه وبين ذلك الطهر حيضة، ثبت بذلك أن تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء، إنما هي وقت ما تطلق النساء، وليس لأنها عدة تطلق لها النساء يجب بذلك أن تكون هي العدة التي تعتد بها النساء، لأن العدة مختلفة. منها: عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشر.

ومنها: عدة المطلقة ثلاثة قروء. ومنها: عدة الحامل أن تضع حملها.

فكانت العدة إسماً واحداً، لمعان مختلفة. ولم يكن كل ما لزمه اسم (عدة) وجب أن يكون قرءاً.

فكذلك لما لزم اسم الوقت الذي تطلق فيه النساء اسم عدة، لم يثبت له بذلك اسم القرء.

(1)

وأخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب تفسير سورة الطلاق (حـ 4625 - 4/ 1864). ومسلم في صحيحه - كتاب:

الطلاق - باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها (حـ 3637

- 10/ 302)

ص: 184

فهذه معارضة صحيحة، ولو أردنا أن نكثر منها، فنحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة:"دعي الصلاة أيام أقرائك"،

(1)

فنقول: الأقراء هي: الحيض على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك ما قد تعلق به بعض من تقدم ولكنا لا نفعل ذلك، لأن العرب قد تسمي الحيض قرءاً، وتسمي الطهر قرءاً، وتجمع الحيض والطهر فتسميها قرءاً

وفي ذلك أيضاً حجة أخرى، أن عمر ضي الله عنه، هو الذي خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء" ولم يكن ذلك - عنده - دليلاً أن الأقراء الأطهار، إذ قد جعل الأقراء الحيض، فيما روي عنه.

فإذا كان هذا عند عمر رضي الله تعالى عنه، وقد خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، لا دليل فيه على أن القرء الطهر، كان من بعده فيه أيضاً كذلك

وكان مما احتج به الذين جعلوا الأقراء الأطهار أيضاً: عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها نقلت حفصة

(2)

بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة.

قال ابن شهاب: (فذكرت ذلك لعمرة

(3)

، فقالت: صدق عروة، قد جادلها في ذلك أناس، وقالوا: إن الله تعالى يقول ثلاثة قروء، فقالت عائشة: صدقتم، أتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار)

(1)

أخرجه الدار قطني في سننه - كتاب: الحيض - (حـ 36 - 1/ 212).

(2)

حفصة هي: حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكانت تحت المنذر بن الزبير، قال العجلي: تابعية ثقة.

(تهذيب الكمال - 8/ 526)

(3)

عَمْرَة هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية المدنية، كانت في حجر عائشة، ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال:

كانت من أعلم الناس بحديث عائشة، وكانت وفاتها سنة (98 هـ). (تهذيب الكمال - 4/ 683).

ص: 185

وعن نافع، أن معاوية

(1)

كتب إلى زيد بن ثابت

(2)

يسأله، فكتب:(إنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد بانت منه) قال نافع: وكان ابن عمر يقوله.

قالوا: فهذه أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، في ذلك، تدل على ما ذكرناه.

قيل لهم: هذا لو لم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأما إذا اختلفوا فيه، فقال بعضهم ما ذكرتم.

وقال آخرون منهم بخلاف ذلك، لم يجب بما ذكرتم لكم حجة فمما روي خلاف ما احتجوا به من هذه الآثار المذكورة عمن رويت عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدالة على أن الأقراء غير الأطهار

عن علي بن أبي طالب، قال: زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة

وعن علقمة

(3)

أن رجلاً طلق امرأته فحاضت حيضتين، فلما كانت الحيضة الثالثة ودخلت المغتسل، أتاها زوجها فقال:(قد راجعتك ثلاثاً) فارتفعا إلى عمر، فأجمع عمر، وعبد الله على أنه أحق بها، ما لم تحل لها الصلاة، فردها عمر عليه

وعن عبد الله بن عمر، كان يقول: إذا طلق العبد امرأته اثنتين، فقد حرمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره، حرة كانت أو أمة، وعدة الحر ثلاث حيض، وعدة الأمة حيضتان.

(1)

معاوية هو: الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، ولاه عمر بن الخطاب الشام فأقره عثمان مدة

ولايته، ثم ولي الخلافة، وكانت وفاته سنة (60 هـ). (تهذيب التهذيب - 4/ 107).

(2)

زيد هو: أبو سعيد زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي النجاري، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره، كما كان يكتب لأبي

بكر وعمر، وكان أعلم الصحابة بالفرائض، وكانت وفاته سنة (45 هـ). (أسد الغابة - 2/ 278)

(3)

علقمة هو: علقمة بن قيس بن عبد الله (تقدمت ترجمته -).

ص: 186

قال أبو جعفر: فهذا عبد الله بن عمر ضي الله عنهما، وهو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لعمر رضى الله عنه:(فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء) لم يدله ذلك على أن الأقراء الأطهار، إذا كان قد جعلها الحيض

وعن مكحول

(1)

أن قدم المدينة: فذكر له سليمان بن يسار

(2)

أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فرأت أول قطرة من دم حيضتها الثالثة، فلا رجعة عليها.

قال: فسألت عن ذلك بالمدينة، فبلغني أن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل

(3)

وأبا الدرداء

(4)

رضي الله عنهم، كانوا يجعلون له عليها الرجعة، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة

وعن ابن شهاب، قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب

(5)

(1)

مكحول هو: أبو عبد الله مكحول الشامي الدمشقي الفقيه، وهو في الطبقة الثالثة، من تابعي أهل الشام، وكانت وفاته سنة (112 هـ).

(تهذيب الكمال - 7/ 216).

(2)

سليمان هو: أبو أيوب سليمان بن يسار الهلالي المدني مولى أم المؤمنين ميمونة، قال فيه أبو زرعة: ثقة، مأمون فاضل عابد، وكانت

وفاته سنة (103 هـ)(تهذيب الكمال - 3/ 307).

(3)

معاذ هو: أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة، وبدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة (18 هـ)(أسد الغابة - 5/ 194).

(4)

أبو الدرداء هو: الصحابي الجليل عويمر بن عامر بن مالك بن زيد، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:(عويمر حكيم أمتي) شهد ما بعد أحد من

المشاهد، وكانت وفاته بدمشق سنة (33 هـ)(أسد الغابة - 4/ 318).

(5)

قبيصة هو: أبو سعيد قَبِيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، ولد عام الفتح، وسكن الشام، وهو في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة،

وكانت وفاته سنة (86 هـ)(تهذيب الكمال - 6/ 94).

ص: 187

أنه سمع زيد بن ثابت يقول: (الطلاق إلى الرجل، والعدة إلى المرأة، إن كان الرجل حراً، وكانت المرأة أمة، فثلاث تطليقات، والعدة: عدة الأمة حيضتان، وإن كان عبداً، وامرأته حرة، طلق طلاق العبد تطليقتين، واعتدت عدة الحرة ثلاث حيض).

فلما جاء هذا الاختلاف عنهم، ثبت أنه لا يحتج في ذلك بقول أحد منهم، لأنه متى أحتج محتج في ذلك بقول بعضهم، احتج مخالف عليه بقول مثله، فارتفع ذلك كله أن يكون فيه حجة لأحد الفريقين على الفريق الآخر.

وكان من حجة من جعل الأقراء الحيض على مخالفه، أن قال: فإذا كانت الأقراء الأطهار، فإذا طلق الرجل المرأة وهي طاهرة، فحاضت بعد ذلك بساعة، فحسب ذلك لها قرء مع قرءين متنابعين، كانت عدتها قرءين وبعض قرء، وإنما قال الله عز وجل:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228].

فكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار في ذلك أن قال: فقد قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] فكان ذلك على شهرين وبعض شهر، فكذلك جعلنا الأقراء الثلاثة على قرءين وبعض قرء.

فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن الله عز وجل قال في الأقراء ثلاثة قروء، ولم يقل في الحج ثلاثة أشهر، وإن قال في ذلك ثلاثة أشهر فأجمعوا أن ذلك على شهرين وبعض شهر، ثبت بذلك ما قال المخالف لنا، ولكنه إنما قال أشهرٌ، ولم يقل ثلاثة.

فأما ما حصره بالثلاثة، فقد حصره بعدد معلوم، فلا يكون أقل من ذلك العدد، كما أنه لما قال:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4]. فحصر ذلك بالعدد، فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد، فكذلك لما حصر الأقراء بالعدد، فقال:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد.

ص: 188

وكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار أيضاً أن قال: لما كانت الهاء تثبت في عدد المذكر فيقال: (ثلاثة رجال) وتنتفي من عدد المؤنث، فيقال:(ثلاث نسوة)، فقال الله تعالى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فأثبت الهاء، ثبت أنه أراد بذلك مذكراً، وهو الطهر لا الحيض.

فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الشيء إذا كان له إسمان، أحدهما مذكر والآخر مؤنث، فإن جمع المذكر أثبتت الهاء، وإن جمع بالمؤنث أسقطت الهاء.

من ذلك أنك تقول: (هذا ثوب، وهذه ملحفة)، فإن جمعت بالثوب قلت:(ثلاثة أثواب) وإن جمعت بالملحفة قلت: (ثلاث ملاحف) وكذلك (هذه دار، وهذا منزل) لشيء واحد.

فكان الشيء قد يكون واحداً يسمى باسمين مختلفين أحدهما مذكر، والآخر مؤنث، فإذا جمع بالمذكر فُعِلَ فيه كما يُفْعَل في جمع المذكر فأثبتت الهاء، وإن جمع بالمؤنث، فعل فيه كما يفعل في جمع المؤنث، فأسقطت الهاء

فكذلك الحيضة والقرء، هما اسمان بمعنى واحد، وهوالحيضة فإن جمع بالحيضة، سقطت الهاء، فقيل: ثلاث حيض، وإن جمع بالقرء، ثبتت الهاء فقيل:(ثلاثة قروء) وذلك كله، اسمان لشيء واحد، فانتفى بذلك ما ذكرنا مما احتج به المخالف لنا.

وأما وجه هذا الباب من طريق النظر، فإنّا قد رأينا الأَمَة جُعِل عليها في العدة، نصف ما يجعل على الحرة. فكانت الأمة إذا كانت ممن لا تحيض، كان عليها نصف عدة الحرة، إذا كانت ممن لا تحيض، وذلك شهر ونصف. فإذا كانت ممن تحيض، جعل عليها - باتفاقهم - حيضتان، وأريد بذلك نصف ما على الحرة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لو قدرت أن أجعلها حيضة ونصفاً، لفعلت).

فلما كان ما على هذه الأمة هو الحيض لا الأطهار، وذلك نصف ما على الحرة، ثبت أن ما على الحرة أيضاً، هو من جنس ما على الأمة، وهو الحيض لا الأطهار.

ص: 189

فثبت بذلك قول الذين ذهبوا في القرء إلى أنها الحيض، وانتفي قول مخالفهم، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف

(1)

، ومحمد

(2)

رحمهم الله.

(شرح معاني الآثار - 3/ 59 - 64)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الخلاف الوارد في المراد بـ (القرء) في الآية - والذي يجب على المطلقة أن تعتد به، وقد ذكر أقوال العلماء في ذلك، وأدلة كل قول. كما ردّ على من قال إن المراد بـ (القروء) الأطهار، مرجحاً قول من قال إن المراد بـ (القروء) الحيض.

وقبل عرض كل قول وأدلته أبين أولاً: أن أهل العلم بلسان العرب وجمهور العلماء لم يختلفوا في أن (القرء) في اللغة يراد به الحيض، ويراد به الطهر. يقال (أقرأت المرأة) أي: حاضت.

ومنه قول الشاعر: يارب ذي ضغن على فارض::: له قروء كقروء الحائض.

(3)

ومعنى البيت، أنه طعنه، فكان له دم كدم الحائض، فدل البيت على أن القرء يأتي بمعنى الحيض.

ويقال: (أقرأت المرأة) أي: طَهُرَتْ. ومنه قول الشاعر الأعشى:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة::: تشد لأقصاها عزيم عزائكا.

مورثة مالاً وفي الحي رفعة::: لما ضاع فيها من قروء نسائكا.

(4)

(1)

أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، أَخَذَ العلم والفقه عن أبي حنيفة، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي

حنيفة، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض. وكانت وفاته ببغداد سنة (182 هـ)(تاج التراجم - 282).

(2)

محمد هو: أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صحب أبا حنيفة، وعنه أخذ الفقه، ثم عن أبي يوسف، وهو ممن نشر علم أبي

حنيفة، وكانت وفاته بالري سنة (189 هـ)(تاج التراجم - 187).

(3)

انظر: مجالس ثعلب (264) والحيوان (6/ 66،67) والمعاني الكبير للفراء (850، 1143).

(4)

انظر: ديوان الأعشى (91) والدر المصون (1/ 555).

ص: 190

ومعنى البيت: أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغشى نساءه، فتضيع أقراؤهن، وإنما يضيع بالسفر زمان الطهر، لا زمان الحيض. فدل البيت على أن القرء يأتي بمعنى الطهر.

فكلمة القرء كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالاً واحداً، وعليه فلا يكون الترجيح بالرجوع إلى الأصل اللغوي لهذه الكلمة، ومن هنا نشأ الخلاف في المراد بـ (القروء) في الآية.

(1)

الأقوال الواردة في المراد بـ (القروء) في الآية:

القول الأول: أن المراد بـ (القرء) الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به هو (الطهر) فمتى دخلت المرأة في الحيضة الثالثة فلا سبيل للزوج عليها.

- وهذا قول: الزهري - ومالك بن أنس - والشافعي - وأبي ثور

(2)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن ظاهر قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء، أن تخرج عن العهدة، وكل واحد من الطهر والحيض يسمى بهذا الاسم، فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير. إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض، فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة. وإذا كان الأمر كذلك كانت المرأة متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل، وكل ما كان كذلك لم يكن واجباً. فإذاً الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب، وذلك يقتضي أن يكون الاعتداد بمدة الحيض غير واجب، والاعتداد بمدة الأطهار واجب.

- الرد على هذا الاستدلال:

(1)

انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 79) وتهذيب اللغة (9/ 271)، ومعاني القرآن اللنحاس (1/ 196) - وتحفة الأريب لأبي حيان (254).

(2)

انظر: تفسير الطبري (2/ 452) - وتفسير الماوردي (1/ 291). ومعاني القرآن للنحاس (1/ 195).

ص: 191

أن ظاهر الآية يوجب الاعتداد بثلاثة قروء كاملة، وهذا يتحقق متى كان المراد بالقروء الحيض لا الأطهار.

(1)

2 -

أن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، دل على أنه جل وعلا أراد الطهر المذكر، ولو أراد الحيضة المؤنثة لاسقط التاء - وقال:(ثلاث قروء)، لأن التاء تثبت في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة وتسقط في عدد المؤنث.

(2)

- الرد على هذا الاستدال: أن لفظ (القرء) مذكر، ومسماه مؤنث وهو الحيضة، (فالتاء) جيء بها مراعاة للفظ المذكر، لا للمعنى المؤنث.

(3)

3 -

قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فقوله تعالى: (لعدتهن) المراد: في عدّتهنّ، وفي ذلك إشارة إلى الطهر، فدل ذلك على أن العدة بالطهر، وقال:(أحصوا العدة) فأمر بالإحصاء عقب الطهر، فيكون المحصى بقية الطهر.

- الرد على هذا الاستدلال:

أ- أن (في) ظرف، (واللام) وإن كانت متصرفة على معان، فليس في أقسامها التي تتصرف عليها كونها ظرفاً.

ب- أنه إن كان المعنى: (في عدتهن)، فإنه يجب أن تكون العدة موجودة حتى يطلقها فيها.

كما لو قال قائل (طلقها في شهر رجب) لم يجز له ن يطلقها قبل أن يوجد من الشهر شيء.

ج- أن الإحصاء ليس بمختص بالطهر دون الحيض، لأن كل ذي عدد فالإحصاء يلحقه.

وقد اعتُرض على هذا الرد: بأن الذي يلي الطلاق هو الطهر، وقد أُمِرنا بالإحصاء، فوجب أن ينصرف الأمر بالإحصاء إلى الطهر، لأن الأمر على الفور

(4)

- الرد على هذا الاعتراض: أن الإحصاء إنما ينصرف إلى أشياء ذوي عدد، فأما أن ينصرف إلى شيء واحد قبل انضمام غيره إليه، فلا عبرة بإحصائه.

(1)

تفسير الرازي (6/ 89)

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 185).

(3)

تفسير الشنقيطي (1/ 110).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 370).

ص: 192

فإذاً لزوم الإحصاء يتعلق بما يوجد في المستقبل من الأقراء متراخياً عن وقت الطلاق، وحينئذ لا يكون الطهر أولى به من الحيض إذا كان وصف الإحصاء يتناولهما جميعاً إذ لافرق بينهما.

وعلى الأخذ بهذا الاستدلال، فإنه يلزم قائله أن يقول: إن المرأة لوحاضت عقب الطلاق مباشرة، أن تكون عدتها بالحيض لكون الإحصاء يلي الطلاق بدون تراخي عنه، والذي يلي الطلاق في هذه الحال الحيض فينبغي أن يكون هو العدة.

(1)

4 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بأن الطهر هو العدة مبيناً أن ذلك هو مراد الله جل وعلا من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]. فعن ابن عمر رضي الله عنه: أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مُرْه فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء"

(2)

.

فهذا الحديث نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء، فكان هو الأولى أن يكون هو المراد بالقروء

(3)

.

- الرد على هذا الاستدلال: أن (اللام) قد تدخل في ذلك لحال ماضية ومستقبلة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته"

(4)

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 370).

(2)

أخرجه مسلم كتاب الطلاق - باب تحريم طلاق الحائض- (حـ 3637 - 10/ 302).

والدارمي في سننه - كتاب الطلاق - باب السنة في الطلاق (حـ 2179 - 2/ 601).

(3)

تفسير القرطبي (3/ 120).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا)(حـ 1810 - 2/ 674).

ومسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (حـ 2496 - 7/ 188).

ص: 193

يعنى لرؤية ماضية. وكما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19].

يعنى: الآخرة - (فاللام) هنا للاستقبال والتراخي. فاحتمل ما في الحديث أن يكون إشارة إلى الحيضة الماضية، فيدل ذلك على أن العدة إنما هي الحيض.

وجائز أن يريد حيضة مستقبلة، إذ هي معلوم كونها على مجرى العادة، فليس الطهر حينئذ بأولى بالإعتبار من الحيض، لأن الحيض في المستقبل، وإن لم يكن الحيض مذكوراً فجائز أن يراد به، إذ كان معلوماً، كما أن الطهر لم يذكر بعد الطلاق، وإنما ذكر قبله، ولكن لما كان معلوماً وجوده بعد الطلاق إذ طلقها فيه على مجرى العادة، جاز رجوع الكلام إليه وإرادته باللفظ. ومع ذلك فجائز أن تحيض بعد الطلاق بلا فصل. فليس إذاً في اللفظ دلالة على أن المعتبر في الاعتداد به هو الطهر دون الحيض.

(1)

وبعد عرض أدلة هذا القول، وبيان الرد عليها، يظهر لنا تناقض هذا القول وفساده.

القول الثاني: أن المراد (بالقرء) الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به هو: (الحيض).

فمتى لم تغتسل المرأة المطلقة من الحيضة الثالثة فزوجها أحق بها.

- وهذا قول: الخلفاء الأربعة - ومعاذ بن جبل - وابن مسعود - وأبي موسى الأشعري - وأبي حنيفة - وأحمد بن حنبل - والأوزاعي - والثوري

(2)

.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فدل ظاهر النص على وجوب تربص المطلقة ثلاثة قروء كاملة، فيكون المراد (بالقروء) في الآية: الحيض.

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 379).

(2)

انظر: تفسير الطبري (2/ 452) - وتفسير ابن كثير (1/ 277). وتفسير البغوي (1/ 266) - ومعاني القرآن للنحاس (1/ 195).

ص: 194

لأن من يقول إن المراد بالقرء: الطهر، يجوِّز أن تعتد المطلقة بطهرين وبعض طهر، لأنه إذا طلقلها حال الطهر اعتدت عنده بقية ذلك الطهر قرءاً، ثم قرءين بعده كاملين. وفي هذا مخالفة لظاهر نص الآية.

وأما إذا قلنا إن المراد بالقروء الحيض، فإن المطلقة تعتد ثلاث حيض كاملة وفي ذلك موافقة لظاهر نص الآية

(1)

2 -

أن الغرض الأول من العدة: هو استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام، دون الطهر، ويدل على ذلك:

أ- أن الاستبراء من الأمة بالحيضة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة".

(2)

فأمر بالاستبراء بالحيض، فكذلك العدة ينبغي أن تكون بالحيض.

ب- قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228]، فالمراد بقوله:(ماخلق الله في أرحامهن) هو: الحيض. فحرم كتمان ما يأيتهن من الحيض، لأنه هو الذي يستبرأ به الرحم، وبكتمانه تحدث مفاسد كثيرة.

ج- أن الطهر مقارن للحبل، فدل ذلك على أن الاستبراء لا يقع بما يقارنه، وإنما يقع بما ينافيه وهو الحيض، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحبل، فوجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر.

(3)

3 -

قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فدلت الآية على أن العدة تعتبر بالحيض دون الطهر.

(1)

انظر: المغني لابن قدامة (11/ 199). والإنصاف للمرداوي (9/ 279). وتفسير الرازي (6/ 90)

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب النكاح - باب في وطء السبايا (حـ 2157 - 2/ 614).

والدارمي في سننه - كتاب الطلاق - باب في استبراء الأمة (حـ 2210 - 2/ 610).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 369).

ص: 195

أ- لأن الله جل وعلا نقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار، فدل على أن الأصل هو الحيض.

ب- ولأن الأشهر لما شرعت بدلاً عن الأقراء، والبدل يعتبر بتمامه - حيث أن الأشهر لا بد من إتمامها - وجب أيضاً أن يكون الإتمام والكمال معتبراً في المبدل، فيجب أن يكون المبدل هو الحيض، لأنه هو الذي يكمل دون الطهر الذي لا يكمل.

(1)

ج- ولأن اسم المقرء غير منتف عن الحيض بحال، وقد ينتفي عن الطهر، لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة، ومع ذلك فلم تُعتبرا من ذوات الأقراء. فدل ذلك على أن اسم القرء مجاز في الطهر، حقيقة في الحيض.

(2)

4 -

قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، فدلت الآية على أن العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق، والمستقبل بعد الطلاق إنما هو الحيض.

فإن الطاهر لا تستقبل الطهر إذ هي فيه، وإنما تستقبل الحيض بعد طهرها الذي طلقت فيه

(3)

5 -

ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان".

(4)

وهذا الحديث وإن كان مورده من طريق الآحاد، فقد أتفق أهل العلم على قبوله، والأخذ به في عدة الأمة فأوجب ذلك صحته.

(1)

انظر: تفسير القرطبي (3/ 120) - وتفسير الرازي (6/ 90).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 366).

(3)

زاد المعاد (5/ 225).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الطلاق - باب في سنة طلاق العبد (حـ 2189 - 2/ 639) وقال هو حديث مجهول. أهـ.

والترمذي في سننه - كتاب الطلاق - باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان. (حـ-1184 - 5/ 152) وقال: حديث عائشة حديث غريب لا

نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم. أ. هـ.

ص: 196

فنص الحديث على أن عدة الأمة حيضتان، وذلك خلافاً لقول من قال إن (القرء) هو: الطهر، لأنهم يزعمون أن عدتها طهران، ولا يكملون لها حيضتين.

وإذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض، وعليه يكون المراد (بالقرء) في الآية: الحيض دون الطهر.

(1)

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بـ (القروء) في الآية: (الحيض)، وذلك لما يلي:

1 -

قوة أدلة هذا القول مما يتعين معه الأخذ بها.

2 -

أن هذا القول هو قول معظم الصحابة والتابعين.

3 -

أن القرء في اللغة وإن كان مشتركاً بين الطهر والحيض، إلا أنه في الشرع غلب استعماله في الحيض، كما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن المستحاضة:"تدع الصلاة أيام أقرائها"

(2)

، ولم يجيء في موضع واحد استعماله للطهر، فحمله على المعهود من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم متعين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله جل وعلا، والقرآن تنزل بلغة قومه، فإذا ورد اللفظ المشترك في كلامه على أحد معنييه، وجب حمل سائر كلامه عليه، إذ لم يثبت إرادة المعنى الآخر في شيء من كلامه البته.

4 -

أن في هذا القول احتياطاً وتغليباً لجانب الحرمة، لأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ".

(3)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 366)

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الطهارة - باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر (حـ 297 - 1/ 208).

والترمذي في سننه كتاب الطهارة - باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة (حـ 126 - 1/ 199).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب صفة القيامة - باب رقم (60)(حـ 2523 - 9/ 321) وقال: هذا حديث صحيح. أ. هـ.

والإمام أحمد في مسنده (3/ 153).

ص: 197

قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} [البقرة: 230].

قال أبو جعفر الطحاوي: في المراهق هل يحلها للأول:

قال أصحابنا، والأوزاعي، والشافعي: إذا كان يجامع مثله، فجامعها فإنه يحلها لزوجها الأول.

وقال مالك: لا يحلها، لأن وطء الصبي ليس بوطء، والوطء الذي يحل ما يجب فيه الحدود.

قال الله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وقد فعلت.

وأيضاً فإن جماعه يحرم البنت كجماع الكبير، فكذلك التحليل.

(مختصر اختلاف العلماء - 2/ 325)

الدراسة

استدل الإمام الطحاوي بهذه الآية على: أن المطلقة البائنة متى تزوجها المراهق غير البالغ ثم طلقها، فإنه يحلها لزوجها الأول.

- وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة:

- القول الأول: لا يحل المطلقة البائنة جماع من لم يكن بالغاً.

- وهذا قول: مالك - والحسن - وأبي عبيد القاسم بن سلام.

(1)

- القول الثاني: يحل المطلقة البائنة جماع من لم يكن بالغاً.

- وهذا قول: جمهور العلماء من الصحابة والتابعين.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن الله جل وعلا قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] من غير فصل بين زوج وزوج.

2 -

ولأن جماع الصبي غير البالغ يتعلق به أحكام النكاح من المهر، والتحريم كجماع البالغ العاقل.

(2)

(1)

بداية المجتهد (2/ 148).

(2)

انظر: بدائع الصنائع (3/ 298) والمغني لابن قدامة (10/ 551).

ص: 198

الترجيح: والقول الراجح هو أن المطلقة البائنة يحلها جماع من لم يكن بالغاً، لأن ظاهر قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] أنه عام في كل زوج قادر على الجماع، من غير تخصيص لبالغ دون غيره.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة:231 - 232]

ص: 199

قال أبو جعفر الطحاوي: قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة:210] وهن إذا بلغن أجلهن، انقطعت الأسباب بينهن وبين مطلقيهن، فاستحال أن يمسكوهن بعد ذلك، وقد بين الله تعالى ذلك في الآية الأخرى، وهي قوله:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232][البقرة:232] فدل ذلك أنهن بعد انقضاء آجالهن حلال لمن يريد تزويجهن، وكان ذلك دليلاً أن مراده تعالى في الآية الأخرى بذكره بلوغ الأجل أنه قرب بلوغ الأجل لا حقيقة بلوغه.

(شرح مشكل الآثار -2/ 90)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (ببلوغ الأجل) في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة:231] هو قرب بلوغ الأجل لا حقيقة بلوغه.

وهذا هو قول: جمهور العلماء، وهو القول الصحيح.

وذلك لأن الأجل المذكور هو العدة، وبلوغه هو انقضاؤها، ولا خيار في الراجعة والإمساك بعد انقضاء العدة.

فالمراد بالبلوغ: مقاربته، دون انقضائه. وقد دل سبب النزول على أن هذا هو المراد:

فعن السدي: أنها نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين، أو ثلاثة راجعها، ثم طلقها ففعل ذلك بها، حتى مضت لها تسعة أشهر مضارة يضارها، فأنزل الله تعالى ذكره: وَلَا {تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]

(1)

.

فدل سبب نزول الآية على أن المراد ببلوغ الأجل: قرب بلوغه، لا حقيقة بلوغه.

ونظائر هذا كثيرة في القرآن واللغة. من ذلك:

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره - سورة البقرة - الآية (231)(ح 4923 - 2/ 494) وأورده السيوطي في لباب النقول (35).

ص: 200

قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]

والمعنى: إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة.

وكقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]

والمعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله.

وكقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] ليس المراد أن يكون العدل بعد القول، ولكن يكون قبله، فيلزمه ألا يقول إلا عدلاً.

وكما يقول المسافر: (بلغت بلد كذا) - ومراده مقاربته، لا حقيقة بلوغه.

فعلى هذا كان المراد (ببلوغ الأجل) في الآية الأولى: مقاربته، لا وجود نهايته.

وأما في الآية الثانية فالمراد (ببلوغ الأجل): وجود نهايته، لأن المعنى يقتضي ذلك، فابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة، ولا يتصور قبل ذلك.

فكان ذكر (بلوغ الأجل) حقيقة في الآية الثانية، مجاز في الآية الأولى.

(1)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 398) - ومعاني القرآن للنحاس (1/ 208). وتفسير القرطبي (3/ 156).

ص: 201

قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} [البقرة: 233].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن زيد بن وهب

(1)

، قال: سمعت أبا ذر

(2)

يقول: (لأن أحلف عشراً إن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف يميناً واحدة إنه ليس هو وذلك لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم ابن صياد، فقال: " سلها كم حملت به " فسألتها، فقالت: حملت به اثني عشر شهراً، فأتيته، فأخبرته)

(3)

(1)

زيد هو: أبو سليمان زيد بن وهب الجهني الكوفي، وثقه يحي بن معين وغيره، وكانت وفاته سنة (96 هـ)(تهذيب الكمال-3/ 87).

(2)

أبو ذر هو: جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو الغفاري، وهو من كبار الصحابة حيث كان خامس من أسلم، وكانت وفاته سنة (31 هـ).

(أسد الغابة -6/ 99).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 148)

ص: 202

فكان في هذا إخبار أبي ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهراً، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع لذلك، ولو كان محالاً لأنكره عليها، ودفعه من قولها، وفي ذلك ما قد دل أن الحمل قد يكون أكثر من تسعة أشهر على ما قد قاله فقهاء الأمصار في ذلك من أهل المدينة وأهل الكوفة وممن سواهم من فقهاء أهل الأمصار سوى هذين المصرين، وإن كانوا يختلفون في مقدار أكثر المدة في ذلك، فتقول طائفة منهم: إنه سنتان لا أكثر منهما، وممن كان يقول ذلك منهم أبو حنفية والثوري وسائر أصحاب أبي حنيفة.

وطائفة منهم تقول: هو أربع سنين لا أكثر منها، وممن كان يقول ذلك منهم كثير من قدماء أهل الحجاز، وبه يقول الشافعي.

وطائفة منهم تقول: إنه يتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه من الزمان، منهم مالك بن أنس.

واحتجنا عند اختلافهم هذا إلى طلب الأولى مما قالوه من هذه الأقاويل.

فوجدنا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]

فكان في ذلك جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهراً، فلا يجوز أن يخرجا ولا واحد منهما عنها.

وإذا لم يكن في هذا الباب غير هذه الثلاثة الأقاويل اللاتي ذكرنا، فكان في قولين منها الخروج عن الشهور إلى ما هو أكثر منها، انتفى هذان القولان، إذ كان كتاب الله قد دفعهما، ولم يبق إلا القول الآخر الذي لم يخرج به قائلوه عن الثلاثين شهراً التي جعلها الله عز وجل مدة للحمل وللفصال جميعاً، وهو الحولان، فكان هو الأولى مما قيل في هذا الباب.

فقال قائل: فإذا جعلتم الحمل والفصال ثلاثين شهراً لا أكثر منها، فكم تكون مدة الفصال من هذه الثلاثين شهراً.

ص: 203

فكان جوابنا له بتوفيق الله عز وجل: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إذا وضعت المرأة في تسعة أشهر، كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهراً، وإذا وضعت لسبعة أشهر، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر، فحولان كاملان، لأن الله تعالى يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]

قال أبو جعفر: ففي هذا الحديث أن ابن عباس لم يخرج الحمل والفصال من الثلاثين شهراً، وفي ذلك ما قد دل على أن الحمل كان عنده لا يخرج عن الثلاثين شهراً، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الحمل حولين، كان الباقي من الثلاثين شهراً ستة أشهر، فكان ذلك مما قد سأل عنه بعض من سأل، فقال: أفيجوز أن يكون الفصال ستة أشهر، وأبدان الصبيان لا تقوم بها؟ لأنهم يحتاجون من الرضاع إلى مدة هي أكثر منها.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه قد يحتمل أن يكون المولودون بعد مضي تلك الستة الأشهر يرجعون إلى لطيف الغذاء، فيكون ذلك عيشاً لهم وغنى لهم عن الرضاع.

ص: 204

غير أنا تأملنا ما في كتاب الله من ذكر الحمل والفصال، فوجدنا منه الآية التي قد تلوناها فيما تقدم منا في هذا الباب، ووجدنا منه قول الله عز وجل:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فجعل الفصال في هذه الآية من المدة عامين. ووجدنا من قوله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فكان في هاتين الآيتين الأخيرتين إثبات الحولين للفصال، فاحتمل عندنا - والله أعلم - أن يكون الله عز وجل جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً لا أكثر منها، على ما في الآية الأولى مما قد يحتمل أن يكون مدة الفصال فيها قد ترجع إلى ستة أشهر، ثم زاد الله عز وجل في مدة الفصال تمام الحولين بالآيتين الأخيرتين، فرد حكم الفصال إلى جهته من الثلاثين شهراً وعلى تتمة الحولين على ما في الآيتين الأخريين، وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى، فلم يخرجه من الثلاثين شهراً، وأخرج مدة الفصال من الثلاثين شهراً إلى ما أخرجها إليه بالآيتين الأخريين، والله عز وجل أعلم بمراده في ذلك، وبما كان منه فيه.

والدليل على صحة ما قد ذكرناه المراعاة بالرضاع حولين، وقد قال ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد، منهم ابن عباس رضي الله عنه

قال أبو جعفر: فهذا ابن عباس قد قصد إلى الرضاع بالحولين، فدل ذلك أنهما له عنده مدة، وأكثر فقهاء الأمصار على ذلك.

فكان في ذلك ما قد دل على التأويل الذي تأولناه في الثلاث الآيات التي تلوناها في هذا الباب.

ص: 205

وقال قائل: قد ذكرت في مدة الحمل في هذا الباب ما ذكرته من نقل أبي ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهراً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك، وجعلت ذلك حجة على من نفى أن يكون الحمل كان مخصوصاً في حمل أمه به في هذه المدة ليكون آية للعالمين لما ذكر فيه من أنه الدجال.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه إنما يكون هذا الاحتمال يرجوا أنه الدجال الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام أممهم منه، وذكروا لهم أحواله التي يكون عليها، وادعاءه أنه لهم إله، ومكثه في الأرض بما يمكثه فيها، ومنع الله عز وجل إياه من حرمه وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، ونزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ليقتله في الموضع الذي يقتله فيه، ولم يوجد هذا في ابن صياد، لأنه قد كان في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتله، ولو كان الدجال نفسه لقتله، ولو كان الذي قيل فيه من ذلك قيل: إنه دجال، لما أنكر أن يكون دجالاً ويكون بعده دجالون، وإن تفاضلوا فيما يكونون عليه في ذلك ويتباينون فيه، ولكنه قيل: إنه الدجال، فعاد ذلك إلى الدجال الذي هو الدجال، وقد قامت الحجة بخلاف ذلك

وإذا أخرج أن يكون هو الدجال الذي ذكرنا كان كأحد بني آدم في خلقه في مدة حمله.

والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار -7/ 289 - 297)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال الواردة في مدة الحمل والرضاع، مرجحاً القول بأن مدة الحمل لا تزيد عن سنتين، كما أن مدة الرضاع لا تزيد عن سنتين.

وإليك بيان أقوال العلماء في المراد بتقدير مدة الرضاع بحولين في قوله جل وعلا: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة:233]:

ص: 206

القول الأول: أن تقدير مدة الرضاع بحولين هو: حد لبعض المولودين دون بعض، وهذا التقدير لمدة الرضاع يختلف باختلاف مدة الحمل، فمدة الرضاع لا حد لأقلها، وأكثرها محدود بالحولين كما دل عليه قوله جل وعلا:: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة:233] وقوله جل ذكره: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فدلت هاتين الآيتين على أن أكثر مدة الرضاع حولين كاملين.

كما دل قوله جل وعلا: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] على أن مدة الرضاع تتداخل مع مدة الحمل: فتقصر إلى ستة أشهر، وتطول إلى سنتين، ولا تخرج عن ذلك.

- وهذا قول: ابن عباس - وهو ما ذكره الإمام الطحاوي.

القول الثاني: أن تقدير مدة الرضاع بحولين: كان فرضاً على والدات المولودين. ثم خفف الله جل وعلا ذلك بقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أتموا حولين، وإن أرادوا فطم المولود قبل ذلك، كان ذلك راجعاً إليهم.

- وهذا قول: قتادة - والربيع - والضحاك.

القول الثالث: أن تقدير مدة الرضاع بحولين: هو من أجل قطع التنازع بين الزوجين إذا اختلفا في مدة الرضاع، فأراد أحدهما بلوغ الحولين، وأرد الآخر التقصير عنه. وبهذا يكون حكم الحاكم عند وقوع مثل هذا التنازع.

- وهذا قول: ابن عباس - وعطاء - والثوري.

القول الرابع: أن تقدير مدة الرضاع بحولين: لبيان أن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين. فإذا وقع الرضاع خارج هذا الزمن فإنه لا يثبت به أحكام الحرمة. وقد دل على ذلك:

1 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين "

(1)

.

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه - كتاب الرضاع (حـ 10 - 4/ 174).

والإمام مالك في الموطأ - كتاب الرضاع - باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر (حـ 14 - 2/ 473).

ص: 207

2 -

وما روته أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحرم الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام "

(1)

.

- وهذا قول: ابن عباس - وابن عمر - وابن مسعود رضي الله عنهم.

(2)

الترجيح: جميع الأقوال المتقدمة يصح أن تكون مرادة بالآية، إذ لا تعارض بينها، والاختلاف بينها اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة:235]

قال أبو جعفر الطحاوي: التسري التفعل من السر، وهو الجماع، وقد يجعل في موضع النكاح إذا كان سبباً للجماع، قال الله تعالى:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة:235] أي: عقد نكاح.

(مختصر اختلاف العلماء -3/ 259)

(1)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الرضاع - باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر (ح 1154 - 5/ 96) وقال: هذا حديث صحيح،

والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أ هـ.

وابن ماجة في سننه - كتاب النكاح -باب: لا رضاع بعد فصال (ح 195 - 1/ 358).

(2)

انظر: تفسير الطبري (2/ 504). وتفسير الرازي (6/ 118).

ص: 208

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة:235]

أي: لا تواعدوهن عقد النكاح، وإليك بيان أقوال المفسرين في ذلك:-

القول الأول: أن المراد بقوله تعالى:: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . [البقرة:235]

أي: لا تواعدوهن بالجماع في العدة عن طريق الزنا، ثم التزوج بعد إنتهاء العدة

- وهذا قول: إبراهيم النخعي - وجابر بن زيد - والضحاك - وقتادة - والشافعي - والطبري.

- الرد على هذا القول: هذا القول فيه بعد، لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها. إذ أن الله جل وعلا حرم الزنا تحريماً مطلقاً غير مقيد بشرط، ولا مخصوص بوقت.

(1)

القول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة:235]

أي: لا تواعدوهن بالجماع في العدة عن طريق التزوج سراً، ثم إظهار التزوج بعد انتهاء العدة. - وهذا قول: زيد بن أسلم.

- الرد على هذا القول: هذا القول فيه بعد، لأن حظر إيقاع عقد النكاح في العدة، مذكور بنصه في الآية بقوله تعالى:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235].

(2)

القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة:235]:

أي: لا تواعدوهن بالجماع بعد العدة عن طريق التزوج.

والمعنى: لا تأخذ أيها الرجل الراغب في الزواج على المرأة المعتدة عهداً وميثاقاً أن تحبس نفسها عليك ولا تتزوج بغيرك بعد انقضاء العدة.

- وهذا قول: جمهور أهل العلم.

(3)

وهو ما ذهب إليه الإمام أبو جعفر الطحاوي.

(1)

انظر: تفسير الطبري (2/ 540) - وتفسير ابن عطية (2/ 221).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 424).

(3)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 424)، وتفسير ابن عطية (2/ 220).

ص: 209

الترجيح: قوله تعالى: (سراً) هذا اللفظ محتمل لجميع المعاني المتقدمة، لأن الإسرار خلاف الإعلان، ولأن هذا اللفظ (السر) يكنى به عن الجماع حلاله وحرامه.

(1)

قال الشاعر امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني

كبرت وألا يحسن السر أمثالي.

(2)

أي: ولا يحسن الجماع أمثالي.

وقال الشاعر الأعشى:

فلا تقربن جارة إن سرها

عليك حرام فانحكن أو تأبدا

(3)

أي: إن جماعها عليك حرام.

قلت: وأظهرت هذه الأقوال وأولاها بمراد الآية- مع احتمالها لجميع هذه الأقوال- قول الجمهور القائلين إن المراد بالآية: هو أن يأخذ الرجل على المرأة المعتدة عهداً أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجاً غيره.

وذلك لأن الله جل ذكره، حرم عقد النكاح في العدة، فكذلك إعطاء الوعد والعهد عليه.

وأما التعريض للمرأة وهي في العدة بأن يقول: (إني في مثلك لراغب، وإن قضي شيء كان)، وما أشبهه من الكلام، مما يدل على رغبته فيها، فلا بأس به إذا لم يصرح.

(4)

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة:236]

(1)

انظر: المفردات للراغب الأصفهاني، (مادة: سرر) (228). ولسان العرب، (مادة: سرر) (4/ 358).

(2)

ديوان امرؤ القيس (154).

(3)

ديوان الأعشى (137).

(4)

المغني لابن قدامة (9/ 572).

ص: 210

قال أبو جعفر الطحاوي: وجدنا الله عز وجل قد ذكر تمتع المطلقات في ثلاثة مواضع من كتابه، وهي قوله عز وجل:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] وقوله: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، وقوله عز وجل:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236]، فكان ذلك مما قد يحتمل أن يكون كمثل قوله عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180] فكان ذلك على الندب والحض، لا على الإيجاب، فيكون مثل ذلك قوله عز وجل في متع المطلقات:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يكون ذلك على الترغيب في ذلك، والحض عليه، فيكون في المطلقات جميعاً، مدخولاً بهن كن، أو غير مدخول بهن، كما قد روي عن علي رضي الله عنه

واحتمل أن يكون ذلك على الإيجاب لبعضهن دون بعض، كما قد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول:(لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق، فحسبها نصف ما فرض لها) فكان في هذا من قول ابن عمر إخراج المطلقات قبل الدخول بهن من المتع اللاتي ذكرنا.

ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر، فوجدنا الواجب إبدالاً من الإبضاع يجب بوقوع التزويجات وانعقادها لا بما سوى ذلك، ولما كانت المتع لا توجبها التزويجات اللاتي لا طلاق معها، كان بأن لا يوجبها الطلاق الذي يكون بعدها أحرى.

فإن قال قائل: فقد رأينا الطلاق يوجب النفقة والسكنى في العدة، ولم يكونا واجبين قبل ذلك.

ص: 211

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن الأمر ليس كما ذكر، ولكنهما قد كانا واجبين بالتزويج وجوباً لم يرفعه الطلاق الواقع فيه، فهذه حجة في وجوب التمتع للمطلقات بعد الدخول، فأما المطلقات قبل الدخول، فقد اختلف أهل العلم فيهن: هل لهن متع يحكم بها على مطلقيهم الذين لم يكونوا فرضوا لهن صداقاً أم لا؟

فقال قائلون: لهن عليهم التمتع وإن كانوا قد اختلفوا في مقادير المتع، فقال قائلون منهم: هي المقدار الذي يجزئ في الصلاة من اللباس. وممن قال ذلك منهم كثير من الكوفيين، منهم أبو حنيفة، والثوري، والقائلون بقولهما.

وقال آخرون منهم: مقدار المتعة في هذا هو نصف صداق مثلها من نسائها اللاتي يرجع في مثل صداقها إلى أمثال صدقات أمثالهن، وممن قال ذلك منهم حماد بن أبي سليمان،

(1)

وهذا هو الأولى مما قالوه في ذلك على أصولهم التي بنوا هذا المعنى عليها.

(1)

حماد هو: أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي، أصله من أصبهان، أحد العلماء الفقهاء الأذكياء من تلاميذه الإمام أبي حنيفة،

وكانت وفاته سنة (120 هـ)(سير أعلام النبلاء -5/ 231).

ص: 212

وقال قائلون من أهل العلم سواهم: إن المتع في هذا محضوض عليها، مأمور بها، غير مجبر عليها، وممن قال ذلك منهم: مالك بن أنس، وخالف الآخرين الذين ذكرناهم في ذلك، لأن أولئك يوجبونها، ويجبرون عليها، ويحبسون فيها، وكان الأولى مما قد قيل في ذلك عندنا - والله أعلم - الإيجاب لها، والحبس فيها، لأن التزويج وقع بلا تسمية صداق أوجب لها صداق مثلها على زوجها، كما أوجب ملك بضعها لزوجها، فلما وقع الطلاق قبل الدخول، أُسقط عن الزوج نصف الواجب عليه قبل الطلاق مما قد كان محبوساً في جميعه لو لم يطلق، فإذا طلق، فسقط عنه بالطلاق نصفه، بقي النصف الباقي عليه كما كان عليه قبل ذلك من فروضه إياه، وأخذه به، وحبسه فيه، كما إذا سمى لها صداقاً، ثم طلقها قبل دخوله بها، فزال عنه نصفه، يكون النصف الباقي لها عليه على حكم كله الذي كان لها عليه قبل الطلاق من لزومه إياه لها، ومن حبسه لها فيه.

وقد رويت عن المتقدمين آثار في المتع بالطلاق نحن ذاكروها في هذا الباب إن شاء الله، فمنها:

أن رجلاً خاصم إلى شريح

(1)

في متعة امرأته، فقال شريح:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]} فإن كانت من المتقين، فعليك متعة. ولم يقض به.

ومنها. عن سعيد بن جبير،

(2)

قال: لكل مطلقة متعة وعن الحسن

(3)

مثله.

(1)

شريح هو: أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس الكندي، من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وكانت

وفاته سنة (87 هـ)(وفيات الأعيان-2/ 460).

(2)

سعيد هو: أبوعبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، كان فقيهاً ورعاً من الطبقة الثالثة، كان من أعلم التابعين بالتفسير، وكانت وفاته سنة

(95 هـ)(وفيات الأعيان-2/ 371).

(3)

الحسن هو: أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، كان إماماً في العلم والعمل، وهو تابعي من الطبقة الثالثة، وكانت وفاته سنة (110 هـ)

(طبقات المفسرين-1/ 150).

ص: 213

ومنها عن عطاء، قال: لكل مطلقة متاع، إلا التي طلقها قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، فلها نصف الصداق وعن الشعبي

(1)

مثله.

ومنها عن الضحاك

(2)

، أنه قال: لكل مطلقة متاع حتى المختلعة

وفيما ذكرنا فيما قد تقدم من هذا الباب ما قد دل على الصحيح مما قد قالوه في ذلك مما ذكرناه عنهم، والله نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار -7/ 56 - 63).

الدراسة

استدل الإمام الطحاوي بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] على: أن متعة المطلقة غير واجبة، وإنما هي من الأمور المندوب إليها.

وإليك بيان الأقوال في مسألة: حكم تمتع المطلقات، وهل الآية دالة على وجوبه أم الندب إليه؟:-

- القول الأول: أن المتعة للمطلقة مندوب إليها.

- وهذا قول: ابن أبي ليلى - وأبي الزناد - والليث - ومالك - وبه حكم شريح القاضي.

- ودليل هذا القول: أن قوله جل وعلا: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] وقوله {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فيه دلالة على أن المتعة لو كانت واجبة وجوب الحقوق المالية اللازمة بكل حال، لما خص المتقون والمحسنون بأنها واجبة عليهم دون غيرهم. فلما خصهم بالذكر دون غيرهم دل ذلك على أن المتعة مندوب إليها وليست بواجبة، لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم.

- الرد على هذا الاستدلال:

1 -

أنه يلزم القائل بالندب، ألا يجعل الأمر بالمتعة في الآية ندب، لأن ما كان ندباً لا يختلف فيه المحسنون وغيرهم.

(1)

الشعبي هو: أبو عمرو عامر بن شراحيل الهمداني الشعبي، وكانت وفاته سنة (104 هـ)، (سير أعلام النبلاء-4/ 294).

(2)

الضحاك هو: أبو محمد الضحاك بن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، وثقة أحمد بن حنبل وغيره، وكانت وفاته سنة (102 هـ)

(سير أعلام النبلاء- 4/ 598).

ص: 214

فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم سواء، فكذلك جائز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في الإيجاب، ويكونون هم وغيرهم فيه سواء.

2 -

أن الله جل وعلا إنما ذكر المحسنين والمتقين في الأمر بالمتعة: تأكيداً لوجوبها، وليس في تخصيصهم بالذكر نفياً لإيجابها على غيرهم. كما قال جل وعلا:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فذكر أن هذا القرآن هدى للمتقين، مع كونه هدى لكافة الناس. ولم يكن في ذلك ما يوجب أن لا يكون هدى لغير المتقين.

3 -

أنه على فرضية صحة هذا القول وأن الأمر للندب لكونه خصه بالمحسنين والمتقين، فإن قوله جل وعلا:{فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49] دال على أن ذلك عام في الجميع بالاتفاق، فوجب حمل الآيتين المتقدمتين على ذلك، والقول بوجوب متعة المطلقة.

- القول الثاني: أن المتعة للمطلقة واجبة.

- وهذا قول: جمهور العلماء.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن الله جل وعلا قال: {ومتعوهن} وقال: {فَمَتِّعُوهُنَّ} فهذا أمر من الله جل وعلا، والأمر يقتضي الوجوب حتى يقوم الدليل على خلافه.

2 -

أن الله جل وعلا قال: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] وقال: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] وليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قولك (حقاً عليك). فـ (حقاً عليك) بمعنى (واجب عليك).

3 -

أن الله جل وعلا قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وقال:: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وفي هذا التخصيص تأكيد لإيجاب المتعة، إذ جعلها من شرط الإحسان والتقوى، والإحسان والتقوى مطلب واجب على كل مؤمن، إذ أن الله جل وعلا قد أمر جميع عباده بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على المحسنين والمتقين فعلى غيرهم أوجب ولهم ألزم.

ص: 215

4 -

أن الله جل وعلا قال:: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فاللام في قوله (للمطلقات) للملك، وهذا يقتضي الوجوب، لأن ما كان ملكاً لإنسان فله حق المطالبة به، وقد جعل الله تعالى المتعة ملكاً للمطلقة، فهي واجبة لها، ولها حق المطالبة بها.

5 -

أن الله جل وعلا قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] وهذا دال على الوجوب، لأن ما ليس بواجب، غير معتبر بحال الرجل، إذ له أن يفعل ما شاء منه في حال اليسار والإعسار فلما قدر المتعة بحال الرجل، ولم يطلقها، ولم يخير الرجل فيها، دل على وجوبها.

(1)

الترجيح: والقول الراجح هو أن الآية دالة على وجوب المتعة للمطلقة، لأن الله جل وعلا أمر بها في الآية، وأمره جل وعلا فرض واجب، إلا أن يبين جل ذكره في كتابه أو على لسان رسوله، أنه عنى به الندب لا الوجوب. ولأن هذا هو قول جمهور الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم

قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة:237]

قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا، والثوري، وابن شبرمة

(2)

،

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 428) - وتفسير الطبري (3/ 549).

(2)

ابن شبرمة هو: أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة، قاضي الكوفة، وفقيه العراق، كان من أئمة الفروع، وثقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره، وكانت

وفاته سنة (144 هـ)(سير أعلام النبلاء- 6/ 349).

ص: 216

والأوزاعي، والشافعي:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] هو: الزوج، بأن يتم لها كمال المهر بعد الطلاق قبل الدخول، وقوله:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ے [البقرة:237]: للبكر والثيب.

وقال مالك: إذا طلقها قبل الدخول وهي بكر جاز عفو أبيها. عن نصف الصداق، وقوله:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] اللاتي قد دخل بهن. قال: ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شئ من الصداق إلا الأب وحده لا وصي ولا غيره.

وقال الليث:

(1)

لأبي البكر أن يضع من صداقها عند عقدة النكاح وإن كرهت، ويجوز عليها، وبعد عقد النكاح: ليس له أن يضع شيئاً من صداقها، ولا يجوز عفوه أيضاً عن شيء من صداقها بعد الطلاق قبل الدخول، ويجوز له مبارأة زوجها وهي كارهة، إذا كان ذلك نظراً من أبيها لها، وكما لم يجز للأب أن يضع لزوجها شيئاً من صداقها بعد النكاح، كذلك لا يعفو عن نصف صداقها بعد ذلك.

وذكر ابن وهب

(2)

عن مالك: أن مبارأته عليها جائز.

قال أبو جعفر: روي عن علي، وجبير بن مطعم

(3)

في (بيده عقدة النكاح): أنه الزوج.

وعن ابن عباس: هو أبوها.

(1)

الليث هو: أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن، إمام أهل مصر في الفقه والحديث، وكانت وفاته بمصر سنة (175 هـ)

(وفيات الأعيان-4/ 127).

(2)

ابن وهب هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، الفقيه المالكي المصري، ومن مصنفاته: الموطأ الكبير- والموطأ الصغير، وكانت

وفاته سنة (197 هـ)(وفيات الأعيان-3/ 36).

(3)

جبير هو: الصحابي الجليل أبو محمد جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي، وكان من حلماء قريش وسادتهم، وكان يؤخذ عنه النسب

للعرب قاطبة، وكانت وفاته سنة (57 هـ)(أسد الغابة -1/ 323).

ص: 217

وقال مالك: إن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] على البكر تعتد؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] فالآية في المطلقة غير المدخول بها.

(مختصر اختلاف العلماء -2/ 264).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي الأقوال في المراد بمن يملك عقدة النكاح، (والعفو) المطلوب منه، في قوله جل وعلا:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237].

? وإليك بيان هذه الأقوال وأدلتها، مع بيان القول الراجح منها:-

- القول الأول: أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الولي.

وعفو الولي هو: أن يترك للزوج كمال المهر إذا طلق الزوجة قبل الدخول بها.

- وهذا قول: ابن عباس - وعلقمة - والنخعي - ومجاهد - والحسن - وعكرمة.

وإليه ذهب: مالك - والشافعي في القديم - وأحمد في رواية عنه.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن الله جل وعلا - قال في أول الآية: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة: 237] فهذا خطاب للأزواج، ثم قال:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] وهذا خطاب للزوجات. ثم قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]. وهذا مخاطب ثالث، فيلزم أن يكون المراد به (الولي) ولايرد إلى الأزواج، لأنه قد سبق ذكرهم.

(2)

(1)

انظر: الإنصاف للمرداوي. (8/ 271) - وتفسير الماوردي (1/ 307).

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 221).

ص: 218

ويرد على هذا الاستدلال: بأن الله جل وعلا قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فعدل عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو - وهذا المعنى هو: أو يعفو الزوج الذي حبس زوجته بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج، ثم لم يكن منها سبب في الفراق، وإنما كان الفراق منه لعدم رغبة فيها، فلا جرم أنه كان حقيقياً بأن لا ينقصها من مهرها، ويكمل لها صداقها.

(1)

2 -

أن الله جل وعلا قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها، لا عفو لهما، فبين الله جل وعلا القسمين:

فقال في القسم الأول: {إِلَّا أَنْ} يَعْفُونَ [البقرة:237] أي: إن كن لذلك أهلاً.

ثم ذكر القسم الثاني، فقال:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] أي الولي، إن لم يكن أهلاً لذلك.

(2)

الرد على هذا الاستدلال: أن الله جل وعلا قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] فأرد بذلك النساء التي جرى ذكرهن في الآية المتقدمة في قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236] فذكر أن الذين يعفون هم النساء - والصبايا - لا يسمين (نساء) وعلى ذلك فلا يصح أن يكون المراد بقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] الولي على غير البالغات.

وإن كان المراد بقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] الولي على البالغات، فلا يصح أيضاً، لأنه بالإجماع لا ولاية له عليهن.

(3)

(1)

تفسير الرازي (6/ 143).

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (1/ 221).

(3)

تفسير الطبري (2/ 565).

ص: 219

3 -

أن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] فالخطاب للزوج في أول الآية، فلو كان الزوج هو المراد بالعفو، لقال:(إلا أن يعفون أو تعفوا). ولم يقل: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فدل سياق الكلام على أن المراد هو الولي لا الزوج

(1)

.

- الرد على هذا الاستدلال: أن هذا الأسلوب هو من باب الالتفات، إذ فيه خروج من الخطاب إلى الغيبة وهذا وارد في اللغة، ولا إشكال في ذلك.

(2)

4 -

أن الله جل وعلا قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] ولو كان المراد الزوج لقال: (أو يعفو الزوج) لما تقدم من ذكر الزوج.

- الرد على هذا الاستدلال: أنه لو كان المراد الولي لقال: (أو يعفو الولي) ولم يورد لفظاً يشترك فيه الزوج والولي. فهذا الاستدلال لا وجه له في الصحة، لأن الله جل وعلا يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص، وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه، وتارة بلفظ يحتمل معاني عدة، وهو في بعضها أظهر وأولى، وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بها الاستدلال عليه من غيره. وكل هذه الأوجه واردة في القرآن، ولا مانع منها.

(3)

5 -

أن الله جل وعلا قال:: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فأجاز الله جل وعلا عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة. فكان معلوماً بذلك أن الزوج غير معني بالآية، لأن الزوج إذا طلق زوجته بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها. وفي عدم صحة القول بأنه الزوج، صحة القول بأنه الولي.

- الرد على هذا الاستدلال:

(1)

معاني القرآن للنحاس (1/ 235).

(2)

تفسير أبي حيان (2/ 538).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 441).

ص: 220

أ-أن معنى قوله تعالى:: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] أي: (أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه) وهو الزوج، فإن بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، وليس المعنى:(أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن).

ب-أو يقال إنه جل وعلا قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] تعبيراً بذلك عن حالة الزوج السابقة.

ج-أن ولي المرأة لا يملك عقد نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حالة طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى (أن الذي بيده عقدة النكاح) هو: الولي.

والله جل وعلا لم يخصص بعض الأولياء دون بعض في الآية. فيبطل الاستدلال بالآية من هذا الوجه.

(1)

6 -

أن اللغة توجب أن الزوج إذا أعطى الصداق كاملاً، ألا يقال له عاف، ولكن يقال له: واهب.

لأن العفو إنما هو ترك الشيء وإذهابه، ومنه قولهم:(عفت الديار) ومنه قولك: (عفا الله عنك).

(2)

- الرد على هذا الاستدلال: أن إعطاء الزوج المهر كاملاً، إنما سمي عفواً لأحد أمرين:

أ- إما على طريق المشاكلة، لأن قبله - قوله جل ذكره:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237].

ب- أو لأن من عادات العرب أنهم كانوا يسوقون المهر كاملاً عند التزوج، فسمي ترك أخذهم النصف مما ساقوه: عفواً.

(3)

- القول الثاني: أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج.

وعفو الزوج هو: أن يتم للزوجة كمال المهر إذا طلقها قبل الدخول.

- وهذا قول: علي بن أبي طالب - وجبير بن مطعم - وسعيد بن جبير - وسعيد بن المسيب.

(1)

انظر: تفسير الطبري (2/ 565) - وتفسير أبي حيان (2/ 537).

(2)

معاني القرآن للنحاس (1/ 336).

(3)

تفسير أبي حيان (2/ 537).

ص: 221

وإليه ذهب: أبو حنيفة وأصحابه - والشافعي في أصح قوليه- وأحمد بن حنبل في رواية عنه - والثوري - والأوزاعي.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أنه لما كان قول الله جل وعلا: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] من المتشابه، لاحتماله القولين المذكورين عن السلف، وجب رده إلى المحكم الذي لا خلاف فيه وهو: قوله جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]

فذكر جل ذكره: ترك الزوج الصداق على الزوجة، وتركها الصداق له.

وقوله جل وعلا: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة:229]. وقوله جل وعلا: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20]

فدلت الآيتان علىمنع الزوج من انتزاع شيء من الزوجة إلا أن تتركه هي له أو يترك هو لها ما استحق استرجاعه منها.

فكذلك ينبغي أن يكون اللائق بالآية هنا: أنه خطاب للزوجين جميعاً. فإنه جل ذكره رغب الزوجة أولاً بالعفو عما لها بقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237]. ثم رغب الزوج ثانياً بالعفو عما له بقوله:: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]

(2)

.

2 -

أن الذي بيد الولي (عقدة النكاح) فإذا عقد، حصلت (عقدة النكاح). في يد الزوج، وخرجت من يده.

(3)

(1)

انظر: معاني القرآن الهراسي (1/ 233) - وأحكام القرآن للجصاص (1/ 439).

(2)

أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 208).

(3)

تفسير الرازي (6/ 142).

ص: 222

3 -

أن (العفو) إنما يطلق على ملك الإنسان، وعفو الولي، عفو عما لا يملك، فلو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق، لم يجز، فكذلك بعده، لعدم صحة عفوه.

4 -

أن الله جل وعلا قال: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] والفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره. فغير جائز للولي هبة شيء من مال الزوجة للزوج ولا لغيره، فكذلك مهرها لأنه مالها، فلا أحد يستحق الولاية على غيره في هبة ماله.

(1)

الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] هو: الزوج، وذلك لما يلي:

1 -

قوة أدلة هذا القول وعدم ثبوت المعارض، خلافاً للقول الثاني.

2 -

أن في القول بأن المراد بالآية (الولي) تكراراً للمعنى المتقدم في الآية، لأن عفو الولي هو بذاته عفو المرأة، خلافاً لعفو الزوج، فيكون هو المراد.

3 -

لما رواه محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه: (أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، فأكمل الصداق لها، وقال أنا أحق بالعفو).

(2)

وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الآية، أن المراد بالعفو هو الصادر من الزوج، لا الصادر من الولي.

وبهذا يتبين أن ما بدأ به الإمام الطحاوي من الأقوال هو القول الصواب في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن الزبرقان

(3)

(1)

تفسير ابن الجوزي (1/ 248).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (سورة البقرة - 237)(حـ 5326 - 2/ 561).

(3)

الزبرقان هو: الزِّبرقان بن عمرو بن أمية الضمري، ذكره ابن حبان في كتابه الثقات، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجة.

(تهذيب الكمال 3/ 9).

ص: 223

قال: إن رهطاً من قريش اجتمعوا، فمر: بهم زيد بن ثابت، فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال:(هي الظهر).

فقام إليه رجلان منهم، فقال:(هي الظهر)، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم، وتجارتهم، فأنزل الله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم).

(1)

عن عبد الرحمن بن أفلح،

(2)

أن نفراً من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر يسأله، عن الصلاة الوسطى، فقال: اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أنا كنا نتحدث أنها التي في إثر الضحى.

قال: فردوني إليه الثانية، فقلت: يقرؤن عليك السلام، ويقولون بين لنا أي صلاة هي؟

فقال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم أنا كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، قال: وقد عرفناها: (هي الظهر).

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى ما ذكرنا، فقالوا: هي الظهر، واحتجوا في ذلك بما احتج به زيد بن ثابت، على ما ذكرناه عنه، وبما رويناه في ذلك عن ابن عمر.

وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما حديث زيد بن ثابت، فليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله:(لينتهين أقوام أو لأحرقن عليهم بيوتهم) وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يجتمع معه إلا الصف والصفان، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

فاستدل هو بذلك على أنها الظهر، فهذا قول من زيد بن ثابت، ولم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى (حـ 356 - 1/ 151) وأحمد في مسنده (5/ 206).

(2)

عبد الرحمن هو: أبو محمد عبد الرحمن بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري (الجرح والتعديل - 5/ 210).

ص: 224

وليس في هذه الآية - عندنا - دليل على ذلك، لأنه قد يجوز أن تكون هذه الآية أنزلت للمحافظة على الصلوات كلها، الوسطى وغيرها.

فكانت الظهر فيما أريد وليست هي الوسطى، فوجب بهذه الآية المحافظة على الصلوات كلها، ومن المحافظة عليها حضورها حيث تصلى.

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة التي يفرطون في حضورها: (لينتهين أقوام أو لأحرقن عليهم بيوتهم) يريد: لينتهين أقوام عن تضييع هذه الصلاة التي قد أمرهم الله عز وجل بالمحافظة عليها أو لأحرقن عليهم بيوتهم، وليس في شيء من ذلك دليل على الصلاة الوسطى أي صلاة هي منهن.

وقد قال قوم: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، لم يكن لصلاة الظهر، وإنما كان لصلاة الجمعة

عن عبد الله،

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على قوم يتخلفون عن الجمعة في بيوتهم).

(2)

فهذا ابن مسعود يخبر أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إنما كان للمتخلفين عن الجمعة في بيوتهم.

ولم يستدل هو بذلك على أن الجمعة هي الصلاة الوسطى، بل قال بضد ذلك وأنها العصر، وسنأتي بذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على ما قال من ذلك غيره من التابعين ..

(1)

عبد الله هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، هاجر

الهجرتين وشهد المشاهد كلها، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكانت وفاته سنة (32 هـ)(أسد الغابة -3/ 384).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب: ما روي في التخلف عن الجماعة (حـ 1483 - 5/ 157)

وابن خزيمة في صحيحه - كتاب: الجمعة - باب: التغليظ في التخلف عن شهود الجمعة (حـ 1853 - 3/ 174).

ص: 225

عن الحسن قال: كانت الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق على أهلها، صلاة الجمعة.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه خلاف ذلك أيضاً

عن أبي هريرة رضي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر رجلاً بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين

(1)

حسنتين لشهد العشاء)

(2)

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر أن الصلاة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، هي العشاء، ولم يدله ذلك على أنها هي الصلاة الوسطى، بل وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقد وافق أبا هريرة رضي الله عنه من التابعين على ما قال من ذلك سعيد بن المسيب

(3)

(1)

معنى قوله: (مرماتين): المرماة هي: ظلف الشاة، وقيل ما بين ظلفيها، وتكسر ميمه وتفتح، وقيل (المرماة) بالكسر: السهم الصغير الذي يتعلم

به الرمي، وهو أحقر السهام وأدناها. ومعنى الحديث: أنه لو دعي إلى أن يعطى سهمين من هذه السهام لأسرع الإجابة. (النهاية في غريب

الحديث - 2/ 269).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الجماعة والإمامة - باب: وجوب صلاة الجماعة. (حـ 618 - 1/ 231).

والبيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ماجاء من التشديد في ترك الجماعة من غير عذر. (حـ 1 - 3/ 55)

(3)

سعيد هو: أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان سيد التابعين جمع بين الحديث والفقه والزهد

والعبادة والورع، وكانت وفاته بالمدينة سنة (91 هـ)(وفيات الأعيان - 2/ 375).

ص: 226

وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه خلاف ذلك كله وأن ذلك القول لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم لحال الصلاة، وإنما كان لحال أخرى

قال أبو الزبير

(1)

سألت جابراً أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا شيء لأمرت رجلاً أن يصلي بالناس، ثم حرقت بيوتاً، على ما فيها).

قال جابر إنما قال ذلك من أجل رجل بلغه عنه شيء فقال: (لئن لم ينته لأحرقن بيته على مافيه).

(2)

فهذا جابر يخبر أن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان للتخلف عما لا ينبغي التخلف عنه.

فليس في هذا ولا في شيء مما تقدمه الدليل على الصلاة الوسطى ما هي.

فلما انتفى بما ذكرنا أن يكون فيما روينا عن زيد بن ثابت في شيء من ذلك دليل، رجعنا إلى ما روي، عن ابن عمر، فإذا ليس فيه حكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قوله لأنه قال هي الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة.

وقد روي عنه من غير هذا الوجه خلاف ذلك عن سالم عن أبيه قال: (الصلاة الوسطى صلاة العصر).

فلما تضاد ما روي في ذلك، عن ابن عمر دل هذا على أنه لم يكن عنده فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجعنا إلى ما روي عن غيره فإذا عن أبي رجاء

(3)

قال: (صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما الغداة فقنت قبل الركوع، وقال هذه الصلاة الوسطى)

(1)

أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس القرشي المكي، قال فيه ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أن يروي عنه بعض الضعفاء، وكانت

وفاته سنة (128 هـ)(سير أعلام النبلاء - 5/ 380)

(2)

لم أقف عليه إلا عند الإمام الطحاوي في هذا الموضع.

(3)

أبو رجاء هو: عمران بن ملحان التميمي البصري العطاردي، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير الرسول

صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة (105 هـ)(سير أعلام النبلاء -4/ 253).

ص: 227

وعن أبي العالية

(1)

قال: (صليت خلف أبي موسى الأشعري

(2)

صلاة الصبح، فقال رجل إلى جنبي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (هذه الصلاة الوسطى).

فكان ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من هذا هو قول الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]

فكان ذلك القنوت عنده هو قنوت الصبح، فجعل بذلك الصلاة الوسطى هي الصلاة التي فيها القنوت عنده.

وقد خولف ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية، فيم نزلت؟

عن زيد بن أرقم،

(3)

قال: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت)

(4)

وعن مجاهد

(5)

(1)

أبو العالية هو: رفيع بن مهران الرياحي البصري، الإمام المقرئ المفسر، أدرك زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته

سنة (90 هـ)(سير أعلام النبلاء-4/ 207).

(2)

أبو موسى هو: عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان والياً على البصرة، ثم على الكوفة وكانت وفاته بها سنة

(42 هـ). (أسد الغابة-3/ 367).

(3)

زيد هو: الصحابي الجليل أبو عمر زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي، شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة عشرة غزوة، وكانت وفاته بالكوفة

سنة (68 هـ). (أسد الغابة - 2/ 376).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: العمل في الصلاة - باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة - (حـ 1142 - 1/ 402).

ومسلم في صحيحه - كتاب: المساجد - باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته. (حـ 1203 - 5/ 28).

(5)

مجاهد هو: أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، المقرئ المفسر، وثقة أبو زرعة وغيره، وكانت وفاته بمكة سنة (101 هـ).

(طبقات المفسرين -2/ 305).

ص: 228

قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية) فالقنوت السكوت، والقنوت الطاعة

وعن مجاهد في هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] قال: (من القنوت الركوع والسجود وخفض الجناح، وغض البصر من رهبة الله)

وعن عامر الشعبي، قال: (لو كان القنوت كما تقولون، لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم منه شيء، إنما القنوت الطاعة، يعني:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب:31]

وعن أبي الأشهب

(1)

قال: (سألت جابر بن زيد

(2)

عن القنوت، فقال الصلاة كلها قنوت، أما الذي تصنعون فلا أدري ما هو).

فهذا زيد بن أرقم ومن ذكرنا معه، يخبرون أن ذلك القنوت الذي أمر به في هذه الآية، هو السكوت عن الكلام الذي كانوا يتكلمون به في الصلاة.

فيخرج بذلك أن يكون في هذه الآية دليل على أن القنوت المذكور فيها، هو القنوت المفعول في صلاة الصبح، وقد أنكر قوم أن يكون ابن عباس كان يقنت في صلاة الصبح

فلو كان هذا القنوت المذكور في هذه الآية، هو القنوت في صلاة الصبح إذاً لما تركه، إذا كان قد أمر به الكتاب.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الذي ذهب إليه في ذلك، معنى آخر

عن ابن عباس قال: (الصلاة الوسطى هي الصبح، فصل بين سواد الليل وبياض النهار).

فهذا ابن عباس قد أخبر في هذا الحديث أن الذي جعل صلاة الغداة به، هي الصلاة الوسطى، هذه هي العلة.

(1)

أبو الأشهب هو: جعفر بن حيان العطاردي البصري، وثقة أبو حاتم وغيره، وكانت وفاته سنة (165 هـ). (تهذيب الكمال -1/ 458).

(2)

جابر هو: أبو الشّعْثاء جابر بن زيد الأزدي اليحمدي البصري، وثقة أبو زرعة وغيره، وكانت وفاته سنة (93 هـ).

(تهذيب الكمال -1/ 423).

ص: 229

وقد يحتمل أيضاً أن يكون قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أراد به في صلاة الصبح، فيكون ذلك القنوت، هو طول القيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل أي الصلاة أفضل فقال:(طول القنوت).

(1)

وقد يحتمل أن يكون قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أراد به في كل الصلوات صلاة الوسطى وغيرها.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في الصلاة الوسطى أنها العصر.

فلما اختلف عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك، أردنا أن ننظر فيما روي عن غيره.

وذهب أيضاً من ذهب إلى أنها غير العصر أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك

عن عمرو بن رافع

(2)

مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يكتب المصاحف على عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: قال استكتبتني حفصة

(3)

رضي الله عنها بنت عمر رضي الله عنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم مصحفاً، وقالت لي:(إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة، فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها فقالت أكتب: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر).

(4)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: صلاة المسافرين - باب: أفضل الصلاة طول القنوت (جـ 1765 - 6/ 278)

والترمذي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في طول القيام في الصلاة - (حـ 387 - 2/ 178) وقال: حديث حسن صحيح. أهـ.

(2)

عمرو هو: عمرو بن رافع القرشي العدوي، مولى عمر بن الخطاب، ذكره ابن حبان في كتاب (الثقات). (تهذيب التهذيب - 3/ 270).

(3)

حفصة هي: أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، كانت وفاتها سنة (41 هـ). (أسد الغابة - 7/ 65).

(4)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب الصلاة - باب: من قال الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح - (حـ 7 - 1/ 462).

والإمام مالك في الموطأ - كتاب. صلاة الجماعة - باب الصلاة الوسطى. (حـ 26 - 1/ 132).

ص: 230

وعن أم حميد بنت عبد الرحمن

(1)

، سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل:(الصلاة الوسطى) فقالت: كنا نقرؤها على الحرف الأول، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين).

(2)

قالوا فلما قال الله عز وجل في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) ثبت بذلك أن الوسطى غير العصر.

وليس في ذلك دليل عندنا على ما ذكروا، لأنه قد يجوز أن يكون العصر مسماة بالعصر، ومسماة بالوسطى فذكرها ههنا باسميهما جميعاً.

هذا يجوز لو ثبت ما في تلك الآثار من التلاوة الزائدة، على التلاوة التي قامت بها الحجة، مع أن التلاوة التي قامت بها الحجة، دافعة لكل ما خالفها.

وقد روي أن الذي كان في مصحف حفصة من ذلك، غير ما رويناه في الآثار الأول

عن عمرو بن رافع، قال: كان مكتوباً في مصحف حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر، وقوموا لله قانتين).

(3)

فقد ثبت بهذا ما صرفنا إليه تأويل الآثار الأول من قوله: (حافظوا على الصلوت والصلاة الوسطى وصلاة العصر) أنه سمى صلاة العصر بالعصر وبالوسطى.

فقد ثبت بهذا قول من ذهب إلى أنها صلاة العصر.

(1)

أم حميد هي: أم حميد بنت عبد الرحمن. (تهذيب الكمال - 8/ 592).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة البقرة - (حـ 2988 - 11/ 105) وقال هذا حديث حسن صحيح. أ هـ.

والبيهقي في سننه - كتاب: الصلوات - باب: صلاة الوسطى ومن قال هي الصبح - (حـ 6 - 1/ 462).

(3)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: من قال هي الصبح. (حـ 9 - 1/ 463).

ص: 231

وقد روي عن البراء بن عازب في ذلك، ما يدل على نسخ ما روي في ذلك عن حفصة رضي الله عنها وعائشة رضي الله عنها. عن البراء بن عازب، قال: نزلت (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله عز وجل فأنزل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ] البقرة:238].

(1)

فأخبر البراء بن عازب في هذا الحديث أن التلاوة الأولى، هي ما روت عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وأنه نسخ ذلك التلاوة التي قامت بها الحجة.

فإن كان قوله الثاني: (والصلاة الوسطى) نسخاً للعصر أن تكون هي الوسطى فذلك نسخ لها.

وإن كان نسخاً لتلاوة أحد إسميها وتثبيت اسمها الآخر، فإنه قد ثبت أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

فلما احتمال هذا ما ذكرنا، عدنا إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك عن علي رضي الله عنه، قال:(قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر، حتى كادت الشمس أن تغيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى ناراً، واملأ بيوتهم ناراً، واملأ قبورهم ناراً " قال علي رضي الله عنه: كنا نرى أنها صلاة الفجر).

(2)

فهذا علي رضي الله عنه قد أخبر أنهم كانوا يرونها قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، الصبح، حتى سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول هذا، فعلموا أنها العصر

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: المساجد - باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (حـ 1427 - 5/ 133).

والبيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: صلاة الوسطى ومن قال هي صلاة العصر - (حـ 1/ 1 - /459).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الدعوات - باب: الدعاء على المشركين - (حـ 6033 - 5/ 2349).

ومسلم في صحيحه - كتاب: المساجد باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (حـ 1421 - 5/ 129).

ص: 232

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق، ثم ذكر مثله.

(1)

فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر، فكيف يجوز أن يقبل عنه من رأيه، ويخالف ذلك

وعن أبي هريرة، أنه أقبل حتى نزل دمشق على آل أبي كلثم الدوسي، فأتى المسجد فجلس في غربيه، فتذاكروا الصلاة الوسطى، فاختلفوا فيها، فقال: اختلفنا فيها، كما اختلفتم، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح، أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس

(2)

، فقال: أنا أعلم لكم ذلك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جرياً عليه، فاستأذن فدخل، ثم خرج إلينا، فأخبرنا أنها صلاة العصر

(3)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الوسطى صلاة العصر))

(4)

وعن سمرة

(5)

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 301) - والطبراني في المعجم الكبير (حـ 11905 - 11/ 329).

(2)

أبو هاشم هو: شيبة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشي، أسلم يوم الفتح، وسكن الشام وتوفي في خلافة عثمان، وكان من زهاد الصحابة

وصالحيهم (أسد الغابة - 6/ 316).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب: معرفة الصحابة - باب: ذكر أبي هاشم بن عتبة رضي الله عنه (حـ 6691 - 3/ 740)

والطبراني في المعجم الكبير - (حـ 7198 - 7/ 301).

(4)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب: الصلاة - باب ذكر الصلاة الوسطى التي أمر الله عز وجل بالمحافظة عليها

(حـ 1338 - 2/ 290) والبيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: صلاة الوسطى ومن قال هي صلاة العصر. (حـ 7 - 1/ 460).

(5)

سمرة هو: أبو سعيد سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غزوة، أولها يوم أحد، وسكن البصرة، وكانت وفاته

بها سنة (59 هـ)(أسد الغابة -2/ 454).

ص: 233

عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

(1)

فهذه آثار قد تواترت وجاءت مجيئاً صحياً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى، هي العصر.

وقد قال بذلك أيضاً جلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن أبي بن كعب،

(2)

قال: (الصلاة الوسطى صلاة العصر).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مثله

وعن علي رضي الله عنه مثله

وعن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي،

(3)

أنه سأل أبا هريرة عن الصلاة الوسطى، فقال: (سأقرأ عليك القرآن حتى تعرفها، أليس يقول الله عز وجل في كتابه:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]: المغرب، {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58]: العتمة، ويقول:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]: الصبح، ثم قال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]- هي: صلاة العصر.

فإن قال قائل: ولم سميت صلاة الوسطى صلاة العصر؟

قيل له: قد قال الناس في هذا قولين:

فقال قوم: سميت بذلك لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وبين صلاتين من صلاة النهار.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، وقد قيل إنها الظهر - (حـ 182 - 1/ 294) وقال:

حديث صحيح. أهـ. والبيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: الصلاة الوسطى ومن قال هي صلاة العصر - (حـ 8 - 1/ 460).

(2)

أبي هو: الصحابي الجليل أبو المنذر أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدراً، وكانت وفاته في خلافة عمر

سنة (22 هـ)(أسد الغابة-1/ 61).

(3)

عبد الرحمن هو: عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي، حجازي تابعي ثقة. (معرفة الثقات-2/ 86).

ص: 234

وقال آخرون في ذلك إن أبا عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن عائشة

(1)

يقول: إن آدم عليه السلام، لما تيب عليه عند الفجر، صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر فصلى إبراهيم عليه السلام أربعاً، فصارت الظهر، وبعث عزير فقيل له كم لبثت؟ فقال: يوماً، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر.

وقد قيل غفر لعزير عليه السلام، وغفر لداود عليه السلام، عند المغرب، فقام فصلى أربع ركعات، فجهد فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثاً.

وأول من صلى العشاء الآخرة، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك قالوا الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

فهذه - عندنا - معنى صحيح، لأن أول الصلوات إن كانت الصبح، وآخرها العشاء الآخرة، فالوسطى فيما بين الأولى والآخرة هي العصر، فلذلك قلنا إن الصلاة الوسطى صلاة العصر،

وهذا قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد، رحمهم الله تعالى.

(شرح معاني الآثار - 1/ 167 - 176).

الدراسة

ذكر الإمام الطحاوي ثلاثة أقوال في المراد بقوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]. مرجحاً أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة العصر.

وهذه الآية من الآيات التي أشكل على العلماء معرفة المراد بها، حتى إن شرف الدين أبا محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي - صنف فيها كتاباً أسماه بـ (كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) ذكر فيه قرابة عشرين قولاً.

(1)

أبو عبد الرحمن هو: عبيد الله بن محمد بن حفص القرشي التيمي، المعروف بابن عائشة، لأنه ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، قال فيه أبو

حاتم: صدوق ثقة، وكانت وفاته سنة (228 هـ). (تهذيب الكمال - 5/ 60).

ص: 235

وفي الحقيقة أن هذه الأقوال المتعددة تعتمد على مجرد الاجتهاد والتخمين، وتفتقدالدليل الدال على أن المراد بالآية هو هذا القول دون غيره، خلا القول أن المراد بها صلاة العصر، ومع ذلك فسأذكر للقارئ بعض هذه الأقوال والتي هي أقرب للصواب من غيرها:-

القول الأول: أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة الصبح.

- وهذا قول: علي بن أبي طالب - وابن عباس - وابن عمر رضي الله عنهم.

وإليه ذهب: الإمام مالك - والشافعي.

(1)

وسميت وسطى: لأنها وسطى بين صلاتين من صلاة الليل، وصلاتين من صلاة النهار.

ولأنها وسطى بين سواد الليل وبياض النهار.

(2)

- ودليل هذا القول: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقرن الله جل وعلا هذه الصلاة بالقنوت، وليس في الشرع صلاة ثبت القنوت فيها إلا صلاة الصبح.

(3)

الرد على هذا الاستدلال: أن في المراد بالقنوت في الآية عدة أقوال منها:

1 -

المراد بالقنوت: الدعاء - وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.

2 -

المراد بالقنوت: الخشوع - وهو قول مجاهد، والربيع.

3 -

المراد بالقنوت: مصلين أو عابدين - وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنه.

4 -

المراد بالقنوت: طول القيام - وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنه.

ومن ذلك قوله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9].

5 -

المراد بالقنوت: السكوت - وهو قول ابن مسعود - وزيد بن أرقم رضي الله عنهم.

قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: (كنا نتكلم في الصلاة فيكلم أحدنا صاحبه فيما بينه وبينه، حتى نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).

(1)

انظر تفسير السمعاني (1/ 243) وعارضة الأحوذي (1/ 295).

(2)

معاني القرآن للنحاس (1/ 238).

(3)

تفسير الماوردي (1/ 309).

ص: 236

6 -

المراد بالقنوت: الطاعة - وهو قول: ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، رضي الله عنهم.

(1)

ومن ذلك قوله جل وعلا: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران:43].

وجميع هذه الأقوال المتقدمة صحيحة في المراد بالآية، فلا يصح حمل الآية على بعضها دون بعض، لأن أصل القنوت في اللغة: الدوام على الشئ، فيصح أن يسمى مديم الطاعة قانتاً، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء، أو أطال الخشوع والسكوت في الصلاة، كل هؤلاء يصح أن يطلق على كل واحد منهم قانتاً.

وعليه فلا دليل في هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] على أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة الصبح.

(2)

- القول الثاني: أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة الظهر.

- وهذا قول: زيد بن ثابت - وأسامة بن زيد - وابن عمر- وأبي سعيد الخدري.

وإليه ذهب: أبو حنيفة في رواية عنه.

(3)

وسميت وسطى: لأنها وسطى بين صلاتين في النهار وهي الفجر والعصر

(4)

، على القول بأن النهار يبدأ من وقت طلوع الفجر وهو قول أكثر العلماء.

- ودليل هذا القول: ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها، فنزلت هذه الآية:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238].

(5)

(1)

تفسير الماوردي (1/ 310).

(2)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 443).

(3)

انظر: تفسير الماوردي (1/ 308) وتفسير البغوي (1/ 287) وبذل المجهود (3/ 199).

(4)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 442).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الصلاة - باب: في وقت صلاة العصر (حـ 411 - 1/ 288) والإمام أحمد في مسنده (5/ 183).

ص: 237

- الرد على هذا الاستدلال: هذا الاستدلال اجتهادي من الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه. وهو استدلال لا ينهض إلى مستوى القول الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والناص على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

- القول الثالث: أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة العصر.

- وهذا قول: أكثر العلماء من الصحابة والتابعين.

وإليه ذهب: أبو حنيفة في رواية عنه - وأحمد - ومعظم الشافعية.

(1)

وسميت وسطى: لأنها وسط بين صلاة نهارية وهي الظهر، وصلاة ليلية وهي المغرب.

ولأنها وسط بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.

(2)

على القول بأن النهار يبدأ من وقت طلوع الفجر وهو قول أكثر العلماء.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (كنت ظننت أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)، ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء).

(3)

2 -

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الوسطى صلاة العصر) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

(4)

(1)

انظر: عارضة الأحوذي (1/ 294) - وبذل المجهود (3/ 198).

(2)

تفسير الرازي (6/ 151).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: التفسير - باب: تفسير الآية (238) من سورة البقرة (حـ 4259 - 4/ 1648)

ومسلم في صحيحه - كتاب: المساجد - باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (حـ 1421 - 5/ 129).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر ((حـ 181 - 1/ 293)

والإمام أحمد في مسنده (5/ 129).

ص: 238

3 -

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الوسطى صلاة العصر)، قال الترمذي: وهذا حديث حسن.

(1)

فدلت هذه الأحاديث المتقدمة على: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

4 -

وعن عمرو بن رافع - مولى عمر رضي الله عنه، وكان يكتب المصاحف - أنه قال: اكتتبتني حفصة ابنة عمر مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتها أتيتها بالورقة - فقالت: أكتب: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر).

(2)

5 -

وعن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليّ:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) ثم قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

(3)

فدلت هذه الأحاديث المتقدمة على: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

- واعترض على هذا الدليل: بأن (الواو) في قوله: (وصلاة العصر) تقتضي المغايرة، فهذا دليل على أن الوسطى غير العصر.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر (حـ 182 - 1/ 294)

والطبراني في المعجم الكبير (حـ 6825 - 7/ 200).

(2)

أخرجه البيهقي في سننه - كتاب: الصلاة - باب: من قال الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح (حـ 7 - 1/ 462)

والإمام مالك في الموطأ - كتاب: صلاة الجماعة - باب: الصلاة الوسطى (حـ 26 - 1/ 132).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: المساجد - باب: الدليل لمن قال الصلاة هي صلاة العصر (حـ 1426 - 5/ 131)

وأبو داود في سننه - كتاب: الصلاة - باب: في وقت العصر (حـ 410 - 1/ 287).

ص: 239

- ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن العطف ليس صريحاً في المغايرة، وعليه يمكن حمل العطف على التفسير، فكأنها قالت: المراد بقوله: (والصلاة الوسطى) أي: (وصلاة العصر)

(1)

أو تكون (الواو) - زائدة - فكأن الآية: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) بدون (واو) - كما كان يقرأها: أبي بن كعب - وابن عباس - وعائشة - وحفصة - وعبيد بن عمير رضي الله عنهم.

(2)

6 -

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر). وقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى، فأنزل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238].

(3)

فدل هذا الحديث على: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وذلك لأن (الصلاة الوسطى) كانت تقرأ (وصلاة العصر). فكان النسخ للفظ، والمعنى واحد لم يتغير.

- القول الرابع: أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة المغرب.

- وهذا قول: قبيصة بن ذؤيب - وأبي عبيدة السلماني.

وسميت وسطى: لأنها وسط في عدد ركعاتها.

(4)

- القول الخامس: أن المراد بالصلاة الوسطى: صلاة العشاء.

وسميت وسطى: لأنها وسط بين صلاتين لا تقصران.

(5)

- القول السادس: أن المراد بالصلاة الوسطى: الصلوات الخمس المفروضة.

- وهذا قول: معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وسميت وسطى: لأن كل صلاة من الصلوات الخمس وسطى بين الأربع.

(1)

بذل المجهود (1/ 200).

(2)

انظر: فتح الباري (8/ 45) وتفسير الطبري (2/ 569) وتفسير أبي حيان (2/ 544).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: المساجد - باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (حـ 1427 - 5/ 133).

(4)

انظر: تفسير السمعاني (1/ 243) وتفسير الرازي (6/ 151).

(5)

تفسير البغوي (1/ 289).

ص: 240

- ودليل هذا القول: أن قوله جل وعلا:: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض منها بالذكر فقال:: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] أي: والصلاة الفرض، فخص الصلوات المفروضة بمزيد من التأكيد في المحافظة عليها.

(1)

- القول السابع: أن المراد بالصلاة الوسطى: إحدى الصلوات الخمس المفروضة، لا تعرف بعينها، ليكون في ذلك حث للعباد على المحافظة على جميع الصلوات. كما أخفيت ليلة القدر في شهر رمضان ليجتهد العباد في كامل الشهر، وكما أخفيت ساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة ليجتهد العباد بالعبادة في سائر ذلك اليوم، وكما أخفي وقت الموت ليكون المكلف خائفاً من الموت في كل الأوقات، فيدعوه ذلك الخوف إلى عمل الصالحات.

- وهذا قول: سعيد بن المسيب - والربيع بن خيثم - وسعيد بن جبير - وشريح القاضي.

(2)

الترجيح: وقد رجح كل قول من الأقوال المتقدمة بأحاديث وردت في فضائل تلك الصلوات.

كما رجح بعضها بأنها وسط يين كذا وكذا، ولا حجة في شيء من ذلك. لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنها هي التي أرادها الله بقوله:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238].

كما أن الترجيح بناء على أن كلمة (الوسطى) بمعنى الفضلى، أو بمعنى: أوسط الصلوات محلاً يجعل صاحب كل قول يدعي صحة ما ذهب إليه.

(3)

وما كان ينبغي الترجيح بالأمور المتقدمة، مع وجود القول الصحيح الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم الدال على أن المراد بها: صلاة العصر، دون غيرها.

فيجب الوقوف عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك والقول به وترك الاشتغال بغيره.

(1)

انظر: تفسير السمعاني (1/ 243) وتفسير القرطبي (3/ 210).

(2)

انظر: فتح الباري (8/ 45) وعارضة الأحوذي (1/ 295).

(3)

انظر: تفسير ابن الجوزي (1/ 249) وتفسير أبي حيان (2/ 546).

ص: 241

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} [البقرة:259].

قال أبو جعفر الطحاوي: قوله عز وجل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] في قراءة بعضهم، وفي قراءة غيره منهم:{نُنشِرُها} .

(شرح مشكل الآثار - 8/ 140).

الدراسة

بين الإمام الطحاوي بعض القراءات الواردة في قوله جل وعلا: {نُنْشِزُهَا} [البقرة:259].

وإليك بيان جميع القراءات الواردة في هذه الآية:

القراءة الأولى: {نُنْشِزُهَا} بضم (النون) الأولى وكسر (الشين)، وضم (الزاي)

- وهي قراءة: عاصم - والكسائي- وحمزة - وابن عامر.

قال أهل اللغة: أصل (النشز): الحركة والارتفاع. يقال: (نشز الشيء) إذا تحرك.

ويقال: (نشزت المرأة عن زوجها) - أي: ارتفعت عن طاعة زوجها.

ومعنى الآية، أي: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من الأرض، ونردها إلى مكانها من الجسد، ونركب بعضها على بعض.

القراءة الثانية: {نُنشِرُها} بضم (النون) الأولى، وكسر (الشين)، وضم (الراء).

- وهي قراءة: ابن كثير - ونافع - وأبي عمرو.

ص: 242

والنشور هو الحياة بعد الموت. مأخوذ من: (نشر الثوب) لأن الميت كالمطوي، لأنه مقبوض عن التصرف بالموت، فإذا حيى وانبسط بالتصرف، قيل: نشر وأنشر.

ومعنى الآية، أي: وانظر إلى العظام كيف نحييها.

ومن ذلك قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء:21] أي يبعثون الموتى. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] أي: ثم إذا شاء أحياه.

(1)

القراءة الثالثة: {نَنشُرُها} بفتح (النون) الأولى، وضم (الشين مع الراء).

- وهي قراءة: الحسن - وأبان عن عاصم - وأبي حيوة.

القراءة الرابعة: {نَنشُزُها} بفتح (النون) الأولى، وضم (الشين مع الزاي).

- وهي قراءة: ابن عباس - وقتادة - والنخعي - والأعمش.

القراءة الخامسة: (نُنْشِيهَا): بضم (النون) الأولى، وكسر (الشين)، وإبدال (الراء - ياءً).

- وهي قراءة: أُبي بن كعب.

ومعنى (كيف ننشيها) أي: كيف نخلقها.

(2)

الترجيح: القراءة الأولى والثانية: قراءة سبعية ثابتة من حيث الصحة، خلافاً للقراءات الباقية.

وأما من حيث المعنى: فإن جميع القراءات متقاربة في المعنى، إلا أن القراءة الأولى هي الأولى، وذلك لأمرين:

1 -

أن العظام نفسها لا توصف بالحياة، فلا يقال:(قد حيى العظم) وإنما يوصف بالإحياء صاحبها، ولذلك قال الله جل وعلا:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة:259]، ولم يقل:(وانظر إلى صاحب العظام).

(1)

انظر: السبعة في القراءات لابن مجاهد (189). والنشر في القراءات العشر (1/ 231).

وتفسير السمرقندي (1/ 226). وتفسير الماوردي (1/ 333). وتفسير البغوي (1/ 320).

(2)

انظر: تفسير ابن الجوزي (1/ 271). وتفسير أبي حيان (2/ 637).

ص: 243

2 -

أن الله جل وعلا قال: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، فدل ذلك على أن العظام قبل أن يكسوها اللحم غير أحياء، لأن العظم لا يكون حياً وليس عليه لحم، فلما قال:{ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها لحما.

(1)

وبهذا يتبين أن قراءة الجمهور {نُنْشِزُهَا} بمعنى (نرفعها) هي القراءة الأولى من حيث المعنى والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة: 260].

قال أبو جعفر الطحاوي: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن كما لبث يوسف لأجبت الداعي"

(2)

فتأملنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ".

(1)

انظر: حجة القراءات لأبي زرعة (144). الحجة في القراءات السبع لابن خالويه (100).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الأنبياء - باب: قوله عز وجل:: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (حـ 3192 - 3/ 1233).

ومسلم في صحيحه - كتاب: الإيمان - باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة - (حـ 380 - 2/ 360).

ص: 244

فوجدنا إبراهيم عليه السلام قد رأى من آيات الله في نفسه الآية التي لم ير مثلها، وهو إلقاء أعدائه إياه في النار، فلم تعمل فيه شيئاً لوحي الله إليها:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. فكانت آية معجزة لم يُرَ مثلها قبلها ولا بعدها، فقال النبي عليه السلام لينفي الشك عن إبراهيم عند قول:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] أي: إنا ولم نر من آيات الله الآية التي أُريها إبراهيم في نفسه لا نشك، فإبراهيم مع رؤيته إياها في نفسه أحرى أن لا يشك، وأما قوله تعالى:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]. وقد حقق ذلك أن قوله كان: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] لم يكن على الشك منه، ولكن لما سوى ذلك من طلبه إجابة الله تعالى في مسألته إياه ذلك ليطمئن به قلبه، ويعلم بذلك علو منزلته عنده.

(شرح مشكل الآثار - 1/ 297 - 299)

ص: 245

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] لم يكن على الشك من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإنما كان هذا الطلب منه عليه السلام، ليعلم بإجابة الله له علو منزلته عنده فيطمئن بذلك قلبه.

وإليك بيان الأقوال في مسألة: هل كان إبراهيم عليه السلام شاكاً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، عندما سأل ذلك ربه فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]؟:

القول الأول: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان شاكاً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى.

- وهذا القول: مروي عن عطاء بن أبي رباح - ورجحه الطبري.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن الله جل وعلا قال حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ} [البقرة:260] فدل ذلك على أنه غير مطمئن القلب لورود الشك عليه.

2 -

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ".

(2)

- وقد رد هذا الاستدلال بما يلي:

أ- أنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، أي: بالعلم واليقين بعد الشك، وذلك لأمور عدة، أذكر منها:

1 -

أن الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، كفر بالله، فلا يجوز في حق نبي من الله.

(1)

تفسير الطبري (3/ 51).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: أحاديث الأنبياء - باب: قوله عز وجل:: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر:51]

(حـ 3192 - 3/ 1233). ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب: زيادة طمأنينة القلب. (حـ 380 - 2/ 360).

ص: 246

2 -

أن سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عن الكيفية لا عن الإمكانية.

ولذلك ورد السؤال بصيغة (كيف) فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ولم يقل (أيمكنك إحياء الموتى).

ونظير هذا قول القائل: (كيف يحكم عمر في الناس) فهو لا يشك في أن عمر يحكم في الناس، ولكنه يسأل عن كيفية حكمه لا عن ثبوته.

فالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل عن الكيفية مع يقينه الجازم بالقدرة الربانية، ليرى بالعيان ما قد ثبت بالوجدان.

(1)

3 -

أن الألف: في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] ليست (ألف) استفهام، وإنما هي (ألف) إيجاب، فكأنه قال:(قد آمنت فلم تسأل). ومثل هذا، قول الشاعر جرير:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح.

(2)

بمعنى: (أنتم خير من ركب المطايا).

(1)

تفسير أبي حيان (2/ 642).

(2)

البيت لجرير بن عطية الكلبي - في ديوانه (85،89) وفي رصف المباني (46)

اللغة: (المطايا): جمع مطية وهي كل دابة تستخدم للركوب. (أندى): أكثر ندى وجوداً وأكرم عطاء، (راح): الراح جمع راحة وهي باطن

الكف. والمعنى: يتساءل الشاعر مقرراً أنهم أفضل شجاعة وكرماً، ألستم أفضل الفرسان الذين يمتطون صهوات دوابهم للحرب والطعان؟

وكذلك ألستم أكثر الناس جوداً وكرماً تمنحون الناس من باطن راحاتكم خيراً وسخاء،؟ (انظر: شرح شواهد المغني للسيوطي (46) وشرح

المفصل لابن يعيش (8/ 123).

ص: 247

فالله جل وعلا إنما قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260]: لكي يظهر إقراره، فلا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقراً بذلك في ذلك الوقت، وقد ظهر إقراره بقدرة الله على إحياء الموتى بقوله في هذه الآية (بلى). وبقوله في الآية المتقدمة في سياق محاجة النمروذ:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] وعليه فلا مجال للقول بشكه بعد ذلك.

(1)

ب- وأما قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم": فلا يصح حمله على ظاهره، وعليه فإن معناه:(إذا لم أشك أنا، ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أولى بأن لا يشك فيه، وألا يرتاب). فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والمراد بالشك المنفي: الخواطر التي لا تثبت.

وأما الشك الذي هو بمعنى: التوقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. فهذا منفي عن الخليل قطعاً، لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة.

القول الثاني: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكاً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى.

- وهذا قول: الجمهور.

(2)

الترجيح: والقول الراجح هو قول الجمهور. وهو أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكاً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة وأحب رؤية ذلك، كما أن المؤمنين يحبون رؤية الله جلا وعلا، ورؤية الرسل والجنة، مع إيمانهم بكل ذلك، ولا يعد هذا شكاً منهم في ذلك.

ثم اختلف أصحاب هذا القول في السبب الذي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يسأل ربه أن يريه عياناً إحياء الموتى، وإليك بيان الأقوال في ذلك:

(1)

تفسير الماوردي (1/ 334).

(2)

فتح الباري (6/ 475).

ص: 248

- القول الأول: أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة، بعد العلم بها استدلالاً، لأن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة، بخلاف علم المعاينة، فإنه ثابت يقيني، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ليس الخبر كالمعاينة".

(1)

ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] أي: ليزداد سكوناً بالمشاهدة الحسية المنضمة إلى اعتقاد القلب المصدق، فتظاهر الأدلة أسكن للقلب.

- وهذا قول: أكثر العلماء كابن عباس رضي الله عنه والحسن - وعكرمة - وقتادة - والربيع - وسعيد بن جبير - والضحاك - وأبي منصور الأزهري.

- القول الثاني: أنه أراد أن يرى منزلته ومكانته عند ربه في إجابة مطلبه، وليرى من يدعوهم إلى طاعة الله مكانته عند الله، فيقبلوا دعوته.

- وهذا قول: ابن عباس - وأبي سعيد الخدري - ومجاهد - والسدي - وإليه جنح القاضي أبو بكر الباقلاني.

(2)

- القول الثالث: أنه رأى جيفة بساحل البحر يتناولها السباع والطير ودواب البحر،، فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة؟ وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه.

- وهذا قول: قتادة - والضحاك - وابن جريج.

(3)

- القول الرابع: أنه لما احتج على المشركين بأن الله جل وعلا يحيي ويميت بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] طلب ذلك منه جل وعلا ليظهر دليله المحتج به عياناً، ويتبين صدقه فيما احتج به.

- وهذا قول: عكرمة - ومحمد بن إسحاق.

(4)

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة الأعراف (حـ 3250 - 2/ 351) وقال: هذا حديث صحيح. أهـ.

والإمام أحمد في مسنده (1/ 215،271).

(2)

انظر: تفسير الطبري (3/ 50) وأعلام الحديث (3/ 1546) وفتح الباري (6/ 474).

(3)

انظر: تفسير الطبري (3/ 50) وشرح صحيح مسلم للنووي (2/ 361).

(4)

انظر: تفسير الماوردي (1/ 334) وفتح الباري (6/ 474).

ص: 249

- إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرت في المراد بالآية، ولكنها ليست بظاهرة في المراد والصحة.

الترجيح: وأظهر الأقوال في سبب السؤال هو القول الأول، الدال على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما طلب رؤية كيفية إحياء الموتى للترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، وذلك للأسباب المتقدمة.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:280]

قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا: في الرجل يفلسه القاضي فيخرجه من السجن، أنه لا يحول بينه وبين ملازمته. وهو قول ابن أبي ليلى،

(1)

وسوار بن عبد الله،

(2)

وعبيد الله بن الحسن.

(3)

وقال سوار وعبيد الله: للغرماء أن يدفعوه في ضيعة، فيكون لغرمائه فضل كسبه عن نفقته.

وقال المزني عن الشافعي: يمنع غرماؤه من لزومه.

وقال الربيع

(4)

(1)

ابن أبي ليلى هو: أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، مفتي الكوفة وقاضيها، وكان نظيراً للإمام أبي حنيفة في الفقه، قال فيه

أحمد: فقهه أحب إلينا من حديثه، وكانت وفاته سنة (148 هـ)(سير أعلام النبلاء - 6/ 310).

(2)

سَوّار هو: سوار بن عبد الله بن قدامة التميمي، وثقة النسائي وغيره، وكانت وفاته سنة (245 هـ)(سير أعلام النبلاء- 11/ 543).

(3)

عبيد الله هو: عبيد الله بن الحسن بن حصين بن أبي الحُر العنبري البصري، ذكره ابن حبان في كتاب (الثقات) وقال: من سادات أهل البصرة

فقهًاوعلماً، وكانت وفاته سنة (168 هـ)(تهذيب الكمال - 5/ 31).

(4)

الربيع هو: أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي المصري المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، وراوي كتب الأمهات عنه،

وثقة ابن حبان وغيره، وكانت وفاته سنة (270 هـ). (تهذيب الكمال - 2/ 461).

ص: 250

عن الشافعي: ولو كانت له حرفة تفضل عن نفقة بدنه شيء، أخذ في دينه، ولا ينفق على أهله ولا ولده، والدين أولى، وإذا أراد الغرماء أخذ المال، حبس لصاحب المال قوت عياله اليوم.

قال أبو جعفر: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] يوجب تأخيره، فصار كالدين المؤجل، فيمنع لزومه.

وقد روى عمرو بن الشريد،

(1)

عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد، يحل عرضه وعقوبته"

(2)

، فكانت العقوبة على الواجد. فدل على أنه إذا كان غير واجد فلا عقوبة عليه، ولا يحل عرضه.

وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: (مطل الغني ظلم).

(3)

ورواه أيضاً: ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم .. فإذا كان مطل الغني ظلماً، فمطل الذي ليس بغني ليس بظلم، ولا مطالبة عليه إذاً، وإذا سقطت المطالبة، زالت الملازمة. (مختصر اختلاف العلماء - 4/ 281 - 282)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن هذه الآية دالة على المنع من لزوم صاحب الدين للمعسر المدين.

وإليك بيان هذه المسألة، وأقوال العلماء فيها:

(1)

عمرو هو: أبو الوليد عمرو بن الشّريد بن سويد الثقفي الطائفي، قال فيه أحمد العجلي: حجازي، تابعي، ثقة (تهذيب الكمال - 5/ 422)،

وأبوه هو: الصحابي الجليل الشَّرِيد بن مالك بن سويد الثقفي الطائفي، كانت وفاته سنة (68 هـ). (تهذيب الكمال-3/ 382)

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الأقضية - باب: في الحبس في الدين وغيره - (حـ 3628 - 4/ 45).

والبيهقي في سننه - كتاب: التفليس - باب: حبس من عليه الدين إذا لم يظهر ماله، وما على الغني في المطل (حـ 1 - 6/ 51).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الحوالات - باب: في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة - (حـ 2166 - 2/ 799).

ومسلم في صحيحه - كتاب: المساقاة - باب: تحريم مطل الغني، وصحة الحوالة - (حـ 3978 - 10/ 471).

ص: 251

- القول الأول: المنع من ملازمة صاحب الدين للمعسر المدين، ويجب إنظاره.

- وهذا قول: الجمهور.

(1)

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فدلت الآية على وجوب إنظاره، ومن وجب إنظاره، حرمت ملازمته. كما أن ملازمة الغرماء له ليس فيها إنظاره، وإنما هي عليه أشد من السجن، وذلك لما يلحقه من الضرر في شخصه وعرضه من طول مدة ملازمته.

(2)

- وقد رد هذا الاستدلال:

- بأن قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ينصرف إلى وجهين:

أ- إما أن يكون المراد بالإنظار هو: تخليته من الحبس وترك عقوبته، إذ كان غير مستحق لها. بعد ثبوت إعساره.

ب- وإما أن يكون المراد بالإنظار هو: الندب والإرشاد إلى ترك ملازمته ومطالبته إلى حين ثبوت يسره.

- وأما القول بأن الملازمة بمنزلة الحبس، لأنه في الحالين ممنوع من التصرف، فيرد عليه:

بأن الأمر ليس كذلك، لأنه في حال الملازمة لا يمنع من التصرف، وإنما معنى الملازمة: أن يكون معه من قبل الطالب من يراعي أمره في كسبه وما يستفيده من أموال، فيترك له مقدار قوته، ويأخذ الباقي في قضاء من دينه، وليس في هذا إضرار له، وإنما فيه قضاء لما عليه.

(3)

2 -

ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لغرمائه:"خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك".

(4)

(1)

المغني لابن قدامة (6/ 584).

(2)

المجموع شرح المهذب للنووي (13/ 272).

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 477).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب: استحباب الوضع من الدين (حـ 3958 - 10/ 462).

وأبو داود في سننه - كتاب: البيوع - باب: وضع الجائحة (حـ 3469 - 3/ 745).

ص: 252

فدل الحديث على وجوب الإنظار، والمنع من الملازمة.

ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن الحديث غير دال على إسقاط باقي حقوقهم، وعدم بقائها في ذمته، ومتى كان دالاً على ذلك، كان غير دال على المنع من ملازمته حتى يستوفوا باقي حقوقهم مما يكتسبه مستقبلاً فاضلاً عن قوته.

(1)

3 -

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليُّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته".

(2)

فدل الحديث على أن الحبس والملازمة عقوبة تثبت لمن ظهر منه المطل مع غناه، أما من لم يظهر منه المطل وكان معسراً، فإن هذه العقوبة لا تثبت في حقه.

ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن الحديث غير ناف لجواز ملازمة من تعذر قضاؤه لدينه لعسره.

كما أنه ليس في ملازمته إحلال لعرضه وعقوبته.

- القول الثاني: جواز ملازمة صاحب الدين للمعسر المدين حتى يستوفى حقه.

- وهذا قول: الحنفية

(3)

.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي بعيراً إلى أجل، فلما حل الأجل جاءه الأعرابي يتقاضاه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"جئتنا وما عندنا شيء، ولكن أقم حتى تأتي الصدقة"، فجعل الأعرابي يقول واغدراه، فهم به عمر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"دعه فإن لصاحب الحق مقالاً".

(4)

(1)

أحكام القرآن للجصاص (1/ 477).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الأقضية - باب في الحبس في الدين وغيره - (حـ 3628 - 4/ 45).

وابن ماجة في سننه - كتاب الأحكام - باب الحبس في الدين والملازمة (حـ 2452 - 2/ 60).

(3)

المغني لابن قدامة (6/ 584).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: المساقاة - باب: من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه - (حـ 4086 - 11/ 38).

وأبو داود الطيالسي في مسنده (حـ 2356 - 311).

ص: 253

2 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير. فقال له: والله ما عندي شيء اقضيه اليوم، قال والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل يتحمل عنك، قال: والله ما عندي قضاء، ولا أجد من يتحمل عني، قال: فجاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق: "هل تنظره شهراً واحداً؟ "، قال: لا، قال: أنا أحمل بها، فقضى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

(1)

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الإعسار بالدين غير مانع لصاحب الحق من ملازمة المدين، ومطالبته بحقه.

الترجيح: والراجح قول الحنفية، وهو: جواز ملازمة صاحب الدين للمعسر المدين، وأن قوله تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] دال على الندب والإرشاد إلى ترك الملازمة والمطالبة، غير دال على وجوب ذلك في حق من له الحق.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى الذي دلت عليه الآية.

والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب: الأحكام - باب: الكفالة (حـ 2430 - 2/ 56) - وعبد بن حميد في مسنده (حـ 596 - 205).

ص: 254

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} [البقرة: 282].

قال أبو جعفر الطحاوي: فقال قائل: فقد وجدنا في نفي الحجر ما هو أقوى من هذا، وهو قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] فذكر في أول القصة المداينة ممن قد ذكر في آخرها أنه قد يكون سفيهاً أو ضعيفاً، وفي ذلك ما قد دل على جواز بيعه في حال سفهه.

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله جل وعز وعونه: أن السفه قد يكون في تضييع المال، وقد يكون فيما سواه مما لا تضييع للمال معه، كذلك هو في كلام العرب، يقولون: سفه فلان في ماله، سفه فلان في دينه، ومنه قول الله عز وجل:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]

ص: 255

قال أبو جعفر: وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: سَفِهَ نَفْسَهُ: أهلكها وأوبقها

(1)

، وقد يكون ذلك ممن يكون معه من الحزم في ماله ما ليس مع من لا يختلف في صلاحه في دينه.

وقال الكسائي

(2)

: السفيه: الذي يعرف الحق، وينحرف عنه عناداً، وقرأ:{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] قال: يقول: الذين عرفوا الأمر، وعندوا عنه.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد تقدمت روايتنا له فيما قد تقدم من كتابنا هذا في (الِكبْرِ) أنه من يدفع الحق، وفي ذلك ما قد دل أنه أريد بذلك: من معه معرفة والعنود عنها، والتمسك بضدها.

ففي ذلك ما قد دل: أن السفه المذكور في الآية التي تلونا ليس على سفه الفساد في المال، ولكنه على ما سواه من وجوه السفه.

وقد قال قائل: إن هذه الآية التي تأولنا أدل أنه في القرآن على استعمال الحجر - وهو الشافعي - قال: لأن فيها: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] فكان من حجتنا عليه في دفع ما تأولها عليه: في أول الآية من مداينة من قد وصف في آخرها بالسفه، وفي ذلك ما يدفع ما قال.

(1)

مجاز القرآن (1/ 56).

(2)

الكسائي هو: أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الكوفي الكسائي، شيخ القراءة والعربية، اختار قراءة اشتهرت، وصارت إحدى السبع، وله

عدة تصانيف منها: معاني القرآن - والنوادر الكبير - وكانت وفاته بالري سنة (189 هـ)(سير أعلام النبلاء -9/ 131).

ص: 256

فإن قال قائل: فمن وليه المراد في آخر هذه الآية؟ كان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه وليُّ الدين الذي هو عليه، وفي الآية ما قد دل على هذا، وهي قوله عز وجل:{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة:282]، فلو كان وليه هو الذي يتولى عليه، كما ذكر هذا القائل، لم يخاطب بهذا الخطاب، لأنه لا يجر إلى نفسه ببخسه شيئاً، ولكنه حذر من ذلك خوفاً عليه أن ينقص الذي له عليه الدين طائفة مما عليه منه.

وفيما ذكرنا دليل واضح على فساد ذلك التأويل، غير أن مذهبنا في الحجر استعماله والحكم به، وحفظ المال على من يملكه إذا كان مخوفاً عليه منه.

(شرح مشكل الآثار -12/ 344 - 346)

(وانظر: مختصر اختلاف العلماء - 5/ 218 - 219)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن الآية غير دالة على إثبات أو نفي الحجر على السفيه، أما عدم دلالتها على نفي الحجر: فلأن السفه في الآية ليس المراد به إفساد المال، وإنما المراد به الجهل بشروط الإملاء. وأما عدم دلالتها على إثبات الحجر: فلأن الله جل وعلا ذكر في أول الآية مداينة من قد وصف في آخرها بالسفه. ولأن المراد بالولي في قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ولي الدين لا ولي السفيه.

وإليك أولاً: بيان (هل الآية دالة على نفي الحجر على السفيه؟).

- القول الأول: أن الآية دالة على نفي الحجر على السفيه.

- وهذا قول: الشافعي - والقاضي أبي يعلى.

- ودليل هذا القول: أن الله جل وعلا قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282].

ص: 257

فالمراد بالسفه في الآية: الجهل بالوجوه الصحيحة لصرف المال، وقد أجاز الله جل وعلا في الآية مداينة من هذا وصفه، فدل ذلك على انتفاء الحجر على السفيه.

(1)

- القول الثاني: أن الآية غير دالة على نفي الحجر على السفيه.

- وهذا قوله: ابن عباس - وابن جبير - ومجاهد.

- ودليل هذا القول: أن المراد بالسفه في الآية: الجهل بما يجب أن يملى على الكاتب.

وعلى هذا القول: فليس في إجازة الله جل وعلا مداينة من هذا وصفه، دلالة على انتفاء الحجر على السفيه

(2)

الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لأن الله جل وعلا قال:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فنهى جل وعلا عن إعطاء المال للمفسد له، الذي لا يحسن التصرف فيه.

وفي هذه الآية: أجاز مداينة وإعطاء المال لمن وصفه بالسفه، فدل هذا على أنه ليس المراد (بالسفيه) هنا: الجاهل بالوجوه الصحيحة لصرف المال.

وإنما المراد به: الجاهل بما يجب أن يُملى على الكاتب.

ثانياً: بيان: (هل الآية دالة على إثبات الحجر على السفيه؟):

- القول الأول: أن الآية دالة على إثبات الحجر على السفيه.

- وهذا قول: الضحاك - وابن زيد - واختاره القاضي أبو يعلى - والزجاج.

- ودليل هذا القول: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا. . . فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]. والمعنى: (فليملل ولي الذي عليه الحق الممنوع من الإملاء بالسفه).

فالمراد بالولي في الآية: (ولي السفيه)

(1)

انظر: تفسير الماوردي (1/ 355) وتفسير ابن الجوزي (1/ 290).

(2)

انظر تفسير الطبري (3/ 122) - وتهذيب اللغة - مادة (سفه)(6/ 134).

ص: 258

لأن العرب تقول: (ولي السفيه - ولي الضعيف) ولا تقول: (ولي الحق) وإنما تقول: (صاحب الحق). فلما أجاز الله جل وعلا لولي السفيه الإملاء عنه، دل ذلك على إثبات الحجر عليه.

(1)

- القول الثاني: أن الآية غير دالة على إثبات الحجر على السفيه.

-وهذا قول: ابن عباس - والربيع بن أنس - وابن جبير - واختاره ابن قتيبة - والفراء - والطحاوي.

- ودليل هذا القول: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا. . . فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] والمعنى: (فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه، ثم يكون الإقرار من المطلوب الذي عليه الحق).

الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لأمرين:

1 -

أن الله تعالى أجاز في أول الآية مداينة الذي عليه الحق، ولو كان محجوراً عليه لما جازت مداينته.

2 -

أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين عند أحد من أهل العلم، وفي ذلك دليل على أن الله جل وعلا لم يرد بقوله:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]: (ولي السفيه) وإنما أراد: (ولي الدين).

(2)

وعلى هذا القول فالآية غير دالة على إثبات الحجر على السفيه.

وعليه فإن الآية إنما جاءت لبيان جواز مداينة السفيه الجاهل بشروط الإملاء، على أن يتولى صاحب الدين الإملاء، مراعياً في ذلك الصدق والعدالة

(3)

.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: تفسير الطبري (3/ 122) وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 251).

(2)

انظر: تفسر ابن الجوزي (1/ 291) وأحكام القرآن للجصاص (1/ 488).

(3)

تفسير السمعاني (1/ 283).

ص: 259

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة:283]

قال أبو جعفر الطحاوي:

قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] فدل ذلك على أن المقبوض ما وقعت عليه يد مرتهنه، وانتفت عنه يد راهنه.

(شرح مشكل الآثار -15/ 456)

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن قوله جل وعلا: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] دال على وجوب الإقباض في الرهن.

- وإليك بيان أقوال العلماء في هذه المسألة:

- القول الأول: أن القبض شرط في لزوم وصحة الرهن.

- وهذا قول: الجمهور.

- ومن أدلة هذا القول:

1 -

أن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] عطف على ما تقدم من قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجباً، وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلا بها، كما لا تصح شهادة الشهود إلا بالأوصاف المذكورة، إذ كان ابتداء الخطاب قد توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب.

2 -

أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما أجازت الرهن بهذه الصفة، فغير جائز إجازته على غيرها.

3 -

أن الرهن وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة، وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها.

ص: 260

وإنما جعل الرهن وثيقة للمرتهن ليكون محبوساً في يده بدينه، فيكون عند موت الراهن وإفلاسه أحق به من سائر الغرماء، ومتى لم يكن مقبوضاً في يده كان لغواً لا معنى فيه، وكان المرتهن وسائر الغرماء فيه سواء.

- القول الثاني: أن القبض ليس شرطاً في لزوم وصحة الرهن. وإنما هو شرط في كمال فائدته. وعليه فيصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون القبض.

وهذا قول: المالكية.

(1)

- الترجيح: والراجح هو قول الجمهور لصريح الآية.

وأما قول المالكية فلا يعضده آية منزلة، ولا سنة ثابتة.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الصواب في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة:284]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن شهاب، عن ابن مرجانه

(2)

،

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 523). وتفسير الماوردي (1/ 359).

(2)

ابن مرجانة هو: أبو عثمان سعيد بن عبد الله القرشي العامري الحجازي، ومرجانة هي أمه، وثقه النسائي وغيره، وكان وفاته سنة (97 هـ).

(تهذيب التهذيب -2/ 40).

ص: 261

قال: (ذكر لابن عباس أن ابن عمر تلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] فبكى، ثم قال: والله لئن آخذنا الله بها لنهلكن، فقال ابن عباس: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد وجد المسلمون منها حين نزلت ما وجد، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] من القول والعمل، وكان حديث النفس مما لا يملكه أحد، ولا يقدر عليه أحد)

(1)

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 332) والطبراني في العجم الكبير (ح 10769 - 10/ 316).

ص: 262

قال أبو جعفر: ثم نظرنا هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا السبب حديث غير هذا الحديث. فوجدنا عن أبي هريرة، قال:(لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] الآية، جثوا على الركب، فقالوا: لا نطيق لا نستطيع، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إلى قوله جل وعز: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال: نعم. {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] الآية، قال: نعم).

(1)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب: الإيمان - باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق (ح 325 - 2/ 324).

وابن حبان في صحيحه - (ح 139 - 1/ 350).

ص: 263

قال أبو جعفر: فكان هذا الحديث أحسن من حديث ابن شهاب وأصح إسناداً، ثم تأملناه، فوجدنا فيه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: لا نطيق لا نستطيع، كلفنا من العمل مالا نطيق وما لا نستطيع، وكان ذلك منهم عندنا - والله أعلم - على أنه وقع في قلوبهم أن الله عز وجل أعلمهم بهذه الآية أنه يؤاخذهم بخواطر قلوبهم التي لا يستطيعونها ولا يملكونها من أنفسهم، فبين له عز وجل فيما أنزل بعد ذلك، فقال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: لا يكلف الله نفساً ما لا تملكه، وبين بذلك أنه عز وجل إنما كان أراد بقوله:: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] إنما هو ما يخفونه مما يستطيعون أن لا يخفوه، وما يبدونه مما يستطيعون أن يخفوه، لا الخواطر التي لا يستطيعون فيها إبداء ولا إخفاء، ولا يملكونها من أنفسهم.

وقد روي عن ابن عباس من غير حديث ابن مَرْجانة في تأويل هذه الآية قول يخالف هذا القول. كما عن مقسم.

(1)

عن ابن عباس في هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. . .} [البقرة:284] قال: من الشهادة.

قال أبو جعفر: فكان هذا التأويل عندنا غير صحيح، وكان التأويل الأول أولاهما بالآية، لأن كتمان الشهادة مما لا يغفر، لأنه حق من المشهود له. وفي الآية ما قد منع من ذلك، وهو قوله عز وجل:{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] والله عز وجل نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار-4/ 311 - 316)

(1)

مِقْسَم هو: أبو القاسم مِقْسَم بن بُجْرة، قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به، وكانت وفاته سنة (101 هـ). (تهذيب الكمال -7/ 215).

ص: 264

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] إنما هو ما يخفونه مما يستطيعون أن يبدوه، وما يبدونه مما يستطيعون أن يخفوه، فلا يدخل في ذلك الخواطر التي لا يستطيعون فيها إبداء ولا إخفاءه، كما لا يدخل في ذلك كتمان الشهادة، لأنها حق للمشهود له.

وبهذا يتبين أن العلماء قد اختلفوا في المراد بـ (المخفي) في الآية على قولين:-

القول الأول: - أنه عام في جميع المخفيات.

وهذا قول: الجمهور.

ثم اختلف أصحاب هذا القول، هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين:-

أ- أنه منسوخ بقوله جل وعلا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ] البقرة:286].

- وهذا قول: ابن مسعود - وابن عباس - وأبي هريرة رضي الله عنهم و مجاهد - وسعيد بن جبير والحسن - وقتادة - والشعبي، وغيرهم.

(1)

(1)

تفسير القرطبي (3/ 417).

ص: 265

- ودليل هذا القول: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في أثرها:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ] البقرة:285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله عز وجل.

ص: 266

فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم - {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} {البقرة:286] قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم- {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال: نعم.

(1)

- وقد رد هذا القول بما يلي:-

1 -

أن الآية خبر، والنسخ إنما يقع في الأوامر والنواهي.

2 -

أنه لا يجوز على الله جل وعلا تكليف الإنسان بما ليس في وسعه، لأنه سفه وعبث.

3 -

أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على وقوع العقاب على تلك الخواطر، والصحيح أن الآية غير دالة على ذلك.

4 -

أن النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتزاز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن مدافعتها، والصحيح أنه لم يقع الأمر بذلك.

5 -

أن المراد بلفظ النسخ في الحديث: بيان المعنى، وإزالة التوهم في صرف اللفظ إلى غير المعنى المراد.

(2)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق - (ح 325 - 2/ 324).

وابن حبان في صحيحه - كتاب الإيمان - باب التكليف - (ح 139 - 1/ 350).

(2)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 537) وتفسير الرازي (7/ 126).

ص: 267

فإن قوله جل وعلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]: لما كان بلفظ عام، ظن الصحابة - رضوان الله عليهم - أن الخواطر داخلة فيه. فجاء قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]: بياناً للمعنى المراد، وأن التكليف إنما هو بما في وسع الإنسان، وأما الخواطر فليست هي ولا دفعها مما في وسع الإنسان. وكان في هذا البيان كشف لكربهم، وفرج لهم.

(1)

فقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] جاء تكليفاً بما في وسع الإنسان.

وقوله تعالى ذكره: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] جاء بياناً للمراد، وليس لنسخ شيء كان مراداً.

ب- أن حكم المؤاخذة بالمخفي، ثابت لم ينسخ.

ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال:-

1 -

أن حكم المؤاخذة ثابت على العموم.

- وهذا قول: ابن عباس - وابن عمر - والحسن، واختاره القاضي أبو يعلى - وأبو سليمان الدمشقي.

(2)

- ومعنى الآية: إن تبدوا ما في قلوبكم مما عزمتم عليه، أو تخفوه ولا تبدوه، وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله، فأما ما حدثتم به أنفسكم مما لم تعزموا عليه، فإن الله لا يحاسبكم عليه، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

(3)

2 -

أن حكم المؤاخذة ثابت، لكن معناه: إطلاع العبد على فعله وإعلامه به.

- وهذا قول: ابن عباس - والربيع بن أنس.

(4)

(1)

انظر: تفسير ابن عطية (2/ 383) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (14/ 100).

(2)

ناسخ القرآن لابن الجوزي - (268).

(3)

تفسير البغوي (1/ 356).

(4)

ناسخ القرآن لابن الجوزي (268).

ص: 268

- ودليل هذا القول: ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول هل تعرف؟ فيقول: أيْ رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله "

(1)

.

فدل هذا الحديث على أن المحاسبة ليست بموجبة للمعاقبة

(2)

.

3 -

أن حكم المؤاخذة ثابت، لكن معناه: إنزال العقوبة والأذى بالعبد في الدنيا.

- وهذا قول: عائشة رضي الله عنها.

- ودليل هذا القول: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال:" يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه، فيفقدها، فيروع لها، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ".

(3)

فدل هذا الحديث على: أن الله جل وعلا محاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم، وما أخفوا من أعمالهم، ومعاقبتهم عليها، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعملوه، بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب.

(4)

- القول الثاني: أنه خاص في نوع من المخفيات.

ثم اختلف أصحاب هذا القول في تحديد هذا النوع الخاص إلى أقوال:

1 -

أنه خاص بالشهادة.

- وهذا قول: ابن عباس - وعكرمة - ومجاهد - والشعبي.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (حـ 6946 - 17/ 89) - وأحمد في مسنده (2/ 105).

(2)

تفسير الطبري (3/ 150)

(3)

أخرجه الترمذي في سننه- كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة - الآية - (284)(حـ 2998 - 11/ 112)، وقال هذا حديث حسن

غريب. أ هـ، وأحمد في مسنده (6/ 218).

(4)

تفسير البغوي (1/ 355).

ص: 269

- ودليل هذا القول: أن الله جل وعلا لما نهى عن كتمان الشهادة في الآية المتقدمة بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283].

بين في هذه الآية أنه جل وعلا محاسب ومجازي على الكتمان والإظهار للشهادة.

(1)

- وقد رد هذه القول: بأن هذه الآية وإن جاءت بعد النهي عن كتمان الشهادة، فإنه لا يلزم قصرها عليه، لأن لفظ الآية أعم من ذلك.

(2)

.

2 -

أنه خاص بالشك واليقين.

- وهذا قول: مجاهد.

والمراد: أن الله جل وعلا يغفر لأهل اليقين، ويعذب أهل الشك والنفاق.

- وقد رد هذا القول: بأنه تخصيص بلا مخصص.

(3)

3 -

أنه خاص بالسوء والمعصية.

- وهذا قول: الكلبي - والزمخشري.

(4)

قال أبو حيان: وهذا حسن، لأنه جاء بعد ذلك الغفران والتعذيب.

(5)

فقال جل ذكره: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284]

4 -

أنه خاص بموالاة الكافرين دون المؤمنين.

ومعنى الآية: إن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار، أو تسروها يحاسبكم بها الله.

- وهذا قول: مقاتل - والواقدي.

- ويستدل لهذا القول: بقوله جل وعلا في سورة آل عمران: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29 - 28]

(1)

تفسير ابن عطية (2/ 381).

(2)

تفسير الرازي (7/ 126).

(3)

انظر: معاني القرآن للنحاس (1/ 328) - وتفسير الشوكاني (1/ 455).

(4)

انظر: تفسير السمرقندي (1/ 239) - وتفسير الزمخشري (1/ 518).

(5)

تفسير أبي حيان (2/ 751).

ص: 270

- وقد رد هذا القول: بأنه بعيد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإن كان مراداً في سورة آل عمران، لكون سياق الآية يقتضيه.

(1)

- الترجيح: والقول الراجح هو أن هذه الآية محكمة عامة. فإنه ليس لله عبداً أسر عملاً أو أعلنه إلا والله جل وعلا محاسبه عليه، ثم يغفر ما يشاء، ويعذب بما يشاء.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.

والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة:286]

قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن عباس، قال:(لما نزلت هذه الآية: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إلى قوله عز وجل: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، قالوا مثل ذلك، قال الله: قد فعلت، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قالوا مثل ذلك، قال: قد فعلت، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة:286] قالوا مثل ذلك، قال الله: قد فعلت).

(2)

(1)

انظر: تفسير البغوي (1/ 353) - وتفسير القرطبي (3/ 419).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق (ح 326 - 2/ 326).

والترمذي في سننه - كتاب: تفسير القرآن - باب: ومن سورة البقرة - (ح 2999 - 11/ 112) وقال: هذا حديث حسن. أ هـ.

ص: 271

قال أبو جعفر: فسأل سائل عن المراد بقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وقال: النسيان ليس مما يملكونه من أنفسهم، فكيف يسألون أن لا يؤاخذوا به؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن النسيان الذي لا يملكونه من أنفسهم هو: النسيان من الأشياء التي هي أضداد للذكر لها، فذلك مما لا يؤاخذون به، ومما لا يجوز منهم سؤالهم ربهم أن لا يؤاخذهم به، وأما النسيان المذكور في هذه الآية، فإنما هو الترك على العمد بذلك كقول الله:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ] التوبة:62] في معنى: تركوا الله فتركهم.

قال: فما المراد بقوله عز وجل حكاية: {أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] والخطأ فهم غير مأخوذين به، كما قال:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه: أن الخطأ الذي في الآية التي تلاها علينا الذي لا جناح فيه هو ضد ما يتعمدونه، كما قال عز وجل:{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] والخطأ الذي في الآية التي تلوناها نحن عليه: هو الخطأ الذي يفعله من يفعله على أنه به مخطئ في اختياره له، وفي قصده إليه، وفي عمله به، ومنه قيل: خَطِئْت في كذا - مهموز - أي: عملت كذا خطيئة، فذلك مما عامله مأخوذ به معاقب عليه، أو معفو له عنه إن كان مما يجوز أن يُعفى له عن مثله.

فبان بحمد الله أنهم رضوان الله عليهم سألوا ربهم عز وجل في موضع سؤال، وأنه عز وجل غفر لهم في شيئين، قد كان له عز وجل أخذهم بها وعقوبتهم عليها، وهو المحمود على فضله في ذلك عليهم ورحمته لهم، وإياه نسأله التوفيق.

(شرح مشكل الآثار -4/ 318 - 319)

(وانظر: شرح مشكل الآثار -6/ 348 - 350)

ص: 272

الدراسة

بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالنسيان) في الآية هو: الترك على العمد. كما بين أن المراد (بالخطأ) في الآية هو: الخطأ الذي يفعله الإنسان، وهو مدرك أنه مخطئ في اختياره له، وفي عمله به.

وإليك أولاً: بيان الأقوال في المراد بـ (النسيان) في الآية:-

- القول الأول: أن المراد بالنسيان في الآية هو: الترك مع العمد.

بمعنى: أن يترك العبد ما أمر به على وجه التفريط والتضيع له.

فهذا هو النسيان الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في ترك مؤاخذته به.

- ومثال هذا النوع من النسيان: نسيان العبد للقرآن بعد حفظه، بتشاغله عنه وعن قراءته.

- وقد ورد هذا النوع من النسيان في أكثر من آية في كتاب الله: كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه:115] وكما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]

- القول الثاني: أن المراد بالنسيان في الآية هو: حقيقة النسيان، الذي هو ضد الذكر

وهو النسيان على وجه عجز الناس عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.

وهذا النوع من النسيان هو الوارد في الحديث، الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".

(1)

- ومثال هذا النوع من النسيان: نسيان العبد للقرآن بعد حفظه، مع حرصه على تذكره، ومدوامته على قراءته.

- وقد ورد هذا النوع من النسيان في أكثر من آية في كتاب الله. كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]. وكما في قوله تعالى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف:63]

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب الطلاق - باب طلاق المكره والناسي (ح 2053 - 1/ 377).

والحاكم في المستدرك - كتاب الطلاق (ح 2801 - 2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح. أ هـ.

ص: 273

- وقد رد هذا القول: بأن هذا النوع من النسيان هو من العبد غير معصية، وهو غير مؤاخذ به، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له.

(1)

- وقد أجيب عن هذا الرد بالأجوبة التالية:-

1 -

أنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء، لقصد استدامته

(2)

.

2 -

أن هذا الدعاء على سبيل التقدير.

وذلك لأن هؤلاء الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فلما كان لا يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، كان وصفهم بهذا الدعاء إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به.

فكأنهم قالوا: (ربنا إن كان النسيان والخطأ مما تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به).

3 -

أن المقصود من هذا الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا لطلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى فاعله، سواء دعا أو لم يدع - مثال ذلك:

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:194] وقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7].

فكل ما في هذه الآيات المتقدمة من دعاء وطلب، متحقق بدون طلب وكذا الآية التي معنا، فكان المقصود منها إظهار الحاجة إلى الله وكمال العبودية له وحده.

(3)

.

ثانياً: بيان الأقوال في المراد بـ (الخطأ) في الآية:-

القول الأول: أن المراد بالخطأ في الآية: الخطأ عن عمد.

- ومعنى ذلك: أن يريد العبد غير ما تحسن إرادته، فيفعله بقصد منه وإرادة. فهذا هو الخطأ التام المؤاخذ به العبد. والذي يرغب العبد إلى ربه في عدم مؤاخذته به.

(1)

انظر: تفسير الطبري (3/ 155) - وتفسير ابن الجوزي (1/ 297).

(2)

تفسير الزمخشري (1/ 521).

(3)

تفسير الرازي (7/ 145).

ص: 274

- ومثال هذا النوع من الخطأ: ما ورد في قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31].

القول الثاني: أن المراد بالخطأ في الآية: الخطأ عن غير عمد.

ومعنى ذلك: أن يريد العبد ما تحسن إرادته ولكن يقع منه فعل ما يخالف إرادته، فهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل.

ومثال هذا النوع من الخطأ: ما ورد في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92]

وهذا النوع من الخطأ هو المعني بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".

(1)

- وقد رد هذا القول: بأن هذا النوع من الخطأ موضوع عن العبد المؤاخذة به، فلا وجه لمسألة العبد ربه ألا يؤاخذه به.

(2)

الترجيح: جميع الأقوال المتقدمة في المراد بالآية صواب، إذ اللغة دالة على ذلك، ولا مانع من إرادتها جميعاً. قال ابن فارس في مادة (نسي): النون والسين والياء: أصلان صحيحان يدل أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على ترك شيء.

وقال في مادة (خطو): الخاء والطاء والحرف المعتل والمهموز: يدل على تعدي الشيء والذهاب عنه. والخطأ من هذا النوع، لأنه مجاوزة حد الصواب، يقال (أخطأ): إذا تعدى الصواب، ويقال (خَطِئ - يخطأُ) إذا أذنب، لأنه يترك الوجه الخير

(3)

. أ هـ.

وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو أحد الأقوال الواردة في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه (218).

(2)

انظر: تفسير الطبري (3/ 156) - والمفردات في غريب القرآن (151).

(3)

معجم مقاييس اللغة مادة (نسي-5/ 421) ومادة (خطو-2/ 198). وانظر: لسان العرب: مادة (نسا-15/ 321) - ومادة (خطأ -1/ 65).

ص: 275