الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: منهجه في بيان الناسخ والمنسوخ
إن معرف الناسخ والمنسوخ من الأمور المهمة التي ينبغي لمن يتصدى لبيان كلام الله أن يعرفها، ولهذا أهتم به علماء المسلمين، فبحثوه في التفسير وعلوم القرآن وأصول الفقه وغيرها، لأن معرفته يترتب عليها ثبوت أو رفع حكم شرعي.
ولذا كان للإمام الطحاوي عناية بهذا العلم في تفسيره حيث يذكر الآيات التي قيل بنسخها، ويبين صحة ذلك القول أو يرده. ومن الأمثلة على ذلك: -
ما ذكره عند قوله جل وعلا: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
حيث قال: عن جابر بن عبد الله، قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد، فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال:"أرسلوا إلى أعلم رجلين فيكم"، فجاؤوه برجل أعور، يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما؟ " فقالا: فقد نحلنا قومنا بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما:" أليس عندكم التوراة فيها حكم الله؟ "، فقالا: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فنشدتكما بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى، وأنزل المن والسلوى، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون ما تجدون في التوراة من شأن الرجم؟ " فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وهو ذلك"، فأمر به فرجم، ونزلت:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42].
ففي هذا الحديث أن الله تعالى جعل في الآية المتلوة فيه لنبيه الخيار في أن يحكم بين اليهود إذا جاؤوه، وفي أن يعرض عنهم، فلا يحكم بينهم.
فقال قوم: هذه آية محكمة، وكان ما ذكر في هذا الحديث من رجم النبي ذلك اليهودي باختياره أن يرجمه، وقد كان له أن لا يرجمه لقول الله {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]. أي: فلا تحكم بينهم.
وقد خالفهم في ذلك آخرون من أهل العلم، وذكروا أن هذه الآية منسوخة بقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]
ورووا ما قالوا في ذلك. عن ابن عباس، قال: آيتان نسختا من هذه السورة، يعني سورة المائدة:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]. ـ قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم على كتابنا.
قال أبو جعفر: وكان حديث ابن عباس هذا قد حقق نسخ هذه الآية المتلوة في حديثه، وكان حكم من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من ولاة الأمور مثل الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم منها في كل واحد من هذين القولين اللذين ذكرناهما، وكان الأولى بالأحكام في ذلك عندنا - والله أعلم - هو الحكم بينهم لو لم تكن الآية منسوخة لا الإعراض عنهم، لأنهم إذا حكموا بينهم، شهد لهم الفريقان اللذان ذكرنا بالنجاة وترك مفروض عليهم في ذلك، لأن من يقول: إنهم حكموا، وعليهم أن يحكموا به، يقول: قد أدوا المفترض عليهم في ذلك، ويقول الآخرون: قد حكموا بما لهم أن يحكموا به، وخرج الحكام بذلك عندهم من ترك مفترض إن كان عليهم فيه، وإذا أعرضوا عنهم وتركوا الحكم بينهم، فأحد الفريقين يقول: قد تركوا مفترضاً عليهم، والفريق الآخر يقول: قد تركوا ما لهم تركه، وكان ما يوجب النجاة لهم عند الفريقين جميعاً، أولى مما يوجب لهم النجاة عند أحد الفريقين، ولا يوجبه لهم عند الفريق الآخر. هذا لو لم تكن الآية منسوخة، فإذا وجب بحديث ابن عباس الذي ذكرنا مع اتصال إسناده، وحسن سياقته أن تكون منسوخة بالآية التي تلونا بعدها، كان الحكم بينهم أولى، وكان التمسك بها أحرى.
(شرح مشكل الآثار - 11/ 435 - 441)