الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب النكاح
النكاح من نكح ينكح من باب ضرب وفتح ويقال هي ناكح وناكحة وأصل النكاح في اللغة الضم والمخالطة يقال نكح المطر الأرض ونكح النعاس عينه ونكحت الحصاة أخفاف الإبل ثم أطلق على الوطء لأنه ملزوم وعلى العقد لأنه سبب الوطء فصار حقيقة عرفية شرعية وفي حقيقته الشرعية ثلاثة أقوال
الأول قول الجمهور وهو أصحها أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وحجتهم في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل أنه لم يرد في القرآن إلا للعقد وقوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} معناه حتى تتزوج أي يعقد عليها لأن العقد لا بد منه نعم مفهومه أن ذلك كاف بمجرده لكن بينت السنة أن لا عبرة بمفهوم الغاية بل لا بد بعد العقد من ذوق العسيلة كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق ثم العدة
الثاني قول الحنفية ووجه للشافعية أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وهو بمعنى القيد يسند للرجل والمرأة قال تعالى {حتى تنكح زوجا غيره}
الثالث أنه حقيقة فيهما بالاشتراك ويتعين المقصود بالقرينة فإذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان أو أخت فلان أرادوا عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الوطء قال ابن حجر وهذا أرجح في نظري
ومن فوائده أنه سبب وجود النوع الإنساني ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة منها غض البصر وكف النفس عن الحرام إلى غير ذلك.
5 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"
-[المعنى العام]-
كان علي كرم الله وجهه في أناس ممن أرادوا أن يحرموا أنفسهم من الشهوات رغبة في التبتل والانقطاع إلى العبادة فذهبوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن الواحدة تلو الأخرى عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقوم به من الطاعات سرا في بيتها وفي ليلتها فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر ويقوم وينام ويقضي مآربه من النساء ويأكل من الطيبات ويلبس من المباحات دون إسراف ودون حرمان كانوا يأملون في الحصول على مبالغات الرسول في التبتل والعبادة ليقتدوا به فلم يجدوا تشددا ولا إسرافا بل بعضهم اعتدالا وإنصافا ومع ذلك عزموا على المضي في مغالاتهم قال بعضهم لبعض لا ينبغي أن نقيس أنفسنا بالرسول الذي أمنه ربه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فسأداوم على قيام الليل كله بالصلاة وقال آخر وأما أنا فسأصوم العام كله لا آكل إلا في الليل ولا أفطر إلا الأيام التي حرم الله
صومها وقال الثالث وأما أنا فسأعتزل التمتع بالنساء فلن أتزوج أبدا لأتفرغ لعبادة الله فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقال لهم أنتم الذين قلتم كذا وكذا قالوا نعم يا رسول الله دفعنا إلى ذلك خوفنا من عقاب الله قال عليه الصلاة والسلام رفقا بأنفسكم فما أيسر الدين إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى إني أكثر منكم خوفا وخشية وأحرص منكم على التقوى لله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء وهذه سنتي التي أمرني الله بها فمن رغب عنها ولو إلى خير منها في نظره فليس من أتباعي
-[المباحث العربية]-
(عن أنس قال) الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف أي روي عن أنس و"قال" يسبك بمصدر من غير سابك والمصدر نائب فاعل روي
(جاء ثلاثة رهط) إضافة ثلاثة إلى رهط بيانية أي ثلاثة هم رهط والرهط من ثلاثة إلى عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالنفر والفرق بينهما أن النفر من ثلاثة إلى تسعة لا إلى عشرة كما في الرهط وقد جاء في مرسل سعيد بن المسيب أن الثلاثة هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون
(يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم أي العبادة السرية وقد جاء في رواية مسلم عن علقمة "في السر" وجملة "يسألون" مستأنفة كأن سائلا سال لم جاءا أو حال من ثلاثة باعتبار تخصصه بالإضافة أي جاء ثلاثة رهط سائلين
(فلما أخبروا) بالبناء للمجهول والمعمول محذوف تقديره فلما أخبروا بعبادته وجواب "لما" محذوف تقديره عجبوا
(كأنهم تقالوها) بتشديد اللام المضمومة أي عدوها قليلة أي رأى كل منهم أنها قليلة وأصله تقاللوها فأدغمت اللام في اللام لاجتماع المثلين والتعبير بالتشبيه للدلالة على أنهم لم يتقالوها بالفعل لأن الاستهانة
بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم استهانة به ولا تقع من صحابة أجلاء
(وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم الاستفهام إنكاري بمعنى النفي وأين خبر مقدم والضمير مبتدأ مؤخر والجار والمجرور متعلق بما تعلق به الخبر والواو عاطفة للجملة على محذوف والتقدير هذا شأنه صلى الله عليه وسلم ومكانته ولسنا قريبين منه
(وقد غفر له) بالبناء للمجهول وفي رواية "غفر الله له" والجملة في محل النصب على الحال من النبي أي لسنا قريبين من النبي حالة كونه مغفورا له ومستأنفة استئنافا تعليليا أي لسنا قريبين منه لأنه قد غفر له
(ما تقدم من ذنبه وما تأخر) كناية عن الكل والإحاطة
(أما أنا فإني) أما بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتفصيل نابت مناب مهما يكن من شيء والفاء لازمة لتلو تاليها
(أصلي الليل أبدا) اللام في الليل لاستغراق جميع أجزائه
وكلا الطرفين متعلق بالفعل كأنه قال أصلي في جميع حالات ساعات الليل وقال الحافظ ابن حجر أبدا قيد "لليل" لا لقوله "أصلي" وكأنه يريد إعرابه حالا على التأويل أي أصلي الليل متواصلا
(أصوم الدهر ولا أفطر) بالنهار سوى العيدين وأيام التشريق ولذا لم يقيد بالتأبيد كأخويه
(فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معطوف على محذوف أي فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فبلغ ذلك رسول الله فجاء
(أما والله) بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف تنبيه
(لكني أصوم وأفطر) استدراك على ما فهم من الكلام السابق لأن بلوغه صلى الله عليه وسلم منتهى الخشية والتقوى يوهم أنه لا يتعاطى شيئا من متع الدنيا ولا يفتر عن العبادة فرفع هذا بما ذكره كأنه قال أنا وإن تميزت عنكم بذلك لكني إلخ
(فمن رغب عن سنتي) أي من أعرض عن طريقتي
(فليس مني) في الكلام مضاف محذوف أي ليس من متبعي
-[فقه الحديث]-
مناسبة هذا الحديث لكتاب النكاح قوله صلى الله عليه وسلم "وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسبب مجيء هذا الرهط ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع بعضهم واتفقوا على أن يصوم بعضهم النهار ويقوم بعضهم الليل ولا ينام بعضهم على الفراش ولا يأكل بعضهم اللحم ولا يقرب بعضهم النساء ثم جاءوا يسألون ليقتدوا ولعل السر في أنهم لم يسألوه صلى الله عليه وسلم وسألوا زوجاته أنهم ظنوا أنه سيخفي عبادته السرية عنهم قولا كما أخفاها عملا شفقة منه على الأمة والرواية التي معنا تفيد أن الرسول خاطبهم بقوله "أنتم الذين قلتم كذا وكذا" إلخ لكن جاء في رواية مسلم "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا" وقد جمع بينهما بأنه خاطبهم فيما بينه وبينهم ثم منع أصحابه عامة عن التكلف مع عدم تعيينهم رفقا بهم وسترا عليهم وإنما قال لهم الرسول "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" ليرد بذلك ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم بأنه مع كونه لم يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون لأن المشدد لا يأمن الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه وقال ابن المنير إن هؤلاء بنوا أمرهم على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة فلما علموا أنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ظنوا عدم خوفه وحملوا قلة العبادة على ذلك فرد عليهم مبينا أن خوف الإجلال أعظم من خوف العقوبة ومرادهم من الذنب المغفور ما فرط من خلاف الأولى أو ما هو ذنب في نظره العالي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى في الواقع وقد اختلف العلماء في النكاح هل هو من العبادات أو من المباحات فذهب الحنفية إلى
أنه سنة مؤكدة على الأصح وقال النووي إن قصد به طاعة كاتباع السنة أو تحصيل الولد الصالح أو
عفة الفرج والعين فهو من أعمال الآخرة يثاب عليه وهو للتآئق إليه القادر على تكاليفه أفضل من التخلي للعبادة تحصينا للدين وإبقاء للنسل والعاجز عن تكاليفه يصوم أما القادر على التكاليف غير التآئق فالتخلي عنه إلى العبادة أفضل وعند أحمد في رواية عنه إن النكاح أو التسري لازم إذا خاف العنت والظاهر أن الأصل فيه الندب بكثرة الأحاديث المرغبة فيه وقد يعرض له الوجوب أو الحرمة أو الكراهة والمراد من قوله "فمن رغب عن سنتي فليس مني" من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس متصلا بي وهو يلمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه فإن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه كالورع فالمراد ليس على طريقتي الكاملة ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فالمراد ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم
2 -
وأنه إذا تعذرت معرفتها من الرجال جاز استكشافها من النساء
3 -
وأن من عزم على فعل خير واحتاج إلى إظهاره فلا بأس بإعلانه حيث يأمن الرياء
4 -
وأن من المباحات ما ينقلب بالقصد إلى الكراهة
5 -
وأن الدين يسر ومساير لطبائع البشر
6 -
وفيه فضل النكاح والترغيب فيه
7 -
وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين
8 -
وفيه رفقه صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأخذهم بالتي هي أحسن
9 -
وفيه إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية
10 -
وفيه حث على وجوب اتباع الرسول في أعماله
11 -
قال الطبري وفيه الرد على منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل وأما قوله تعالى {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} ففي الكفار قال الحافظ ابن حجر والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ولا يؤمن معها من الوقوع في الشبهات كما أن منع تناول ذلك يفضي إلى التنطع المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك النوافل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط
6 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"
-[المعنى العام]-
بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما جرت به عادة الناس من رغبتهم في التزوج من ذوات المال حتى كادت هذه الرغبة أن تقدم على ما عداها وكثير من الشباب الطائش يحرص كل الحرص على الجمال حتى يعميه عما ينبغي أن يهتم به من خلال وما درى هذا وذلك أن المال عرض زائل وإن الجمال في طريقه لا محالة إلى التحول والذبول ثم لم يحسب هذا وذاك حسابا لما يجره مال الزوجة من شقاق وعصيان وما يجره جمالها من تيه ودلال وغيرة وفساد وخيانة في كثير من الحالات ما لم يتحصن المال والجمال بالحسب والدين نعم الإسلام لا يكره الغنى ولا ينفر من الجمال ولكنه يدعو إلى جعل الدين والصلاح أساس الاختيار فإذا ما توفر فاطلب ما شئت من صفات الكمال فإن لم تحرص على صاحبة الدين ولم تظفر بها فإنك لا تأمن الفقر والإفلاس في كل شيء في المال والأخلاق والراحة والسعادة والهناء فكم من بيوت شاهدناها شامخة ثم انهارت على صخرة الفساد وما أعناها مالها وما نفعها جمالها فاظفر بذات الدين إن رمت السعادة وانشد ضالتك في غنى النفس ووفرة الصلاح والأخلاق
-[المباحث العربية]-
(تنكح المرأة) بالبناء للمجهول والمرأة نائب فاعل
(لأربع) تمييز العدد محذوف أي لأربع خصال
(لمالها) بدل من السابق بإعادة الجار للإشارة إلى استقلال كل في المقصد
(لحسبها) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب مأخوذ من الحساب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدده على غيره بالشرف وأما قوله صلى الله عليه وسلم "الحسب المال والكرم التقوى" فالمراد منه أن المال حسب من لا حسب له
(وجمالها) في هذه الرواية حذفت اللام الجارة للإشارة إلى أن هذه الصفة قد لا تقصد بذاتها بل تقصد تابعة لغيرها وفي مسلم بإعادتها في الأربع لإفادة أن كلا منها مستقل في الغرض
(فاظفر بذات الدين) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا تحققت ما فصلت لك فاظفر بذات الدين وذات بمعنى صاحبة وفي رواية لمسلم "فعليك بذات الدين" والخطاب لكل من يقصد النكاح
(تربت يداك) الجملة جواب لشرط محذوف تقديره إن خالفت ما أمرتك به وتفسيرها افتقرت يداك يقال ترب الرجل إذا افتقر ومعناه الأصلي التصقت يداه بالتراب ويلزمه الفقر وقيل هي كلمة جارية على ألسنتهم لا يراد بها حقيقة الدعاء بل القصد منها الحث على امتثال الأمر الذي قبلها وللعرب كلمات توسعوا فيها حتى أخرجوها عن حقيقتها لإرادة الإنكار أو اللتعجب أو التعظيم أو الحث على الشيء كما هنا ومن هذه الكلمات قاتلك الله لا أب لك
-[فقه الحديث]-
الكلام عن هذا الحديث يتعرض إلى النقاط التالية
1 -
بيان هذه المقاصد الأربعة وهل هي مقاصد عادية أو شرعية
2 -
بيان غيرها من المقاصد ووجه اقتصار الحديث عليها
3 -
الجمع بين الحديث وما يعارض ظاهره
4 -
كيفية التفصيل إذا وجدت بعض الصفات
5 -
بيان الكفاءة في النكاح وصلتها بهذه الصفات
6 -
ما يؤخذ من الحديث وإليك التفصيل
1 -
قال القرطبي معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها فهو أخبار عما في الوجود لا أنه وقع الأمر بذلك بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من ذلك لكن قصد الدين أولى فهو يبين العادة الجارية بين الناس ويوافق عليها ويقدم بعضها على بعض فالمال يعين الزوج عند الشدة وتستغني به المرأة عن مطالبة الزوج بما تحتاج إليه أو بما لا طاقة له بتحمله وقد يحصل له منها ولد فيعود إليه مالها والحسب يحفظ للرجل منزلة أدبية بين المجتمع الذي يعيش فيه وقد حمل عليه بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنطفكم" فكرهوا نكاح بنت الزنا وبنت الفاسق واللقيطة ومن لا يعرف أبوها والجمال يعف الزوج عن النظر إلى الغير ويشرح الصدر روى الحاكم "خير النساء من تسر إذا نظرت وتطيع إذا أمرت" والجمال مطلوب في كل شيء لا سيما في المرأة التي تكون قرينة وضجيعة هذا إذا لم يؤد الجمال إلى زهوها ودلالها وفساد أخلاقها أما الدين فهو سنام الصفات المبتغاة وهو اللائق طلبه من ذوي المروءات وأرباب الديانات لأن أثره عظيم وخطر فقده جسيم ولذا أرشد إليه صلى الله عليه وسلم بآكد وجه وأبلغه فعبر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار وبصيغة الطلب الدالة على الاهتمام بالمطلوب
2 -
نعم هناك مقاصد أخرى غير هذه الأربعة كالعاقلة والتي تحسن تدبير المنزل والمتعلمة والودود والولود والبكر وغير القريبة لضعف الشهوة وأما تزوجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت عمته فلبيان الجواز ولهدم قاعدة التبني وألا تكون ذات ولد من غيره إلا لمصلحة كما تزوج النبي أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة وإنما اقتصر الحديث على هذه الأربعة لأنها هي
التي ألف اعتبارها عند جمهرة الناس على أن الكثير من غيرها يمكن رده إليها
3 -
ولا يتعارض هذا مع ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا "لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن يهلكهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل" لأن المراد به النهي عن مراعاة الجمال أو المال مجردا عن الدين فلا يتنافى مع استحباب ذلك في المرأة إذا روعي الدين معه بدليل أمره صلى الله عليه وسلم لمن يريد التزوج بالنظر إلى المخطوبة وهو لا يفيد معرفة الدين وإنما يعرف به الجمال أو القبح
4 -
فإذا اختصت كل واحدة بخصلة أو أكثر من هذه الخصال قدم أكثرهن تقوى وأما التفاضل بين المسلمة والكتابية فإن استوتا في بعض الصفات دون بعض قدمت المسلمة قطعا وإذا اجتمعت جميع خصال الكمال في الكتابية وكانت المسلمة على النقيض منها كان للنظر في الترجيح مجال
5 -
وقد اختلف العلماء في كفاءة النكاح فقيل هي في الدين وقيل هي في الحسب وقيل هي في المال والأولى تحكيم العرف
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
الحث على تنشئة البنات على الدين والفضيلة
2 -
الحث على حسن اختيار الزوجة وأن يهتم بالصلاح أولا وبالذات
3 -
استدل به بعضهم على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة فإنه يقصد نكاحها لذلك فإن طابت به نفسا فهو له حلال وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق والصحيح أنه ليس له الاستمتاع بمالها من غير رضاها وليس له الحجر عليها في مالها.
7 -
عن سهل رضي الله عنه قال: مر رجل غني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما تقولون في هذا" قالوا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال "ما تقولون في هذا" قالوا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"
-[المعنى العام]-
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه مقاييس الرجال وأنهم لا يوزنون بهيئاتهم ولا بأموالهم وإنما المقياس الذي ينبغي أن يحفظوه ويعملوا به هو ما اعتمده الحكيم بقوله {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أراد أن يعلمهم ذلك فلم يلق إليهم الخبر إلقاء وإنما استخرج خطأهم في الحكم ثم جهلهم ليقع المقياس في نفوسهم كل موقع ويتمكن منهم فضل تمكن
رأى صلى الله عليه وسلم غنيا يقدرونه ويعظمونه لكنه ليس من الله في شيء فقال لهم وفيهم أبو ذر الغفاري ما تظنون بهذا الرجل الذي مر أمامكم قالوا رجل له وزن إن خطب بنت أحد منا لم ترد له يد وإن شفع لأحد لم ترد له شفاعة وإن تكلم أنصت له الحاضرون فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مر رجل آخر فقير دميم رث الهيئة يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم فقال ما رأيكم في هذا الرجل فأبدوا استخفافهم به وقالوا هذا جدير بالرفض إن طلب يد بنت أحد جدير بالرد أن شفع جدير بعدم الإصغاء لحديثه إن تكلم فقال صلى الله عليه وسلم هذا الفقير جدير بأن يفضل على ملء الأرض رجالا من أمثال ذلك الغني
-[المباحث العربية]-
(ما تقولون في هذا) ما اسم استفهام مفعول مقدم أي تقولون أي شيء في هذا والخطاب للحاضرين من الصحابة
(حري أن خطب أن ينكح) حري بفتح الحاء وكسر الراء وتشديد الياء بمعنى حقيق وجدير وينكح بضم الياء وفتح الكاف بالبناء للمجهول أي يزوج وحري خبر مبتدأ محذوف وإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف محذوف والجار والمجرور متعلق بحري والتقدير هو حري بالنكاح وخطب بفتح الخاء من الخطبة بكسرها وهي طلب النكاح ومفعول "خطب" محذوف وكذا جواب الشرط دل عليه ما قبله والتقدير إن خطب امرأة فهو جدير بالتزويج وجملة الشرط والجواب معترضة بين الجار والمجرور وبين متعلقه
(وإن شفع أن يشفع) أن يشفع بتشديد الفاء بمعنى تقبل شفاعته معطوف على "أن ينكح" وجملة الشرط والجواب معترضة أيضا ومثل ذلك يقال في الباقي
(وإن قال أن يستمع) بالبناء للمجهول وقد أسند إلى الذات مجازا والأصل إسناده إلى القول أي أن يستمع قوله
(هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) الإشارة الأولى للرجل الفقير والثانية للرجل الغني ومثل بالجر صفة وقد اكتسبت التعريف بالإضافة لقصد المماثلة في شيء معين وبالنصب على التمييز
-[فقه الحديث]-
لم يقف الحفاظ على اسم الرجل الغني ولعل إغفاله من الرواة قصد به الستر عليه أما الفقير فقالوا إنه جعيل بن سراقة وكان رجلا صالحا دميما أسلم قديما وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وقد بنى الصحابة تقديرهم للرجلين على أساس الغنى والحسب والجاه وفاضل الرسول بينهما على أساس الدين ليرشدهم إلى أن منزلة الرجال وكفاءتهم في التزويج ينبغي أن تقاس بهذا المقياس لا بذاك وليس في هذه المفاضلة تفضيل لكل فقير على كل غني وكل ما فيها تفضيل الفقير المذكور على الغني المذكور وقد تكلم الشراح في سر معرفة الرسول لحال الرجلين الدينية فقيل أنه حكم بما كان ظاهرا إذ كان الأول كافرا ويبعده أن يقول الصحابة فيه أنه جدير أن يزوج أن خطب والكافر لا يقبل طلبه وخطبته والأصح أنه كان مسلما وحكم الرسول على بواطن الأمور باطلاع الله إياه عن طريق الوحي
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
فضل جعيل بن سراقة إن ثبت أنه الفقير
2 -
أن السيادة لمجرد الدنيا لا أثر لها
3 -
الحث على عدم الاستهانة بالفقراء والمستورين فرب أشعث أغبر خير من ملء الأرض من الأثرياء
4 -
أن من فاته حظ من الدنيا أمكنه الاستعاضة عنه بالصلاح والتقوى
5 -
أخذ منه البخاري فضيلة الفقر فأخرجه في كتاب الرقاق
6 -
الترغيب في النكاح للصالحين بعد الترغيب في الحديث السابق على نكاح الصالحات ولذا أخرجهما البخاري معا في باب الأكفاء في الدين
8 -
عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة قالت عائشة لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة دخل علي فقال "نعم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"
-[المعنى العام]-
كانت حجرات أمهات المؤمنين متلاصقة من جريد النخل المغطى من الخارج بمسوح الشعر وكانت أبوابها مسوحا من الشعر يتناول الواقف سقفها بيده وكانت تسعا لكل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم حجرة
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة فسمعت صوت رجل يستأذن في الدخول على حفصة أم المؤمنين فنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة إني أسمع صوت رجل أجنبي يستأذن للدخول في بيتك دون وجودك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقد أنه فلان عم حفصة من الرضاع قالت عائشة وهل يجوز للعم من الرضاع أن يختلي ببنت أخيه من الرضاع قال نعم
قالت لو كان فلان وهو عمي من الرضاع حيا هل يجوز له الدخول علي في غيبتك قال نعم إن الرضاعة المعتبرة شرعا تحرم النكاح كما يحرم النسب فتبيح ما يترتب على ذلك من النظر والخلوة ونحوهما
-[المباحث العربية]-
(صوت رجل) لم يقف الحافظ على اسمه
(يستأذن في بيت حفصة) أم المؤمنين رضي الله عنها أي يطلب الأذن في دخوله عليها
(يستأذن في بيتك) للدخول على حفصة وقد أضيف البيت إلى حفصة سكنا وأضيف إلى ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا
(أراه فلانا) بضم الهمزة معناه أظنه والهاء مفعوله الأول وفلانا مفعوله الثاني وروي بفتح الهمزة، فأرى علمية بمعنى أعتقده فلانا
(لعم حفصة) هذه اللام مثلها في قوله تعالى {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} وفيها قال ابن الحاجب أنها بمعنى عن وقال ابن مالك وغيره أنها للتعليل
(قالت عائشة) الظاهر أن هذا من كلام (عمرة) الرواية عن عائشة ويحتمل أن يكون من كلام عائشة وكان مقتضى الظاهر قلت فهو من باب الالتفات
(ولو كان فلان حيا لعمها) أي لعم عائشة ولم يقف الحافظ على اسمه ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس لأن أبا القعيس والد عائشة من الرضاعة وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة وقد عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فأمرها النبي أن تأذن له بعد أن امتنعت وقولها هنا لو كان حيا يدل على أنه كان قد مات
(الرضاعة) أل في الرضاعة للعهد أي الرضاعة المعتبرة شرعا
-[فقه الحديث]-
سياق الحديث يدل على أن أم المؤمنين حفصة أذنت للمستأذن بالدخول ولعلها علمت من الرسول هذا الحكم قبل أن تعلمه عائشة وإجماع الأئمة على أن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وتبيح ما تبيح من النكاح ابتداء ودواما وتنشر الحرمة من الرضيع إلى أولاده فقط دون آبائه وأمهاته وأخواته أما الحرمة من المرضعة وصاحب اللبن فتنشر إلى الجميع فتحرم عليه وعلى أولاده هي وأصولها وفروعها وأخوتها وأخواتها لأنها صارت أمه كما صار صاحب اللبن أباه والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها من اللبن فإذا اغتذى به الرضيع صار جزؤه من أجزائها فكأن الرضيع صار جزءا منها فانتشر التحريم بينهم بخلاف قرابات الرضيع لأنه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب وحيث حرم عليه هؤلاء على التأبيد جاز له النظر والخلوة والمسافرة ولا ينتقض الوضوء باللمس دون سائر أحكام النسب كالميراث والنفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص ورد الشهادة وقد جاء في بعض الروايات "الرضاعة تحرم ما يحرم من النسب" قال القرطبي وهذا دال على نقل الرواية بالمعنى ثم قال ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين وقد رجح الحافظ ابن حجر الثاني لأنه يصار إلى الأول عند اتحاد الراوي والواقعة والقصة والزمن وليس ما هنا كذلك وقد استشكل بما جاء في البخاري من أن عم عائشة من الرضاعة جاء يستأذن على عائشة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأذن له بعد أن امتنعت إذ هذه الرواية تدل على أن عمها كان حيا وقولها في حديثنا "لو كان فلان حيا" يدل على أنه كان ميتا وأجيب بأنهما عمان من الرضاعة واختلفت جهة الاعتبار فيهما فأحدهما رضع مع أبي بكر وهو الذي قالت فيه لو كان حيا فهو أخ من الرضاع لأبيها من النسب والآخر هو أخو أبيها من الرضاعة فهو أخ من النسب لأب من الرضاع وهنا إشكال آخر ناشئ من سؤالها في حديثنا ثم توقفها في الثاني وكل منهما يدل على الحكم بوضوح وقد أجاب
عنه القرطبي فقال هما سؤالان وقعا مرتين في زمنين عن رجلين وتكرر منها ذلك إما لأنها نسيت
القصة الأولى وإما لأنها جوزت تغير الحكم فأعادت السؤال وقال عياض إن أحد العمين كان أعلى والآخر كان أدنى أو أحدهما كان شقيقا والآخر كان لأب فتوقفت عن أحدهما وسألت عن الآخر
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
استئذان الرجل في الدخول ولو كان محرما
2 -
جواز تنبيه الرجل إلى ما يعنيه من أمور بيته
3 -
إن الحلال يقطع أنف الغيرة
4 -
جواز مراجعة المفتي بالمثل والنظير.
9 -
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك فقالت إنه أخي فقال "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"
-[المعنى العام]-
تروي عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها في بيتها فوجد معها رجلا جالسا فأخذته الغيرة وشق عليه ذلك حتى بدأ الغضب في وجهه فانصرف الرجل فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة من هذا ولاحظت كراهيته له وظنت أن ذلك ناشئ من عدم معرفته صلى الله عليه وسلم برضاعته معها فقالت أنه أخي من الرضاع يا رسول الله وقد أعلمتنا أن أخوة الرضاع كأخوة النسب فقال صلى الله عليه وسلم ليس هذا من ذاك تأملن وتفهمن المراد من أخوة الرضاع لقد رضع هذا معك رضعة أو رضعات وهو كبير وذلك لا يحرم إنما الرضاعة المعتبرة التي تثبت الحرمة وتحل الخلوة هي ما تسد جوعة الطفل وتنبت لحمه وتنمي عظمه
-[المباحث العربية]-
(عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها) أي في حجرتها وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل يروي المحذوف أي روي عن عائشة دخول النبي عليها
(وعندها رجل) لم يدر اسمه قال في الفتح وأظنه ابنا لأبي القعيس وغلط من قال أنه عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة وكانت أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي وولدته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وأرضعته بالطبع فصار أخا لعائشة من الرضاعة لكن ليس هو الذي رآه النبي عندها قطعا
(فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك) في رواية مسلم "وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه" وعبرت بحرف التشبيه في الجملة الأولى تأدبا لصيانة وجه الرسول عن وصفه بالتغير وفي الثانية لدقة الحكم لأن الكره داخلي لا يجزم به لمجرد الرؤية
(فقالت إنه أخي) أي قالت عائشة إن الرجل الجالس أخي من
الرضاعة تريد بذلك رفع ما أغضبه وأكدت الجملة لأن موقف الرسول موقف المنكر
(انظرن من إخوانكن) من النظر بمعنى المعرفة والتأمل لا بمعنى الإبصار وفي رواية "ما إخوانكن" إيقاعا لما موقع من والأولى أوجه والأخوان جمع أخ لكنه أكثر ما يستعمل لغة في الأصدقاء بخلاف غيرهم ممن هو بالولادة أو الرضاعة فيقال لهم إخوة "من" اسم استفهام مبتدأ وما بعدها خبر أو بالعكس والجملة في محل النصب مفعول انظرن والخطاب لعائشة ونساء الأمة حيث الحكم عام والمعنى تحقق صحة الرضاعة ووقتها فإنما تثبت الحرمة إذا وقعت على شروطها وفي وقتها
(فإنما الرضاعة من المجاعة) تعليل للحث على إمعان النظر والتفكير وأل في الرضاعة للعهد يعني الرضاعة التي تثبت الحرمة ما تكون في الصغر حين يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت لحمه بذلك فيصير كجزء من المرضعة فيكون كسائر أولادها وفي رواية "فإنما الرضاعة من المجاعة"
-[فقه الحديث]-
مناسبة هذا الحديث لكتاب النكاح مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما الرضاعة من المجاعة فإنه يشير إلى مسألتين يتوقف عليهما تحريم النكاح وعدم تحريمه وهما
1 -
مقدار اللبن المحرم
2 -
وزمن الرضاعة المعتد به وفيهما خلاف بين الفقهاء
أما الأولى فقال مالك وأبو حنيفة كثير الرضاع وقليله في التحريم سواء ولو مصة لإطلاق الآية وهو المشهور عن أحمد وقال الشافعي لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان لأنها لا تغني من جوع فاحتاج الأمر إلى تقدير وأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات استنادا إلى ما رواه
مسلم عن عائشة "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس رضعات محرمات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ" ومن شواهده ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم" وما رواه النسائي عن عائشة "لا تحرم الخطفة والخطفتان" وفي رواية أخرى عنها "لا تحرم المصة والمصتان"
وأما الثانية فقد قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد المحرم من الرضاع ما كان في الحولين فلا يحرم الرضاع بعدهما لقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} فتمام الرضاعة حولان فلا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصر الرضاعة المحرمة عليها ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" وقال مالك يحرم ما كان في الحولين وما قاربهما بشهر أو شهرين أو ثلاثة ولا حرمة له بعد ذلك وقال أبو حنيفة إن مدة الرضاع ثلاثون شهرا ومن هذا يتبين أن الأئمة الأربعة متفقون على أن إرضاع الكبير لا يحرم لأنه لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم ولو كان إرضاع الكبير محرما لما تغير وجهه صلى الله عليه وسلم حينما دخل على عائشة وعندها رجل لذا كان على الأئمة أن يجيبوا على ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت "جاءت سهلة بنت سهيل القرشية وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وأنه قد بلغ مبلغ الرجال وأنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئا من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "أرضعيه تحرمي عليه" وفي رواية "فقالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير" فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال "قد علمت أنه رجل كبير" وفي رواية "فقالت إنه ذو لحية" فقال صلى الله عليه وسلم "أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة" وأجابوا بأن حديث سهلة منسوخ أو هو مخصوص بسالم وسهلة أو رخصة يلجأ إليها عند الحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه ويرد على حديث سهلة إشكال آخر هو كيف يلتقم سالم ثدي سهلة وهي أجنبية عنه وأجاب عياض باحتمال أنها حلبت اللبن ثم
شرب سالم من غير أن يمص الثدي وأجاب النووي بالعفو عن ذلك لأجل الحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر وظاهر قول النبي "أرضعيه" يقتضي ذلك لا الحلب
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
إن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع وحيث احتيج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به هو ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات
2 -
إن التغذية بلبن المرضعة تحرم سواء بشرب أو بأكل أو بأي صفة إذا وقع ذلك بالعدد المشروط حيث أنه يطرد الجوع خلافا لمن منعه بناء على أن الرضاعة المحرمة هي التقام الثدي ومص اللبن منه
3 -
أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال التي يمكن طرد الجوع فيها باللبن وذلك في الحولين
4 -
جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها
5 -
وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك
6 -
مدح غيرة الرجل على أهله
7 -
الإرشاد إلى الخطأ بالحلم كالتعليم وعدم العنف
8 -
فطنة عائشة إذ فهمت بسرعة سبب تغير وجهه صلى الله عليه وسلم
9 -
حرص الزوجة على إرضاء زوجها بمجرد غضبه بالاعتذار
10 -
عن جابر رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها"
-[المعنى العام]-
يحرص الإسلام على صلة الأرحام ويحذر من كل ما يؤدي إلى العقوق ومن ذلك نكاح المرأة على امرأة أخرى قريبة منها قرابة قوية وجعلهما ضرتين مع ما طبعت عليه الضرة من كراهية لضرتها ومن أجل حفظ التواد والصفاء بين الأرحام نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة على عمتها أو خالتها وقال "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن"
-[المباحث العربية]-
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهى عن نكاح المرأة والفعل منزل منزلة اللازم أو لمفعول محذوف أي نهى الأمة
(على عمتها أو خالتها) كلمة أو ليست للشك لأن حكمهما واحد
-[فقه الحديث]-
في معنى العمة والخالة كل امرأة بينها وبين الأخرى قرابة بحيث لو
كانت إحداهما ذكرا لحرمت المناكحة بينهما وعليه فلا يحرم الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت خالها ولا بين المرأة وبنت عمتها أو بنت عمها لأنها لو قدرت إحداهما ذكرا لم تحرم الأخرى عليه نعم كره بعض السلف مثل هذا مخافة الضغائن قال الجمهور وهذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقال بعض المحققين أن تحريم هذا الجمع داخل في آية المحرمات دلالة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استنبطه من تحريم الجمع بين الأختين لأنه مبين للناس ما نزل إليهم إذ ينتظم تحريم الجمع في الحالين معنى واحد مشترك هو التسبب في قطع رحم قريبه ومعنى هذا القول أن الحديث مبين غير مخصص ثم النكاح المذكور يقتضي بطلانه فلو نكحهما مرتبا في العقد بطل الثاني لأنه الذي حصل به الجمع ثم إذا طلق ابنة الأخ طلاقا بائنا حل له نكاح عمتها بمجرد البينونة وإن لم تنقض العدة لانقطاع الزوجية حينئذ وليس فيه الجمع بينهما هذا ما ذهب إليه مالك والشافعي وذهب الحنفية إلى أنه لا يحل حتى تنقضي العدة
11 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار"
-[المعنى العام]-
حرصا على حقوق الزوجات وبعدا عما يؤدي إلى الإضرار والظلم ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج الرجل مولية رجل آخر على أن يتزوج هذا الآخر مولية الأول ويضع كل منهما صداق للأخرى وهذا هو المسمى في الإسلام بالشغار "ولا شغار في الإسلام"
-[المباحث العربية]-
(نهى عن الشغار) أي نهي تحريم والشغار بكسر الشين مصدر شاغر ومثله المشاغرة وهو في اللغة الرفع من قولهم شغر الكلب برجله إذا رفعها ليبول فكأن المتناكحين رفعا المهر بينهما أو كأن كلا من الوليين يقول للآخر لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح الشغار وتغليظ على فاعله وقيل معناه في اللغة الخلو من قولهم شغر البلد عن السلطان إذا خلا منه لخلو العقدين عن المهر أو عن بعض الشروط وسيجيء معناه الشرعي
-[فقه الحديث]-
اختلف العلماء في صورة نكاح الشغار المنهي عنه فصوره بعضهم بأن يزوج بنته أو أخته أو موليته لآخر على أن يزوجه هذا الآخر موليته ويكون وضع كل منهما صداقا للأخرى سواء كان مع البضع مال أو لا والجمهور يشترط في صورته ألا يكون مع البضع صداق آخر فإن لم يقل وبضع كل صداق الأخرى صح النكاح ووجب مهر المثل قال الخطابي كان ابن أبي هريرة يشبهه برجل زوج امرأة واستثنى منها عضوا من أعضائها وبيان ذلك أنه يزوج موليته ويستثني بضعها يجعله صداقا للأخرى فكأن يضع كل من الزوجين مملوك للأخرى لاحق لأحد الزوجين في الانتفاع به وقال ابن القيم اختلف في علة النهي فقيل هي التعليق أي جعل كل واحد من العقدين شرطا في الآخر فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك وقيل هي التشريك في البضع حيث جعل
بضع كل واحدة موردا لنجاح امرأة ومهرا للأخرى وهي لا تنتفع به فلم يرجع المهر إليها بل عاد المهر إلى الولي وهو ملكه بضع زوجته بتمليكه بضع موليته وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وإخلاء لنكاحها عن مهر تنتفع به فأشبه تزويج واحدة من رجلين اثنين قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن نكاح الشغار حرام ولا يجوز إذا خلا من ذكر ما يصلح مهرا أما إن ذكر مع البضع ما يصلح مهرا فقد اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان لأن الأصل في أبضاع النساء التحريم إلا ما أحله الله بشروطه وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المثل لكل منهما لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة وقال الحنابلة إن سمي لإحداهما ولم يسم للأخرى صح نكاح من سمي لها
وهنا مسألة جديرة بالبحث منتشرة في عهدنا وهي زواج البدل كأن يزوج محمد مثلا ابنته لابن أحمد على أن يأخذ بنت أحمد لابنه ولا يذكر هذه الشروط في العقد وهذا النوع من النكاح وإن لم يكن شغارا بالمعنى المصطلح عليه إلا أنه يتبعه حتما تساهل كل من الوليين في حقوق كل من الزوجتين فضلا عما يجره هذا النكاح من الأضرار بواحدة إذا ما أضر بالأخرى فينبغي أن يكره
12 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال "أن تسكت"
-[المعنى العام]-
كانت المرأة قبل الإسلام من سقط المتاع ولم يكن يحسب لرأيها أي حساب حتى في أهم الأمور التي تخصها وهو زواجها فجاء الإسلام رافعا من شأنها معتمدا رأيها إذا كانت من ذوات الرأي بأن كانت بالغة عاقلة فطلب من الولي ألا يزوجها إلا بعد أن يأخذ إذنها في شريك حياتها "الأيم تستأمر" أي لا تزوج الثيب حتى تصرح بقبولها لهذا الزوج "والبكر تستأذن" فلا تزوج حتى يحصل الولي على إذنها قالت عائشة إن البكر تستحي أن تعلن رضاها يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم "رضاها صمتها"
-[المباحث العربية]-
(لا تنكح الأيم) ببناء الفعل للمجهول ولا نافية والفعل مرفوع فهو خبر بمعنى النهي أو ناهية والفعل مجزوم ويحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين والنفي أبلغ من النهي والأيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة وهي في الأصل التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا مطلقة كانت أو متوفى عنها والمراد بها هنا الثيب التي زالت بكارتها بأي وجه سواء زالت بنكاح صحيح أو شبهة أو فاسد أو زنا أو أصبع أو غير ذلك لأنها جعلت مقابلة للبكر
(حتى تستأمر) ببناء الفعل للمجهول والسين والتاء للطلب أي حتى يطلب أمرها والمراد لازم الطلب أي حتى تأمر
(حتى تستأذن) ببناء الفعل للمجهول أيضا أي حتى يطلب إذنها والمراد لازم الطلب أي حتى تأذن وفرق بين الأمر والأذن بأن الأمر لا بد فيه من لفظ والأذن يكون بلفظ وغيره
(وكيف إذنها) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والضمير للبكر
(قال أن تسكت) المصدر المنسبك من أن والفعل خبر مبتدأ محذوف أي إذنها سكوتها
-[فقه الحديث]-
يتعرض الحديث إلى إذن الزوجة سواء كانت بكرا غير بالغة أو ثيبا غير بالغة أو بكرا بالغة أو ثيبا بالغة وفي حكم هذا الإذن وفي حكم النكاح بدونه
اختلف الفقهاء على النحو الآتي
أولا البكر غير البالغة ويزوجها أبوها ولا يشترط إذنها اتفاقا إلا من شذ
ثانيا الثيب غير البالغة قال أبو حنيفة يزوجها كل ولي فإذا بلغت ثبت لها الخيار وقال الحنابلة بثبوت الخيار لمن كانت دون التسع سنين لا من لها تسع سنين فأكثر نعم ظاهر الحديث أنه لا بد من إذن الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها
ثالثا البكر البالغة ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه يجوز للأب أن يزوجها بغير إذنها احتجاجا بمفهوم ما رواه مسلم "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها" إذ يدل على أن ولي البكر أحق بها منها على أن التفرقة في حديثنا بالاستئمار في جانب الثيب والاستئذان في جانب البكر تعطي التفرقة في تزويج كل من حيث أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة دون البكر وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس للأب أن يجبر البكر البالغة فإن أجبرها لم يصح العقد وقيل يصح ولها الخيار والحديث الذي معنا دليل له من حيث أنه يدل على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت كما أنه من المقرر أن البكر الرشيد لا يتصرف أبوها في شيء من مالها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه فكيف يجوز له أن يخرج بضعها بغير رضاها
وهذا الرأي وجبه يتفق وروح عصرنا الذي خرجت فيه الفتاة ودرست الرجال لكن ليس معنى طلب رضاها وعدم إجبارها أن تستقل هي بالاختيار وتجبر وليها وتلزمه بالأمر الواقع لأنها مهما تثقفت وتعلمت تغلبها عاطفتها
ولأن في استقلالها بهذا الأمر نكرانا للأبوة وإيغارا للصدور
رابعا الثيب العاقلة وقد اتفقوا على أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها قال الشافعي وأحمد إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيته لأنه صلى الله عليه وسلم رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه وقال مالك لا يجوز وإن أجازته إلا أن يكون بالقرب ويبطل إذا بعد لأن عقده بغير أمرها ليس بعقد
هذا فيما يتعلق بتزويج الولي أما تزويج المرأة نفسها فعند أبي حنيفة بنفذ نكاح المرأة البالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من غير ولي ومن غير إجازته وقال الشافعي ومالك وأحمد لا ينعقد بعبارة النساء أصلا لقوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي" ولقوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل" وإنما اكتفي في إذن البكر بأن تسكت لأنها تستحي عادة أما الثيب فلا بد من لفظها لأن كمال حيائها قد زال بممارسة الرجال فإن ظهر مع سكوت البكر قرينة الرضا كالتبسم زوجها باتفاق وأما قرينة السخط كالبكاء فعند المالكية لا تزوج وعند الشافعية لا يؤثر ذلك إلا أن وقع مع البكاء صياح ونحوه فلا يزوجها
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
احترام الإسلام للمرأة وتقديره لرأيها
2 -
مشروعية أخذ رأي الزوجة في زواجها قبل إبرام العقد
3 -
أن الاستحياء عن إبداء الرأي لا يسقط مشروعية المشورة
4 -
أن سكوت من عرف بالحياء دليل على رضاه ما لم تظهر قرينة مانعة.
13 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب"
-[المعنى العام]-
يحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على رباط الألفة والمحبة بين الناس فيحذرهم من بعض أسباب الحقد والتباغض والإيذاء بقوله لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب أحد امرأة على خطبة أخيه إلا إذا ترك الخاطب الأول أو أذن للخاطب الثاني إذنا يدل على الرضا والانصراف
-[المباحث العربية]-
(نهى النبي أن يبيع) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهى عن بيع بعضكم على بعض والتعبير بالبعض هنا دون الرجل المعبر به في الخطبة ليشمل بيع الجماعة للجماعة أو للفرد وبالعكس سواء كان المبيع شيئا واحدا أو أكثر
(ولا يخطب الرجل) بالرفع والجزم والنصب أما الرفع فعلى أنه
خبر بمعنى النهي ولا نافية وجعل سياقه في صورة الخبر أبلغ في المنع لإشعاره بأنه أمر ممتثل فعلا يخبر عنه وأما الجزم فعلى النهي الصريح وأما النصب فعلى عطفه على يبيع و"لا" زائدة
(على خطبة أخيه) الخطبة بكسر الخاء طلب المرأة من وليها وأصلها الهيئة التي يكون عليها الإنسان حين يخطب نحو الجلسة من خطب يخطب من باب نصر فهو خاطب والمبالغة منه خطاب وأما الخطبة بضم الخاء فهي من القول والكلام فهو خاطب وخطيب والمراد من الإخوة الإخوة في العهد والحرمة فتشمل المسلم والذمي وذكر الأخ جري على الغالب ولأنه أدعى لسرعة الامتثال
(حتى يترك الخاطب قبله) الضمير للرجل الخاطب الثاني وقيل للتزويج وهو بعيد
(أو يأذن له الخاطب) أي يأذن للخاطب الثاني الخاطب الأول
-[فقه الحديث]-
أما بيع البعض على بيع البعض فقد قيل في صورته أن يقول الرجل لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط افسخ لأبيعك خيرا منها بمثل ثمنها أو مثلها بالنقص ومثل ذلك الشراء على الشراء كأن يقول البائع أفسخ لأشتري منك بأكثر والنهي في الحديث للتحريم وقد أجمع العلماء على أن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام وفي صحته خلاف واستثنى بعضهم من الحرمة ما إذا كان البائع أو المشتري مغبونا لكن هذا الاستثناء مردود أما السوم على السوم وهو أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع وقبل أن يعقدا يقول آخر لصاحبها أنا أشتريها بأكثر أو للراغب أنا أبيعك خيرا منها بأرخص فهو حرام كالبيع على البيع والشراء على الشراء والمعنى في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع بخلاف المزايدة والمناقصة فلا شيء فيهما لأنهما قبل الاتفاق والاستقرار
وأما الخطبة على الخطبة فصورتها أن يخطب رجل امرأة فتركن إليه
ويتفقا ويتراضيا ولم يبق إلا العقد فيجيء آخر وهو يعلم بكل هذا فيخطب على خطبة الأول وهي حرام بالإجماع وإن نقل عن أكثر العلماء أن عقد الخاطب الثاني لا يبطل والمعتبر في التحريم إجابتها إن كانت غير مجبرة أو إجابة الولي إن كانت مجبرة أو إجابتهما معا إن كان الخاطب غير كفء أما إذا لم تركن إليه وإن كانت مجبرة أو لم يركن وليها إن كانت مجبرة أو قبل أن يتفقا كوقت المشورة أو لم يكن الثاني يعلم بخطبة الأول فهو على حكم الأصل من الإباحة على الأصح وقال بعض المالكية لا تحرم حتى يرضوا بالزواج ويسمى المهر ويشترط كذلك ألا تكون خطبة الأول محرمة كأن تكون في العدة مثلا لأنه لا يثبت للخاطب بخطبته حينئذ حق وكما يأثم الخاطب الثاني يأثم ولي المخطوبة إذا قبل منه ودل الحديث كذلك على تحريم أن تخطب المرأة على خطبة امرأة أخرى إلحاقا لحكم النساء بحكم الرجال كأن ترغب امرأة في رجل وتدعوه إلى تزويجها فيجيبها فتأتي أخرى فترغبه في نفسها وتزهده في التي قبلها وإنما عبر بالرجل لأن الخطبة عادة من شأن الرجال والحكمة في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع ولهذا قيد الحديث إباحة الخطبة على الخطبة بترك الخاطب الأول أو إذنه للخاطب الثاني وفي معنى الترك والإذن ما لو طال الزمان بعد إجابته حتى عد معرضا أو غاب زمنا يحصل به الضرر أو رجعوا عن إجابته وفيما لو أذن الخاطب الأول للخاطب الثاني هل يختص ذلك بالمأذون له أو يتعدى لغيره لأن مجرد الإذن الصادر من الخاطب الأول دال على إعراضه عن تزوج تلك المرأة وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها الظاهر الثاني فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص ولغير المأذون له بالإلحاق وقيل يختص بالمأذون له الجواز كون ذلك عن طريق الإيثار لا عن طريق الإعراض والأحسن أن يقال بتحكيم العرف والقرائن في ذلك وليس في هذا الحديث منافاة لما ثبت أن النبي خطب فاطمة بنت
قيس لأسامة بن زيد على خطبة معاوية وأبي الجهم لأن ذلك حصل قبل النهي عن الخطبة على الخطبة وقال النووي أن النبي أشار بأسامة ولم يخطب وعلى تقدير أن يكون خطب فكأنه لما ذكر لها ما في معاوية وأبي الجهم ظهر منها الرغبة عنهما فخطبها لأسامة
وإنما جاءت مستشيرة فأشار عليها بما هو الأول ولم يكن هناك خطبة على خطبة
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
النهي عن كل ما فيه تضييق على الناس
2 -
النهي عن كل ما يحدث الشقاق ويوغر الصدور ويورث الشحناء
3 -
تحريم البيع على البيع
4 -
تحريم الخطبة على الخطبة
14 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها"
-[المعنى العام]-
نهي آخر عن أسباب العداوة والبغضاء والتفريق بين المرء وبين
عشيرته بعد أن نهى صلى الله عليه وسلم الرجال صريحا عن التشاحن مع الرجال بخطبتهم على خطبتهم نهى النساء عن التعدي على النساء لا يحل لامرأة أن تسأل رجلا طلاق زوجته التي هي أختها في الإنسانية ولها مالها من حقوق الزوجية والاستقرار لا يحل لها أن يكون غرضها من هذا السؤال أن تحظى هي بهذا الرجل وأن تنفرد به دونها ولتعلم من تسول لها نفسها بذلك أنها ليس لها إلا ما قدر لها في الأزل من زوج معين ومن سعادة أو شقاء مهما سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدر الله تعالى وإذا فلا فائدة من الإقدام على هذا المنكر إلا إثارة الضغائن والأحقاد والمشاحنة وتقطيع الأرحام فلترض بما قسم الله ولتعلم أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها وما أصابها لم يكن ليخطئها
-[المباحث العربية]-
(لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) تسأل مؤول بمصدر من غير سابك والمصدر فاعل "يحل" ومفعول تسأل الأول محذوف والتقدير تسأل زوج أختها طلاق أختها والمراد من الأخت قيل الضرة وقال النووي المراد بأختها غيرها سواء كانت أختا من النسب أو الرضاع أو الدين ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد بهذا التعبير كونه الغالب كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم} أو لأنها أختها في الجنس الآدمي ويشتد النهي إذا كانت قريبة من النسب لما فيه من قطيعة الرحم
(لتستفرغ صحفتها) أي لقلب ما في إنائها وأصله من أفرغت الإناء إفراغا إذا قلبت ما فيه وأصل الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة جمعها صحاف ويقال الصحفة القصعة التي تشبع الخمسة وفي الكلام كما قال الطيبي استعارة تمثيلية مستملحة شبهت المرأة بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضح في الصحفة من الأطعمة اللذيذة وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة ثم أدخل المشبه في جنس
المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به من الألفاظ والأولى أن يقال شبهت الهيئة الحاصلة من الزوجة والحظوظ الواردة عليها وإبعاد الزوجة عن حظوظها وتمتعاتها بسبب الطلاق بالهيئة الحاصلة من الإناء والأطعمة التي فيه وتفريغ الإناء مما فيه بجامع إذهاب النفع في كل ثم ادعينا أن الهيئة المشبهة من جنس الهيئة المشبهة بها ثم استعرنا التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية وقيل استفراغ الإناء كفاية من سلب ما للزوجة من النفقة والعشرة وما لها من حقوق عند الزوج
(فإنما لها ما قدر لها) أي فإنما للمرأة التي تسأل الطلاق لأختها ما قدر لها في الأزل والجملة تعليل للنهي عن السؤال فالفاء تعليلية
-[فقه الحديث]-
قال النووي: معنى الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته ليطلقها ويتزوج بها وقيل صورته أن يخطب الرجل امرأة وله امرأة فتشترط عليه طلاق الأولى لتنفرد به والأول والثاني هو الظاهر إذ أخرج البخاري الحديث تحت باب الشروط التي لا تحل في النكاح وصدره بقول ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها وظاهر الحديث التحريم قال الحافظ ابن حجر لكنه محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة وحمل بعضهم النهي على الكراهة واعترض عليه ابن بطال بأن نفي الحل تحريم صريح ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى قال الطحاوي أجاز الكوفيون ومالك والشافعي أن يتزوج المرأة على أن يطلق زوجته لكنه إن وفى بما قال فلا شيء عليه وإن لم يوف فلها مهر المثل عند الكوفيين قال الشافعي لها مهر المثل وفى أو لم يوف ومثل المرأة في الإثم وليها إذا طلب طلاق امرأة ليزوج موليته مكانها
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر
2 -
حرمة العمل على قطع عيش الغير مطلقا لأنه إذا حرم على من ينتفع من ورائه حرم على من لا ينتفع من باب أولى
3 -
أن السعي في ذلك لا يضر المطعون فيه ولا ينفع الطاعن فإنما لكل ما قدر له
15 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا"
-[المعني العام]-
أدب رفيع وسياسة حكيمة يدعو إليها الرسول الكريم بقوله من كان يؤمن بالله وبيوم الجزاء إيمانا كاملا فلا يؤذ أحدا مهما أوذي وليدفع بالتي هي أحسن وليكن خلقه مع جيرانه حسن المعاملة خصوصا مع النساء
ذلك المخلوق العجيب الذي حارت في سياسته العقول التي ساست الدول والذي استعبد كثيرا من الملوك الذين استعبدوا الشعوب والذي قال الله فيه {إن كيدكن عظيم} على حين قال {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} فيقول النبي استوصوا بهذا المخلوق الأعوج في طباعه وفي معاملاته وعاشروه بالحكمة والكياسة يكن ذلك خيرا له ولكم لأنه كالضلع المعوج بل كطرف الضلع الأعلى الشديد الأعوجاج الذي لا يمكن تقويمه لأن الشدة تكسره واللين لا يقومه فاستوصوا بالنساء خيرا تنتفعوا بهن مع اعوجاجهن
-[المباحث العربية]-
(عن أبي هريرة عن النبي قال) الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف والثاني متعلق بمحذوف هو حال من أبي هريرة والمصدر المنسبك من قال من غير سابك نائب فاعل روي المحذوف والتقدير روي عن أبي هريرة حالة كونه راويا عن النبي قول النبي كذا ومفعول راويا محذوف لدلالة نائب فاعل روي عليه
(من كان يؤمن) كان ناقصة واسمها ضمير يعود على من وجملة يؤمن خبرها والشرط والجواب خبر "من" وفعل كان لا دلالة له في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام وتستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو قوله {وكان الإنسان عجولا}
(فلا يؤذ جاره) بحذف الياء على أن لا ناهية وبإثباتها على أن لا نافية
(واستوصوا بالنساء خيرا) السين والتاء للقبول والمطاوعة مثلها في أقمته فاستقام أي اقبلوا وصيتي واعملوا بها وقيل السين والتاء للطلب جيء بهما للمبالغة أي اطلبوا الوصية بهن من أنفسكم أو ليطلب الوصية بعضكم من بعض ويلزم من ذلك أن تحافظوا لأن من وصى غيره بشيء كان أحرص عليه والنساء اسم جمع لا واحد له من لفظه وامرأة واحدة
من معناه وخيرا منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير استوصوا استيصاء خيرا أو على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير استوصوا لتفعلوا خيرا أو على أنه خبر يكن المحذوفة مع اسمها والتقدير استوصوا بالنساء يكن الاستيصاء خيرا ذكر ذلك النحاة في قوله تعالى {وأنفقوا خيرا لأنفسكم} والجملة معطوفة على (فلا يؤذ جاره) أي لا تؤذوا الجار واستوصوا وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لمزيد العناية بالخطاب
(فإنهن) الفاء للتعليل وما بعدها بيان لسبب وصيته صلى الله عليه وسلم بهن
(خلقن من ضلع) بكسر الضاد وفتح اللام وسكونها والفتح أفصح والظاهر أن في الكلام استعارة والأصل فإنهن خلقن من شيء كالضلع في اعوجاجه أي خلقن خلقا فيه اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل أي طبعت على العوج كأنه جسم تكونت منه ففي الحديث حذف المشبه ووجه الشبهة والأداة واستعير لفظ المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية وقيل أراد به أول النساء حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام فيكون لفظ الضلع على حقيقته ويكون معنى خلقها من الضلع الحقيقي إخراجها منه عند أصل الخلقة
(وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) قال الحافظ ابن حجر فيه إشارة إلى أنها خلقت من أشد أجزاء الضلع اعوجاجا مبالغة في إثبات هذه الصفة لها ويحتمل أن يكون قد ضرب ذلك مثلا لأعلى المرأة لأن أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو الذي يحصل منه الأذى وأعوج صفة مشبهة وليس أفعل تفضيل لأن أفعل التفضيل لا يأتي من ألفاظ العيوب التي صفتها على وزن أفعل وقيل هو أفعل تفضيل شذوذا أو محل المنع عند الالتباس بالصفة فإذا تميز عنها بالقرينة فلا منع
(فإن ذهبت تقيمه كسرته) الضمير المنصوب للضلع وهو يذكر ويؤنث وجملة (تقيمه) في محل النصب على الحال
(فاستوصوا بالنساء خيرا) الفاء فصيحة وقعت في جواب شرط مقدر أي إذا كان هذا شأنهن فاستوصوا
-[فقه الحديث]-
يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله" أن من آذى جاره لا يكون مؤمنا لكن هذا المفهوم غير مراد إذ المعنى من كان يؤمن بالله إيمانا كاملا فلا يؤذ وذكر هذه العبارة للحض على الطاعة لأن من آمن بالمبدأ والمعاد كف عن المعصية وسارع إلى الطاعة وإنما خص الجار بالذكر والواجب على المؤمن ألا يؤذي أحد مطلقا لشدة العقاب على إيذاء الجار إذ لهذه الملاصقة حرمة وحقوق كحقوق الأخوة فإيذاؤه أفحش الإيذاء وفيه بعث على دوام الشقاق وفي ذلك تعرض أكثر لارتكاب الجرائم أو خص الجار بالذكر لكونه مظنة الأذى غالبا لكثرة التعامل بين المتجاورين وقيل إن المراد بالجار ما يشمل الملكين الكاتبين وإيذاؤهما يحصل بأذى كل مخلوق وقد فهم بعضهم من ذكر البخاري لهذا الحديث على جزأين فهم أن قوله صلى الله عليه وسلم "واستوصوا بالنساء خيرا إلخ" حديث مستقل جمعه الراوي مع ما قبله في سند واحد ولكن اتصال الكلام يدل على أن الجزأين حديث واحد إذ المرأة أعلى مراتب المجاورة فهي الجار الملاصق بدون حجاب وهي التي عبر عنها القرآن بالصاحب بالجنب وإنما أكد الحديث الوصية بالنساء فكررها لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن ولذا علل الأمر بأن طبيعتهن الاعوجاج فهن شبه معذورات فيما يرى منهن مما لا يرضي إذ من العسير عليهن الانفكاك عما جبلن عليه فليكن التحمل والملاينة من الرجال ولهذا أيضا عدل عن النهي عن الإيذاء إلى الاستيصاء للإشارة إلى أن حسن الخلق مع النساء ليس كف الأذى عنهن بل احتمال الأذى منهن والحلم عن طيشهن والإحسان إليهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره إحداهن إلى الليل وأعلى من ذلك أن يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخبار حتى روي أنه كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما فقال هذه بتلك
ولا يظن من هذا أن الإسلام يدعو إلى ترك المرأة وهواها دون تقويم بل مراده الرفق في المعاملة باستعمال اللين في غير ضعف والشدة من غير عنف وإلى ذلك يشير صلى الله عليه وسلم بقوله "فإن ذهبت تقيمه كسرته" أي إن رمت تقويمهن بالشدة أفسدت ولم تنتفع بهن مع أنه لا غنى عنهن "وإن تركته لم يزل أعوج" أي وإن تراخيت وتساهلت في الإصلاح بقي فسادهن وازداد فلا تكن لينا فتعصر ولا جامدا فتكسر
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
- مداراة سيئ الأخلاق وعدم الاصطدام به
2 -
الندب إلى الملاينة لاستمالة النفوس وتأليف القلوب
3 -
الدعوة إلى الصبر على أذى الجار
4 -
إن عدم الإيذاء من كمال الإيمان
5 -
إن معاملة النساء ينبغي أن تكون بين اللين والحزم
6 -
ارفق بالضعيف وحسن معاملته
16 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره"
-[المعنى العام]-
بين لنا الحديث السابق ما ينبغي أن تكون عليه معاشرة الزوج لزوجته ويبين لنا هذا الحديث ما ينبغي أن تكون عليه معاشرة الزوجة لزوجها فلا يحل لها أن تصوم نفلا وهو حاضر صيامها إلا بإذنه فقد يتضرر بهذا الصوم ويفوت عليه بعض مقاصده ولمنزله حرمة لا تنتهك فلا يجوز لها أن تدخل فيه أحدا أيا كان وهو حاضر أو غائب إلا بإذنه فقد يغار على زوجته من الأجنبي وقد يكون في بيته من القصور والعيوب ما يحرص على إخفائه ولا يجب أن يراه أقرب الأقربين وهي راعية في ماله مسئولة عنه أمام الله فلا تنفق شيئا منه إلا بإذنه فإن أنفقت من غير إذنه الخاص بعد حصول إذنه العام وهي تعلم رضاه فلها أجر بقصدها الخير وفعلها له ولزوجها أجر مثله باكتسابه هذا المال لا ينقص أحدهم من أجر الآخر شيئا
-[المباحث العربية]-
(وزوجها شاهد) أي حاضر ومفعوله محذوف أي شاهد صومها والجملة في محل النصب على الحال
(ولا تأذن في بيته) معطوف على تصوم داخل في حيز نفي الحل أي ولا يحل لها أن تأذن والمأذون به محذوف والتقدير أن تأذن بدخول أحد في بيته
(وما أنفقت من نفقة) ما شرطية مفعول مقدم و"من" بيانية
(فإنه يؤدي إليه شطره) الجملة جواب الشرط ويؤدي مبني للمجهول وشطره نائب فاعل والشطر النصف أو الجزء
-[فقه الحديث]-
الكلام عن الحديث يتناول النقاط التالية
1 -
آراء الفقهاء في نوع الصوم المنهي عنه وحكمه وأدلتهم وعلة هذا النهي
2 -
آراؤهم في دخول أبي الزوجة بدون إذن الزوج وأدلتهم
3 -
بيان المراد من قوله وما أنفقت من نفقة إلخ
4 -
ما يؤخذ من الحديث وإليك البيان
1 -
المراد من الصوم المنهي عنه صوم النفل يدل له ما رواه أبو داود والترمذي "لا تصومن امرأة يوما سوى شهر رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه" وما رواه الطبراني "ومن حق الزوج على زوجته ألا تصوم تطوعا إلا بإذنه" ومثل النفل ما وجب على التراخي وظاهر الحديث أن النهي للتحريم وهو قول الجمهور ونقل النووي عن بعض الشافعية القول بالكراهة والصحيح الأول فلو صامت بغير إذنه صح وأثمت وأمر قبوله إلى الله قال النووي ومقتضى المذهب عدم الثواب وفي علة النهي قيل لأن من حقه الاستمتاع بها في كل وقت وعليه فلو منع من الاستمتاع بها مانع آخر كأن كان مريضا بحيث لا يستطيع التمتع أو كان محرما أو صائما صوما مفروضا أو مسافرا جاز لها التطوع فلو قدم من سفره وهي صائمة فله إفساد صومها من غير كراهة وقال المالكية ليس له ذلك ولا يبتعد أن يكون النهي لما للزوج من حقوق غير التمتع كالمحافظة على صحتها ونضرتها أو على قدرتها على أداء أعمالها في منزلها ورعايتها لأولادها أو على وفرة لبنها إذا كانت مرضعة أو نحو ذلك وعليه فليس لها مهما كان مريضا أو محرما أو صائما أو مسافرا أن تصوم نفلا إلا بإذنه ويكون قيد "وزوجها شاهد" لا
مفهوم له بل خرج مخرج الغالب كقوله تعالى {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} ولا مانع أن تكون الحكمة مجموع الأمرين معا
2 -
ولا يحل لها أن تأذن لأحد بدخول بيته كائنا من كان إلا بإذنه ولو كانت امرأة فالفساد بدخول النساء أكثر منه بدخول الرجال ولو كان أبا أو جدا بهذا قال الجمهور وقال المالكية بجواز دخول الأب بغير إذن الزوج وأجابوا عن الحديث بأنه معارض بصلة الرحم لكن يرد عليهم بأن صلة الرحم إنما تندب بما يملكه الواصل والتصرف في بيت الزوج لا تملكه المرأة إلا بإذنه وإذا كانت لا تصل أهلها بماله إلا بإذنه فليس لها أن تصلهم بدخولهم بيته إلا بإذنه
3 -
ونفقة المرأة من بيت زوجها إما أن تكون بإذن خاص كأن يقول تصدقي اليوم على فلان بعشرة وحكمها ظاهر وإما أن تكون ضمن إذن عام كأن يأذن لها بالتصدق من ماله في حدود معينة على جهة مخصوصة وعلى هذا النوع حمل الحديث أي وما أنفقت من نفقة من غير أمره الخاص بعد أمره العام فإن الله يؤدي إليه نصف ثواب هذه الصدقة، ويدل لذلك ما رواه البخاري في الزكاة "كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب لا ينقص بعضهم أجر بعض" وما رواه أبو داود في النفقات "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف أجره" أما إذا تصدقت من ماله بغير إذن أصلا لا صريحا ولا ضمنا أثمت والأجر له وحمل بعضهم الحديث على تصدق المرأة بغير إذن الزوج من المال الذي يعطيه لها لنفقتها فيكون الأجر بينهما للرجل باكتسابه ولأنه يؤجر على ما ينفقه على أهله وللمرأة لتصدقها بما يخصها يؤيده ما أخرجه أبو داود إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تتصدق من بيت زوجها فقال "لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه" وحمل الخطابي الحديث على ما إذا أنفقت على نفسها من ماله بغير إذنه فوق ما يجب لها من القوت وفسر قوله فإنه يؤدى إليه شطره بأنها تغرم له شطره أي جزءه الزائد على ما يجب لها وهذا الحمل بعيد والإذن في
هذه الأمور مراد به الرضا ولا يشترط فيه القول والعرف في اعتباره هو الحكم
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
فضل الإنفاق
2 -
إثابة الإنسان على الخير إذا كان سببا فيه ولو لم يعلم
3 -
إعظام حق الزوج على المرأة
4 -
إن حق الزوج آكد من التطوع بالخير لأنه واجب
5 -
احتج به الحنفية والمالكية على وجوب القضاء على من أفطر في صيام التطوع عامدا إذ لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له ومن السهل الرد على هذا الاحتجاج بالتأمل في علة النهي المذكور عن قريب
17 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى قالت فقلت من أين تعرف ذلك فقال أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت علي غضبى قلت لا ورب إبراهيم قالت قلت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك"
-[المعنى العام]-
في جو من المرح والعتاب والتلطف يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في تحمل النساء والحلم عن هفواتهن فيقول لزوجته عائشة إني لأعلم حالك وشأنك من حديثك فاعلم إذا كنت راضية عني أو كنت غاضبة مني ولم تدهش عائشة لوثوقها من كمال فطنة الرسول ولكنها لدلالها رغبت في أن تسمع وصفها في الحالين من لسانه الشريف فقالت كيف تعرف ذلك يا رسول الله قال إذا كنت عني راضية ودعا للقسم داع قلت لم أفعل كذا ورب محمد وإذا كنت علي غضبى قلت إذا أقسمت لا ورب إبراهيم قالت عائشة نعم يا رسول الله هذه حالي ولكن لا يخطر ببالك تغير قلبي وتحوله عنك وهجره لذاتك الشريفة حين أغضب فوالله لا أهجر حينذاك إلا اسمك الشريف على مضض مني وتألم فأظهر الصدود بلساني وقلبي بذاتك متعلق وحبي لك ثابت وهواك في نفسي لا يتغير
-[المباحث العربية]-
(إني لأعلم إذا كنت عني راضية) أكد النبي الكلام بأن واللام لتنزيل عائشة منزلة المنكر للحكم وسبب هذا التنزيل إخفاؤها غضبها عنه صلى الله عليه وسلم وإذا ظرف لمفعول أعلم المحذوف والتقدير أعلم شأنك وقت رضاك عني وقد استدل ابن مالك بمثل هذا الحديث على خروج "إذا" عن الظرفية وأعربها مفعول أعلم والجمهور على خلافه
(من أين تعرف ذلك) أصل "أين" ظرف للمكان والمراد هنا السببية فكأنها قالت بأي شيء تعرف ذلك والمشار إليه مفعول أعلم
(لا ورب محمد) لا حرف نفي وقعت جوابا عن كلام سابق وجواب القسم محذوف تقديره ورب محمد لم أفعل
(أجل) حرف جواب بمعنى نعم
(والله ما أهجر إلا اسمك) عبرت بالقسم والقصر لتأكيد مضمون الجملة وزيادة تقريره في ذهن الرسول وإنما كان غضبها من شدة غيرتها على النبي وقوة حبها له عليه السلام
استدل بهذا الحديث على كمال فطنة عائشة رضي الله عنها من وجوه
(أ) تخصيصها إبراهيم عليه السلام دون غيره لأنه صلى الله عليه وسلم أولى الناس بإبراهيم كما في التنزيل فلما لم يكن بد من هجر اسمه الشريف أبدلته ممن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة
(ب) تعبيرها بهذا الحصر الدال على غاية اللطف لأنها أخبرت أنها إذا كانت في نهاية الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تنحرف عن كمال المحبة فلا يهجر قلبها من أغضبها بل يظل على وده وتعلقه
(جـ) تعبيرها بالهجران بدل الترك لأنه يدل على أنها تتألم من هذا الترك الذي لا اختيار لها فيه كما قال الشاعر
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود أميل
-[ويستفاد من الحديث: ]-
- استقراء الرجل لحال المرأة من فعلها وقولها فيما يتعلق بالميل وعدمه
2 -
الحكم بالقرائن لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها اسمه الشريف وسكوتها عن ذكره
3 -
وفيه حسن معاملته صلى الله عليه وسلم لزوجاته أمهات المؤمنين
4 -
وفيه إرشاد للزوجات لما ينبغي أن يكون عليه إذا غضبن من أزواجهن
5 -
وفيه فضيلة عائشة رضي الله عنها
6 -
وفيه وجد النساء والمهن
7 -
وفيه ملاطفة كل من الزوجين صاحبه في بحبوحة من الظرف والأدب
8 -
استدل به على أن الاسم غير المسمى في المخلوقات إذ لو كان الاسم عين المسمى لكانت بهجره هاجرة لذاته وليس كذلك