الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المائدة
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1] قال أبو جعفر الطحاوي:
وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهي العهود، لا اختلاف بين أهل العلم فيها.
(شرح مشكل الآثار-10/ 355)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالعقود) في الآية هو: العهود مطلقاً.
وإليك بيان أقوال المفسرين في المراد بها:
القول الأول: أن المراد (بالعقود) في الآية: العهود التي أخذها الله جل وعلا على أهل الكتاب (من العمل بما في التوراة والإنجيل من تصديق للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
- وهذا قول: ابن جريج.
(1)
حيث قال: هذا خطاب لأهل الكتاب، يعني: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، أفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شان محمد صلى الله عليه وسلم وهو قوله جلا وعلا:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]
(2)
.
- ومما يدل على هذا القول: قول ابن شهاب، حيث قال:(قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم رضي الله عنه حين بعثه إلى نصارى نجران وفي صدره: (هذا بيان للناس من الله ورسوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. . . اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} [المائدة:1 - 4]
(3)
القول الثاني: أن المراد (بالعقود) في الآية: عقود الجاهلية، التي كان يعاقد ويحالف بعضهم بعضاً على الالتزام بها من النصرة والمؤازرة لكل مظلوم.
- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد - وقتادة - والضحاك - والثوري.
(4)
القول الثالث: أن المراد (بالعقود) في الآية: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، من بيع أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه، من نذر أو يمين.
(1)
تفسير الماوردي (2/ 5).
(2)
تفسير البغوي (3/ 6).
(3)
أخرجه النسائي في سننه - كتاب القسامة - باب حديث عمرو بن حزم في العقول (حـ 4870 - 8/ 429)
والبيهقي في سننه- كتاب: الديات - باب الديات فيما دون النفس (حـ 1 - 8/ 80).
(4)
تفسير الطبري (4/ 385).
- وهذا قول: زيد بن أسلم - ومحمد بن كعب القرظي - وعبد الله بن عبيدة.
(1)
القول الرابع: أن المراد (بالعقود) في الآية: العقود التي عقدها الله جل وعلا على عباده، وألزمهم إياها من فرائض الدين وواجباته.
- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه والضحاك - ومجاهد.
(2)
- ومما يدل على هذا القول: أن الله جل وعلا أتبع هذا الأمر {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بالبيان عما أحل لعباده، وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه، فكان معلوماً بذلك أن قوله (أوفوا بالعقود) أمر منه لعباده بالعمل بما ألزمهم به من فرائضه المذكورة بعد ذلك، ونهي منه جل وعلا عن نقض ما عقده عليهم، أو التقصير بشيء من ذلك.
(3)
القول الخامس: أن المراد (بالعقود) في الآية: جميع العهود التي بين الله جل وعلا وبين عباده، والتي بين العباد فيما بينهم.
- وهذا قول: جمهور المفسرين.
- وحجة هذا القول:
1 -
أن (العقود) جمع (عقد) بفتح العين وهو: الالتزام الواقع بين جانبين في فعل ما.
2 -
أن التعريف في لفظ (العقود) تعريف يفيد الاستغراق للجنس.
وبناء على هذا فإن لفظ (العقود) يكون شاملاً للعقود التالية:-
1 -
العقود التي عاقد المسلمون عليها ربهم من القيام بفرائضه.
2 -
العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين ربه جل وعلا كالأيمان والنذر.
3 -
العقود التي يتعاقدها الناس فيما بينهم كالبيع والنكاح.
4 -
العقود التي يتعاقد عليها المسلمون والكفار.
(4)
(1)
انظر: تفسير الماوردي (2/ 6) وتفسير ابن عطية (5/ 7) وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 6).
(2)
انظر: تفسير ابن عطية (5/ 7) وتفسير ابن كثير (3/ 5).
(3)
تفسير الطبري (4/ 388).
(4)
انظر: تفسير ابن عاشور (6/ 74) - وتفسير السمرقندي (1/ 412).
الترجيح: والقول الراجح هو: أن الآية عامة في كل من آمن بالله جل وعلا من المسلمين وأهل الكتاب. كما أنها عامة في كل عهد أو عقد سواء كان بين الله جلا وعلا وعباده، أو بين سائر عباده.
وذلك لأن لفظ الآية جاء عاماً ولا دليل على تخصيصه بنوع دون آخر. إلا أنه ينبغي التنبيه إلى: أن العقد الذي يجب الوفاء به، هو كل عقد وافق كتاب الله جلا وعلا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خالفهما فهو عقد مردود يحرم الوفاء به.
قال ابن عطية في ترجيح هذا القول: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية: أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول، فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان، ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. أهـ.
(1)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: - مسألة - في شحوم ذبائح اليهود:
قال أصحابنا، والثوري، والليث، والأوزاعي، والشافعي رضي الله عنهم: لا بأس به.
وقال مالك: وعبيد الله بن الحسن رضي الله عنهما: لا يؤكل.
قال أبو جعفر: قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]
المراد: ذبائحهم والشحوم، وإن كانت محرمة عليهم، فإنه قد أباح لنا أكله.
(1)
تفسير ابن عطية (5/ 6).
وينبغي على قول مالك رضي الله عنه: أن لا يجوز أكل ذبيحة اليهودي من الإبل، ومن كل ذي ظفر: لأن الله تعالى قال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام:146] وكان لحم الجمل محرماً عليهم.
ويلزمه أن لا يأكل ما اصطاده من السمك يوم السبت.
(مختصر اختلاف العلماء -3/ 210 - 211)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد (بالطعام) في الآية هو: الذبائح. كما بين - رحمه الله تعالى - الخلاف في حكم أكل شحوم ذبائح أهل الكتاب، مرجحاً جواز ذلك، لأن الآية دالة على جواز سائر ذبائح أهل الكتاب بدون استثناء لأي جزء من أجزائها.
وإليك أولاً: بيان المراد (بالطعام) في قوله جل وعلا: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} :
- القول الأول: أن المراد بالآية هو: جميع المطعومات.
- وحجة هذا القول: أن قوله: (وطعام) لفظ عام مطلق، فوجب حمل الآية على القول بالعموم.
(1)
- القول الثاني: أن المراد بالآية هو: الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة.
- وهذا القول: منقول عن بعض أئمة الزيدية.
(2)
- القول الثالث: أن المراد بالآية هو: ذبائح أهل الكتاب.
- وهذا قول: جمهور المفسرين.
(3)
- وحجة هذا القول: أن سائر طعام أهل الكتاب من الخبز والأدهان وما تدخله صناعتهم، ولا يحتاج فيه إلى ذكاة، مباح أكله، ولا يختلف حكمه بمن يتولى صنعه من مسلم أو كافر. كما أن الطعام الذي يحتاج فيه إلى ذكاة وهو غير مذكى محرم أكله، ولا يختلف حكمه بناء على من تولى إماتته من مسلم أو كافر. وعليه فلم يبقى لنا إلا حمل الآية على الذبائح المذكاة والتي يختلف حكمها باختلاف الأديان.
(4)
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 41).
(2)
تفسير الرازي (11/ 146).
(3)
تفسير الطبري (4/ 442).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 456) - وبدائع الصنائع (4/ 165).
- الترجيح: والراجح هو: أن المراد بالآية: ذبائح أهل الكتاب، لأمرين:
1 -
أن ما سوى الذبائح من سائر الأطعمة لا يختلف حكمه باختلاف الأديان، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة.
2 -
أن ما قبل هذه الآية من الآيات في بيان أحكام الصيد والذبائح، فكان حمل الآية على الذبائح المتقدم ذكرها أولى.
(1)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
ثانياً: الأقوال في حكم سائر أجزاء ذبائح أهل الكتاب:
- القول الأول: أنه يحل للمسلم سائر أجزاء ذبائح أهل الكتاب، باستثناء ما حرم الله عليهم كالشحوم المحضة.
- وهذا قول: مالك وأصحابه، ورواية عن الإمام أحمد - وقول: الضحاك - ومجاهد - وسَوّار - وأبي الحسن التميمي.
- وحجة هذا القول:
1 -
أن الله جل وعلا قال:: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] والشحوم المحضة محرمة على أهل الكتاب فليست من طعامهم.
2 -
أن الشحوم المحضة جزء من الذبيحة، ولم تبح لذابحها، فلا تباح لغيره.
(2)
القول الثاني: أنه يحل للمسلم سائر أجزاء ذبائح أهل الكتاب، بدون استثناء شيء منها.
- وهذا قول: جمهور الفقهاء والمفسرين.
- وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:
1 -
أن التذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإذا كانت التذكية شائعة في جميع أجزاء المذبوح دخل الشحم في ذلك لا محالة.
2 -
أن الله جل وعلا نص بأنه حرم على اليهود كل ذي ظفر، فقال جل وعلا:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام:146]
(1)
تفسير الرازي (11/ 146).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (13/ 312) - وبداية المجتهد (1/ 836).
فكان يلزم من قال بالقول الأول: أن اليهودي إذا ذبح ماله ظفر أنه لا يحل للمسلم أكله، وهذا غير صحيح وغير وارد، لأن كون الشحوم أو غيرها محرمة على أهل الكتاب لا يلزم منه أن تكون محرمة علينا، فالتحريم ثابت في شرعهم مسكوت عنه في شرعنا، فيكون الحكم على الأصل وهو الإباحة.
(1)
3 -
ما ثبت عن عبد الله بن مغَفَّل رضي الله عنه أنه قال: (رمي إليَّ جراب
(2)
من شحم يوم خيبر، فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحد، والتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم).
(3)
فدل هذا الحديث على حلَّ جميع أجزاء ذبائح أهل الكتاب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض على فعل عبد الله بن مغفل، وأقره على ذلك مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الشحم من ذبائح أهل الكتاب.
4 -
ما ثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية
(4)
ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه .. )
(5)
(1)
تفسير القاسمي (3/ 48).
(2)
قوله (جراب) بكسر الجيم وفتحها لغتان، والكسر أفصح، وهو وعاء من جلد - (شرح صحيح مسلم - للنووي - 12/ 321).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الذبائح والصيد - باب ذبائح أهل الكتاب (ح 5189 - 5/ 2097)
ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز الأكل من طعام الغنيمة (ح 4580 - 12/ 321).
(4)
قوله (مصليِّة): هي المشوية بالصَّلاة - أي (بالنار)(معالم السنن للخطابي-4/ 648).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب الشاة التي سُمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر (ح 4003 - 4/ 1551).
وأبو داود في سننه - كتاب الديات - باب فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات - (ح 4510 - 4/ 648).
ووجه الدلالة من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل ومن معه من ذبيحة أهل الكتاب ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه.
(1)
فدل ما تقدم على أن الآية عامة في إباحة طعام أهل الكتاب ما حرم عليهم وما حل لهم.
- الترجيح: والراجح هو حل جميع أجزاء ذبائح أهل الكتاب بدون استثناء شيء منها، لأن ما حرم على أهل الكتاب هو في شريعة الإسلام أمر باطل، لكونها ناسخة لجميع الشرائع، فوجب عدم مراعاة اعتقادهم في ذلك.
(2)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 21).
(2)
بداية المجتهد (1/ 837).
قال أبو جعفر الطحاوي: والغايات للأشياء المذكورة منها ليست بأعيان، وقد وجدناها لا تدخل في الأشياء المذكورة بها، فمن ذلك قول الله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، والليل غير داخل في ذلك، ووجدناها تدخل فيها، ومن ذلك قوله عز وجل:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، وكانت المرافق والكعبان داخلة في ذلك، وفي هذا ما يدل على أنهم قد يدخلون ما يجعلونه غاية فيما قد جعلوه غاية له، وقد لا يدخلونه فيه.
(شرح مشكل الآثار-15/ 185).
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن (إلى) في قوله جل وعلا: {إِلَى الْمَرَافِقِ} وقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] دالة على دخول الغاية في الحكم المتقدم. وإليك بيان هذه المسألة:
إن (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها منه فأمر يدور مع الدليل، ومن أظهر الأدلة في بيان ذلك: أنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه، وإن لم يكن من جنسه لم يدخل فيه.
1 -
فمن الأمثلة على خروج الغاية من الحكم المتقدم:
قوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] لأن الإعسار علة الإنذار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً.
وكقوله جل وعلا: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] لأن الليل ليس من جنس النهار، ولو دخل الليل في الغاية لوجب الوصال، وهو أمر غير وارد.
2 -
ومن الأمثلة على دخول الغاية في الحكم المتقدم:
قولك: (بعت هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف) لأن الطرف المتأخر من جنس الطرف المتقدم.
وكقولك (حفظت القرآن من أوله إلى آخره)، لأن الكلام مسوق لبيان حفظ القرآن كله. وكقوله جل وعلا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله.
(1)
وكقوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6](فالمرفقين والكعبين) داخلين في حكم الغسل، وقد دل على ذلك عدة أحاديث منها:
حديث جابر رضي الله عنه: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ".
(2)
ومنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ".
(3)
(1)
انظر: تفسير الزمخشري (2/ 203) والمحصول في علم الأصول للرازي (1/ 378).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه - كتاب الطهارة - باب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم (ح 15 - 1/ 83).
والبيهقي في سننه - كتاب: الطهارة - باب: إدخال المرفقين في الوضوء (ح 1 - 1/ 56).
(3)
أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الطهارة - باب ما جاء ويل للأعقاب من النار (ح 41 - 1/ 57).
والدار قطني في سننه - كتاب الطهارة - باب وجوب غسل القدمين والعقبين (ح 1 - 1/ 95).
ومنها: حديث نعيم بن عبد الله المجمر رضي الله عنه قال: " رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ".
(1)
فبينت هذه الأحاديث المتقدمة الغسل الواجب المأمور به في الآية، مع أنه لم ينقل إلينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر في وضوئه على ما دون المرفقين في غسل اليدين، وما دون الكعبين في غسل الرجلين.
وبهذا يظهر صحة دخول ما بعد (إلى) في الآية في الحكم المتقدم وإلى هذا القول ذهب الجمهور. خلافاً لزفر بن الهذيل، ومحمد بن داود، ومالك في رواية، حيث ذهبوا إلى أن (إلى) لانتهاء الغاية، وما بعدها غير داخل في حكم ما قبلها، وعليه فلا يجب في الوضوء غسل المرفقين والكعبين.
(2)
والراجح هو القول الأول لكونه معتمداً على الدليل الصحيح الصريح الثابت بالسنة.
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الطهارة - باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء - (ح 578 - 3/ 128).
والبيهقي في سننه - كتاب الطهارة - باب استحباب الإشراع في الساق - (ح 1 - 1/ 77).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (1/ 172) والمجموع للنووي (1/ 385) وتيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 755).
قال أبو جعفر الطحاوي: وقد اختلف الناس في قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] فأضافة قوم إلى قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] قصراً على معنى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم).
وأضافة قوم إلى قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فقرأوا (وأرجلكم) نسقاً على قوله: {فاغسلوا وجوهكم واغسلوا أرجلكم} على الإضمار والنسق.
وقد اختلف في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دونهم. فمما روي عنهم في ذلك .. ، أن عبد الله بن مسعود قرأ:{وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] بالفتح .. وعن ابن عباس: أنه قرأها كذلك، وممن قرأها كذلك: مجاهد، وعروة بن الزبير، وشهر بن حوشب
(1)
وعن مجاهد: أنه قرأها: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] خفضها .. وعن الحسن أنه قرأها كذلك.
(شرح معاني الآثار-1/ 40)
(1)
شَهْرُ هو: أبو سعيد شهر بن حوشب الاشعري الشامي، كان من كبار علماء التابعين، وثقه ابن معين وغيره، وكانت وفاته سنة (100 هـ).
(سير أعلام النبلاء-4/ 372).
بين الإمام الطحاوي القراءات الواردة في قوله جل وعلا: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] موجهاً كل قراءة، وذاكراً من قرأبها، وإليك بيان هذه القراءات:-
القراءة الأولى: بالنصب: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6]
- وهذه قراءة: نافع - وابن عامر - والكسائي - وحفص عن عاصم - ويعقوب.
(1)
- وفي توجيه هذه القراءة من جهة الإعراب، وجهان:-
1 -
أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} منصوب بالعطف على قوله: {وَأَيْدِيكُمْ} وعامل النصب فيه هو قوله: {فَاغْسِلُوا} ، وعليه فإن حكم الأرجل الغسل كالأيدي. والتقدير:(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم).
وقد رد هذا القول: بأنه يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة غير اعتراضيه، لأنها منشئة حكماً جديداً، إذ ليس فيها تأكيد للحكم الأول.
(2)
وقد أجيب عن هذا الاعتراض: بأن النصب على التقديم والتأخير جائز في اللغة بلاخلاف، وله أمثلة كثيرة منها: قوله جل وعلا: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} ثم قال: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129] فعطف قوله: (أجل) على قوله: (كلمة) مع أن بينهما كلام فاصل.
فكذلك في الآية التي معنا عطف قوله: (وأرجلكم) على قوله: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} مع أن بينهما فاصل على التقديم والتأخير.
(3)
وقد كان هذا التقديم والتأخير في الآية، وإدخال قوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} بين الأعضاء المغسولة، من أجل المحافظة على ترتيب الوضوء.
(4)
وقد دل على صحة هذا القول الأحاديث الصريحة الصحيحة في وجوب غسل الرجلين.
(1)
انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع (2/ 254) وإتحاف فضلاء البشر (119).
(2)
تفسير ابن عادل (7/ 223).
(3)
انظر: حجة القراءات لأبي زرعة (221) وإملاء ما من به الرحمن للعكبري (1/ 209).
(4)
تفسير الشنقيطي - (1/ 259).
الدراسة
2 -
أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} منصوب بالعطف على محل المجرور {وَامْسَحُوا} إذ أن محل {وَامْسَحُوا} النصب، وإن كان مجروراً بالباء.
وعلى هذا القول يكون حكم (الرجلين) المسح، ولكنه نسخ بالسنة المبينة وجوب غسل الرجلين.
(1)
وقد رد هذا القول: بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، كما أنه لا يقال بالنسخ مع إمكانية الجمع والتوفيق.
وبهذا يتضح لنا أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} أحد الفعلين إما قوله: {فَاغْسِلُوا} وإما قوله: {وَامْسَحُوا} ، إلا أنه إذا اجتمع عاملان لمعمول كان إعمال الأقرب أولى. وعليه فإنه يجب أن يكون عامل النصب في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} هو قوله: {وَامْسَحُوا} لكونه الأقرب.
(2)
القراءة الثانية: بالجر: {وأرجُلِكُم} [المائدة:6]
- وهذه قراءة: حمزة - وأبي عمرو - وابن كثير - وأبي بكر عن عاصم - وأبي جعفر - وخلف.
(3)
- وفي توجيه هذه القراءة من جهة الإعراب، ثلاثة أوجه:-
1 -
أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} مجرور بالعطف على مجرورة بحرف (الباء) هو قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} فهو مجرور لفظاً ومعنى. وبهذا يكون حكم الرجلين المسح، إلا أن حكم المسح للرجلين قد نسخ في السنة بوجوب الغسل.
وقد رد هذا القول: بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، كما أنه لا يقال بالنسخ مع إمكانية الجمع والتوفيق.
2 -
أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} مجرور بحرف جر مقدر دل عليه المعنى، ويتعلق هذا الحرف بفعل محذوف أيضاً يليق بالمحل، والتقدير:(وافعلوا بأرجلكم غسلاً).
(1)
انظر: تفسير ابن عادل (7/ 223) - والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام (2/ 528).
(2)
تفسير الرازي (11/ 161).
(3)
انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 406) - والنشر في القراءات العشر (2/ 254).
وقد رد هذا القول: بأن حذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، إلا أنه ليس على إطلاقه، وإنما يطرد في مواضع نص عليها أهل اللسان ليس هذا منها.
3 -
أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} مجرور بالعطف على مجرور بحرف (الباء)، وهو قوله:{بِرُءُوسِكُمْ} مع أنه منصوب في المعنى بالعطف على قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ} فهو مجرور لأجل المجاورة لفظاً لا معنى.
وبهذا يكون حكم الرجلين الغسل لا المسح، لأن السنة الصحيحة قاضية بأن حكم الوجه واليدين والرجلين الغسل، إلا أن مسح الرأس دخل بينهما، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهم، لأنه مفعول قبل غسل الرجلين لا بعدهما. فكان ذكر الرجلين بعد ذكر مسح الرأس لبيان الترتيب لا ليشتركا في صفة التطهير.
وقد دل على ذلك قوله جل وعلا: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فجيء بالغاية إزالة لظن من يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.
(1)
ومثال ذلك قوله جل وعلا: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] من غير تحديد.
وقوله جل وعلا في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] من غير بيان حد لذلك المسح.
وهذا مما يبين أن حكم الرجلين وجوب الغسل لا المسح.
والجر بالمجاورة ثابت في اللغة العربية، وممن صرح بجوازه من أئمة اللغة: الأخفش، وأبو البقاء العكبري.
ومن أمثلة الجر بالمجاورة في القرآن الكريم:
قوله جل وعلا: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84] بجر قوله: {مُحِيطٍ} لمجاورته لقوله: {يَوْمٍ} مع أنه نعت لقوله: {عَذَابَ} .
(1)
انظر: تفسير ابن عادل (7/ 224) - وأحكام القرآن لابن العربي - (2/ 72) - والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام - (2/ 528).
ومثل: قراءة الأعمش لقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] بجر قوله: {الْمَتِينُ} لمجاورته لقوله: {الْقُوَّةِ} مع أنه نعت لقوله: {الرَّزَّاقُ} .
ومثل: قراءة حمزة لقوله جل وعلا: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ثم قال: {وَحُورٌ عِينٌ} فجرهن بالمجاورة، وهن معطوفات في المعنى على قوله:{وِلْدَانٌ} لأنهن يطفن ولا يُطاف بهن.
ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قولهم: (هذا جحر ضب خرب) بجر: (خرب) لمجاورته للمجرور (ضب) وكان حقه الرفع لأنه صفة في المعنى لـ (جحر) لصحة اتصافه به، بخلاف (ضب) فإنه لا يصح اتصافه بقوله:(خرب). وبهذا يتضح لنا صحة الجر بالمجاورة.
(1)
القراءة الثالثة: بالرفع: {وأرجُلُكُم} [المائدة:6].
- وهذه قراءة: الأعمش - والحسن بن أبي الحسن - ورويت عن نافع.
(2)
- وتوجيه هذه القراءة من جهة الإعراب:
أن قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير:(وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة).
(3)
الترجيح: وجميع هذه القراءات قد نزل بها القرآن جميعاً، ونقلتها الأمة تلقياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من هذه القراءات محتملة من حيث المعنى للمسح والغسل. إلا أن احتمال الغسل هو الصحيح لكون السنة الصحيحة دالة عليه.
(4)
وأما احتمال المسح فيمكن تأويله على النحو التالي:
(1)
انظر: تفسير ابن عادل (7/ 224)، ومعاني القرآن للأخفش (1/ 255) وتفسير الشنقيطي (1/ 262)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 487).
(2)
انظر: تفسير ابن عطية (5/ 47) والحجة في القراءات السبع (3/ 214)
وحجة القراءات لأبي زرعة (221) والسبعة لابن مجاهد (242).
(3)
تفسير ابن عادل (7/ 228).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 487) - وتفسير الشنقيطي (1/ 260).
1 -
أن قوله جل وعلا: {وَأَرْجُلَكُمْ} إما عطف على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} للتنبيه على وجوب الاقتصاد في استعمال الماء، وأن تغسل الأرجل غسلاً خفيفاً يقرب من المسح.
(1)
2 -
أن قوله جل وعلا: {وَأَرْجُلَكُمْ} إنما عطف على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفان، بخلاف سائر الأعضاء.
ومثال ذلك: ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم:" أنه كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه ".
(2)
فليس المراد منه: أنه لم يكن بينهما حائل. وكما يقال: (قَبّل فلان رأس الأمير ويده) وإن كانت العمامة على الرأس، واليد في الكُمِّ.
(3)
3 -
أن قوله جل وعلا: {وَأَرْجُلَكُمْ} إنما عطف على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} لتنبيه الغاسل على عدم الاكتفاء بمجرد الغسل في تطهير الرجلين، بل يجمع في تطهيرهما بين الدلك باليد الذي هو المسح والغسل الذي هو إسالة الماء على العضو المغسول.
ولعل الحكمة في الجمع بين المسح والغسل في تطهير الرجلين دون غيرهما، لأن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملامسة الأقذار لمباشرتهما للأرض، فناسب ذلك أن يجمع في تطهيرهما بين المسح والغسل، ليكون ذلك أبلغ في نظافتهما.
(4)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: أحكام الكتاب المبين (3/ 864) - وتفسير ابن كثير - (2/ 26).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الصلاة - باب ما جاء أنه يجافي يديه عن جنبيه في الركوع - (ح 260 - 2/ 61).
والنسائي في سننه - كتاب الصلاة - باب مواضع أصابع اليدين في الركوع _ (ح 1036 - 2/ 530).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 72) - وتفسير البغوي (3/ 23).
(4)
انظر: تفسير الطبري (4/ 470) - والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام (2/ 526).
قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)} [المائدة:28]
قال أبو جعفر الطحاوي: وقد كان له مده يده إليه ليدفعه عن نفسه لما أراد قتله، ولكنه خاف أن يرجع صاحبه عما كان همَّ به، ويتمادى هو في الدفع عن نفسه حتى يكون في ذلك تلف صاحبه بما يفعله به، فخاف الله عز وجل من أجل ذلك. ومثل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "
(1)
مع علمه صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل لا يؤاخذه بما لا يملك، ولكن على التوقي من الزيادة فيما لا يملك حتى يدخل به فيما يملك.
(شرح مشكل الآثار -10/ 279)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي السبب الذي من أجله قال المقتول لأخيه القاتل: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28] وهو أن المقتول خاف أن يتراجع البادئ بالقتال عن الرغبة في قتله، ويتمادى هو في الدفاع عن نفسه فيكون هو القاتل المستحق لعذاب الله جل وعلا، فكان الخوف من عذاب الله جل وعلا مانعاً له من الإقدام على الدفاع عن نفسه، مع أنه جائز في حقه.
وإليك بيان أقوال المفسرين في السبب الذي من أجله قال المقتول لأخيه القائل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]:
- القول الأول: أن المقتول قال هذه المقولة لأنه كان من شرع آدم عليه السلام، أن من قُصد بالقتل فواجب عليه الكف عن الدفع والصبر على ما يصيبه.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه - كتاب النكاح - باب ما جاء في التسوية بين الضرائر- (ح 1142 - 5/ 79) والإمام أحمد في مسنده (6/ 144).
- وهذا قول: مجاهد - والحسن.
(1)
- القول الثاني: أن المقتول قال هذه المقولة إعلاماً منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتله لا ابتداءً ولا مدافعة.
(2)
وقد كان له الدفاع عن نفسه، ولكنه خاف أن يتراجع البادئ بالقتال عن مراده، ويتمادى هو في دفعه حتى يقتله، ولهذا فضل أن يكون هو المقتول لا القاتل، مختاراً طريق الصبر على المصيبة طلباً للأجر من الله جل وعلا.
ومما يؤيد صحة موقف هذا المقتول:
ما ثبت في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه "
(3)
- وهذا قول: ابن عباس - وعبد الله بن عمرو - وعكرمة.
(4)
الترجيح: والراجح هو القول الثاني، لأن الله جلا وعلا قد كان حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلماً، وأن المقتول إنما قال لأخيه تلك المقولة لأنه كان محرماً عليه من قتل أخيه مثل الذي كان حراماً على أخيه القاتل من قتله.
فأما الإمتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة فيه على أن القاتل حين أراد قتله، وعزم عليه، كان المقتول عالماً بما هو عليه عازم منه، ومحاول من قتله، فترك دفعه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غيلة، اغتالة وهو نائم، فضرب رأسه بحجر كبير فقتله.
(1)
انظر: تفسير السمعاني (2/ 30) - وأحكام القرآن للجصاص (2/ 563).
(2)
تفسير السعدي (2/ 279).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)] سورة الحجرات -9 [(ح 31 - 1/ 20)
وابن ماجة في سننه - كتاب الفتن - باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما - (ح 4012 - 2/ 371).
(4)
انظر: تفسير الطبري (4/ 32) - وتفسير السمعاني (2/ 30) وتفسير أبي حيان (4/ 229).
فهو إنما قال تلك المقولة عندما لاح له علامات تغلب على الظن أن أخاه يريد قتله، فذكر له تلك المقولة على سبيل الموعظة والنصيحة. فإذا كان ذلك ممكناً، ولم يكن في الآية دلالة على أنه كان مأموراً بترك منع أخيه من قتله، لم يكن جائزاً ادعاء ما ليس في الآية إلا ببرهان يجب التسليم له.
(1)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] الآية، قال:(نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست هذه الآية للرجل المسلم من قتل وأفسد في الأرض وحارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب)
(2)
(1)
انظر: تفسير الطبري (4/ 533) - وتفسير الرازي (11/ 206).
(2)
أخرجه أبوداود في سننه - كتاب الحدود - باب ما جاء في المحاربة (ح 4372 - 4/ 536). والنسائي في سننه - كتاب المحاربة - ذكر
اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحى بن سعيد في هذا الحديث - (ح 4057 - 7/ 116).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (قدم أعراب من عرينة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فاجتووا
(1)
المدينة حتى اصفرت ألوانهم، وعظمت بطونهم، فبعث بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاح له، فأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم).
(2)
قال أمير المؤمنين عبد الملك لأنس وهو يحدثه هذا الحديث: بكفر أو بذنب؟ قال: بكفر
(3)
.
ففي الحديث الأول من هذين الحديثين أن الحكم المذكور فيه في المشركين إذا فعلوا الأفعال، لا فيمن سواهم ممن هو متمسك بالإسلام.
(1)
معنى قوله: (فاجتووا المدينة) أي: لم توافقهم، وكرهوها لسقم أصابهم، وقوله (اجتووا) مشتق من الجوى، وهو داء في الجوف.
(2)
معنى قوله: (وسمر أعينهم) أي: كحلها بمسامير محمية، وورد في بعض المواضع بلفظ (سمل) والمعنى: نقاها وأذهب ما فيها، وقيل هما
بمعنى واحد. (شرح صحيح مسلم للنووي -11/ 155).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب: (إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله)(ح 4334 - 4/ 1685)
و مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب حكم المحاربين والمرتدين. (ح 4330 - 11/ 156).
وفي الحديث الثاني منهما ما قد دل على أن العقوبة في ذلك كانت عند أنس بن مالك، إذ كانت تلك الأفعال مع الزيادة لامع الإسلام. ولما اختلفوا في ذلك هذا الاختلاف طلبنا الوجه فيه، ووجدنا الله قد قال في كتابه:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] فكان ما ذكر الله في هذه الآية قد ذكر فيه أن العقوبات المذكورات فيها جزاء لمن أصاب تلك الاشياء التي تلك العقوبات عقوبات لها، وقد تكون تلك الأشياء ممن ينتحل الإسلام وممن سواهم، وكانت المحاربة هي العداوة لله عز وجل بالأفعال التي لا يرضاها
قال أبو جعفر: فوجب بذلك استعمال ما في هذه الآية على من يكون منه هذه المحاربة والسعي المذكور فيها إلى يوم القيامة من أهل الملة الباقين على الإسلام، ومن أهل الملة الخارجين عن الإسلام إلى ضده، ومن أهل الذمة الباقين على ذمتهم، ومن أهل الذمة الخارجين عن ذمتهم بنقض العهد الذي كان عليهم فيها.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث يوجب ما قلنا كما عن إبراهيم بن طهمان
(1)
.. عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل قتل امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: زانٍ بعد إحصانه، أو رجل قتل فقتل به، أو رجل خرج محارباً لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض "
(2)
(1)
إبراهيم هو: أبو سعيد إبراهيم بن طَهْمان بن شعبة الخُراساني الهروي، وثقه أبو حاتم وغيره، وكانت وفاته سنة (158 هـ).
(تهذيب الكمال-1/ 115).
(2)
أخرجه أبوداود في سننه - كتاب الحدود - باب الحكم فيمن ارتد (ح 4353 - 4/ 522)
والبيهقي في سننه - كتاب السرقة - باب قطاع الطريق - (ح 5 - 8/ 283).
فقال قائل: فقد احتججت بحديث إبراهيم بن طهمان هذا، وفيه تخُّير الإمام في هذه الأشياء أيها رأى أنه يقيمه على أهل المحاربة. وأنت لا تقول هذا، وقد قال بالتخير قبلك في هذه العقوبة غير واحدٍ من أهل العلم؟
فذكر عن الحسن في قوله: " أو. . . أو. . . " قال: الإمام مخير: إن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع ". وعن إبراهيم، والحسن، والضحاك، وعطاء ومجاهد أنهم كانوا يقولون: الإمام مخير في ذلك، أي ذلك ما شاء فعل
قال: فهذه الآثار كلها عن هؤلاء التابعين في تخيُّر الإمام، وقد كان مالك بن أنس يذهب إلى هذا، فإلى قول من خالفت ذلك؟ قيل له: إلى قول عبد الله بن عباس إذا خرج الرجل محارباً، فأخاف السبيل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف، وإن هو أخذ المال وقتل، قطعت يده ورجله من خلاف وصلب، وإن هو قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو أخاف السبيل ولم يأخذ المال نُفي.
وإلى هذا القول كان محمد بن الحسن وأبو يوسف يذهبان.
وأما أبو حنيفة فكان يقول: إذا أخذ المال وقتل، كان الإمام بالخيار: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف، ثم قتله، وإن شاء قتله ولم يقطع يده ورجله من خلاف
وأما ما حكيته عن مالك، فقد غلطت عليه فيه، لأن مالكاً كان يستعمل التخُّير كما ذكرت ما لم يقتل أو يطول مكثه في المحاربة. فإذا كان ذلك، كان حكمه أن يقتله، فقد عاد قوله بذلك إلى طائفة من قول الآخرين ممن يجعل الآية على المراتب لا على التخُّير.
فقال هذا القائل: فلم لم تجعل للإمام أن يقتل بالمحاربة إذا لم يصب أهلها القتل بظاهر الآية.
قلت: لما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدفع ذلك. كما عن أبي أمامة بن سهل
(1)
، قال: كنت مع عثمان رضي الله عنه في الدار وهو محصور، فدخل يوماً لحاجة، ثم خرج، فقال: لِمَ يقتلونني؟! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت لي بديني بدلاً منذ هداني الله عز وجل، فلم يقتلونني؟!
(2)
فكان فيما روينا نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حل دم من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بواحدة من الثلاث المذكورات في هذا الحديث، فثبت بذلك أنه لا يحل دم من خرج من المسلمين بخروجه حتى يكون في ذلك القتل، وفيما ذكرنا موافقة ما رويناه عن ابن عباس، والله نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار-5/ 45 - 61)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي الآثار الواردة في سبب نزول الآية، مرجحاً أن حكم الآية عام في بيان جزاء من ارتكب تلك الأشياء المذكورة فيها، سواء كانت تلك الأفعال من أهل الإسلام أو من غيرهم. ثم ذكر الأقوال في عقوبة من كانت منه المحاربة، مرجحاً أن العقوبات المذكورة في الآية على الترتيب بحسب نوع الجريمة. وليس الإمام مخير بينها، لأنه لو كان له ذلك لجاز له قتل المحارب وإن لم يقتل، وهذا مردود بحديث أبي أمامة الدال على عدم جواز قتل من كانت منه محاربة ولم يقتل.
(1)
أبو أمامة هو: الصحابي الجليل أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاري المدني، وكانت وفاته سنة (100 هـ). (تهذيب الكمال-1/ 209).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه - كتاب: الديات - باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم - (ح 4502 - 4/ 640).
والنسائي في سننه - كتاب: تحريم الدم - باب: ذكر ما يحل به دم المسلم - (ح 4031 - 7/ 106).
وإليك أولاً: بيان الآثار الواردة في سبب نزول الآية:
1 -
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]. قال: (نزلت في المشركين، منهم من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه)
(1)
2 -
ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وآمنوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33].
(2)
الترجيح: والراجح هو القول بأن سبب نزول الآية هو ما ورد في الرواية الثانية، لأن صيغة السببية فيها صريحة خلافاً للرواية الأولى، كما أنها أصح سنداً لكونها ثابتة في الكتب الستة، إلا أن حكم الآية عام فيمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية: بيان الأقوال في المراد (بالمحاربة) في الآية:
(1)
تقدم تخريجه (423).
(2)
أخرجه النسائي في سننه - تحريم الدم - باب: تأويل قوله الله عز وجل:: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33].
(ح 4037 - 7/ 109) - وأبو يعلى في مسنده - (ح 3044 - 5/ 384). ومعنى قوله: (ولم يحسمهم) أي: ولم يكوهم، والحسم في اللغة كي العرق
بالنار لينقطع الدم. (شرح صحيح مسلم للنووي-11/ 157).
القول الأول: أن المراد بالمحاربة: الكفر بعد الإسلام، لأن الكفر يبعث على محاربة الإسلام وأهله.
القول الثاني: أن المراد بالمحاربة: المعادة لأولياء الله وأولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما عبر في الآية بلفظ الجلالة (الله) دون لفظ (الأولياء) إكباراً لأذيتهم، وبياناً لمكانتهم من الله جل وعلا، كما عبر بلفظ الجلالة (الله) عن العباد الفقراء في قوله جل وعلا:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] وذلك لطفاً بهم ورحمة لهم.
القول الثالث: أن المراد بالمحاربة: المخالفة لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بترك ما أمروا به، وفعل ما نهوا عنه مجاهرة عياناً.
(1)
وهذا هو القول الصواب، لكونه أعم الأقوال.
المسألة الثالثة: بيان المراد بالمحاربين عند الفقهاء:
المراد بالمحاربين عند الفقهاء: هم القوم على أي ملة كانوا الذين يجتمعون ولهم منعة ممن أرادهم، ويقصدون الناس مجاهرة في أي مكان كانوا، ويتعدون عليهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ويظهرون الفساد في الأرض.
(2)
وهناك شروط للمحاربة مختلف فيها:
أ - أن يكون فعل المحاربة في الصحراء - وهذا الشرط للعلماء فيه قولان:
1 -
أن يكون فعل المحاربة في الصحراء خارج البلد.
- وهذا قول: أبي حنيفة - وأحمد - والثوري - وإسحاق.
(3)
- وحجة هذا القول: أن الذي يكون داخل البلد إذا اعتدى عليه أحد فإنه يغاث إذا استغاث، فتذهب شوكة المعتدي. بخلاف الذي يكون في الصحراء فإنه إذا تعدي عليه فإنه لا يغاث لبعده عمن يغيثه ويعينه.
(4)
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 91) - وتفسير السمر قندي (1/ 431).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (12/ 474) وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 94) وتفسير الرازي (11/ 215).
(3)
المغني لابن قدامة (12/ 474).
(4)
تفسير الرازي (11/ 215).
2 -
أن يكون فعل المحاربة في الصحراء وداخل البلد.
- وهذا قول: مالك - والشافعي - والأوزاعي - والليث بن سعد - وأبي يوسف - وأبي ثور.
(1)
- وحجة هذا القول:
1 -
قوله جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]. فهذه الآية عامة في بيان عقوبة كل من صدر عنه ذلك الفعل في أي مكان من الأرض.
2 -
أن عقوبة المحاربة حد ثابت كسائر الحدود، فلا يختلف في وجوب إقامته على من كانت منه تلك الأفعال في أي مكان.
(2)
3 -
أن مرتكبي تلك الأفعال في البنيان أحق بالعقوبة من مرتكبيها في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة. ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، وأما المسافر فإنه لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله.
وهذا القول هو الصواب لقوة حجته.
(3)
ب - أن يكون مع المحاربين سلاح - وهذا الشرط للعلماء فيه قولان:
1 -
أن يكون مع المحاربين سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين، لأنهم لا يمنعون من يقصدهم للدفاع عن نفسه.
- وهذا قول: أبي حنفية - وأحمد.
2 -
أن يكون مع المحاربين سلاح أو بدون سلاح، فهم محاربون في كلا الحالتين.
- وهذا قول: مالك - والشافعي.
(4)
وهذا هو القول الصحيح، فكل من قطع الطريق وأخاف المسلمين وروع الآمنين فهو من المحاربين سواء كان معه سلاح أو حجارة أو عصى أو ليس معه شيء، لعموم الآية، فهي لم تخص حملة السلاح دون غيرهم.
(5)
المسألة الرابعة: هل العقوبات المذكورة في الآية على الترتيب أم على التخيير؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:-
(1)
المغني لابن قدامة (12/ 474).
(2)
تفسير الرازي (11/ 215).
(3)
تفسير القاسمي (3/ 105).
(4)
انظر: المغني لابن قدامة (12/ 475) - وأحكام الكتاب المبين (3/ 879).
(5)
المحلى لابن حزم (10/ 283).
القول الأول: أن هذه العقوبات على التخيير.
- وهذا قول: ابن عباس- وإبراهيم النخعي - والحسن - وعطاء - وسعيد بن المسيب - ومالك.
(1)
- وكيفية التخيير هي: أن المحارب إذا قتل فلابد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه ولا نفيه. وإنما التخيير في قتله أو صلبه.
وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف.
وأما إذا أخاف السبيل فقط، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه.
(2)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
قوله جل وعلا: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] فقد جاءت العقوبات المذكورة في الآية معطوف بعضها على بعض بـ (أو) وقد وجدنا أن العطوف التي بـ (أو) في القرآن بمعنى (التخيير) في كل ما أوجب الله به فرضاً. وذلك كقوله جل وعلا في كفارة اليمين: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 574) - وتفسير الطبري (4/ 555).
(2)
بداية المجتهد (2/ 455).
وكقوله جل وعلا في كفارة قتل الصيد حال الإحرام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] فإذا كانت العطوف التي بـ (أو) في القرآن الكريم، في كل ما أوجب الله به فرضاً بمعنى: التخيير، فكذلك المراد بها في الآية التي معنا: التخيير، إذ لا فرق ظاهر بين تلك الآيات.
(1)
- وقد رد هذا الاستدلال:
أ- بأنه لو كان المراد من (أو) في الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك، علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير.
ب- أن المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقدهمَّ بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب قتله، كالعزم على سائر المعاصي. فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، وأنه يجب أن يضمر في كل فعل على حدة، فعلاً على حدة.
(2)
2 -
قوله جل وعلا: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] فقد دلت هذه الآية على أن الإفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس في باب وجوب قتل فاعله، والمحاربون مفسدون في الأرض مستحقون للقتل بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم للناس، وإن لم يقتلوا أحداً ولم يأخذوا مالاً.
وقد رد هذا الاستدلال: بأن المراد بالإفساد في الأرض: الإفساد الذي يكون معه قتلُ، أو يكون المراد به: إظهار الفساد في الأرض، مما يستحق به القتل على وجه الدفع.
(1)
تفسير الطبري (4/ 555).
(2)
تفسير الرازي (11/ 216).
وهذا القتل للمفسد على وجه الدفع لشره وإفساده وإن لم يقتل، مما اتفق أهل العلم على جوازه، وإنما الخلاف فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز قتله وإن لم يقتل؟.
3 -
ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زناً بعد إحصان، ورجل قتل رجلاً فقتل به، ورجل خرج محارباً لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض "
(1)
فقد دل هذا الحديث على جواز قتل المحارب وإن لم يقتل.
وقد رد هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث قد روي من وجه صحاح، ولم يذكر فيه قتل المحارب، حيث رواه عثمان
(2)
وابن مسعود
(3)
رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه (قتل المحارب) - وإنما ذكروا مكانه (ورجل كفر بعد إسلامه) وهذا هو الصحيح لأن المرتد هو المستحق للقتل بالاتفاق. وإن صح ذكر المحارب فيه، فالمعنى فيه: إذا قتل، حتى يكون موافقاً للروايات الأخرى.
(4)
القول الثاني: أن هذه العقوبات على الترتيب.
- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه والحسن - والسدي - والربيع بن أنس - وسعيد بن جبير - وأبي مجلز لاحق بن حميد - وأبي حنيفة - والشافعي - وأحمد.
(5)
(1)
تقدم تخريجه (425).
(2)
تقدم تخريجه (426).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الديات - باب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45]
(ح 6484 - 6/ 2521) والترمذي في سننه - كتاب: الديات - باب: ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث- (ح 1406 - 6/ 175)
وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح. أهـ.
(4)
أحكام القرآن للجصاص - (2/ 575).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 574) - وتفسير الطبري (4/ 552).
- وكيفية الترتيب هي: أنه يجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلاً على حدة، ويكون التقدير: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين القتل وأخذ المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل دون أي فعل آخر.
(1)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
ما رواه يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام: قال أنس: " فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه ".
(2)
فقد دل هذا الحديث على: أن العقوبات المذكورة في الآية على الترتيب بحسب فعل المحاربة.
وهذا الحديث في إسناده ابن لهيعه، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه، فهو ضعيف لا يحتج به، وقد ساقه الطبري، وهو يرى عدم صحته بقوله:(وفي إسناده نظر).
ومع أن هذا الحديث ضعيف إلا أنه يقوي القول بالترتيب الذي عليه أكثر أهل العلم.
(3)
2 -
ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرجم، ورجل كفر بعد إسلامه ".
(4)
(1)
تفسير الرازي (11/ 216).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره سورة المائدة - الآية (33)، (ح 11858 - 4/ 556).
(3)
انظر: تفسير ابن عطيه (5/ 89) وتفسير الشنقيطي - (1/ 302).
(4)
تقدم تخريجه - (426).
فقد دل هذا الحديث على: حظر قتل الرجل المسلم إلا إذا ارتكب أحد هذه الأفعال، وأما أن يقتل الرجل من أجل أنه أخاف السبيل أو سرق، فحكم باطل لعدم الدليل.
(1)
3 -
أن عرف القرآن الكريم قد دل على أن ما أريد به التخيير البدأ فيه بالأخف، وما أريد به الترتيب البدأ فيه بالأغلظ.
ومثال ما بدئ فيه بالأخف كفارة اليمين، كما في قوله جل وعلا:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]
ومثال ما بدئ فيه بالأغلظ كفارة الظهار. كما في قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة:3 - 4]
4 -
أن العقوبات تختلف باختلاف نوع الإجرام، ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق والقاتل، وقد سوى من قال بالتخيير بينهم، في العقوبات مع اختلاف جناياتهم.
(2)
(1)
تفسير الطبري (4/ 554).
(2)
المغني لابن قدامة - (12/ 476).
الترجيح: والراجح هو القول بأن عقوبة المحارب على الترتيب، لظهور أدلته وقوتها، ولكون القياس الجلى دال على صحته، لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في المحارب وصار القتل حتماً لا يجوز العفو عنه. وأخذ المال يتعلق به القطع في غير المحارب، فغلظ ذلك في المحارب بقطع الطرفين.
وإن جمع لمحارب بين القتل وبين أخذ المال جمع في حقه بين القتل وبين الصلب، لأن بقاءه مصلوباً في ممر الطريق يكون سبباً لاشتهار إيقاع هذه العقوبة به، فيصير ذلك زاجراً لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية.
وأما إن اقتصر المحارب على مجرد الإخافة، فتكون عقوبته أقل من عقوبة من تقدمه وهي النفي من الأرض.
(1)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة:38]
قال أبو جعفر الطحاوي: فأجمعوا أن الله عز وجل لم يعن بذلك كل سارق، وأنه إنما عنى به خاصاً من السراق لمقدار من المال معلوم، فلا يدخل فيما قد أجمعوا عليه أن الله تعالى عنى به خاصاً، إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه. وقد أجمعوا أن الله تعالى قد عنى سارق العشرة الدراهم، واختلفوا في سارق ما هو دونها: فقال قوم: هو ممن عنى الله تعالى، وقال قوم: ليس هو منهم. فلم يجز لنا - لما اختلفوا في ذلك - أن نشهد على الله تعالى أنه عنى ما لم يجمعوا أنه عناه. وجاز لنا أن نشهد فيما أجمعوا أن الله عناه، على الله عز وجل أنه عناه. فجعلنا سارق العشرة الدراهم فما فوقها، داخلاً في الآية فقطعناه بها، وجعلنا سارق ما دون العشرة، خارجاً من الآية، فلم نقطعه.
(1)
تفسير الرازي - (11/ 216).
وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمة الله عليهم أجمعين، وقد روي ذلك عن ابن مسعود، وعطاء، وعمرو بن شعيب والحمد لله رب العالمين.
(شرح معاني الآثار -3/ 167)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} هو: السارق الذي يسرق ما قيمته عشرة دراهم فما فوق ذلك، والدليل هو: ثبوت الإجماع على ذلك.
وإليك بيان الأقوال في المراد بالسارق الذي يجب قطع يده:
القول الأول: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق ما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، فما فوق ذلك.
- وهذا القول: قد روي عن أبي بكر - وعمر - وعثمان - وعلي - وعائشة رضي الله عنهم، وإليه ذهب: الجمهور: مالك - والشافعي - وأحمد.
إلا أن الإمام مالك يرى أن الفضة تقدر بالدرهم، والذهب يقدر بالدينار وأما غيرهما فيقدر بالدرهم.
وأما الإمام أحمد فيرى أن الفضة تقدر بالدرهم، والذهب يقدر بالدينار، وأما غيرهما فيقدر بالدرهم أو الدينار.
وأما الإمام الشافعي فيرى أن كل الأشياء تقدر بالدينار.
(1)
وهو الصحيح لأن الدينار كان أصل النقد في ذلك الزمان.
(2)
ومن أدلة هذا القول:
1 -
ما رواه ابن عمر رضي الله عنه: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع في مَجنِّ قيمته ثلاثة دراهم "
(3)
قال ابن عبد البر: هذا أصح حديث يروى في هذا الباب، لا يختلف أهل العلم في ذلك.
(4)
(1)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (24/ 155) ومعالم السنن (3/ 302) وتفسير ابن الجوزي (2/ 273).
(2)
شرح السنة للبغوي (10/ 314).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (ح 6411 - 6/ 2493).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب حد السرقة (ح 4382 - 11/ 184).
(والمجن) هو: الترس، سمي بذلك لأنه يستر حامله. (النهاية في غريب الحديث-1/ 308).
(4)
الاستذكار لابن عبد البر (24/ 155).
2 -
ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القطع في ربع دينار فصاعداً "
(1)
قال البغوي: هذا الحديث متفق على صحته.
(2)
فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع دينار لا ما سواه، وحديث ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً، فثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وبهذا يمكن الجمع بين هذه الأحاديث لتتفق في بيان المراد بالآية.
(3)
القول الثاني: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق ما قيمته دينار أو عشرة دراهم، فما فوق ذلك.
- وهذا القول: قد روي عن ابن عباس - وابن مسعود رضي الله عنهم.
وإليه ذهب: أبو حنيفة - وأبو يوسف - وزفر - ومحمد بن الحسن - والثوري - والنخعي.
(4)
ومن أدلة هذا القول:
1 -
ما رواه ابن عباس رضي الله عنه: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع في مجنِّ قيمته عشرة دراهم "
(5)
وقد رد هذا الاستدلال: بأنه لا دلالة فيه على أنه لا يقطع من سرق دون ذلك.
(6)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (حـ 6407 - 6/ 2492).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب حد السرقة - (حـ 4374 - 11/ 181).
(2)
شرح السنة للبغوي (10/ 312).
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 58).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 584) - والمغني لابن قدامة (12/ 419).
(5)
أخرجه أبوداود في سننه - كتاب الحدود - باب ما يقطع فيه السارق (ح 4387 - 2/ 548).
والنسائي في سننه - كتاب قطع السارق - باب القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده - (ح 4965 - 8/ 457).
(6)
المغني لابن قدامة (12/ 420).
2 -
ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع فيما دون عشرة دراهم ".
(1)
وقد رد هذا الحديث: بأن في سنده: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق وكلاهما ضعيف مدلس.
(2)
3 -
أنه لما كان تقدير ما تقطع فيه يد السارق مختلفاً فيه، كان العمل بالأكثر المتفق عليه، فيه عمل باليقين.
(3)
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة "
(4)
وقد رد هذا الاستدلال: بأن قطع يد السارق في ربع دينار أمر متفق عليه عند الجمهور، بدلالة الحديث الصريح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق القليل أو الكثير.
- وهذا القول: روي عن ابن عباس - وابن الزبير رضي الله عنهم.
وإليه ذهب: الحسن البصري - والحسن بن أبي الحسن - وهو قول الخوارج.
(5)
ومن أدلة هذا القول:
1 -
قوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] قالوا: فظاهر الآية دال على أنه يجب قطع يد كل من سرق شيئاً سواء كان قليلاً أو كثيراً.
(6)
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه - كتاب الحدود والديات وغيره (ح 326 - 3/ 192) وأحمد في مسنده - (2/ 204).
(2)
انظر: نصب الراية للزيلعي (4/ 359) - والمغني لابن قدامة (12/ 420).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 585) وأحكام الكتاب المبين (2/ 889).
(4)
أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الحدود - باب ما جاء في درء الحدود (ح 1428 - 6/ 198).
والدارقطني في سننه - كتاب الحدود والديات وغيره (ح 8 - 3/ 84).
(5)
انظر: تفسير ابن عطية (5/ 97) وتفسير السمرقندي (1/ 434) وأحكام القرآن للجصاص (2/ 584)
(6)
تفسير الطبري (4/ 570).
وقد رد هذا الاستدلال: بأن ظاهر الآية مجمل فسقط الاحتجاج بعمومه
(1)
، ووجب الأخذ بما يبينه من السنة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" القطع في ربع دينار فصاعداً "
(2)
.
2 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده "
(3)
قالوا: فقد دل هذا الحديث على أن يد السارق تقطع في كل ماله قيمة قل أو كثر، لأن قيمة البيضة والحبل في العادة، أقل من عشرة دراهم.
وقد رد هذا الاستدلال بالأمور التالية:
1 -
أن المراد بالبيضة بيضة الحديد، وأما بيضة الدجاج، فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا قطع فيها. وأما الحبل فلا يلزم أن تكون قيمته أقل من عشرة دراهم، بل قد يكون يساوي العشرة أو أكثر من ذلك.
(4)
2 -
أن هذا الحديث خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، لأن من ظفر بسرقة القليل سرق الكثير فتقطع يده.
(5)
3 -
أن هذا الحكم، وهو قطع اليد في الشيء القليل، كان في الابتداء، ثم نسخ
(6)
بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" القطع في ربع دينار فصاعداً "
(7)
القول الرابع: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق ما قيمته خمسة دراهم، فما فوق ذلك.
- وهذا قول: عمر رضي الله عنه وسليمان بن يسار - وابن أبي ليلى - وابن شبرمة.
القول الخامس: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق ما قيمته أربعة دراهم، فما فوق ذلك.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 585).
(2)
تقدم تخريجه (435).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب لعن السارق إذا لم يُسمَّ (ح 6401 - 6/ 2489).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب: حد السرقة ونصابها - (ح 4384 - 11/ 186).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 586).
(5)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 108).
(6)
شرح السنة للبغوي (10/ 316).
(7)
تقدم تخريجه (435).
- وهذا قول: أبي هريرة - وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
وهذان القولان لا يصح اعتبارهما مقداراً يجب القطع به، لورود الحديث الصحيح الدال على ثبوت القطع في ثلاثة دراهم.
- القول السادس: أن المراد بالسارق هو: الذي يسرق ما قيمته درهمين، فما فوق ذلك.
- وهذا قول: عثمان البتي.
(1)
وهذا قول لا يصح اعتباره مقداراً يجب القطع به، لافتقاره إلى الدليل.
الترجيح: والراجح هو قول الجمهور، وهو أن المراد بالسارق الذي يجب أن تقطع يده هو: سارق ما قيمته ربع دينار فما فوق ذلك، لكونه معتمداً على الدليل الصحيح خلافاً لغيره.
وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.
والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير ابن عطية (5/ 97).
قال أبو جعفر الطحاوي: عن جابر بن عبد الله، قال: زنى رجل من أهل فدك
(1)
، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد، فخذوه، وإن أمركم بالرجم، فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال:" أرسلوا إلى أعلم رجلين فيكم "، فجاؤوه برجل أعور، يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنتما أعلم من قبلكما؟ " فقالا: قد نحلنا قومنا بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما:" أليس عندكم التوراة فيها حكم الله؟ " فقالا: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فنشدتكما بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى، وأنزل المن والسلوى، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون. ما تجدون في التوراة من شأن الرجم؟ " فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هو ذاك "، فأمر به فرجم، ونزلت:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية [المائدة:42]
(2)
ففي هذا الحديث أن الله تعالى جعل في الآية المتلوة فيه لنبيه الخيار في أن يحكم بين اليهود إذا جاؤوه، وفي أن يعرض عنهم، فلا يحكم بينهم.
فقال قوم: هذه آية محكمة، وكان ما ذكر في هذا الحديث من رجم النبي ذلك اليهودي باختياره أن يرجمه، وقد كان له أن لا يرجمه لقول الله:{أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ،} [المائدة:42] أي: فلا تحكم بينهم.
(1)
(فدك) هو: اسم لقرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان. (معجم البلدان -4/ 238).
(2)
أخرجه الحميدي في مسنده - (ح 1294). وأبو يعلى في مسنده - (ح 2136 - 4/ 103).
وقد خالفهم في ذلك آخرون من أهل العلم، وذكروا أن هذه الآية منسوخة بقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ورووا ما قالوا في ذلك
عن ابن عباس، قال:(آيتان نسختا من هذه السورة، يعني سورة المائدة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم على كتابنا).
(1)
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - تفسير سورة المائدة - (ح 2317 - 2/ 341) وقال: صحيح الإسناد -أهـ.
والبيهقي في سننه - كتاب الحدود - باب ما جاء في حد الذميين ومن قال إن الإمام مخير في الحكم بينهم - (ح 11 - 8/ 248).
قال أبو جعفر: وكان حديث ابن عباس هذا قد حقق نسخ هذه الآية بالآية المتلوة في حديثه، وكان حكم من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من ولاة الأمور على مثل الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم منها في كل واحد من هذين القولين الذين ذكرناهما، وكان الأولى بالأحكام في ذلك عندنا - والله أعلم - هو الحكم بينهم لو لم تكن الآية منسوخة لا الإعراض عنهم، لأنهم إذا حكموا بينهم، شهد لهم الفريقان اللذان ذكرنا بالنجاة وترك مفروض عليهم في ذلك، لأن من يقول: إنهم حكموا، وعليهم أن يحكموا به، يقول: قد أدوا المفترض عليهم في ذلك، ويقول الآخرون: قد حكموا بما لهم أن يحكموا به، وخرج الحكام بذلك عندهم من ترك مفترض إن كان عليهم فيه، وإذا أعرضوا عنهم، وتركوا الحكم بينهم، فأحد الفريقين يقول: قد تركوا مفترضاً عليهم، والفريق الآخر يقول: قد تركوا ما لهم تركه، وكان ما يوجب النجاة لهم عند الفريقين جميعاً أولى بهم مما يوجب لهم النجاة عند أحد الفريقين، ولا يوجبه لهم عند الفريق الآخر. هذا لو لم تكن الآية منسوخة، فإذا وجب بحديث ابن عباس الذي ذكرنا مع اتصال إسناده، وحسن سياقته أن تكون منسوخة بالآية التي تلونا بعدها، كان الحكم بينهم أولى، وكان التمسك بها أحرى.
ووجدنا قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] يحتمل أن يكون المراد: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا تحاكموا إليك، وأن يكون على معنى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله بوقوفك على ما كان بينهم مما يوجب ذلك الحكم عليهم، وإن لم يتحاكموا إليك، فنظرنا: هل روي في ذلك ما يدل على أحد هذين الاحتمالين.
فوجدنا عن البراء رضي الله عنه، قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي قد حُمِّمَ
(1)
وجهه وقد ضُربَ يطاف به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما شأن هذا؟ " فقالوا: زنى، فقال:" ما تجدون حد الزنى في كتابكم؟ " قالوا: يحمم وجهه، ويعزر ويطاف به، فقال:" أَنشدكم بالله ما تجدون حده في كتابكم؟ " فأشاروا إلى رجل منهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: نجد في التوراة الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكرهنا أن نقيم الحد على سفلتنا، ونترك أشرافنا، فاصطلحنا على شيء، فوضعنا هذا. فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:" أنا أولى من أحيا ما أماتوا من أمر الله تعالى ".
(2)
وكان في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ذلك اليهودي بلا تحاكم من اليهود إليه فيه، فدل ذلك على أن أولى الاحتمالين بالآية التي تلوناها، الموافق لهذا الحديث منهما، وأن المراد بقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]، أي: وأن احكم عليهم بما أُنزل عليك في الكتاب الذي أنزل عليك بعد علمك بوجوب ذلك على من يحكم به عليه، تحاكموا في ذلك قبل أن تحكم بينهم فيه أو لم يتحاكموا إليك فيه. والله نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار -11/ 435 - 441)
(وانظر: شرح معاني الآثار-4/ 141 - 143).
(1)
معنى قوله: (حُمِّمَ) أي: سُوِّدَ. (منال الطالب لابن الأثير -256).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (حـ 4415 - 11/ 208)
وأبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب في رجم اليهوديين - (ح 4447 - 4/ 595).
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن قوله جل وعلا: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] قد اختلف في نسخه على قولين، مرجحاً أنه منسوخ بقوله جل وعلا:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]
وإليك بيان الأقوال في نسخ الآية:-
القول الأول: أن قوله جل وعلا: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] آية محكمة. فإذا جاء أهل الكتاب إلى الحاكم المسلم فهو مخير إن شاء أعرض عنهم وردهم إلى حكم دينهم، وإن شاء حكم بينهم بما في كتاب الله جل وعلا.
وعلى هذا القول فإن معنى قوله جل وعلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] يكون: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا تحاكموا إليك.
- وهذا قول: عطاء - وقتادة - والشعبي - والنخعي - وعمرو بن شعيب - والزهري - وأبي ثور - ورجحه الطبري: وإليه ذهب: الإمام مالك - وأحمد - والشافعي في أحد قوليه.
(1)
- ومن أدلة هذا القول: ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" ائتوني بأعلم رجلين منكم " فأتوه بابني صوريا، فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال:" فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما ".
(2)
(1)
انظر: تفسير ابن الجوزي (2/ 279) - والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (235).
(2)
أخرجه أبوداود في سننه - كتاب: الحدود - باب: في رجم اليهوديين - (ح 4452 - 4/ 600)
والبيهقي في سننه - كتاب: الحدود - باب: ما جاء في وقف الشهود حتى يثبتو الزنا - (ح 1 - 8/ 231).
وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم. وهو دال على: أنه لا يجب على الحاكم المسلم الحكم بين أهل الكتاب إلا متى ما رفعوا أمرهم إليه.
القول الثاني: أن قوله جل وعلا: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] آية منسوخة. والناسخ لها قوله جل وعلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] فحكم الآية الأولى كان في ابتداء الإسلام حيث كان الإمام مخير في أن يحكم بين أهل الكتاب أو يعرض عنهم، ثم صار هذا الحكم منسوخاً، وأصبح الحكم وجوب الحكم بينهم متى ما تحاكموا إلينا.
(1)
وعلى هذا القول فإن معنى قوله جل وعلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] يحتمل أمرين:
أ - وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا تحاكموا إليك، ولا تعرض عنهم.
ب - وأن احكم بينهم بما أنزل الله وإن لم يتحاكموا إليك إذا علمت ذلك منهم.
- وهذا قول: ابن عباس - ومجاهد - والحسن البصري - وعكرمة -- وعمر بن عبد العزيز- والسدي - وعطاء الخرساني. وإليه ذهب: أبو حنيفة - والشافعي في أحد قوليه.
(2)
ومن أدلة هذا القول:
(1)
أحكام القرآن للكياالهراسي (3/ 78).
(2)
انظر: تفسير الطبري (4/ 584) - وتفسير القرطبي (6/ 180).
1 -
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد - وهي قوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة:2]، وقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم، حتى نزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه).
(1)
2 -
أن النظر الصحيح يوجب أنها منسوخة، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الحاكم المسلم فله أن يحكم بينهم، وأنه إذا حكم بينهم كان مصيباً عند الجماعة، وأما إذا أعرض عنهم فإنه يكون عند بعض العلماء تاركاً فرضاً، فاعلاً ما لا يحل ولا يسعه.
(2)
3 -
ما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد حمم وجهه وهو يطاف به، فناشدهم ما حد الزنى في كتابهم؟ قال: فأحالوه على رجل منهم، فنشده الرسول صلى الله عليه وسلم ما حد الزنى في كتابكم؟ فقال: الرجم، ولكن ظهر الزنا في أشرافنا فكرهنا أن يترك الشريف ويقام على من دونه، فوضعنا هذا عنا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم ثم قال:" اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك ".
(3)
فقد دل هذا الحديث على: أنه يجب على الحاكم المسلم الحكم بين أهل الكتاب وإن لم يترافعوا إليه. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بينهم - في هذا الحديث - ولم يكن حكمه بناء على طلب منهم.
(1)
تقدم تخريجه (440).
(2)
تفسير القرطبي (6/ 181).
(3)
تقدم تخريجه (440).
وقد رد هذا الاستدلال: بأن أكثر الروايات الواردة في هذه القصة - والتي منها حديث جابر، وابن عمر - وأبي هريرة رضي الله عنهم تدل على أن اليهود جاءوا أولاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه الحكم فيما بينهم. فوجب الأخذ بهذه الروايات دون رواية البراء رضي الله عنه والتي لم يبين فيها أن اليهود هم الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
وقد قال الحافظ ابن حجر في الجمع بين هذه الروايات: (ويمكن الجمع بالتعدد بأن يكونوا بادروا فجلدوه، ثم بدا لهم فسألوا فاتفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع، والعلم عند الله - أهـ).
(2)
الترجيح: والقول الراجح هو أن الآية محكمة، وذلك لأن النسخ إنما يعمل به إذا كان بين الأدلة تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينها وإعمالها جميعاً. فيعمل بالنسخ دفعاً للتناقض في تشريع الحكيم العليم، أما إذا أنتفى هذا الأمر ولم يكن بين هذه الأدلة تعارض حقيقي، فإنه لا يقال بالنسخ فيها.
(3)
(1)
بذل المجهود في حل أبي داود (17/ 415).
(2)
فتح الباري (12/ 174).
(3)
مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 139) - وانظر: الاستذكار لابن عبد البر (24/ 16).
فقوله جل وعلا: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] آيتان محكمتان إذ لا تعارض بينهما حيث أمكن الجمع بينهما من جهة أن الأولى خيرت بين الحكم وتركه، والثانية أثبتت كيفية الحكم إذا كان. فمعنى قوله جل وعلا:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] أي: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا تحاكموا إليك واخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. فالآية الثانية حذف منها التخيير لدلالة الأول عليه، لأنه معطوف عليه، فحكمه في التخيير كحكم المعطوف عليه.
(1)
وعليه فإن حكم الآية الأولى باق لم ينسخ، فالحاكم المسلم مخير بمقتضى الآية الأولى في الحكم بين أهل الكتاب، بين الحكم بينهم، والإعراض عنهم، وإذا اختار الحكم بينهم وجب عليه أن يحكم بينهم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية.
وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.
والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا، ومالك، والشافعي: لا تؤخذ اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، لا في العين ولا في اليد، ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني.
وقال ابن شبرمة، تفقأ اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى، وكذلك اليدان، وتؤخذ الثنيه بالضرس، والضرس بالثنية.
(1)
انظر: ناسخ القرآن ومنسوخه لابن الجوزي (378) - والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (235).
وقال الحسن: إذا قطع إصبعاً من كف، ولم يكن القاطع من تلك الكف إصبع مثلها، قطع من تلك الكف إصبع مثلها مما تلي تلك الإصبع، ولا تقطع إصبع كف بإصبع كف أخرى، وكذلك تقلع السن التي تليها، إذا لم تكن للقالع سن مثلها، وإن بلغ ذلك الأضراس، وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى، ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى.
قال أبو جعفر: قال الله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ} بِالْأَنْفِ الآية [المائدة:45] واتفقوا على أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني صحيحاً، لم يكن للمجني عليه أن يتعدى ما قابله من عضو الجاني إلى غيره، مما بإزائه، وإن تراضيا، فدل على أن المراد بالآية هو ما قابل ذلك العضو من الجاني دون غيره.
(مختصر اختلاف العلماء -5/ 130).
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن القصاص فيما دون النفس الوارد في الآية المراد به هو: مقابلة عضو المجني عليه بالعضو المماثل له من الجاني دون غيره من سائر أعضاءه، وهذا هو أحد شروط القصاص فيما دون النفس حيث اتفق علماء الأمة على اشتراط المماثلة الكاملة بين عضو الجاني وعضو المجني عليه عند القصاص فيما دون النفس، وذلك إذا كان العضو المماثل موجوداً.
واختلفوا في اشتراط المماثلة في المكان إذا كان العضو المماثل معدوماً، على قولين:
- القول الأول: أنه لا يشترط في القصاص المماثلة في مكان العضو، عند عدم العضو المماثل.
وعلى هذا القول: فإنه يجوز أن يؤخذ العضو الأيمن بالعضو الأيسر، كما يجوز أخذ السن بالسن الذي يليه، وأخذ الإصبع بالإصبع الذي يليه.
- وهذا قول: ابن سيرين - وشَريك - وابن شبرمة - والحسن بن صالح.
- القول الثاني: أنه يشترط في القصاص المماثلة في مكان العضو، وعند عدم العضو المماثل يسقط القصاص.
وعلى هذا القول: فإنه لا يجوز أخذ العضو الأيمن بالعضو الأيسر، كما لا يجوز أخذ السن بالسن الذي يليه، ولا أخذ الإصبع بالإصبع الذي يليه.
- وهذا قول: الجمهور.
الترجيح: والراجح هو القول باشتراط المماثلة في المكان عند القصاص فيما دون النفس. لأن الله جل وعلا يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]
فأوجب الله جل ذكره المماثلة الكاملة بين عضو الجاني وعضو المجني عليه عند استيفاء القصاص، فغير جائز تعدي العضو المماثل إلى غيره، سواء كان مثله موجوداً أو معدوماً.
(1)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهُنَّ من نسل اليهود؟ فقال: " إن الله عز وجل لم يعلن قوماً قط فمسخهم، فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود مسخهم، فجعلهم مثله ".
(2)
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 618) والمغني لابن قدامة (11/ 557) والاستذكار لابن عبد البر (25/ 264).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب القدر - باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر -
(حـ 6712 - 16/ 429) والطبراني في المعجم الكبير (حـ 10110 - 10/ 106).
فقال قوم: في كتاب الله ما يدفع هذه الآثار التي رويتموها في هذا الباب في نفي من أهلكه أو مسخه أن لا يكون له نسل ولا عقب، وهو قوله عز وجل:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60] يريد من جعلها منهم، فذكر عز وجل أنه جعلهما من القوم الذين سخط عليهم ولعنهم، وذكر ذلك بالمعرفة لا بالنكرة، فكان ذلك على القردة والخنازير الموجودة المعقولة، لا على من سواها من قردة وخنازير، ولو كان ذلك على قردة وخنازير سوى القردة والخنازير الموجودة المعقولة، لكان: وجعل بينهم قردة وخنازير، على النكرة لا على المعرفة.
فكان جوابنا لهم في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه -: أنه قد يجوز أن يكون القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك مخلوقة على ما هي عليه كسائر الأشياء المخلوقة على ما هي عليه لا ممسوخة من خلق كانت عليه إلى قردة وخنازير، وكانت مما تناسل، ومما يُعقبُ كسائر المخلوقين سواها، ثم كان من الله جعله القردة والخنازير ممن سخط عليه من عباده الذين خرجوا عن أمره، واعتدوا عن عبادتهم التي تعبدهم بها إلى ما سواها، فمسخهم قردة وخنازير لا تناسل لها، ولا أعقاب لها، فكانت في الدنيا ما شاء الله عز وجل كونها فيها، ثم أفناها بلا أعقاب خلفتها، وبقيت القردة والخنازير التي كانت قبل ذلك، ولم يلحقها مسخ حَوَّلها عما خلقت عليه إلى ما هي عليه، فكان منها التناسل في حياتها، والإعقاب بعد موتها، فبان بحمد الله ونعمته احتمال ما حملنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يخالف ما في كتاب الله عز وجل مما يوهم هؤلاء الجاهلين أنه يخالفه. والله عز وجل نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار-8/ 323 - 324)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60] أي: أن من ضمن العقوبات التي أنزلها الله جل وعلا باليهود: أنه مسخهم قردة وخنازير على شكل القردة والخنازير التي كانت موجودة قبلهم وفي وقتهم. وليس المراد أن اليهود مسخوا قردة وخنازير لا على شكل خلق سابق لهم. كما أنه ليس المراد أن القردة والخنازير الموجودة اليوم هم من نسل أولئك اليهود الذين مسخوا قردة وخنازير، لأنه لم يثبت تناسلهم، وإنما هم من نسل القردة والخنازير المتقدمة في الوجود على اليهود الذين مسخوا قردة وخنازير.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة وهي: هل يكون للمسوخ نسل؟ على قولين:-
- القول الأول: أن الممسوخ يكون له نسل.
وعلى هذا القول: فإن القردة والخنازير الموجودة في الوقت الحاضر، هي من نسل اليهود الذين مسخهم الله جل وعلا قردة وخنازير.
- وهذا قول: ابن قتيبة - وأبي بكر بن العربي.
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60] فجاء بالألف واللام الدالة على المعرفة في قوله: {الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60]. وهذا يدل على أن المراد بها القردة والخنازير المعروفة لدينا والمعاينة في الوقت الحاضر، ولو كان أراد شيئاً مضى وانقضى لقال:(وجعل منهم قردة وخنازير) منكرة، بدون الألف واللام الدالة على المعرفة
(1)
(1)
انظر: تفسير القرطبي (1/ 444) - وتفسير ابن الجوزي (2/ 295).
وقد رد هذا الاستدلال: بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " من أن رجلاً سأله عن القردة والخنازير أهن من نسل اليهود؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله عز وجل لم يلعن قوماً قط فمسخهم فكان لهم نسل، حتى يهلكهم، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله عز وجل على اليهود مسخهم فجعلهم مثلهم ".
(1)
فدل هذا الحديث على أن اليهود الذين مسخوا قردة وخنازير - والمذكورين في هذه الآية - لم يكن لهم نسل.
2 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فُقدت أُمَّة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته ".
(2)
.. ومعنى هذا الحديث: أن لحوم الإبل وألبانها حرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم وألبانها، فدل امتناع الفأرة من ألبان الإبل دون ألبان الغنم على أنها من نسل يهود قد مسخوا على هيئة الفأرة.
(3)
3 -
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أنه أتي للرسول صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال:" لا أدري لعله من القرون التي مسخت ".
(4)
فدل هذا الحديث على أن القوم الذين مسخوا قد يكون منهم نسل يعقبهم.
(1)
تقدم تخريجه (448).
(2)
أخرجه البخاري صحيحه - كتاب بدء الخلق - باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال - (حـ 3129 - 3/ 1203).
ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب في الفأر وأنه مسخ (ح 7421 - 18/ 323).
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (18/ 324).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب إباحة أكل الضب (ح 5015 - 13/ 103).
وابن ماجة في سننه - كتاب الصيد - باب الضب - (حـ 3278 - 2/ 225).
وقد رد هذا الاستدلال: بما جاء في هذه الأحاديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول (ولا أراها إلا الفأر) وقوله في الحديث الثاني (لا أدري لعله من القرون التي مسخت) وهذا يدل على أنه إنما قاله عن اجتهاد منه، قبل أن يوقفه الله جل وعلا على أن الممسوخ لا يتناسل ولا يعيش مدة طويلة، كما دل على ذلك حديث ابن مسعود، رضي الله عنه.
(1)
- القول الثاني: أن الممسوخ لا يكون له نسل.
وعلى هذا القول: فإن القردة والخنازير الموجودة في الوقت الحاضر ليست من نسل اليهود الذين مسخهم الله جل وعلا قردة وخنازير.
- وهذا قول: الجمهور.
ودليل هذا القول: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتقدم، الدال على الممسوخ لا يكون له نسل يعقبه، ولا يبقى مدة طويلة بعد مسخه.
(2)
الترجيح: والراجح هو القول الدال على أن اليهود الذين مسخوا قردة وخنازير قد هلكوا ولم يكن منهم نسل يخلفهم، لدلالة الحديث الصحيح الصريح على ذلك.
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه "
(3)
(1)
تفسير ابن عاشور - (1/ 545).
(2)
تفسير القرطبي (1/ 444).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد - باب لا يعذب بعذاب الله (ح 2854 - 3/ 1098).
وأبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب الحكم فيمن ارتد (ح 4351 - 4/ 520).
قال أبو جعفر: فذهب ذاهبون إلى أن من ارتد عن الإسلام، وجب قتله، رجع إلى الإسلام أو لم يرجع إليه، وجعلوا ارتداده موجباً عليه القتل حداً لما كان منه، قالوا: كما أن الزاني لا ترفع عنه توبته حد الزنى، وكما أن السارق لا ترفع عنه توبته حد السرقة، كان مثل ذلك المرتد، لا ترفع عنه توبته حد ردته، وهو القتل.
فكان من حجتنا عليهم في ذلك لمخالفتهم فيه أنا وجدنا الله عز وجل أمرنا بإقامة حد الزنى على الزاني، وبإقامة حد السرقة على السارق، فقال عز وجل في كتابه:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فكان اسم الزنى غير مفارق للزاني وإن ترك الزنى. وكذلك اسم السارق لازم للسارق وإن زال عن السرقة، وتركها.
ووجدنا المرتد قد صار بردته كافراً، وكان إذا زال عن الردة إلى الإسلام لا يجوز أن يقال له: كافر، لأنه إنما كان يجوز أن يسمى بالكفر لما كان كافراً، فلما خرج عن الكفر، وصار مسلماً، لم يجز أن يقال له: كافر، لأنه لا يجوز مع ذلك أن يسمى مسلماً، فاستحال أن يسمى في حال واحدة كفاراً مسلماً، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء:137] فأثبت لهم عز وجل الإيمان بعد كفرهم الذي كان منهم ارتداداً عن الإيمان، ولما كان ما ذكرنا كذلك، كان معقولاً أن من لزمه اسم معنى من هذه المعاني، ولم يزل عنه ذلك الاسم كان من أهله، ووجب أن تقام عليه عقوبته، وإن من كان من أهلها في حال، فزال عنه الاسم الذي يسمى به أهلها، زالت عنه العقوبة الواجبة على أهل ذلك الاسم.
وقد وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب على الراجع من الردة من الاسم ما ذكرنا من رفع القتل عنه بذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ارتد رجل من الأنصار فلحق بمكة، ثم ندم، فأرسل إلى قومه، سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ قال: فأنزل الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 86 - 89] فكتبوا بها إليه، فاسترجع فأسلم.
(1)
قال أبو جعفر: فقال أهل المقالة الأولى: فقد وجدنا في كتاب الله عز وجل ما يدل على ما ذكرنا، وهو قوله جل وعز:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] فأخبر عز وجل أنه من أشرك بالله عز وجل حَرَمَه الجنة، ولم يذكر عز وجل أن رجوعه عن شركه يخرجه من ذلك حتى يعود إلى أن يكون من أهل الجنة.
(1)
أخرجه النسائي في سننه - كتاب المحاربة - باب توبة المرتد - (ح 4079 - 7/ 123)
والحاكم في المستدرك - كتاب قسم الفيء (ح 2628 - 2/ 154) - وقال: هذا حديث صحيح الإسناد- أهـ.
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك الشرك الذي يكون من أهله حتى يموت على ذلك كما قال عز وجل في الآية الأخرى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [البقرة:217] فبين عز وجل في هذه الآية أنه أراد بالوعيد الذي فيها من يموت على ردته لا من يرجع منها إلى الإسلام الذي كان من أهله قبل ذلك، فمثل ذلك قوله عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] هو الشرك الذي يموت عليه. لا الشرك الذي ينزع عنه، ويرجع إلى الإسلام حتى يموت عليه. والله عز وجل نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار-7/ 304 - 308)
(وانظر: شرح مشكل الآثار-14/ 182 - 183)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] هو: المشرك بالله الذي يموت على شركه، دون الذي يرجع عن شركه قبل موته. وعلى هذا فإن الآية غير دالة حالة على وجوب حد الردة على الراجع عن الكفر إلى الإسلام.
وإليك بيان الأقوال في حكم قتل المرتد الذي يرجع عن ردته، ومعنى الآية على كل قول في ذلك:-
- القول الأول: أنه يجوز قتل المرتد الذي يرجع عن ردته.
وعلى هذا القول: فإن الآية جاءت في بيان مصير من أشرك بالله، سواء مات على الشرك أو الإسلام.
- وهذا قول: بعض الفقهاء.
(1)
- ومن أدلة هذا القول:
(1)
تفسير الشوكاني (1/ 287).
1 -
عموم الآيات التي فيها بيان أن الكفر محبط للعمل الصالح، وأن الله لا يغفر لفاعله. ومن هذه الآيات: قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] وقوله جل وعلا: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5].
وقد رد هذا الاستدلال: بأن هذه الآيات جاءت لتهويل أمر الشرك بالله، وبيان أن هذا مصير من مات عليه، وليست لبيان عدم قبول توبة من رجع إلى الإيمان.
(1)
2 -
عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فاقتلوه "
(2)
فقد دل هذا الحديث على وجوب قتل من ارتد عن دينه رجع عن ردته أو لم يرجع.
وقد رد هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث ليس على ظاهره في العموم، وإنما المراد به: إيجاب قتل من ارتد عن دينه إذا استتيب فلم يتب ويرجع عن ردته.
(3)
- القول الثاني: أنه لا يجوز قتل المرتد الذي يرجع عن ردته.
وعلى هذا القول: فإن الآية جاءت في بيان مصير من أشرك بالله، ومات على ذلك.
- وهذا قول: جمهور الفقهاء.
(4)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
قوله جل وعلا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]
(1)
تفسير ابن عاشور (2/ 335).
(2)
تقدم تخريجه (451).
(3)
المغني لابن قدامة (12/ 268).
(4)
تفسير الشوكاني (1/ 287).
2 -
ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له:" وأيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وإيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ".
(1)
3 -
ما رواه أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أناس من جهينة يقال لهم: الحرقات، قال: فأتيت على رجل منهم، فذهبت أطعنه فقال:(لا إله إلا الله) فطعنته فقتلته، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال:" قتلته وقد شهد أن لا إله إلا الله؟ " قلت: يارسول الله إنما فعل ذلك تعوذاً. قال: " فهلا شققت عن قلبه "
(2)
فقد دلت هذه الآية والأحاديث على: أنه لا يجوز قتل المرتد الذي يرجع عن ردته، كما لا يجوز قتل من آمن بالله ابتداءً.
الترجيح: والقول الراجح هو أن الآية غير دالة على جواز قتل المرتد الذي يرجع عن ردته.
لأن الآية إنما وردت فيمن لم يؤمن حتى مات على كفره. وقد دل على ذلك قوله جل وعلا في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]
فالواجب حمل ما أطلق في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد بالموت على الكفر.
(3)
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ح 93 - 20/ 53) والزيلعي في نصب الراية (3/ 457).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الديات - باب: قوله الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة:32](ح 6478 - 6/ 2519)
ومسلم في صحيحه -- كتاب الإيمان - باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)(ح 273 - 2/ 286).
(3)
انظر: تفسير القاسمي (2/ 328) - وتفسير الشوكاني (1/ 287).
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: قال أصحابنا: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث.
وقال مالك، والثوري، والليث، والأوزاعي: تجزئ قبل الحنث.
وقال الأوزاعي: في المُحْرِم يصيبه أذى في رأسه، أنه يجزئه أن يكفر قبل أن يحلق.
وقال الشافعي رضي الله عنه: يجوز تقديم الرقبة والكسوة والإطعام قبل الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم.
قال أبو جعفر: قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] والمراد: إذا حنثتم، يريد: فحنثتم، لاتفاق الجميع على أنه لو قال:(والله لأكلمنَّ زيداً اليوم)، أنه إن كلمه قبل مضي الوقت، لم يلزمه كفارة، فعلمت أن وجوبها غير متعلق بالحلف دون الحنث.
(مختصر اختلاف العلماء -3/ 246 - 247)
بين الإمام الطحاوي الأقوال في حكم تقديم الكفارة قبل الحنث في اليمين، مختاراً القول بعدم جواز ذلك، لأن الله جل وعلا يقول:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] والمراد هو: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، فدلت الآية على أن وجوب الكفارة مترتب على الحنث دون الحلف.
وإليك بيان الأقوال في المسألة، وذكر القول الراجح منها:-
- القول الأول: أنه لا يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث في اليمين.
- وهذا قول: ابن عباس - وسعيد بن جبير - والضحاك - وإبراهيم. وإليه ذهب: أبو حنيفة.
(1)
ومن أدلة هذا القول:
1 -
أن معنى قول الله جل وعلا: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] أي: فكفارته إذا حنثتم. كما أن معنى قول الله جل وعلا: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] أي: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم.
فسبب الكفارة على هذا القول: هو الحنث في اليمين.
(2)
ومثل هذه الآية في إضمار مقدر:
قوله جلا وعلا: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] والمعنى: فأفطر فعدة من أيام أخر.
وقوله جلا وعلا: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] والمعنى: فحلق ففدية من صيام.
(3)
(1)
انظر: تفسير الماوردي (2/ 60) - وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 156).
(2)
أحكام القرآن للكياالهراسي (3/ 95).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 640).
الدراسة
2 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه ".
(1)
فقد دل هذا الحديث على أن كفارة اليمين إنما تجب بعد الحنث في اليمين.
3 -
أن الكفارة بعد الحنث فرض، وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام الفرض.
(2)
4 -
أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هنالك ما يرفع، فلا معنى لفعلها.
(3)
- القول الثاني: أنه يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث في اليمين.
- وهذا قول: عمر بن الخطاب - وابن عمر - وابن عباس - وعائشة رضي الله عنهم.
وقول: الحسن البصري - وابن سيرين - والشعبي - وقتادة.
(4)
وإليه ذهب: جمهور الفقهاء.
(5)
إلا أن الإمام الشافعي قال: إن التكفير قبل الحنث إنما يجوز إذا كان بالإطعام أو الكسوة أو العتق لأنه فعل مالي، ولا يجوز إذا كان بالصوم لأنه فعل بدني، كما أنه يجوز تقديم الزكاة قبل الحول، ولا يجوز تقديم صوم رمضان قبل وقته.
(6)
ومن أدلة هذا القول:
1 -
أن معنى قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89]- أي: فكفارته إذا أردتم الحنث. كما أن معنى قول الله جل ذكره: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]- أي: ذلك كفارة أيمانكم إذا أردتم الحنث.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأيمان - باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه
(ح 4247 - 11/ 116) - وأبوداود في سننه - كتاب الأيمان والنذر - باب الرجل يكفر قبل أن يحنث (حـ 3277 - 3/ 584).
(2)
فتح الباري لابن حجر (11/ 617).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 156).
(4)
انظر: تفسير الماوردي (2/ 60) - وشرح السنة للبغوي (10/ 17).
(5)
فتح الباري لابن حجر (11/ 617).
(6)
تفسير البغوي (3/ 93).
فسبب الكفارة على هذا القول هو: ذات اليمين.
(1)
فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف، جاز له أن يكفر قبل الحنث، لأنه من تقديم العوض ولا بأس به.
وليس المراد: أن مجرد الحلف هو الموجب للكفارة.
(2)
2 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل ".
(3)
فقد دل هذا الحديث على جواز تقديم كفارة اليمين قبل الحنث فيها.
3 -
أن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام، فلأن تحله الكفارة وهي فعل مالي أو بدني أولى.
4 -
أن الكفارة رخصة لحل اليمين، ولذلك تجزئ قبل الحنث وبعده.
- الترجيح: والقول الراجح هو جواز تقديم كفارة اليمين قبل الحنث فيها. بدلالة قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من حلف علي يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل " وأما الروايات التي فيها تقديم الحنث على الكفارة، فيجاب عنها: بأن (الواو) لا تفيد الترتيب، كمن قال لك:(إذا دخلت الدار فكل واشرب) فلا يفهم من هذا القول وجوب تقديم أحدهما على الآخر.
ولو كان تقديم الكفارة لا يجزئ لأبانه، ولقال:(فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه). لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دل على الجواز.
ومما يرجح هذا القول:
(1)
فتح الباري لابن حجر (11/ 617).
(2)
انظر: تفسير ابن عاشور (6/ 20) - وأحكام القرآن للكياالهراسي (3/ 95).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأيمان - باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه-
(ح 4248 - 11/ 117) - والترمذي في سننه - كتاب النذر والأيمان - بابا ما جاء في الكفارة قبل الحنث (ح 1534 - 7/ 11) وقال: حديث
حسن صحيح - أهـ.
أنه قد قال به أربعة عشر صحابياً، وتبعهم فقهاء الأمصار في ذلك عدا أبا حنفية.
(1)
وعلى هذا القول فإن قول الله جل وعلا: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]- يكون معناه: ذلك كفارة أيمانكم إذا أردتم الحنث، مما يفيد جواز التكفير عن اليمين قبل وبعد الحنث فيها، إلا أن التكفير بعد الحنث أولى احتياطاً لأمر الدين.
(2)
وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو خلاف القول الأولى في المراد بالآية.
والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: ولم يختلف أهل العلم في قاتل الصيد خطأ، أن عليه مثل ذلك، وأن ذكره العمد، لا ينفي الخطأ.
(شرح معاني الآثار - 4/ 40).
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن حكم المحرم المتعمد والمخطئ سواء في وجوب الجزاء عليهم عند قتل الصيد. وأن ورود الآية في المتعمد خاصة لا ينفي حكم الآية عن غيره.
وإليك أولاً: بيان المراد (بالمتعمد). في قوله جل وعلا: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95]:
(1)
فتح الباري لابن حجر - (11/ 617).
(2)
تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 830).
القول الأول: أن المراد بالمتعمد في الآية هو: المحرم المتعمد لقتل الصيد مع كونه ناسياً لإحرامه، فهذا يجب عليه الجزاء، وأما المحرم المتعمد لقتل الصيد مع كونه ذاكراً لإحرامه، فهذا لا يجب عليه الجزاء، لأن فعله أجل أمراً، من أن يحكم عليه أو يكون له كفارة.
- وهذا قول: مجاهد - وابن جريج - والحسن - وإبراهيم - وابن زيد.
(1)
- وقد رد هذا القول بما يلي:-
1 -
أن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فمن كان ذاكراً لإحرامه، عامداً لقتل الصيد فقد شمله اسم (متعمداً) وواجب عليه الجزاء، ولا معنى لاعتبار كونه ناسياً لاحرامه عامداً لقتله.
(2)
2 -
أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحة هذا القول، وهي: قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] فإنه يدل على أنه متعمداً أمراً لا يجوز، ولذا كان آثماً، أما الناسي فهو غير آثم إجماعاً، فلا يناسب أن يقال فيه:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] كما ترى.
(3)
القول الثاني: أن المراد بالمتعمد في الآية هو: المحرم المتعمد لقتل الصيد، مع كونه ذاكراً لإحرامه، فهذا يجب عليه الجزاء.
- وهذا قول: الجمهور.
(4)
ودليل هذا القول: أن ظاهر لفظ الآية، وما ذكر فيها من الوعيد، إنما يختص بالمتعمد على أي حال كان دون غيره.
(5)
ثانياً: ذكر أقوال العلماء في حكم المحرم القاتل للصيد خطأ:
- القول الأول: أن المحرم القاتل للصيد خطأ، يجب عليه الجزاء.
- وهذا قول: الجمهور.
(6)
- ومن أدلة هذا القول:
(1)
تفسير الطبري (5/ 43).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 661).
(3)
تفسير الشنقيطي (1/ 324)
(4)
انظر: تفسير الطبري (5/ 43). وتفسير الشنقيطي - (1/ 330)
(5)
تفسير ابن الجوزي (2/ 320).
(6)
تفسير ابن جزي (1/ 250).
1 -
قوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] وقوله جل وعلا: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]
فقد جاءت هذه الآيات بالنهي عن قتل الصيد، وذلك يقتضي إيجاب البدل على متلفه، كالنهي عن قتل صيد الآدمي، أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه.
ولا يختلف هذا الحكم بالنظر إلى كون الإتلاف كان عمداً أو خطأ.
(1)
لأن الإتلاف مضمون من المتعمد والمخطئ إلا أن المتعمد آثم، والمخطئ غير آثم.
(2)
2 -
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضبع صيد فكلها، وفيها كبش سمين إذا أصابها المحرم ".
(3)
فلفظ (المحرم) عام في المتعمد والمخطئ.
(4)
3 -
أنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية، ومن ذلك: أن الله جل وعلا قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه، ولم يخلهما من إيجاب الكفارة فقال جل ذكره:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فكذلك قاتل الصيد يجب عليه الجزاء سواء كان متعمداً أو مخطأ.
(5)
- القول الثاني: أن المحرم القاتل للصيد خطأ، لا يجب عليه الجزاء.
(1)
انظر: تفسير الرازي (12/ 88) - وأحكام القرآن للجصاص (2/ 660).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (2/ 102) - وبدائع الصنائع (2/ 437).
(3)
أخرجه البيهقي في سننه - كتاب الحج - باب فدية الضبع (ح 3 - 5/ 183)
والدارقطني في سننه - كتاب الحج - باب المواقيت - (ح 42 - 2/ 245).
(4)
تفسير ابن الجوزي (2/ 319).
(5)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 660).
- وهذا قول: ابن عباس - ومجاهد - وطاووس - وسعيد بن جبير - والزهري - وسالم بن عبد الله - والقاسم بن محمد.
(1)
وإليه ذهب: داود الظاهري - والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه.
(2)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
أن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها فعليه الدليل.
(3)
وقد رد هذا الاستدلال: بأن الكتاب والسنة قد دلا على وجوب الجزاء على المحرم القاتل للصيد خطأً، وقد تقدم بيان ذلك.
2 -
أن الله جل وعلا قال:: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فخص المتعمد بإيجاب الجزاء عليه، فلو شاركه المخطئ والناسي في الوجوب لم يكن للتخصيص معنى. والذي يؤكد هذا المفهوم: أنه جل وعلا قال في آخر الآية: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95]- (والإنتقام) إنما يكون في العمد دون الخطأ، وقوله:(ومن عاد) المراد منه: ومن عاد إلى ما تقدم ذكره، وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ.
(4)
وقد رد هذا الاستدلال بما يلي:
أ - أنه ليس في تخصيص المتعمد بالجزاء في الآية دليل على نفي هذا الجزاء عن غيره، لأن في هذا تمسكاً بالمسكوت عنه، وهذا لا يجوز.
ب - أن تخصيص المتعمد بالذكر في الآية دون المخطئ، مع أن حكمهما واحد من حيث وجوب الجزاء عليهما، يحتمل أن يكون تخصيصاً من أجل أحد الأمور التالية:
(1)
تفسير الطبري (5/ 43) - وأحكام القرآن للجصاص (2/ 660).
(2)
انظر: تفسير الماوردي (2/ 67) - وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 178).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 179).
(4)
تفسير الرازي (12/ 88).
1 -
أن تخصيص المتعمد بالذكر لعظم ذنبه، تنبيهاً على وجوب ذلك الجزاء على من قصر ذنبه عنه من المخطئ والناسي من طريق أولى، لأن الواجب - وهو الجزاء - لما رفع أعلى الذنبين، فلأن يرفع الأدنى أولى.
(1)
2 -
أن تخصيص المتعمد بالذكر، لأن الغالب - في أحوال الناس - أن قاتل الصيد لا يكون إلا متعمداً، فألحق به المخطئ وإن كان نادراً.
(2)
3 -
أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله جل وعلا: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95] إذ لا وعيد على المخطئ والناسي.
(3)
الترجيح: والقول الراجح هو: وجوب الجزاء على المحرم القاتل للصيد خطأً، لأنه متى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء، لم يجب عليه شيء آخر، فيكون لغواً عارياً من حكم، وذلك غير جائز.
ولأن الكفارات إنما تجب لرفع الجنايات سواء كانت عمداً أو خطأً.
(4)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة:96]
(1)
بدائع الصنائع (2/ 437).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 178).
(3)
تفسير ابن جزي (1/ 250).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 660).
قال أبو جعفر الطحاوي: وقول الله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، يحتمل ما حرم عليهم منه، هو أن يصيدوه. ألا ترى إلى قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فنهاهم الله تعالى في هذه الآية عن قتل الصيد وأوجب عليهم الجزاء في قتلهم إياه. فدل ما ذكرنا أن الذي حرم على المحرمين من الصيد، هو قتله.
وقد رأينا النظر أيضاً يدل على هذا، وذلك أنهم أجمعوا أن الصيد يحرمه الإحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الحلال. وكان من صاد صيداً في الحل فذبحه في الحل، ثم أدخله الحرم، فلا بأس بأكله إياه في الحرم.
ولم يكن إدخاله لحم الصيد كإدخاله الصيد نفسه وهو حيّ الحرم، لأنه لو كان كذلك، لنهى عن إدخاله ولمنع من أكله إياه فيه كما يمنع من الصيد في ذلك كله، ولكان إذا أكله في الحرم، وجب عليه ما وجب في قتل الصيد.
فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذي صيد في الحل، كما يمنع من الصيد الحيّ، كان النظر على ذلك أن يكون كذلك الإحرام أيضاً، يحرم على المحرم الصيد الحيّ، ولا يحرم عليه لحمه إذا تولّى الحلال ذبحه، قياساً، ونظراً على ما ذكرنا من حكم المحرم.
فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى.
(شرح معاني الآثار-2/ 175 - 176)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد بقوله جل وعلا: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] هو تحريم الانتفاع بالصيد الذي يصيده المحرم دون الصيد الذي يصيده الحلال.
وإليك بيان أقوال المفسرين في المراد بالآية:-
- القول الأول: أن المراد بالآية هو: تحريم انتفاع المحرم بالصيد الذي يصيده المحرم أو الحلال. فكل معاني صيد البر تحرم على المحرم من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملك، وغير ذلك.
- وهذا قول: علي بن أبي طالب - وابن عباس - وابن مسعود - وابن عمر رضي الله عنهم.
وقول: مجاهد - وسعيد بن جبير - وطاووس - والثوري - وإسحاق.
(1)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
قوله جل وعلا: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فعموم هذه الآية يتناول تحريم الاصطياد، والمصيد نفسه، لوقوع الاسم عليهما.
وقد رد هذا الاستدلال: بأن الحيوان إنما يسمى صيداً ما دام حياً، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الاسم - صيداً - بعد الذبح إلا مجازاً، باعتبار استصحاب الاسم السابق.
(2)
ومما يدل على أن لفظ الآية لم يشمل اللحم: أنه غير محظور على المحرم التصرف في اللحم بالإتلاف والشراء والبيع وسائر وجوه التصرف.
(3)
2 -
ما روي عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ".
(4)
3 -
ما روي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: " أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عضو من لحم صيد فرده، وقال: " إنا لا نأكله إنا حرم ".
(5)
(1)
انظر: تفسير الطبري (5/ 71) - وتفسير ابن عادل (7/ 534).
(2)
أحكام القرآن للكياالهراسي (3/ 115).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 676).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإحصاء وجزاء الصيد - باب إذا أُهدي للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل. (ح 1729 - 2/ 649)
ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم - (ح 2837 - 8/ 342).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم - (ح 2842 - 8/ 344)
وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب لحم الصيد للمحرم - (حـ 1850 - 2/ 427).
فقد دلت هذه الأحاديث على أنه يحرم على المحرم الانتفاع بالصيد بكل حال، وإن كان الذي صاده حلال.
وقد رد هذا الاستدلال: بأنه ليس في هذه الأحاديث ما يدل على السبب الذي رد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الصيد. وإنما ذكر فيها أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فرده، وعليه فإن سبب رده قد يكون أن ذلك الصيد صاده الصحابي الحلال لأجل الرسول صلى الله عليه وسلم المحرم، فلزم رده. ولو أن ذلك الصحابي الحلال لم يصده لأجل الرسول صلى الله عليه وسلم لصح قبوله. وقد بين ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم "
(1)
فوجب الأخذ بجميع هذه الأحاديث الصحيحة، وتوجيه كل واحد منها إلى المعنى الصحيح الذي يتفق به مع الأحاديث الأخرى، دون المعنى الذي يتعارض به مع أي حديث صحيح.
(2)
القول الثاني: أن المراد بالآية هو: تحريم انتفاع المحرم بالصيد الذي يصيده المحرم دون الصيد الذي يصيده الحلال.
- وهذا قول: عمر بن الخطاب - وعثمان بن عفان - وأبي هريرة - والزبير بن العوام - وطلحة بن عبيد الله - وأبي قتادة - وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم. وإليه ذهب: جمهور الفقهاء.
(3)
- ومن أدلة هذا القول:
(1)
أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب لحم الصيد للمحرم - (ح 1851 - 2/ 427).
والترمذي في سننه - كتاب الحج - باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم (ح 846 - 4/ 74).
(2)
انظر: تفسير الطبري (5/ 76) - وتفسير الشنقيطي (1/ 325).
(3)
انظر: تفسير الطبري (5/ 73) - وأحكام القرآن للجصاص (2/ 675) - ومختصر تفسير المنار (2/ 397).
1 -
قوله جل وعلا: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فظاهر الآية أن المُحَرم هو صيد المحرمين دون صيد غيرهم، لأنهم هم المخاطبون، فكأنه قال لهم:(وحرم عليكم ما صدتم في البر) فيخرج من هذا التحريم: 1 - مصيد غيرهم. 2 - ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل على هذا الحكم المستفاد من الآية قوله جل وعلا في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] وقوله جل وعلا في أول السورة: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]
(1)
2 -
ما رواه عبد الله بن قتادة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، وخرجنا معه، قال: فَصَرَفَ من أصحابه فيهم أبو قتادة، فقال:" خذوا ساحل البحر حتى تلقوني " قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحرموا كلهم، إلا أبا قتادة، فإنه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُرَ وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتاناً، فنزلوا فأكلوا من لحمها، قال: فقالوا: أكلنا لحماً ونحن محرمون، قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنا كنا أحرمنا، وكان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، فقلنا: نأكل لحم صيد ونحن محرمون! فحملنا ما بقي من لحمها، فقال:" هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ " قال: قالوا: لا، قال:" فكلوا ما بقي من لحمها ".
(2)
(1)
تفسير الزمخشري (2/ 297).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإحصار وجزاء الصيد - باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال. (ح 1728 - 2/ 648).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم - (ح 2847 - 8/ 349).
3 -
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ".
(1)
فقد دلت هذه الأحاديث على جواز انتفاع المحرم بما صاده الحلال، إذا كان الحلال لم يصده من أجل ذلك المحرم ولا بأمره أو مساعدته.
الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بالآية: تحريم انتفاع المحرم بالصيد الذي يصيده المحرم، دون الصيد الذي يصيده الحلال. إذ أن هذا القول هو المؤيد بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله.
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة:96]
قال أبو جعفر الطحاوي: وكانت حاجتنا إلى ما نذكره في هذا الباب إن شاء الله ما قد اختلف فيه أهل العلم من المراد بقول الله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، فكان المزني قد حكى لنا في ذلك عن الشافعي، أن هذه الآية قد دلته على أن الذي حرمه الله عز وجل على عباده في حرمهم من الصيد هو ما كان أحل لهم أكله في حال حلهم.
وكان ابن أبي عمران
(2)
(1)
تقدم تخريجه (467).
(2)
ابن أبي عمران هو: أبو جعفر أحمد بن موسى بن عيسى البغدادي، الفقيه المحدث الحافظ، شيخ الحنفية، لازمه أبو جعفر الطحاوي وأخذ عنه
الفقه، وكانت وفاته سنة (280 هـ)(سير أعلام النبلاء-13/ 334).
يحكي لنا في ذلك مما يذكره عن أصحابه، ومما كان يجتبيه من قولهم: أن الذي حرمه الله عز وجل على الناس في إحرامهم من الصيد هو ما كانوا يصيدونه ليأكلوه، وما كانوا يصيدونه منه بجوارحهم من الكلاب ومما سواها مما يطعمونها إياه، ومما أكله عليهم حرام كالذئاب وما أشبهها من ذوي الأنياب من السباع، ومن ذوي المخالب من الطير، ويقول: قد دخل هذا فيما حرم على المحرم اصطياده في إحرامه.
وكان الذي حكاه لنا ابن أبي عمران من ذلك عندنا أولى بتأويل الآية التي تلونا، لأن الله عز وجل قال فيها:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، فعمَّ بذلك جميع الصيد المأكول، وغير المأكول.
غير أن ابن أبي عمران قد كان أتبع ذلك حجة احتج بها فيه، فقال: وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس من الدواب يقتلن في الحرم والإحرام: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور"
(1)
، فكانت الروايات في ذلك ما نحن مستغنون عن ذكر أسانيدها لاتفاق الفريقين اللذين ذكرنا عليهما.
قال ابن أبي عمران: ولما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعدد معلوم، عقلنا بذلك أنه لا شيء فيما أباح للمحرم قتله في إحرامه ما يخرج عن ذلك العدد إلى غيره ..
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإحصار وجزاء الصيد - باب: ما يقتل المحرم من الدواب - (ح 1732 - 2/ 650).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (ح 2854 - 8/ 351).
ثم نقول نحن محتجين لمذهبه في ذلك: إنا قد وجدنا الله عز وجل قد قال في كتابه:: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، فكان ظاهر هذه الآية على دخول صيد البر كله، وعلى أنها قد عمته كله بالتحريم في حال الإحرام، ولا يجوز أن يخرج مما قد عمه الله عز وجل بمثل هذا شيء إلا بما يجب إخراجه به منه من آية مسطورة، أو من سنة مأثورة، أو من إجماع من الأمة أن الله عز وجل لم يرد بما قد عمه ذلك الشيء، وإنما أراد ما سواه، وإذا عدمنا ذلك لم نخرج مما حرمه الله عز وجل بتلك الآية إلا ما قد أجمع على خروجه منه، وهي الخمس التي في الحديث الذي احتج به ابن أبي عمران لا ما سواه. والله نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار-9/ 110 - 117)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن المراد بالصيد المحرم صيده على المحرم هو جميع أنواع الحيوانات المأكول منها وغير المأكول.
فالآية عند الإمام الطحاوي عامة في كل حيوانات البر إلا ما استثناه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم: الغراب - والحدأة - والعقرب - والفأرة - والكلب العقور".
وإليك بيان أقوال العلماء في المراد بصيد البر المحرم على المحرم صيده:-
القول الأول: أن المراد بالصيد المحرم هو: الحيوان الوحشي الذي يحل أكل لحمه.
- وهذا قول: الإمام الشافعي وأصحابه.
(1)
- وحجة هذا القول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب كلهن فاسق تقتل في الحرم: الغراب - والحِدأة - والكلب العقور - والعقرب - والفأرة "
(2)
.
(1)
تفسير الرازي (12/ 87).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإحصار وجزاء الصيد - باب ما يقتل المحرم من الدواب - (حـ 1731 - 2/ 649).
ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم - (ح 2853 - 8/ 351).
فقد اشمل هذا الحديث على أعيان: بعضها سباع ضارية، وبعضها هوام قاتلة، وبعضها طير لا تدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم.
وتحريم الأكل يجمع بينها، فيجب اعتباره، وترتب الحكم عليه
(1)
.
القول الثاني: أن المراد بالصيد المحرم هو: الحيوان الوحشي سواء كان مأكولاً أو غير مأكول.
- وهذا قول: الجمهور
(2)
- وحجة هذا القول: أن قوله جل وعلا: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] نص عام في جميع أنواع صيد البر، ولا يستثنى من هذا العموم إلا ما خصه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" خمس من الدواب كلهن فاسق تقتل في الحرم: الغراب، والحِدأة، والكلب العقور، والعقرب، والفأرة "
(3)
وفي رواية: " الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي ".
(4)
وقد تلقى سائر العلماء هذا الحديث بالقبول واستعملوه في إباحة قتل هذه الحيوانات المذكورة فيها، دون غيرها من سائر الحيوانات.
الترجيح: والقول الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أن لفظ الآية عام في جميع أنواع صيد البر إلا ما خصه الخبر الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وغير جائز تخصيص غيرها بالقياس عليها، لأن علة تخصيصها غير ظاهر لنا.
(5)
(1)
شرح السنة للبغوي (7/ 267).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 658) وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 176) وتفسير الشنقيطي (1/ 328).
(3)
تقدم تخريجه (471).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب ما يقتل المحرم من الدواب - (ح 1846 - 2/ 424). والترمذي في سننه - كتاب الحج - باب
ما يقتل المحرم من الدواب (ح 838 - 4/ 63) وقال: هذا حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم - أهـ.
(5)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 658).
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينٍ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة:101]
قال أبو جعفر الطحاوي: سمعت أبا أمامة الباهلي، يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: " كُتب عليكم الحج " فقام رجل من الأعراب، فقال: في كل عام؟ قال: فَغَلِقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت واستغضب، فمكث طويلاً، ثم تكلم فقال:" من هذا السائل "؟ فقال الأعرابي: أنا، فقال: " ويحك ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج، والله لو أني أحللت لكم ما في الأرضي شيء، وحرمت عليكم منها موضع خف بعير لوقعتم فيه، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] إلى آخر الآية.
(1)
قال أبو جعفر: ففيما روينا أن نزول هذه الآية كان في السبب المذكور في هذه الآثار التي رويناها فيه.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ح 7671 - 8/ 159). والطبري في تفسيره - سورة المائدة الآية (101)(ح 12811 - 5/ 84).
وقد روي أن سبب نزولها كان فيما سوى ذلك عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احمر وجهه، فجلس على المنبر، فقال:" لا تسألوني عن شيء إلا حدثتكم " فقام إليه رجل، فقال: أين أبي؟ فقال: " في النار" فقام آخر، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك أبو حُذافة - كذا قال والصواب: أبوك حُذافة - فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، يا رسول الله كنا حديث عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه ونزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
(1)
[المائدة:96]
قال أبو جعفر: ففي هذه الآثار أن نزول هذه الآية كان في الأسباب المذكورة فيها.
فقال قائل: هذه آثار تضاد الآثار الأول، فكيف يجوز أن يكون نزول هذه الآية كان في هذين السببين جميعاً، ولا نجدها في كتاب الله عز وجل في موضعين، ولو كانت نزلت في كل واحد من السببين، لكانت مذكورة منه في موضعين، كما كان قوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] و [التحريم:9] مذكوراً في موضعين إذ كانت نزلت مرتين، لأنه أريد بها في كل واحد من الموضعين غير من أريد بها في الموضع الآخر منهما.
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره - سورة المائدة - الآية (101)(ح 12806 - 5/ 83). وأورده السيوطي في الدر المنثور - (ح 7 - 3/ 205).
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه قد يحتمل أن تكون هذه السؤالات المذكورات في هذين الفصلين من هذا الباب قد كانت قبل نزول هذه الآية، ثم أنزل الله عز وجل بعد ذلك هذه الآية نهياً لهم عن هذه السؤالات، وإعلاماً لهم أنه لا حاجة لهم في الجوابات عنها بحقائق أمورها التي أريدت بها، إذ كان ذلك مما إذا سمعوه ساءهم، وإذا كان ذلك إنما يستعملون به مالا منفعة لهم فيه، ومما لو جهلوه لم يضرهم، وإنما المنفعة بالسؤالات استعلام الفرائض عليهم في دينهم، وما يتقربون به إلى ربهم عز وجل، فذلك العلم الذي ينفعهم، والذي إذا جهلوه ضرهم، فعليهم السؤال عنه حتى يعلموه،
والدليل على أنه عز وجل إنما كره منهم السؤالات عن ما لا منفعة لهم فيه، وعن ما إذا علموه ساءهم، لا عن ما سواه من أمور دينهم التي بهم الحاجة إلى علمها حتى يؤدوا المفروض فيها عليهم، وحتى يتقربوا إلى ربهم عز وجل بما يقربهم إليه منها: ما قد روي عن معاذ بن جبل مما قد دل على ذلك عن معاذ بن جبل، قال: قلت: يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن أمر ويمنعني مكان هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] قال: " ما هو يا معاذ "؟ قلت: العمل الذي يدخل الجنة وينجي من النار. قال: " قد سألت عظيماً، وإنه ليسير: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
(1)
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ح 137 - 20/ 73) والإمام أحمد في مسنده (5/ 245).
قال أبو جعفر: أفلا ترى أن معاذاً لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية تمنعه من سؤاله إياه عن شيء يحتاج إلى الوقوف عليه، فلما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعلم أنه ليس من الأشياء التي تكره معرفتها، والمسألة عنها، أجابه عنه. فدل ذلك على أن الأشياء المنهي عن السؤال عنها بما في الآية التي تلونا هي الأشياء التي لا دَرْكَ لهم في علمها، ولا ثواب لهم فيها، وأن الأشياء التي توصل إلى الثواب عليها، وإلى الأعمال الصالحة من أجلها، ليست بداخلة في المراد بهذه الآية.
وقد روي عن بعض المتقدمين في السبب الذي من أجله كان نزول هذه الآية خلاف هذه المعاني كلها عن عكرمة في هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]. قال: هي في الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي.
قال: وأما سعيد بن جبير، فقال: هي في الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحيرة والسائبة
(1)
.
وأما مقسم، فقال: هي فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات.
(2)
قال: ومعنى ما روي في ذلك عن عكرمة قد وافق بعض ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب.
(1)
(البحيرة) هي: فعيلة بمعنى مفعولة، من (بَحَر) إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها وتركوها ترعى، ولا ينتفع بها.
وأما (السائبة) فسميت بذلك لأن الرجل كان يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع
بها. (تفسير ابن جزي-1/ 253).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره - سورة المائدة - الآية (101) - (ح 12816 - 5/ 85)
وابن أبي حاتم في تفسيره - سورة المائدة - الآية (101) - (ح 6879 - 4/ 1218).
وأما ما روي عن سعيد بن جبير، فمعناه عندنا - والله أعلم - من جنس المعاني التي رويناها فيما تقدم منا في هذا الباب، لأن الذين كانوا يفعلون الأشياء التي كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها من تلك المعاني، كانوا أبناء بعض السامعين للجوابات عنها، وكان بعض من يحضره سواهم أبناء لبعض الفاعلين لها المخبر بموضعهم منها
قال أبو جعفر: فكان المُضافة إليه هذه الأشياء التي كانوا يسألون عنها قد يكون جدُّ السائل عنها، أو يكون ممن يلحق سمعه الجوابات عنها فيسوؤه ذلك، فدخل ذلك فيما نهوا عنه بهذه الآية، والله عز وجل نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار -4/ 110 - 121)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي الروايات الواردة في سبب نزول الآية، مرجحاً أن الآية نزلت بعد تلك الأسباب جميعاً. ثم بين أن المراد بالآية هو: النهي عن السؤال في الأمور التي لا منفعة لهم فيها، والتي إذا عرفها السائل منهم ساءه معرفتها.
وإليك بيان الروايات الواردة في سبب نزول الآية:-
1 -
ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله من أبي؟ قال: "أبوك فلان " فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]
(1)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101](حـ 4345 - 4/ 1689)
ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب توقيره صلى الله عليه وسلم (حـ 6072 - 15/ 111).
2 -
ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت، قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]
(1)
.
3 -
ما رواه سعيد بن جبير: أنها في السؤال عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وذلك بدلالة قول الله جل وعلا بعد ذلك: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة:103]
4 -
ما رواه عكرمة ومقسم: أنها في السؤال عن الآيات الكونية. بمعنى: أنهم طلبوا من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن يريهم بعض المعجزات الدالة على صدق نبوته.
ودليل هذا القول: أن الله جل وعلا قال بعد ذلك: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:102]
(2)
- الترجيح: والقول الراجح هو أن سبب نزول الآية ما ورد في رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، وذلك لكونها أصح الروايات الواردة في سبب نزول الآية.
(3)
وأما الرواية الواردة عن علي رضي الله عنه فهي أقل درجة من حيث الصحة، لأن الذي رواها عن علي هو أبو البَخْترىِ، وهو لم يلق علياً رضي الله عنه فسند هذه الرواية منقطع.
(4)
(1)
أخرجه الترمذي في سننه - كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة - (حـ 3065 - 11/ 180) وقال: هذا حديث حسن غريب - أهـ.
والحاكم في المستدرك - كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة آل عمران (ح 3157 - 2/ 322).
(2)
انظر: تفسير الطبري (5/ 85) - وأحكام القرآن للجصاص (2/ 680).
(3)
فتح الباري لابن حجر (8/ 131).
(4)
تحفة الأحوذي (3/ 459).
وأما الرواية الواردة عن عكرمة، وابن جبير فهي رواية غير صريحة في معنى السببية، وبناء على هذا فإن هذه الروايات تحمل على أنها داخلة في المعنى الذي دلت عليه الآية، ولا نقول إنها سبب لنزول الآية.
وعلى هذا فإن المراد بقول الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] وهو: النهي عن السؤال عما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه مما لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه.
(1)
وأما السؤال عما نزل به القرآن مما يجب العمل به، فهذا لا شك في صحة السؤال عنه، لأن السؤال عنه من التفقه في الدين، ولذا قال من جل ذكره:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]
(2)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية، وأما قاله في سبب نزول الآية فهو خلاف القول الأولى في ذلك. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة:105]
(1)
انظر: تفسير أبي السعود (2/ 325) - وتفسير الرازي (12/ 107).
(2)
تفسير القرطبي (6/ 314).
قال أبو جعفر الطحاوي: عن قيس بن أبي حازم، قال: قرأ أبو بكر رضي الله عنه هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ثم قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أو قال: المنكر، فلم يغيروه، عمهم الله عز وجل بعقابه".
(1)
قال أبو جعفر: فكان في هذه الأحاديث الأولى بالصديق رضي الله عنه أنه كان قاله، وهو إخباره إياهم أن الناس يضعون هذه الآية التي تلاها عليهم على غير موضعها.
فتأملنا ما يروى عن غيره رضي الله عنه في هذه الآية لنعلم بذلك موضعها، هل هو تأويل يوقف عليه أو زمان من الأزمنة يكون، ويكون قبله ما قرأ عليهم رضوان الله عليه ما قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في الأمر بالمعروف وتغيير المنكر.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي (حـ 4338 - 4/ 509).
والترمذي في سننه - كتاب التفسير - باب سورة المائدة - (حـ 3067 - 11/ 180). وقال هذا حديث حسن صحيح. أهـ.
فوجدنا عن أبي أمية
(1)
، قال: سألت أبا ثعلبة الخُشني
(2)
، قلت: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أي آية؟ قلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ] المائدة:105 [فقال لي: أما والله لقد سألتُ عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا بد لك منه، فعليك بنفسك، وإياك وأمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، صبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل منكم يومئذ كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله "
(3)
قال أبو جعفر: فعقلنا بهذا الحديث أن معنى قول أبي بكر رضي الله عنه: (إن الناس يضعون هذه الآية في غير موضعها) يريد بها سيعملونها في غير زمنها، وأن زمنها الذي يستعمل فيه هو الزمن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة بما وصفه به، ونعوذ بالله عز وجل منه، وأن ما قبله من الأزمنة فإن فرض الله عز وجل فيه على عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تعود الأمور إلى ما أمر الله عز وجل أن يكون الناس عليه من امتثال ما أمرهم الله به عز وجل، والانتهاء عن ما نهاهم عنه.
(1)
أبو أمية هو: أبو أمية يحمد الشعباني. (أسد الغابة-6/ 20).
(2)
أبو ثعلبة هو: جُرْهم بن ناشب الخُشَني، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيعة الرضوان، وكانت وفاته سنة (57 هـ). (سير أعلام النبلاء -2/ 567).
(3)
أخرجه أبوداود في سننه - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي (حـ 4341 - 4/ 512).
والترمذي في سننه - كتاب التفسير - باب سورة المائدة - (حـ 3068 - 11/ 181) وقال: هذا حديث حسن غريب. أهـ.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى من الأمر بالمعروف، ومن النهي عن المنكر، ومن التحذير من عواقب ترك ذلك سوى ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب
عن عدي بن عدي
(1)
عن أبيه
(2)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا يهلك العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا رأوا المنكر بين ظهرانيهم، فلم يغيروه،، عذب الله عز وجل العامة والخاصة".
(3)
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا توكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكون الزمان الذي ينقطع ذلك فيه، وهو الزمان الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الذي لا منفعة فيه بأمر بمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا قوة مع من ينكره على القيام بالواجب في ذلك، فسقط الفرض عنه فيه، ويرجع أمره فيه إلى خاصة نفسه، ولا يضره مع ذلك من ضل.
(1)
عدي هو: عدي بن عدي بن عَمِيرة بن فرْوة الكِنْدي، وثقه أبو حاتم وغيره، وكانت وفاته سنة (120 هـ)(تهذيب الكمال-5/ 146).
(2)
أبوه هو: الصحابي الجليل أبو زُرارة عدي بن عميرة بن فروة بن زرارة الكندي، وكانت وفاته بالكوفة سنة (40 هـ)
(تهذيب الكمال-5/ 147).
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير - (ح 343 - 17/ 138). والإمام أحمد في مسنده (4/ 192).
هكذا يقول أهل الآثار في هذا الباب على ما قد صححنا هذه الآثار عليه، وأما من سواهم ممن يتعلق بالتأويل، فيذهب إلى أن قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] ليس عليه سقوط مفروض عليهم من أمر بمعروف، ومن نهي عن منكر، وأنهم لا يكونون مهتدين إذا لم يفعلوا ذلك، وأنهم إنما يدخلون في قوله عز وجل:{إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إذا فعلوا ذلك لا إذا قصروا عنه، ويذهبون إلى أن مثله من كتاب الله عز وجل قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] وهو مع هذا صلى الله عليه وسلم فمفترض عليه جهاد أعداء الله وقتالهم حتى يردهم الله إلى دينه الذي بعثه الله به، وأمره أن يقاتل الناس عليه كافة، والقول الأول أبين معنى من هذا المعنى، وإن كان هذا المعنى صحيحاً، والله نسأله التوفيق. (شرح مشكل الآثار -3/ 211 - 216)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن قوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قد اختلف المفسرون في بيان المراد به على قولين:
- القول الأول: أن هذه الآية دالة على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الزمن الذي يتحقق فيه عدم جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد الشروع فيه، ويكون الداعية إليه معرضاً للأذى من كل الوجوه.
(1)
(1)
تفسير ابن عاشور - (7/ 79).
- ودليل هذا القول: حديث أبي ثعلبة الخشني - المتقدم ذكره - والدال على أن معنى هذه الآية يعمل به في آخر الزمان حيث يتعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، ولا يبقى من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الحال إلا إنكار القلب
(1)
، كما دل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "
(2)
- القول الثاني: أن هذه الآية غير دالة على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي دالة على أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب من عصى ربه.
- ودليل هذا القول: أن الله جل وعلا قال في هذه الآية: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] والمعنى: أي لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم التزمتم العمل بطاعة الله، وأديتم فيمن ضل من الناس ما أمركم الله به فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة الأمور التي يشملها الاهتداء، كما أن الله جل وعلا قد أحكم فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله، ولو كان للمسلم ترك ذلك لم يكن للأمر به معنى.
(3)
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 684) ومعاني القرآن للنحاس (2/ 374).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب كون النهي عن المنكر من الإيمان - وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر واجبان (ح 175 - 2/ 211). وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب الخطبة يوم العيد (ح 1140 - 1/ 677).
(3)
تفسير الطبري - (5/ 100).
الترجيح: والقول الراجح هو أن الآية دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المسلم لا يكون مهتدياً إلا إذا قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن الآية دالة على سقوط هذا الواجب في الوقت الذي يتعذر فيه ذلك بحيث لا يقبل من الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يكون بدعوته لذلك معرضاً نفسه للأذى، والداعية بهذا الترك في هذه الحال لا يكون آثماً ما دام مهتدٍ في نفسه بقيامة بما أوجب الله عليه بحسب قدرته وطاقته.
وبهذا يتبين أن ما قاله الإمام الطحاوي هو القول الأولى في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطحاوي: عن ابن عباس، قال: كان تميم الداري
(1)
، وعدي بن بداء
(2)
(1)
تميم هو: أبو رُقيَّة تميم بن أوس بن خارجة الدَّاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بالمدينة، ثم انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان، ومات بها، ولا عقب له. (تهذيب الكمال-1/ 398).
(2)
عدي هو: عدي بن بداء، بتشديد الدال وقبلها باء مفتوحة، كان نصرانياً، وذكر أنه أسلم ولكن قوى غير واحد - منهم الحافظ ابن حجر - أنه مات نصرانياً. (الإصابة -4/ 469).
يختلفان إلى مكة للتجارة، فخرج رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما بتركته، فدفعا بتركته إلى أهله، وجبسا جاماً من فضة مخوصاً من ذهب
(1)
، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله: ما كتمنا ولا أطلعنا. ثم عرف الجام بمكة عند قوم من أهل مكة، فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا بالله: إن هذا لجام السهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، فأخذ الجام، وفيهم نزلت هذه الآية
(2)
فقال قائل: فهذه آية قد أنزلها الله في كتابه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه بما أنزله عليه فيها ما قد رويته في هذا الباب، وقد روي عن ابن عباس وهو الذي روى هذا الحديث في تمسكه بها، وأنها عنده مما الحكم بما فيها قائم لم يلحقه نسخ قال ابن عباس في قوله عز جل: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ " [المائدة:106]، قال: من غير أهل الإسلام من الكفار إذا لم تجدوا المسلمين.
قال أبو جعفر: فهذا يدل على أنها كانت عند ابن عباس محكمة غير منسوخة.
وروي عن أبي موسى الأشعري فيها ما يدل على أن مذهبه كان فيها كمذهب ابن عباس
(1)
معنى قوله: (جاماً من فضة مخوصاً من ذهب) أي: إناء من فضة منقوشاً عليه بالذهب كصفة الخوص. (فتح الباري-5/ 482).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: الوصايا - باب: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106].
(حـ 2628 - 3/ 1022) - والترمذي في سننه - كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة المائدة (حـ 3070 - 11/ 183) - وقال: هذا حديث حسن
غريب. أهـ. وفي رواية عند الترمذي: (وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام). (حـ 3069 - 11/ 182).
عن عامر، قال: خرج رجل من بني خثعم، فتوفي بدَقُوقاء،
(1)
فلم يشهد وصيته إلا رجلان نصرانيان من أهله، فأشهدهما على وصيته، فقدما الكوفة فأحلفهما أبو موسى الأشعري دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو ما خانا ولا بدّلا ولا كتما، وإنها لوصيته، ثم أجاز شهادتهما.
قال أبو جعفر: فدل ذلك على أنها كانت عنده محكمة غير منسوخة، ولا نعلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلافاً لهما - يعني ابن عباس وأبا موسى - في ذلك، والله أعلم، ثم التابعون في ذلك قد كان أكثرهم على مثل الذي كانا عليه في ذلك.
فذكر عن إبراهيم، قال: كتب هشام بن هُبَيْرة
(2)
إلى شُريح يسأله عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب إليه لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا أن يكون مسافراً
قال: فهذا شريح وهو قاضي الخلفاء الراشدين المهديين قد كان مذهبه فيها أيضاً أنها محكمة غير منسوخة.
وهذا قول: سعيد بن المسيب، وقتادة
(3)
، ومجاهد، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وابن سيرين.
(4)
وقد قال به من فقهاء الأمصار ابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري.
فإن قال قائل: فقد روي عن الحسن ما يخالف أقوال هؤلاء الذين ذكرت.
(1)
(بدَقُوقاء): بفتح أوله، وضم ثانيه، اسم لمدينة قرب بغداد بالعراق. (معجم الأدباء - 2/ 459)
(2)
هشام هو: هشام بن هُبَيْرة بن فضالة الليثي، تولى القضاء بالبصرة سنة (64 هـ) ومات بها في أول إمرة الحجاج بن يوسف.
(طبقات ابن سعد -7/ 151).
(3)
قتادة هو: أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السَّدُوسي البصري، الضرير الأكمه المفسر، وثقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره،
وكانت وفاته بواسط سنة (118 هـ)(طبقات المفسرين 2/ 47).
(4)
ابن سيرين هو: أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري، وثقة ابن سعد وغيره، وكانت وفاته سنة (110 هـ). (تهذيب الكمال - 6/ 340)
فذكر عن الحسن في قوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106]{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وهذا مما لا يقطع فيه على المخالفة بقيام الحجة عليه بالنسخ لما قد أنزله الله في كتابه، وعمل به رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل به من عمل به من أصحابه، ولا يجوز أن ينسخ ما قد أجمع على ثبوته إلا لقيام الحجة بما يوجب ذلك فيه.
فأما ما قد ذكرناه مما يستدل به الحسن من قول الله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة:106] ما قد دل على أنهما من أهل الصلاة، فإن ذلك مما لا دليل عندنا فيه، وإنما ذلك عند كثير من أهل العلم على أنه قصد بذلك إلى الوقت الذي يعظمه أهل الأديان جميعاً وهو ما بعد صلاة العصر ويتوقونه ويخافون نزول العقوبة بهم عند المعصية فيه، وقد ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف بعد العصر على سلعة أنه أُعطي بها كذا وكذا كاذباً"
(1)
فإذا كان هذا الاختلاف في هذا كما قد ذكرنا، لبقي حكم الآية على ما كان عليه حتى يكون مثله مما يوجب نسخها، وقد كان الزهري وزيد بن أسلم يذهبان إلى أنها مما قد نسخ العمل به.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: المساقاة - باب: من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه - (حـ 2240 - 2/ 834).
ومسلم في صحيحه - كتاب: الإيمان - باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا
يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم- (حـ 293 - 2/ 299).
كما عن زيد بن أسلم في هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة:106] الآية، قال: ذلك كان في رجل توفي، وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب، والناس كفار، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية، وفُرضت الفرائض، وعمل بها المسلمون.
قال أبو جعفر: وليس في هذا إلى الآن ما يوجب نسخ هذه الآية. والله الموفق للصواب.
(شرح مشكل الآثار -11/ 457 - 471)
(وانظر: مختصر اختلاف العلماء-3/ 339 - 340)
الدراسة
بين الإمام الطحاوي أن قول الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106] أية محكمة، وهي دالة على جواز شهادة الكافر على وصية المسلم الذي قربت وفاته في حال السفر، إذا لم يكن هناك أحد من المسلمين.
كما رد على من ادعى النسخ للآية، مبيناً أن المراد بقوله جل وعلا:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] أي: من غير أهل الإسلام.
وأن المراد بقوله جل وعلا: {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة:106] أي: من بعد صلاة العصر.
وإليك أولاً: بيان الأقوال في المراد بقول الله جل وعلا: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106]:
القول الأول: أن المراد بقوله جل وعلا: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106]
أي: أو آخران من غير قبيلتكم، فيكونا مسلمين.
- وهذا قول: الحسن - وعكرمة - والزهري - وعَبيدة السلماني. وإليه ذهب: جمهور الفقهاء.
(1)
(1)
انظر: تفسير الطبري (5/ 106) - وتفسير الرازي (12/ 115).
- ومن أدلة هذا القول: أن الله جل وعلا قال في الآية: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة:106] والكافر لا يعظم الصلاة حتى يحبس بعدها.
(1)
وقد رد هذا الاستدلال: بأنه ليس المراد من حبسهم من بعد الصلاة أنهم من أهل الصلاة، بحيث يعظمون تلك الصلاة، فيجتنبون الكذب بعدها. وإنما المراد من حبسهم من بعد الصلاة لأن الوقت الذي بعد تلك الصلاة - صلاة العصر - معظم لدى جميع أهل الأديان بحيث كانوا يتجنبون الكذب فيه.
القول الثاني: أن المراد بقوله جل وعلا: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106].
أي: أو آخران من غير ملتكم، فلا يكونا مسلمين.
- وهذا قول: جمهور المفسرين.
(2)
وإليه ذهب: الإمام أحمد - والثوري - وأبو عبيد القاسم بن سلام.
(3)
- ومن أدلة هذا القول:
1 -
أن الله جل وعلا قال في أول الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:106] فالخطاب في الآية لجميع المؤمنين، فلما قال:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] كان المراد من غير المؤمنين لا محالة.
2 -
أن الله جل وعلا قال في الآية: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة:106] وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط يكون المستشهد في السفر، فلو كان هذان الشاهدان مسلمين، لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر، لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر.
(1)
معاني القرآن للنحاس (2/ 377).
(2)
تفسير البغوي (3/ 112).
(3)
تفسير أبي حيان (4/ 392).
3 -
أن الله جل وعلا قال في الآية: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة:106] فدلت الآية على وجوب الحلف على هذين الشاهدين بعد الصلاة، وقد أجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف، فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين.
4 -
أن سبب نزول الآية المتقدم - دال على أن المراد بقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] أي: من غير أهل الإسلام، حيث كان الشاهدان نصرانيين.
(1)
الترجيح: والقول الراجح هو: أن المراد بالآية غير المسلمين، لأن الخطاب في أول الآية توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذكر للقبيلة، فقال من جل ذكره:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينٍ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، ثم قال:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] يعني من غير المؤمنين، فلم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع الكناية إليه.
(2)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير الرازي (12/ 115).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 688).
ثانياً: بيان الأقوال في المراد بقول الله جل وعلا: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة:106]:
القول الأول: أن المراد بالصلاة في الآية هو: صلاة العصر.
وإنما كان المراد بها صلاة العصر: لأن الناس بعد وقت صلاة العصر يكونون أكثر تجمعاً في الأسواق والمساجد.
(1)
كما أن وقت صلاة العصر وقت معظم ومحترم عند جميع أهل الأديان، ولذا كانوا يجتنبون فيه الحلف الكاذب.
(2)
وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في بيان مكانة هذا الوقت: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: - وذكر منهم - ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم".
(3)
ولهذا فقد كان عليه الصلاة والسلام يتخير هذا الوقت لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه، كما فعل مع العجلانيين حيث طلب منهم الملاعنة من بعد صلاة العصر.
(4)
- وهذا قول: جمهور المفسرين.
القول الثاني: أن المراد بالصلاة في الآية هو: صلاة الظهر أو العصر.
لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما.
- وهذا قول: الحسن.
(1)
تفسير السمعاني (2/ 75).
(2)
تفسير البغوي (3/ 113).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: التوحيد - باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]
(حـ 7008 - 6/ 2710) - ومسلم في صحيحه - كتاب: الإيمان - باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف
- وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. (حـ 295 - 2/ 300).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب: التفسير - باب: قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6](حـ 4468 - 4/ 1771).
ومسلم في صحيحه - كتاب: اللعان - (حـ 3723 - 10/ 358).
القول الثالث: أن المراد بالصلاة في الآية هو: أي صلاة كانت من صلوات المسلمين.
لأن أي صلاة هي داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن قول الكذب والزور - كما قال جل وعلا:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
- وهذا القول: ذكره فخر الدين الرازي.
القول الرابع: أن المراد بالصلاة في الآية هو: صلاة أهل دينهم وملتهم.
لأنهم لا يعظمون صلاة المسلمين.
- وهذا قول: ابن عباس رضي الله عنه.
الترجيح: والقول الراجح هو أن المراد بالصلاة في الآية: صلاة العصر.
لأن هذا هو قول جمهور المفسرين، ولما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم لحرمة هذا الوقت.
(1)
ثالثاً: بيان الأقوال في الحكم الذي دلت عليه الآية وهو: جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم الذي قربت وفاته في السفر. هل هو محكم أم منسوخ؟:
القول الأول: أن هذا الحكم محكم.
- وهذا قول: جمهور المفسرين. وإليه ذهب: الإمام أحمد - وابن أبي ليلى - والأوزاعي.
(2)
القول الثاني: أن هذا الحكم منسوخ.
- وهذا قول: إبراهيم النخعي - وزيد بن أسلم.
(3)
وإليه ذهب: أبو حنيفة - ومالك - والشافعي.
(4)
والناسخ لهذا الحكم آيتين:
(1)
انظر: تفسير الطبري (5/ 111) - وتفسير الرازي (12/ 117).
(2)
انظر: تفسير ابن الجوزي (2/ 333) - وتفسير القاسمي (3/ 249).
(3)
معاني القرآن للنحاس (2/ 377).
(4)
تفسير ابن الجوزي (2/ 333).
1 -
الآية الأولى هي: قوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]. فالمراد بهذه الآية هو: المسلمون لا محالة، لأن الخطاب توجه إليهم باسم الإيمان في أول الآية، ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها، فهي عامة في جميع الأحوال.
ثم إنه جل ذكره قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282].
والكافر لا ترضى شهادته على مسلم.
فتضمنت هذه الآية نسخ شهادة أهل الذمة على المسلمين في حال السفر والحضر، وفي الوصية وغيرها.
(1)
- وقد رد هذا القول: بأن هذه الآية غير ناسخة لأن آية سورة المائدة خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصي، فإن الوصية تصح بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين، لأن ظروف السفر ظروف ضيقة قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها، فلو لم يبح الشارع شهادة غير المسلمين لضاق الأمر وضاعت الوصية وضاع كثير من الحقوق.
وأما آية سورة البقرة فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر.
وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين ومن ثم فلا نسخ.
(2)
2 -
الآية الثانية هي: قوله جل وعلا: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2].
فقد أمر الله جل وعلا في هذه الآية بإشهاد من كان عدلاً والكافر لا يكون عدلاً.
وقد رد هذا القول:
1 -
بأن المراد بالعدل هنا: من كان عدلاً في الاحترز عن الكذب، وليس المراد من كان عدلاً في الدين والاعتقاد.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 690).
(2)
دراسات الإحكام والنسخ في القرآن الكريم (175).
ومما يدل على ذلك: أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع مع أنهم ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولاً في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم.
فكذلك هنا نقبل شهادة الكافر متى كان عدلاً في قوله، وإن لم يكن عدلاً في دينه.
(1)
2 -
أن موضوع الآيتين مختلف، فآية سورة المائدة في الشهادة على الوصية في السفر عند الموت، وفقدان المسلم الذي يحمل الوصية ويشهد عليها.
وأما آية سورة الطلاق فهي في موضوع الطلاق والرجعة فيه، وفرق بين الموضوعين فموضوع الطلاق والرجعة فيه يحدث في مجتمع مليء بالمسلمين، ولا يلزم فيه تواجد الشاهد في ساعة معينة، بخلاف موضوع الموت، فإنه إذا أتى لا يرجى تأخيره.
وعلى هذا فإنه لا يمكن أن تكون هذه الآية ناسخة لآية سورة المائدة.
(2)
الترجيح: والقول الراجح هو: أن هذه الآية محكمة، وذلك لما يلي:
1 -
أنه قد صح عن جمع من الصحابة القول بأن سورة المائدة محكمة، ومنهم: ابن عباس - وعائشة - وعمرو بن شرحبيل - وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم، ومخالفة قول من شهد التنزيل ليس من عمل أهل الإسلام.
2 -
أن الجمع بين الأدلة أولى من إلغاء أحدها.
(3)
فتكون آية سورة البقرة، وأية سورة الطلاق، عامتين في الأشخاص والأزمان والأحوال.
وتكون آية سورة المائدة خاصة بالمسافر الذي قربت وفاته ولم يجد من المسلمين من يشهده على وصيته.
وعلى هذا فلا نسخ بين عام وخاص.
(4)
وبهذا يتبين صحة ما قاله الإمام الطحاوي في المراد بالآية. والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير الرازي (12/ 116).
(2)
فتح المنان في نسخ القرآن (310).
(3)
فتح الباري لابن حجر (5/ 483).
(4)
تفسير الشوكاني (2/ 91).