الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه
أولاً: المكانة العلمية لأبي جعفر الطحاوي
بلغ الإمام الطحاوي في العلوم والمعارف الإسلامية شأواً بعيداً، بل أصبح في بعضها إماماً ومرجعاً.
الأمر الذي حمل ابن يونس المؤرخ على القول: بأن موته ترك فراغاً كبيراً في مصر، حينما تحدث عن مكانته بقوله:(وكان ثقة ثبتاً، فقيهاً عاقلاً، لم يخلف مثله).
(1)
وقد تناقل المؤرخون بعد هذه العبارة مع إضافات كثيرة من الثناء.
هذا التقدير والاحترام الذي ناله الطحاوي من معاصريه ومن بعدهم إنما كان اعترافاً منهم بالحقيقة التي كان يتحلى بها.
ولا غرو فإن الطحاوي كغيره من أسلافنا المتقدمين: أجادوا فنوناً متعددة، وعلوماً شتى، وكانوا أكثر ما يعرفون بفن واحد أو فنين، يعدون فيه مرجعاً، ويعترف لهم فيه بالتقدم والإجادة.
كذلك الأمر بالنسبة للطحاوي، فقد اشتهر بالفقه، والحديث، ولكنه كان أيضاً على دراية كبيرة بعلوم أخرى.
(2)
- وإليك أولاً: بيان العلوم والمجالات التي برز واشتهر فيها الإمام الطحاوي:-
1 -
علم الحديث: عاش الإمام الطحاوي في عصر ازدهار تدوين الحديث وعلومه، وعاصر كبار علماء الحديث ونقاده، وتتلمذ عليهم، وشاركهم في الرواية عن بعض الشيوخ.
فشارك مسلماً، وأبا داود، والنسائي، وابن ماجة في الرواية عن هارون بن سعيد الأيلي
(3)
، ومسلماً أيضاً في الرواية عن يونس بن عبد الأعلى
(4)
وكذلك أبا داود والنسائي وأكثر عنه.
(1)
سير أعلام النبلاء (15/ 29).
(2)
مختصر اختلاف العلماء (1/ 34).
(3)
هارون بن سعيد الأيلي، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقة فاضل، توفي سنة (253 هـ)(تقريب التهذيب - 568).
(4)
يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي أبو موسى المصري، ثقة، توفي سنة (264 هـ). (تقريب التهذيب - 613).
كما أن النسائي أخذ بدوره عن الطحاوي ثم شارك المحدثين في صناعة بعض علوم الحديث، فصنف في أصعب فن من علوم الحديث وهو: اختلاف الحديث. المتمثل في كتابة: (شرح مشكل الآثار) فأبدع الإمام الطحاوي وفاق الإمام أبو جعفر الطحاوي الكثيرين ممن ألفوا في هذا الفن.
وإن اقتدار الإمام أبي جعفر الطحاوي في علم الحديث ومعرفة رجاله، والبصر بعلله لتبدو جلية فيما ذكره من ذلك في كتابه:(شرح معاني الآثار) وكتابه (شرح مشكل الآثار).
كما تتلمذ عليه من أئمة الجرح والتعديل، ابن عدي، وابن يونس، والطبراني وغيرهم، وتأثر هؤلاء وغيرهم بالطحاوي واضح من خلال ما نقله أصحاب كتب الجرح والتعديل، وكتابه (التاريخ الكبير) في الرجال موضع ثناء واهتمام العلماء بالرغم من أنه من عداد كتبه المفقودة، إلا أن أصحاب كتب الرجال اقتبسوا منه اقتباسات مهمة مما يشعر بمكانته المرموقة.
وكذلك رسالته (في التسوية بين حدثنا وأخبرنا) ينبئ عن المكانة التي وصل إليها الطحاوي في هذا الفن.
وبهذه المعرفة الواسعة في الحديث، وبمؤلفاته القيمة فيه استحق الطحاوي تقدير المحدثين واحترامهم، كما استحق ثناءهم العطر الذي خلده له التاريخ عبر القرون، فشهد له أهل هذا الشأن بالإمامة.
(1)
2 -
علم الفقه: إمامة الطحاوي في علم الفقه مسلم بها لدى كافة من كتب عن الإمام الطحاوي، سواء في هذا المؤرخون أو الفقهاء.
فلقد درس الطحاوي مذهب الشافعي على خاله المزني، ثم درس مذهب الحنفية ولم يتعصب لأحد من أئمته، بل يختار من أقوالهم ما يعتقد صوابه لقوة دليله، وإذا وافق أحداً من الأئمة فيما ذهب إليه، فإنما يوافقه عن بينة واستدلال، لا على مجرد التقليد، شأنه في ذلك شأن علماء عصره الذين لم يكونوا يرضون لأنفسهم التقليد، لا حفاظ الحديث، ولا أئمة الفقه.
(1)
انظر: الحاوي (5 - 6) ومختصر اختلاف العلماء (1/ 35 - 37).
وما يمنعه من الاجتهاد وقد تحققت له أدواته، واكتملت له عدته، فهو حافظ، واسع الاطلاع، دقيق الفهم، متنوع الثقافة، جمع إلى معرفة الحديث ونقله، والعلم بالروايات وعللها، علماً بالفقه والعربية، وتمكناً منها كلها، وتبحراً فيها.
(1)
قال الإمام اللكنوي:
(2)
(إن الإمام الطحاوي له درجة عالية، ورتبة شامخة، قد خالف بها صاحب المذهب في كثير من الأصول والفروع، ومن طالع (شرح "معاني الآثار) وغيره من مصنفاته يجده يختار خلاف ما اختاره صاحب المذهب كثيراً إذا كان ما يدل عليه قوياً، فالحق أنه من المجتهدين المنتسبين، الذين ينتسبون إلى إمام معين من المجتهدين، لكن لا يقلدونه لا في الفروع ولا في الأصول، لكونهم متصفين بالاجتهاد، وإنما انتسبوا إليه لسلوكهم طريقه في الاجتهاد، وإن انحط عن ذلك، فهو من المجتهدين في المذهب القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها الإمام، ولا تنحط مرتبته عن هذه المرتبة أبداً).
(3)
ولما كان الإمام الطحاوي قد اشتهر بالنبوغ والبراعة في العلوم بعامة، وفي مسائل الفقه والشروط والتوثيق والسجلات بخاصة، مع اتصافه بالأخلاق الفاضلة، وبسبب توافر هذه الصفات المميزة كان القضاة يهتمون به، بالاستعانة بمداركه وعلومه وفهمه وبراعته في فن الشروط والتوثيق، ويشاورونه في المسائل الصعبة التي تعرض عليهم، ويستفيدون من مهارته وفهمه.
(1)
شرح مشكل الآثار - (1/ 60).
(2)
هو: أبو الحسنات محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي (1264 - 1304 هـ) اشتهر بكثرة مؤلفاته القيمة التي بلغت نحو مائة وعشرة كتب.
(انظر: ترجمته في مقدمة كتابه (الأجوبة الفاضلة) بتحقيق الشيخ: عبد الفتاح أبو غدة).
(3)
الفوائد البهية (31).
وكان أول منصب تقلده الإمام أبو جعفر الطحاوي كونه كاتباً رسمياً لبكار بن قتيبة
(1)
، مما جعل الفرصة أمامه سانحة ليلتقي بمختلف طبقات المجتمع ويتصل بهم بدءاً بالعلماء ووجوه البلد، ونهاية بالفقراء والبائسين، حتى استطاع أن يرقب أحوال بلده عن كثب عن طريق أولئك الأقوام.
ثم توفي القاضي بكار ولم يل القضاء أحد حتى أتى محمد بن عبدة بن حرب
(2)
وتولى القضاء واختار الطحاوي ليكون أيضاً كاتبه، - وربما كان الاشتراك في المذهب الحنفي من بين دوافع هذا الاختيار - ثم بلغت الثقة به أن استخلفه وجعله نائباً عنه.
(3)
واستمر في هذا المنصب يعمل مع القاضي أبي عبيد الله إلى سنة 292 هـ.
ثم تولى منصباً آخر، استحدث في النظام القضائي، وهو منصب الشهادة أمام القاضي، وذلك بإيجاد جماعة من الشهود الدائمين أمام القاضي. ولا يتبوأ هذا المنصب إلا الذين اشتهروا بالعدالة والنزاهة، وعرفوا بالعلم والفضل، والصلاح والتقى، ولذلك لا ينال هذا المنصب التشريفي إلا القليل من الفضلاء. وهذا بمثابة شهادة وتزكية لصلاح الرجل وفضله، عندما يكون من شهود القاضي، وكان رؤوس وأعيان البلد يتطلعون ويتمنون الحصول على هذا المنصب الكبير.
تولى الطحاوي هذا المنصب الشريف، لما كان يتصف به من صفات حميدة وأخلاق فاضلة، وأدب جم، وعلم واسع، وبخاصة في علم الفقه وأصول الشهادة.
فلقي الطحاوي حظوة عظيمة لدى القضاة، حتى عدله بعضهم بعدد من الشهود، وأصبح محسوداً، لاجتماع المنقبتين في شخصيته.
(1)
انظر: الجواهر المضية (1/ 103) والولاة والقضاة (516).
(2)
هو: محمد بن عبدة بن حرب البصري العبادي الحنفي، روى أحاديث، وولي القضاء، وتوفي سنة (313 هـ)(سير أعلام النبلاء -14/ 81).
(3)
أبو جعفر الطحاوي وأثره في الحديث (83).
يتضح من خلال هذا العرض: الاحترام والإجلال الذي كان يحاط به الطحاوي، وكذلك يتبين أن قبول الشهادة يعدل النبوغ في العلم والرياسة فيه.
هذا ولم يكن اتصاله بالقضاة، وأداء الشهادة - وهو منصب تشريفي - للحصول على عرض من الدنيا، أو لنيل شرف عارض، بل كانت مكانته فوق كل هذا، لما اشتهر عنه من علم وفضل، وكان القضاة أنفسهم يسعون إليه ويتلقون عنه يقدرونه حق التقدير.
وإنما كان غرضه في ذلك مذاكرة العلم مع أهله، ومناقشة المسائل العويصة وحلها مع الفقهاء، ومدارسة الحديث وتكثير السماع منه مع المحدثين.
(1)
(1)
الولاة والقضاة (532).