المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب تفسير القرآن الكريم - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٣

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌كتاب تفسير القرآن الكريم

‌كتاب تفسير القرآن الكريم

71 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي قال وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك

-[المعنى العام]-

حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أفضل الأعمال ليعملوا بها كما حرصوا على معرفة أعظم الذنوب ليبتعدوا عنها فهذا عبد الله بن مسعود الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال يسأله عن أعظم الذنوب عند الله فيقول له صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب عند الله أن تشرك بالله وتجعل له ندا مشاكسا مع أنه هو الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك واستعظم ابن مسعود هذه الجريمة فقال حقا يا رسول الله إن ذلك الذنب لعظيم جدا فأخبرني عن الذنب الذي يليه في العظم قال صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب بعد الإشراك بالله أن تقتل ولدك وتئده في الحفرة خشية الفقر والإملاق وخوف أن يأكل معك ويشاركك طعامك قال ابن مسعود ثم أي الذنب أعظم بعد هذين قال صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب بعد هذين أن تزاني زوجة جارك وتنتهك حرمات الجوار وترتكب الزنا مع من يجب عليك حمايتها من الفاحشة ووقايتها من السوء وأنزل الله تعالى مصداقا لهذا

ص: 289

الحديث قوله {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}

-[المباحث العربية]-

(أي الذنب أعظم) أي أشد عقوبة والسؤال عن أعظم الذنوب ليقع التحرز منه أكثر من غيره

(أن تجعل) المخاطب عبد الله بن مسعود وهو غير مقصود والمعنى أن يجعل الإنسان ندا والمصدر المنسبك من أن والفعل خبر مبتدأ محذوف والتقدير أعظم الذنب جعلك إلخ

(لله ندا) بكسر النون وتشديد الدال ويقال له النديد وهو نظير الشيء المعارض له في أموره فهو أخص من المثل لأنه المثل المناوئ من ند الفرس إذا نفر وخالف

(وهو خلقك) الجملة حالية لزيادة تقبيح الشرك

(ثم أي) التنوين في أي عوض عن المضاف إليه والتقدير ثم أي شيء أقل عظما

(تخاف أن يطعم معك) يطعم بفتح الياء أي تخاف من أكله معك إيثارا لنفسك عليه عند عدم ما يكفي أو بخلا مع سعة الرزق وفي ذلك يقول تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} والجملة حالية

(أن تزاني) أي تزني برضاها فالمفاعلة من الجانبين ولعله أشد قبحا من اغتصابها لما فيه من إفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني

(حليلة جارك) أي زوجته سميت بذلك لأنها تحل له وتحل معه

-[فقه الحديث]-

لا خلاف بين أهل الإسلام أن الإشراك بالله أعظم الذنوب على

ص: 290

الإطلاق والجمهور على أن القتل بغير حق أكبر الكبائر بعد الشرك وأما ما سواهما من الزنا وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل وأحكام ومراتب تختلف باختلاف الأحوال والمفاسد المترتبة عليها وإذا كان قتل النفس بغير حق يلي الإشراك بالله فأقبحه قتل الابن لأنه ضد ما جبلت عليه طبيعة الآباء من الرقة فلا يقع إلا من جافي الطبع لا سيما إذا كان القتل عن طريق الدفن حيا كما كانوا يفعلون فذكر الولد قيد كون القتل أقبح وكون الدافع مخافة أن يطعم معك زيادة في هذا القبح

ولا خلاف في أن الزنا مطلقا من أقبح وأعظم الذنوب لكنه قد تلازمه ملازمات تزيد من قبحه وتضاعف من عقوباته فمثلا الزنا بالأم في الحرم في الأشهر الحرم أعظم الزنا لكن الحديث لم يمثل به لأنه فرضي بعيد الوقوع بخلاف الزنا بحليلة الجار فإنه سهل الوقوع وكثيره وعظم جرمه ناشئ من أن الجار عليه الذب عن حريم جاره وكانت العرب تتمدح بصون حرم الجار قال عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن كلا من الثلاثة أن تجعل لله ندا وأن تقتل ولدك وأن تزاني حليلة جارك على ترتيبها في العظم نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن الذنوب تنقسم إلى عظيم وأعظم

2 -

التخويف من هذه الذنوب والزجر عنها

3 -

مدى حرص الصحابة على تعلم دينهم والبحث عن المخاطر لتجنبها

4 -

حسن السؤال مع حسن الأدب

ص: 291

5 -

سعة صدره صلى الله عليه وسلم لما يلقى عليه من الأسئلة

6 -

أن الخطاب في العظة لا يعني إدانة المخاطب

72 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا

-[المعنى العام]-

هذا حديث قدسي أسنده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه فقال قال الله عز وجل كذبني ابن آدم في أخباري بأني سأعيده كما بدأته لقد قلت في

ص: 292

محكم آياتي {كما بدأكم تعودون} وقلت {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} وقلت {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} فكذبني كثير من بني آدم وقالوا {أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} {بل قالوا مثل ما قال الأولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} ولم يكن لابن آدم أن يكذبني لأنه لو تدبر أقل تدبر ما كذبني لو تدبر كيف خلق أو مم خلق ما كذبني {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}

يشتمني ابن آدم ويؤذيني يسند إلى ذاتي المقدسة بعض النقائص وما يصح وما يليق به أن يشتمني ويؤذني ينسب إلى الصاحبة والولد وهما من صفات خلقي ينسب إلى ذاتي المقدسة الحاجة إلى الصاحبة وأنا الواحد الأحد الفرد الصمد {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} شتمني كثير من بني آدم وآذوني {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا} {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون} {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره}

ص: 293

-[المباحث العربية]-

(كذبني ابن آدم) كذبني بتشديد الذال من التكذيب أي نسبة المتكلم إلى الكذب في أخباره وأنه يحكي ويخبر بما لا يطابق الواقع والمراد من ابن آدم بعضهم وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عبدة الأوثان والدهرية أو من ادعى أن لله ولدا من العرب أو من اليهود أو من النصارى وفي رواية عند أحمد (كذبني عبدي)

(ولم يكن له ذلك) التكذيب أي لم يكن يليق ولم يكن يصح ولم يكن ينبغي أن يقع منه ذلك بعد أن أودع الله فيه عقلا وفطرة لو تأمل أدنى تأمل ما وقع منه

(وشتمني) الشتم إسناد النقص إلى الغير

(فأما تكذيبه إياي فزعم أني لن أقدر أن أعيده) بعد أن يصير ترابا والتعبير بزعم للإيماء بكذب ابن آدم في ذلك إذا الزعم مطية الكذب غالبا فزعم أن الله لا يقدر على الإعادة تكذيب لله في إخباره بالإعادة

(وأما شتمه إياي فقوله لي ولد) إنما سماه شتما له لأنه أسند النقص لله بنسبة الولد إليه

(فسبحاني) أي أنا منزه عن النقائص فنزهوني عنها تنزيها

(أن أتخذ صاحبة أو ولدا) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نزهوني عن اتخاذ الصاحبة أو الولد والمراد من الصاحبة الزوجة

-[فقه الحديث]-

إنما كان إنكار البعث تكذيبا لله تعالى لأنه يحمل في طياته نفي القدرة عنه ويحمل في طياته رد الخبر الصادق الوارد صريحا في القرآن وفي الكتب المنزلة ويحمل في طياته رد الأدلة والآيات الكونية الناطقة بالقدرة على البعث وسواء أكان التكذيب بلسان المقال كما حدث من كثيرين أو

ص: 294

بلسان الحال كما هو واقع ممن ينكر البعث ولا يؤمن به فهو تكذيب ورد للأخبار والآيات

وإنما كان نسبة الولد إلى الله شتما له تعالى لأن الولد يكون عن والدة تحمله وتضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثا له على ذلك والله تعالى منزه عن جميع ذلك قاله الحافظ ابن حجر وهو يتفق مع قوله تعالى {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة}

لكن لما كان بعض من قالوا بأن له ولدا لم يقولوا إن له صاحبة ولم يستبعدوا حدوث الولد من غير الصاحبة كحدوث حواء من آدم لما كان الأمر كذلك كانت نسبة الولد تنقيصا لما يستلزمه من سبق الرغبة في البنوة والحاجة إليها مما يتنافى مع الصمدية والاستغناء المطلق

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

بيان سبب نزول قوله تعالى {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} وقوله {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}

2 -

بيان سبب نزول قوله تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}

3 -

جحود ابن آدم وطغيانه وكفره بربه صاحب النعم التي يتقلب فيها صباح مساء

4 -

عفو الله تعالى وإمهاله ورحمته بالكافرين يأكلون خيره ويعبدون غيره لكنه لا يؤاخذهم عاجلا بذنوبهم ويمهلهم لعلهم يرجعون

ص: 295

73 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت الله عز وجل في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن قلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات} الآية

-[المعنى العام]-

من المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقا الآية بل جزء الآية والآيات دون العشر وما فوقها إلى السورة الكبيرة بتمامها وكان نزوله في الجملة حسب الظروف والمناسبات وحاجة المجتمع وكان عمر بن الخطاب في ذكائه ورؤيته البعيدة يرى المناسبة فيجري على لسانه ما تحتاجه هذه المناسبة من أحكام فينزل الوحي بالحكم والآية فيصادف ما قاله عمر موافقات تشير إلى صفاء النفس وإلهامها وإلى بصيرة نافذة عدها بعض العلماء وأوصلوها عشرا أو ما يزيد وهنا يتحدث عمر بنفسه عن ثلاث منها هي موافقة من عمر لما ثبت في اللوح المحفوظ من قرآن وموافقة من آيات القرآن عند نزولها لما ظهر من قبل على لسان عمر فقد وافق قول ربه وقول ربه عند نزوله وافق ما نطق به

ص: 296

قرأ عمر قوله تعالى في حق إبراهيم {إني جاعلك للناس إماما} وقوله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} فاستقر في نفسه أن شريعة الإسلام مقتدية بشريعة إبراهيم، ورأى وهو يطوف بالكعبة مقام إبراهيم أعني الحجر الذي وقف عليه وهو يبني الكعبة فأثر قدمه بدا ظاهرا للعيان مع مرور السنين الطوال وكان هذا الحجر المقدس ملصقا بالكعبة فخطر له لماذا لا نصلي عند هذا الحجر المقدس فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى كان خيرا وبركة فنزل قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}

وكان النساء لا يحتجبن من الرجال وكان أمهات المؤمنين يقمن بتقديم الطعام والشراب للرسول صلى الله عليه وسلم وضيفه بل كن يأكلن أحيانا في إناء واحد مع الرسول وضيفه فدخل عمر مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل مع عائشة فدعاه صلى الله عليه وسلم أن يأكل معها فجلس يأكل فأصاب إصبعه إصبع عائشة قال أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين وحملته الغيرة وهو مشهور بغيرته أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يدخل عليك في بيتك البر والفاجر من الرجال فاحجب نساءك وبعد زمن يسير نزلت آية الحجاب

ودخل مرة بيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى نساءه حوله متحزبات مجمعات على مطالبته بالتوسعة في النفقة ويقلن له بنات كسرى وقيصر يرفلن في الحرير والديباج والذهب ونحن كما ترى وكانت الغنائم التي تأتيه يوزعها في مصارفها ويضرب المثل للقادة والحكام من بعده أن لا يشبعوا وجيرانهم يموتون جوعا فلما رأى النساء عمر اتحنسن رهبة وخوفا منه فقال لهن يا عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إحداهن إنك فظ غليظ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم وأحلم فإن يأمر بشيء كنا أطوع إليه منك وقالت الأخرى عجبا لك يا عمر دخلت في كل شيء وتريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه

قفال عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خير منكن وبعد قليل من الزمن نزلت الآية الكريمة مع صدر سورة التحريم وهكذا كان رضي الله عنه ذا رأي مصيب يصادف الوحي ويصادفه الوحي

ص: 297

-[المباحث العربية]-

(وافقت الله عز وجل أي وافقت كلامه المثبت في اللوح المحفوظ

(في ثلاث) مسائل وأحكام إذ ألهمت حكمها قبل أن ينزل

(أو وافقني ربي في ثلاث) أي وافق رأيي وقولي حكم الله حين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فالرأي حين أبداه عمر كان موافقا لما في اللوح وحين نزلت الآية كانت موافقة لرأي عمر

(لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى) لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب والمعنى أتمنى أن تأمر باتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة أو شرطية وجوابها محذوف أي لكان خيرا

(يدخل عليك البر والفاجر) أي يدخل عليك بيتك البر والفاجر فيرى نساءك الآية رقم 53 من سورة الأحزاب وفيها {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}

(معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه) على مطالبتهن بالتوسعة أو على تحزبهم

(إن انتهيتن) جوابها محذوف تقديره كان خيرا

(أو ليبدلن الله رسوله) أو لأحد الأمرين أي يقع أحد الأمرين إما انتهاؤكن عن مضايقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خيرا لكن وإما يبدل الله رسوله أزواجا خيرا منكن

(حتى أتيت إحدى نسائه) حتى غاية لمخاطبة الأزواج أي خاطبتهن موجها الخطاب إلى كل منهن حتى أتيت إحدى نسائه قيل أم سلمة وقيل زينب بنت جحش

(أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم أما حرف استفتاح مثل ألا ينبه إلى أهمية الجملة بعده ويؤكدها وأصلها همزة الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي دخلت على ما النافية ونفي النفي إثبات

ص: 298

{عسى ربه إن طلقكن} الآية رقم 5 من سورة التحريم

-[فقه الحديث]-

جمع بعض العلماء موافقات عمر فبلغت عشرا أو تزيد منها رأيه في أسرى بدر وفي منع الصلاة على المنافقين وفي تحريم الخمر وفي الإفك حيث قال سبحانك هذا بهتان عظيم

فذكر الثلاث هنا لا ينفي ذكر غيرها في مواطن أخرى

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

منقبة عظيمة لعمر بن الخطاب وشهادة بحكمته وبعد نظره

2 -

ومشروعية الصلاة في مقام إبراهيم وقد روي أنه كان ملصقا بالبيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر فلما كان عهد عمر أبعده عن الجدار في مقصورة خاصة توسعه على الطائفين

3 -

مدح الغيرة على النساء ومشروعية حجاب أمهات المؤمنين

4 -

التحذير من مغاضبة النساء لأزواجهن

5 -

ما كان عليه نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما هو من طبيعة المرأة

6 -

مدى صبره صلى الله عليه وسلم على نسائه وحسن معاملته لهن

7 -

جرأة بعض النساء في مواجهة اللوم والدفاع عن الرأي

ص: 299

74 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا

} الآية

-[المعنى العام]-

كان اليهود قوما ماديين فكانت الأعاجيب والمعجزات الحسية طابع عهدهم طلبوا من نبيهم أن يدعو ربه ليخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها بهرهم السامري بالعجل فعبدوه احتالوا على حيتانهم يوم سبتهم طلبوا من موسى عليه السلام الماء من الحجر فضربه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ظلموا موسى عليه السلام وآذوه بأن في سوءته عيبا فأمر الله الحجر أن يجري بثوبه حالة اغتساله في البحر فجرى وراءه عريانا يقول ثوبي يا حجر فرأوه من غير عيب فبرأه الله مما قالوا نتق الله فوقهم الجبل كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم فأمرهم الله أن يأخذوا الكتاب ويعملوا بالتوراة وإلا وقع عليهم وكانت فيهم البقرة التي ضرب ببعضها الميت فأحياه الله وأنطقه وكانت فيهم الأعاجيب الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا وأكمل بالراهب المائة ثم تاب فكان من أهل الجنة من غير

ص: 300

عمل والرجل الذي لم يعمل خيرا قط سوى أنه كان ينظر المعسر ويتجاوز عن الموسر فتجاوز الله عنه وكان من أهل الجنة وكان فيهم الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة

وكانت التوراة قد تعرضت لبعض الكونيات كخلق حواء وأصل الخلق ونحو ذلك بشيء من التفصيل أكثر من تعرض القرآن وزاد الربانيون والأحبار في هذه الأخبار ما زادوا حتى أصبحت شبيهة بالقصص الذي يجذب السامعين واستهوى ذلك بعض كتاب المسلمين فشغلوا بقراءتها واستغل اليهود العرب تعطش المسلمين لهذه المعلومات على أنها تفصيل لما أجمل في كتابهم فأخذوا يقرءون التوراة المحرفة وما فيها من الدخيل بلغة اليهود العبرانية ويفسرونها للمسلمين بالعربية

استغلوا أن المسلمين قد أمروا بالإيمان بما أنزل على موسى عليه السلام حيث جاء في القرآن {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} وكان لا بد للإسلام أن يرشد الأمة إلى الوضع السليم من هذا الخليط أيصدقونه أم يكذبونه

وجاء الإرشاد والتوجيه لا تصدقوا أهل الكتاب في كل ما تسمعونه منهم وعنهم فإن في أخبارهم الأكاذيب والمفتريات والتحريف والدخيل ولا تكذبوهم في كل ما تسمعونه منهم وعنهم حتى ولو كان خارقا للعادة وغير معقول فقد كانت فيهم الأعاجيب اعتبروا أخبارهم قابلة للصدق وقابلة للكذب ولا تعتقدوا وقوعها ما لم يرد في الخبر الإسلامي الصحيح صدقها ولا تعتقدوا كذبها وعدم وقوعها ما لم يرد نص شرعي بنفيها وقولوا آمنا بما ثبت ويثبت أنه أنزل من عند الله أو وقع آمنا بكل ما جاء حقيقة عن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والنبيين جميعا لا نفرق بين ما جاء عن أحد منهم ونحن لما جاء عنهم مسلمون مصدقون

ص: 301

-[المباحث العربية]-

(كان أهل الكتاب) المراد بهم اليهود لأنهم هم الذين كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية للمسلمين

(يقرءون التوراة بالعبرانية) بكسر العين وسكون الباء لغة التوراة الأصلية

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معطوف على محذوف أي فعلم رسول الله فخاف على المسلمين فقال:

إلخ

(لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) أي فيما يقرءونه ويفسرونه على أنه الكتاب المنزل

(وقولوا آمنا إلخ) أي آمنا بما هو صدق في الحقيقة ونفس الأمر وبما أنزل فعلا لا بما يقرءون ويفسرون

-[فقه الحديث]-

الحديث يوضح سبب نزول قوله تعالى {قولوا آمنا بالله

} إلخ وكان هدف اليهود من القراءة والتفسير إقناع المسلمين باليهودية فالآية السابقة على هذه الآية تقول {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} ثم كانت الآية {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} الآيتان (135 - 136) من سورة البقرة

وفي سورة آل عمران آيتان مشابهتان {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} الآيتان 84، 85 من سورة آل عمران

ص: 302

وقد بينت آية سابقة على هاتين الآيتين في السورة نفسها ما يمكن أن يكون سببا لنزولهما فالآية 78 تقول {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}

ومن هنا كان النهي عن تصديقهم فيما يقرءون لمظنة كذبة لكثرة الدخيل وكان النهي عن التكذيب لاحتمال صدقة في نفس الأمر لكثرة الأعاجيب وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي قوله لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه أهـ

ومعنى ذلك أنه لا مانع من تكذيبهم في إثبات أشياء جاء شرعنا بنفيها أو في نفيهم لأشياء جاء شرعنا بإثباتها وهذا كلام حسن لكن ما ورد شرعنا بوفاقه من أخبارهم فتصديقنا في الحقيقة لإخبار شرعنا لا لإخبارهم والله أعلم

ويستفاد من الحديث مشروعية التوقف عن الخوض في مشكلات غير واضحة الحكم

ص: 303

75 -

عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} إلى قوله {وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم

-[المعنى العام]-

القرآن الكريم محكم كله رصين في حروفه وكلماته وآياته وسوره {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} معجز لأمة البلاغة أن يأتوا بسورة واحدة مثله {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} وهو في الوقت نفسه متشابه الهدف متشابه في حسن سياقه وعلو نظمه وهو في الوقت ذاته {منه آيات محكمات} واضحات المعاني {وأخر متشابهات} عميقات المفهوم لا يعلمها كثير من الناس وواجب المؤمنين إزاء المتشابهات أن يؤمنوا بها ويسلموا أنها من عند الله ويسارعوا بالإذعان والاستسلام سواء منهم من عجز عن فهمها عجزا كليا فاستغلق عليه معناها ومن وصل من العلماء إلى بعض معانيها وسواء أكان الله تعالى قد حجزها لعلمه وقصر معناها على غيبه يريد بذلك اختبار إيمان خلقه ومدى تسليمهم بمتعبداته واعترافهم بالعجز والقصور أو كان الله قد عمق المراد منها ليبذلوا الجهد في الفهم ويضاعفوا البحث في التفسير والتأويل عن هذا يقول سبحانه {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}

أما الذين في قلوبهم زيغ وضلال ولم يتمكن الإيمان في عقيدتهم {فيتبعون} ويتصيدون وشككون وينشرون {ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء

ص: 304

تأويله} تأويلا يساير هواهم ويبتعد كل البعد عن أهداف القرآن ومراد منزله

ويوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحذر من هؤلاء يوصي بإهمالهم وإهمال آرائهم يوصي بعدم الاطمئنان إلى إيمانهم وبأخذ الحيطة في مسالمتهم

وسواء أكان سبب نزول الآية مجادلة بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى أم مجادلتهم في الحروف المقطعة في أوائل السور وأن عددها بالجمل مقدار مدة أمة الإسلام سواء كان هذا أم ذاك فإن الآية الكريمة تحذر من اتباع المتشابه وتصيده والقول فيه بغير علم والقطع بالمراد منه من غير دليل وتحذر ثانيا من هؤلاء المتتبعين له وقانا الله شرهم وشر فتنتهم وانحرافهم

-[المباحث العربية]-

{هو الذي أنزل عليك الكتاب} الآية كلها مقصود حكايتها ولفظها بدل من هذه الآية والمراد من الكتاب القرآن علم بالغلبة

{هن أم الكتاب} أي أصله الذي يرجع إليه تحمل عليه المتشابهات

(فإذا رأيت) بكسر التاء والخطاب لعائشة

(الذين يتبعون ما تشابه) أي يتصيدون ويجرون وراء المتشابه بالتأويل الفاسد

(فأولئك) بكسر الكاف والخطاب في الإشارة لعائشة

(الذين سمى) المفعول محذوف أي سماهم الله ووصفهم بزيغ القلوب

(فاحذروهم) الخطاب للأمة أي فاحذروهم يا معشر المسلمين

-[فقه الحديث]-

ورد في القرآن ثلاث آيات أحداها تدل على أن القرآن محكم كله قال تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} الآية الأولى من سورة هود

ص: 305

ثانيتها: تدل على أن القرآن متشابه كله قال تعالى {لله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} الآية 23 من سورة الزمر

ثالثتها: تدل على أن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه قال تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} الآيتان 7، 8 من سورة آل عمران

ولما كان للإحكام معان متعددة لغة واصطلاحا وللتشابه كذلك حمل الإحكام في الآية الأولى على معنى الإتقان والقرآن كله بهذا المعنى محكم نظمت آياته نظما لا يطرأ عليه شيء يخل بفصاحته وبلاغته ثم إنه محكم كله من جهة المعاني ولا يلحقه تناقض ولا يوصف خبر منه بكذب وكل تشريع فيه منطو على مصلحة وحكمة

ولما كان للإحكام معان متعددة لغة واصطلاحا وللتشابه كذلك حمل التشابه في الآية الثانية على المعنى الأول فالقرآن كله متماثل من حيث كونه أحسن الحديث وكونه مثاني مكرر المواعظ والوعد والوعيد يزداد بتكرار تلاوته حلاوة بينما يمج كل حديث معاد

أما الآية الثانية وهي موضوع الحديث فهي التي خاض فيها العلماء

1 -

فمنهم من قال: المحكم ما عرف المراد منه ولو بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور وهذا القول منسوب إلى الحنفية وجمهور أهل السنة فهم يمسكون عن الخوض فيها ويقفون عند اللفظ ويسلمون المعنى المتبادر ثم يفوضون المراد فيقولون الله أعلم بمراده

2 -

وبعضهم يقول المحكم الفرائض والحدود والحلال والحرام

ص: 306

والوعد والوعيد وما يجب الإيمان والعمل به والمتشابه القصص والأمثال وما يجب الإيمان به ولا يجب العمل به وهذا الرأي مروي عن مجاهد وعكرمة وقتادة فهم يحملون المتشابه على المتماثل في القرآن والكتب الأخرى

3 -

وبعضهم يقول المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا كقوله تعالى {قل هو الله أحد} {وإلهكم إله واحد} والمتشابه ما احتمل أوجها في تفسيره

4 -

وبعضهم يقول المحكم الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال والمتشابه الذي يحتاج إلى أمارة أو قرينة تحدد معناه

وهناك أقوال كثيرة أخرى لا يحتملها المقام فمن أرادها فليرجع إلى كتابنا اللآلئ الحسان في علوم القرآن واختلف العلماء في معرفة المتشابه فبعضهم يرى أن الله استأثر بعلمه وأنه لا يجوز تتبعه والبحث فيه والفريق الآخر يعارضه وقبل توضيح الموقفين نحدد المراد من المتشابه موطن النزاع / 16 والمحقق يجد أن المتشابه المقصود بإغلاق أو فتح باب تأويله هو ما يتعلق بالساعة والحروف المقطعة وما يوهم التشبيه من صفات الله تعالى وأمثال ذلك مما لا يرفع الجدل تشابهه والتباسه

فالفريق الأول وهو المختار عند أهل السنة يمنعون التأويل ويقفون عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} ويبتدئون بقوله {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} إلخ على أنها جملة مستأنفة

والفريق الثاني وعلى رأسه مجاهد وابن عباس وأبو الحسن الأشعري والمعتزلة واختاره النووي يفتحون باب التأويل ويرون أنه يمكن الاطلاع على علمه ويعطفون {والراسخون في العلم} على لفظ الجلالة ويجعلون جملة يقولون حالا ولكل من الفريقين أدلة يطول هنا التعرض لها والرأي الأول أسلم والله أعلم

ص: 307

76 -

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة قالت عائشة وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء

} قالت عائشة وقول الله تعالى في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت فنهوا أن ينكحوا عمن رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال

ص: 308

-[المعنى العام]-

يحذر الإسلام من المساس باليتيم وماله بقدر ما يدعو إلى كفالته والعطف عليه يقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقيام الولي على مال اليتيم واستثماره قد يدفعه إلى الإسراف تارة أو الأكل منه بحجة الأجر ومقابل التنمية تارة أخرى أو إلى خلطه بماله تارة ثالثة مما يعرض مال الصبي أو بعض ماله إلى الضياع فحذر الشارع من الحالتين الأوليين بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} وحذر من الحالة الثالثة بقوله {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا}

وكان لا بد من سد المنافذ التي تؤدي إلى ظلم اليتيمة لأن اليتيمة أضعف كثيرا من اليتيم الضعيف بفقد أبيه في صغره قبل أن يدرك رشده وقبل أن يعرف مصلحة نفسه

كانت هناك حالتان قد يظلم بهما الولي اليتيمة التي في حجره وولايته

الحالة الأولى إذا كانت ذات مال وجمال فيرغب الولي في الزواج منها إذا كان غير محرم لها كأن يكون ابن عمها مثلا أو يرغب في تزويج ابنه منها طمعا في مالها واطمئنانا إلى أنه يمكنه أن لا يعطيها الصداق المستحق لمثيلاتها من غير اليتيمات فنزلت الآية الكريمة {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} تحمي اليتيمة وتحافظ على حقوقها وتأمر الأولياء بالابتعاد عن نكاح اليتيمة المصحوب بالظلم سواء أكان الظلم بنقص صداقها عن مهر المثل أم بالطمع في مالها وأمامهم النساء غير اليتيمات فليقصدوا الطيب ويبتعدوا عن الظلم الخبيث

الحالة الثانية إذا كانت ذات مال ولكن يرغب الولي عن الزواج بها

ص: 309

ولا يحب أن يتزوجها هو ولا ابنه خشيت الشريعة أن يعضلها وأن يمنعها من الزواج وأن يرفض من يتقدم لها حرصا منه على بقاء مالها تحت يده فنزلت الآية الكريمة {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط} والعدل أي راعوا ما يتلى عليكم في الكتاب في آية {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} وراعوا ما يتلى عليكم الآن في يتامى النساء اللائي لا ترغبون في نكاحهن ولا تؤتونهن ما كتب لهن وقوموا لليتامى بالعدل وحافظوا على حقوقهن في الحالتين {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما}

-[المباحث العربية]-

(سألها عروة) ابن الزبير بن العوام

(عن قول الله) أي عن تفسير قول الله وعن سبب نزوله

(وإن خفتم) أي وإن ظننتم وقوع الجور والظلم فخفتم عقاب الله

(أن لا تقسطوا) بضم التاء أي أن لا تعدلوا أي إن ظننتم عدم العدل يقال قسط إذا جار واقسط إذا عدل قيل الهمزة فيه للسلب أي أزال القسط والجور

(في اليتامى) المراد في اليتيمات فاليتامى جمع يتيم واليتيم من فقد أباه قبل البلوغ وفعيل يصدق على المذكر والمؤنث

(يا ابن أختي) هو ابن أخت عائشة ابن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير

(هي اليتيمة) كان الظاهر أن تقول هن اليتيمات لأن المقصود بيان المراد من حال اليتامى لكنها أعادت الضمير على الواحدة وبينت حالها وحالها حالهن

(تكون في حجر وليها) بكسر الحاء وسكون الجيم والحجر هنا

ص: 310

الكنف والرعاية والتربية والمراد من وليها القائم بتربيتها وولاية أمرها

(تشركه في ماله) بفتح التاء وسكون الشين وفتح الراء أي تشاركه فيما تحت يده من مالها وماله أو الإضافة لأدنى ملابسة والأصل في مالها الذي يديره

(ويعجبه مالها وجمالها) قد يكون جمالها ليس هدفا للولي فذكره لبيان مزيد من الرغبة مع ما ينافيه من نقصها حقها وغبنها في صداقها

(فيريد وليها أن يتزوجها) هذا في الولي غير المحرم كابن العم مثلا أما المحرم فقد يريد تزويجها ابنه مثلا للغرض نفسه

(بغير أن يقسط في صداقها) بضم الياء أي بغير أن يعدل في صداقها اعتمادا على ولايته وإطلاق تصرفه

(فيعطيها مثل ما يعطيها غيره) ممن يرغب في نكاحها والفعل معطوف على قسط أي بغير أن يقسط وبغير أن يعطيها

(فنهوا) فهمت عائشة النهي من جواب الشرط فانكحوا لأن المعنى إن خفتم نكاح اليتيمة ظلما فلا تقربوه وانكحوا غيرهن

(إلا أن يقسطوا لهن) الاستثناء من عموم الأحوال أي نهوا عن نكاحهن في جميع الأحوال إلا في حال العدل

(ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق) المراد من السنة هنا الطريقة وطريقة الفتاة في الصداق مهر المثل ولما كان مهر المثل قد يكون له بداية ونهاية طلب لهن النهاية مبالغة في إكرامهن ودفعا لأي توهم

(ما طاب لهم من النساء سواهن) قيل ما طاب أي ما حل ليخرج المحارم وقيل ما حسن في نظرهم ومن تعجبهم والتعبير بـ ما بدل من التي للعاقل لأن القصد الوصف لا الذات

(بعد هذه الآية) أي بعد تبليغه لهم آية {وإن خقتم .. } الآية رقم 3 من سورة النساء

ص: 311

{ويستفتونك في النساء} الآية رقم 127 من سورة النساء

وقول الله عز وجل في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} ليس ذلك في آية أخرى وإنما هو في الآية نفسها آية {ويستفتونك} ولعل الخطأ من الرواية ففي رواية أخرى في الصحيح فأنزل الله عز وجل {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم إلخ فحصل في روايتنا سقط

(رغبة أحدكم عن يتيمته) رغب يتغير معناها بحرف الجر يقال رغب فيه إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده ولما حذف حرف الجر في الآية (احتملت الأمرين) فقصدت عائشة حرف عن لتجعل الآية الأولى في الغنية نهيا عن الرغبة فيها مع الظلم في المهر وتجعل الثانية في المعدمة نهيا عن ظلمها والانصراف عنها

وحمل سعيد بن جبير الآية الأخيرة على المعنيين معا لحذف حرف الجر فقال نزلت في الغنية والمعدمة

والمروي عن عائشة أوضح ويمكن أن تشتمل الثانية النهي عن عضل الغنية ومنع تزويجها مع الرغبة عنها وعن إرادتها

-[فقه الحديث]-

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق أي نخل وفي رواية كانت شريكته في ذلك النخل وكان يمسكها عليه أي لأجله ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا

} إلخ

ومعنى هذا أن الآية نزلت في من لم يكن يرغب في نكاحها وإنما نكحها لمالها ولا تتعرض الآية لنقص الصداق

ومما هو معلوم أن سبب النزول قد يتعدد لمنزل واحد فالآية تنهي

ص: 312

عن زواج الولي باليتيمة من أجل مالها مع ظلمها أعم من أن يكون الظلم في الصداق أو في المعاشرة فلا تعارض بين الحديثين

-[ويؤخذ من الحديث فوق بيان سبب نزول الآية وتفسيرها]-

1 -

اعتبار مهر المثل في المحجورات فإن اليتيمة محجور على تصرفها وقد طلب لها أن تبلغ أعلى سنتها في الصداق

2 -

أن غير المحجورات يجوز نكاحها بأقل من مهر المثل وذلك بتفسير {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} أي بأي مهر تحصل الموافقة عليه

3 -

أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره قاله الحافظ ابن حجر وذلك لئلا يكون الإيجاب والقبول من شخص واحد

4 -

جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات إلا أن يكون قد أطلق عليهن ذلك استصحابا لما كان من حالهن

ص: 313

77 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي قلت اقرأ عليك وعليك أنزل قال فإني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال أمسك فإذا عيناه تذرفان

-[المعنى العام]-

قراءة القرآن من أفضل القرب ففي الصحيحين الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران

وسماع القرآن بتدبر وخشوع له أجر القارئ بل قيل القارئ كالحالب والسامع كالشارب وكان صلى الله عليه وسلم أحيانا يقرأ على أصحابه ليحفظهم ويعلمهم كيفية الأداء وأحيانا أخرى يطلب منهم أن يقرءوا أمامه وهو يستمع لقراءتهم للاطمئنان على حسن أدائهم وليمتع سمعه بحلاوة القرآن كما متع ويمتع لسانه بقراءته

وفي هذا الحديث يطلب صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود، ويتعجب ابن مسعود من هذا الطلب كيف يقرأ على من نزل عليه القرآن إن وضعه أن يسمع القرآن من جبريل لا من

ص: 314

ابن مسعود يقول كيف أقرأ عليك يا رسول الله القرآن وعليك أنزل وكيف أقرأ وأنت القارئ المبلغ ولم يكن دافع الرسول صلى الله عليه وسلم للطلب الاطمئنان على حسن الأداء بل كان حب السماع والرغبة في التدبر فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فاقرأ صدع ابن مسعود للأمر وبدأ يقرأ سورة النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطرق ساكن يملؤه الخضوع والخشوع حتى أتى ابن مسعود على الآية رقم 41 {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} أي ما أهول الموقف العظيم الذي تشهد فيه الجوارح على أصحابها {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} {وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} إن الموقف لا يحتاج شهودا لكن الشهود للفضيحة والإشهار والإذلال يأتي كل نبي فيشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ولكن المكذبين من أمته فعلوا كيت وكيت يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيشهد على أمته كما يشهد الأنبياء ثم يشهد على الأمم السابقة بأن أنبياءهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة فلا عذر لمعتذر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل محكمة عليا عادلة لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وكيف يشهد العزيز عليه عنت الناس الحريص عليهم الرءوف الرحيم كيف يشهد شهادة تؤدي بكثير من البشر إلى النار إنه لموقف صعب يقطع القلب الرقيق والإحساس المرهف لقد بكى صلى الله عليه وسلم حين سمع الآية وتصور الموقف وأشار إلى ابن مسعود يقول له قف أمسك عن القراءة كف كف ونظر ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سيلا من الدموع تنحدر من عينيه على خديه صلى الله عليه وسلم

-[المباحث العربية]-

(اقرأ علي) المفعول محذوف أي اقرأ علي القرآن

(آقرأ عليك وعليك أنزل) الاستفهام للتعجب أي أتعجب من قراءتي على المنزل عليه وجملة وعليك أنزل جملة حالية وقدم المتعلق على الفعل للقصر

ص: 315

(فإني أحب أن أسمعه من غيري) تعليل لطلب القراءة أي لأني أحب أن أسمعه من غيري

(فقرأت عليه سورة النساء) وهو لم يقرأ السورة كلها فالمراد قرأت عليه أول سورة النساء

{فكيف إذا جئنا .. } الآية كلها مقصود لفظها وحكايتها مفعول به لبلغت

{وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قيل إن المشار إليهم الأمم السابقة وقيل الشهداء وهم الأنبياء فالمشار إليه متقدم ذكرا وقيل أمة محمد فالمشار إليه حاضر

(أمسك) عن القراءة

-[فقه الحديث]-

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله جل ذكره {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وهذا المعنى هو أولى الاحتمالات في الشهادة المرادة من الحديث

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

حب سماع القرآن وأنه كحب القراءة شرعا

2 -

أن المطلوب من القراءة والسماع التدبر والتفهم

3 -

استحباب البكاء عند قراءة أو سماع آيات هول القيامة وآيات عذاب النار

ص: 316

4 -

فيه منقبة عظيمة لابن مسعود بحفظه للقرآن واختياره للقراءة رضي الله عنه

5 -

فيه إثبات هول القيامة وموقف الشهداء على الأمم

6 -

فيه أن ترتيب الآيات في سورها توقيفي

7 -

في رد ابن مسعود واستفهامه حسن أدب الصحابة وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

8 -

في رده صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود عطف المسئول الكبير على السائل وترفقه به وتعليل أوامره

78 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال وهل بلغكم الخبر فقالوا وما ذاك قال حرمت الخمر قالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل

ص: 317

-[المعنى العام]-

كانت الخمر في الجاهلية مشروبا يجلس له الرجال مجتمعين لذته في اجتماعهم ودوران الكأس عليهم ومسامرتهم أثناء الشرب وبعده حين تأخذ الخمر بالعقول فينطق شاربوها بما لا يقبلون أن ينطقوا به في كمال وعيهم ويتصرفون بما لا يليق أن يتصرفوا به لقد علموا أن الخمر فيها إثم كبير لكن منافعهم منها من حيث إنها تبعث الحرارة في الجسم وتمنحه بعض الخفة وبعض النشاط إذا كانت كميتها في حدود مناسبة كانت هذه المنافع البسيطة قد غلبتهم وجعلتهم يستهينون بما تحدثه من إثم كبير وجاء النهي عن الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فامتنع الكثيرون عن شربها قبيل الصلوات أو شرب الكثير منها الذي يأخذ بعقولهم واستمرت هذه الحال إلى سنة ست من الهجرة وكان العقلاء من المسلمين لا يشربونها أو لا يكثرون منها بل كان بعضهم يتمنى أن لو حرمت لقد رأوا بأعينهم ما تجره الخمر عليهم من الويلات والعداوات حتى إن قبيلتين من الأنصار اجتمعوا فشربوا حتى ثملوا فعبث بعضهم ببعض لطخوا وجوه بعضهم وعبثوا في شعورهم فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر القبيح فيقول صنع هذا أخي فلان والله لو كان بي رحيما ما فعل بي هذا وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فوقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية رقم 90 من سورة المائدة فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حضر ثم بعث مناديا ينادي في المدينة ألا إن الخمر قد حرمت ووصل صوت هذا المنادي إلى مجموعة من الرجال يشربون الخمر في بيت أبي طلحة يسقيهم أنس بن مالك وجاء المنادي على بابهم وخرج إليه أنس يسأله الخبر فيؤكد له المنادي أن الخمر قد حرمت وكأن الموجودين بالدار كانوا يتمنون ذلك فما إن سمعوا حتى قالوا لأنس اكسر أواني الخمر بعد

إراقة ما فيها ولم يتردد ولم يراجع ولم يشك في

ص: 318

الخبر أحد منهم فقام أنس بإراقتها وكسر قلالها وقام كثير من المسلمين في كثير من البيوت بإراقتها في الطريق فكان الرائي يرى سيلا يجري في شوارع المدينة المنورة

-[المباحث العربية]-

(ما كان لنا خمر غير فضيخكم) الفضيخ بفاء مفتوحة وضاد مكسورة على وزن عظيم اسم للبسر إذا شقق ونبذ والبسر هو البلح الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يطلق على خليط البسر والتمر والمعنى ما كان لأهل المدينة خمر بمعنى عصير العنب وغيره غير نبيذ البسر والرطب والتمر

وفي رواية لأنس كنت أسقي من فضيخ زهو وتمر والزهو بفتح الزاي وسكون الهاء البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب وفي رواية للبخاري عن أنس أيضا حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد يعني بالمدينة خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر

والخمر ما خامر العقل أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وسمي العصير خمرا لأنه يفعل ذلك بالعقل وقيل لأنه يغطى حتى يغلي أي يخمر واللغة الفصحى تأنيث الخمر وحكي جواز التذكير وتؤنث فيقال خمرة

(فإني لقائم أسقي) خمرا والضمير لأنس وكان هو الساقي لأنه كان أصغرهم سنا وكان السقي في منزل أمه وفي رواية أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر وفي رواية أسقيهم حتى كاد الشراب يأخذ فيهم

(أبا طلحة وفلانا وفلانا) في رواية للبخاري عن أنس كنت أسقي أبا عبيدة أي ابن الجراح وأبا طلحة وهو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس وأبي بن كعب وكان السقي في بيت أبي طلحة وفي رواية عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا

ص: 319

(إذ جاء رجل) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه وعند مسلم فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت فيحتمل أن يكون الرجل هو المنادي

(قالوا أهرق هذه القلال) في رواية هرق بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف والأصل أرق فعل أمر فأبدلت الهمزة هاء وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمز والهاء معا كما في روايتنا قالوا وهو نادر وجاء في رواية أكفئها من الإكفاء وهو الإمالة والقلال جمع قلة وكانت جرة كبير

(فما سألوا عنها ولا راجعوها) أي ما شكوا في الخبر وما ترددوا في تنفيذه

-[فقه الحديث]-

جزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية سنة ست من الهجرة وقد أخرج البيهقي مرفوعا وصححه ابن حبان اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث وأنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه

والحديث صريح في أن الصحابة اعتبروا الفضيخ خمرا مع أنه ليس من عصير العنب وجمهور العلماء على أن الخمر في الشرع اسم لكل ما يسكر سواء أكان من عصير العنب أو من نقيع التمر أو الزبيب أو العسل أو غيرها للحديث الصحيح كل مسكر خمر

قال الحافظ ابن حجر استدل بالحديث على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا على أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع ولم يستفصلوا وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وخالف في ذلك الحنفية فقالوا يحرم المتخذ من العنب قليلا أو كثيرا إلا إذا طبخ وفي المتخذ من غير العنب لا يحرم منه إلا القدر الذي

ص: 320

يسكر وما دونه لا يحرم أهـ

وأدلة هذه المسألة كثيرة ومتشعبة في المطولات مما لا يليق بهذا المختصر وفتح الباري فيه غناء عن جميع المبسوطات

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

استدل بالحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية ثم حرمت وقيل كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل وبالغ النووي في الرد على هذا القول الأخير فقال ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له وقد قال الله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها فدل على أن ذلك كان واقعا

وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع فنسخت فيه قولان للعلماء والراجح الأول

2 -

وفي الحديث إجازة خبر الواحد والعمل به فإن المخبر بتحريم الخمر واحد وقد قبل خبره وعمل به

3 -

مدى التزام الصحابة بالشريعة ومسارعتهم إلى إنكار المنكر بإزالته والله أعلم

ص: 321

79 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار

-[المعنى العام]-

خلق الله الزمان ظرفا لأفعال العباد ولصالح العباد يدبرون أمورهم بواسطته ويحددون مواقيتهم به الليل والنهار وساعاتهما والشهر والعام بل عمر الأشياء وعمر الإنسان نعمة عظيمة من نعم الله {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} الآية 5 من سورة يونس

ومن كفر الإنسان وجحوده أن لا يشكر نعمة الله وأن لا يقدرها قدرها وأن لا يستفيد منها وأكثر من ذلك جحودا أن يحول النعمة بسلوكه الخاطئ إلى نقمة وأن يسند أخطاءه إلى غيره وأن يتهم البريء وأن يلصق العيب الذي يقع فيه إلى الزمان أو المكان فيلعن الأرض ويسب الزمان وهو لا يدري أنه بذلك يسب خالقهما ومدبرهما ومسخرهما

منتهى الكفر والجحود أن يسب الإنسان النعمة ويؤذي المنعم بها يسب الزمان والدهر والله سبحانه وتعالى هو خالق الزمان والدهر وبيده تصريف الأمور في الأزمنة والأمكنة التي يقدرها يقلب الليل والنهار ويداول الأيام بين الناس يعطي ويمنع مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير إن أنعم فبمحض الفضل وإن سلب فوديعته يستردها متى شاء له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه المآب

ص: 322

-[المباحث العربية]-

(قال الله تبارك وتعالى هذا حديث قدسي، أوحي به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث به عن ربه جل وعلا

(يؤذيني ابن آدم) قال القرطبي معناه يخاطبني من القول بما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي والله منزه عن أن يصل إليه الأذى وإنما هو من التوسع في الكلام والمراد أن من وقع منه ذلك تعرض لسخط الله

(يسب الدهر) الدهر الزمان جعل ظرفا للأمور وكانت عاداتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا بؤسا للدهر وتبا للدهر والجملة مستأنفة لبيان كيفية الإيذاء

(وأنا الدهر) الدهر بالرفع وفي الكلام مضاف محذوف أي أنا خالق الدهر وصاحبه ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعل فكأنه قال لا تسبوا الفاعل فإنكم إذا سببتموه سببتموني

(أقلب الليل والنهار) أي إن الدهر حادث بتقليب الليل والنهار ولا فعل له من خير أو شر

-[فقه الحديث]-

كان الكثيرون من أهل الجاهلية لا يؤمنون بإله ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر فيعتقدون أن الدهر فاعل مدبر يسندون إليه الكوارث والنعم وكانت هذه الخرافات عقيدة لهم للجهل والبعد عن العلم فنعى القرآن عليهم بأنهم {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون}

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

إبطال مذهب الفلاسفة الدهريين ومن وافقهم من مشركي العرب المنكرين للصانع

ص: 323

2 -

أنه لا يجوز نسبة الأفعال للدهر على سبيل الحقيقة على أن الدهر فاعل مدبر فمن اعتقد ذلك فهو كافر وأما من نطق بذلك دون اعتقاد فهو آثم متشبه بأهل الكفر والضلال

3 -

أخذ ابن حزم من قوله وأنا الدهر أن الدهر اسم من أسمائه تعالى

80 -

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي أو لعمر فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى {إذا جاءك المنافقون} فبعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد

-[المعنى العام]-

بعد غزوة بني المصطلق وقد نزل جيش المسلمين بعد الانتصار على ماء يسمى ماء المريسيع تشاحن أجير لعمر بن الخطاب مع حليف لعبد الله بن أبي كبير المنافقين من أجل الماء فكسح أجير عمر حليف بن

ص: 324

أبي فنادى الأخير يا للأنصار ونادى أجير عمر يا للمهاجرين وخف إليهما نفر من الفريقين وكادت الفتنة تشتعل بين المهاجرين والأنصار لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله دعوها فإنها منتنه أي دعوا العصبية والقبلية فإنها كريهة وقد دفنها الإسلام وانحسر الفريقان واجتمع فريق من المنافقين بعبد الله بن أبي يقولون له كنت ترجي وتدفع فصرت لا تضر ولا تنفع فأخذته الحمية فقال نافرونا وكاثرونا في بلادنا ما مثلنا إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن منها الأعز الأذل وقال لمن معه من المنافقين لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وكان غلام من الأنصار يدعى زيد بن أرقم قريبا من المنافقين سمع كلامهم فأخبر بذلك رئيس قومه الخزرج سعد بن عبادة فأخبر سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيدا فسأله فحكى ما سمع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك أخطأ سمعك لعلك شبه عليك ودعا عبد الله بن أبي فسأله فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا وقال أتباعه يا رسول الله كبيرنا تكذبه وتصدق عليه صبيا لا يدرك وأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضيق وأدرك عمر وكبار الصحابة صدق الصبي فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق المنافق قال صلى الله عليه وسلم لا قال فمر معاذ بن جبل فليقتله قال لا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وقد بلغه الخبر فقال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه وإني أخشى أن يقتله أحد فتكرهه نفسي وتأخذني الحمية ضده فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فقال صلى الله عليه وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ثم قال يا عمر أذن في الناس بالرحيل وكانوا

في منتصف الليل وفي ساعة لا يرحل فيها الجيش عادة لكنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يشغل الناس بالسفر عن الفتنة وكانت عائشة في هذه الساعة قد انقطع عقدها تبحث عنه بعيدا عن الجيش فكانت حادثة الإفك وكانت الإشاعة التي أطلقها عبد الله بن أبي ووصل الجيش أبواب المدينة ووقف عبد الله بن عبد الله بن أبي يمنع أباه من الدخول ويقول له والله لا آذن لك بدخولها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا عبد الله بن أبي ابنه

ص: 325

لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل لابنه أن يأذن له بالدخول فشهر سيفه في وجهه وقال له والله لا أدعك تدخلها حتى تقول أنا الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز فقال رأس النفاق صاغرا وظن الصبي زيد بن الأرقم وبعض الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبه وصدق ابن أبي فاغتم ولزم بيته خوفا من عتب من يلاقيه وجاءه من يزوره وجاءه عمه يقول له أهكذا تقول خبرا يكذبك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد همه وغمه ونزل القرآن الكريم يكشف المنافقين ويصدق خبر الصبي زيد بن أرقم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرك أذنه وبشره بأن الله صدقه وتلا عليه وعلى الصحابة سورة المنافقين وفيها {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} الآيتان 7، 8

-[المباحث العربية]-

(كنت في غزاة) الراجح أنها غزوة بني المصطلق

(عبد الله بن أبي بن سلول) رأس النفاق وسلول اسم أمه

(لا تنفقوا على من عند رسول الله) الخطاب للأنصار الذين أنفقوا على المهاجرين وقاسموهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم والمقصود بمن عند رسول الله المهاجرون

(حتى ينفضوا من حوله) أي حتى يتفرقوا عنه ولفظ من حوله من كلام ابن أبي ولم يحكه القرآن في الآية ولم يقصد الراوي بذكره التلاوة

(ولئن رجعنا من عنده) لفظ من عنده أي من جيشه وغزوته من كلام ابن أبي ولم يحكه القرآن أيضا

{ليخرجن الأعز منها الأذل} يعني بالأعز نفسه قاتله الله وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعزه الله ورفع ذكره

ص: 326

(فذكرت ذلك لعمي أو لعمر) أو هنا للشك من الراوي وفي سائر الروايات الأخرى في البخاري لعمي بدون شك والمراد بعمه هنا سعد بن عبادة وليس عمه حقيقة وإنما هو سيد قومه الخزرج

(ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما الذي أردته وقصدته حتى وصلت إلى تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لك

(ومقتك) أي وغضب عليك وهذا القول كان مبنيا على الظن لا على الواقع

{إذا جاءك المنافقون} الآيات مقصود لفظها وحكايتها مفعول به لأنزل

(إن الله صدقك يا زيد) صدقك بتشديد الدال أي قرر صدقك وفي رواية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام فقال وفت أذنك يا غلام مرتين أي كانت أذنك وفية مؤدية واعية لما سمعت

-[فقه الحديث]-

ظاهر قوله فأنزل الله عز وجل {إذا جاءك المنافقون} من غير ذكر نهاية ما أنزل قد يوهم أن السورة قد نزلت حينئذ كلها لكن الروايات الأخرى في الصحيح تثبت نهاية ما أنزل آنذاك وأنه إلى قوله {ليخرجن الأعز منها الأذل} فيكون الذي نزل {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} ويبدو أن هذا القدر من السورة نزل أولا فقيل لعبد الله بن أبي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك فجعل يلوي رأسه ممتنعا مستكبرا فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} ويبدو أنه لتقارب وقت النزولين واتصال موضعهما ذكر الكل كأنه نزل دفعة واحدة والله أعلم

ص: 327

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم والاقتصار على معاتباتهم ذكره الحافظ ابن حجر وعندي أن ذلك ليس من الهفوات التي يترك أصحابها أو يعاتبون عليها لكن كان سبب هذه المعاملة عدم التأكد من الخبر

2 -

التوقف عن الحكم بناء على أخبار غير جازمة وبدون بينة وقبول عذر من يعتذر حينئذ وتصديق إيمان من يحلف وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك

3 -

تأنيس وتأليف ضعاف الإيمان لئلا ينفروا أتباعهم وبخاصة عند عدم الإدانة أو في سفساف الأمور

4 -

جواز تبليغ الإمام أخبار بعض الرعية من أجل المصلحة العامة

5 -

جواز تبليغ المقول فيه قولا قيل به ما لم يقصد بذلك الإفساد المطلق وليس ذلك من النميمة وتعتمد في مثل ذلك الموطن قاعدة ترجيح المصلحة العامة على المفسدة الخاصة

6 -

في الحديث منقبة عظيمة لزيد بن الأرقم رضي الله عنه

7 -

ذم النفاق والتحذير من المنافقين وحث المؤمن على أن يكون حذرا فطنا

ص: 328