الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الفتن
الفتن جمع فتنة وهي المحنة والشدة والعذاب وكل مكروه كالكفر والإثم والفضيحة والفجور والمصيبة وغيرها من المكروهات فإن كانت من الله تعالى فهي على وجه الحكمة وإن كانت من الإنسان بغير ما أمر الله فهي مذمومة فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة قال تعالى {والفتنة أشد من القتل} وقال {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا} إلخ وأصلها من الفتن بفتح الفاء وسكون التاء وهو كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته
67 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" وفي رواية أخرى عنه قال "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية"
-[المعنى العام]-
يهدف النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعم الصلات بين الحاكم والمحكوم وسد منافذ الفرقة والانقسام ودرء المفاسد المترتبة على تصدع بنيان الأمة وتفرق صفوفها حين تخرج على حاكمها وأمرائها فيقول كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام بعده نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء وأمراء ترون منهم ما تنكرون يأخذون مالكم بالحق الذي
عليكم ويمنعونكم الحق الذي لكم قالوا يا رسول الله أنقاتلهم قال لا ما أقاموا الصلاة أكرهوا عملهم لا تنزعوا يدا من طاعة أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم كفوا واصبروا فإن من خرج على الإمام وعلى الجماعة أدنى خروج مات ميتة تشبه ميتة الجاهلية في بعدها عن الخير وعن رضوان الله تعالى
-[المباحث العربية]-
(شيئا) من أمور الدنيا أو من أمور الدين غير الكفر
(فإنه من خرج من السلطان) في الكلام مضاف محذوف أي من خرج من طاعة السلطان والفاء للتعليل واسم إن ضمير الشأن والجملة بعده خبر
(شبرا) أي قدر شبر وكني به عن أدنى معصية للسلطان
(ميتة) بكسر الميم بيان لهيئة الموت وحالته التي يكون عليها
(إلا مات ميتة جاهلية) إلا زائدة كما تدل على ذلك الرواية السابقة وقيل من للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وإلا غير زائدة بل على معناها فكأنه قال ما فارق أحد الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية وقيل غير ذلك
-[فقه الحديث]-
لقد قصد النبي بقوله (إلا مات ميتة جاهلية) أنه يموت كأهل الجاهلية على التفرقة والضلال إذ كانوا لا يرجعون إلى طاعة أمير ولا يتبعون هدي إمام ولا يعتبرون بحديث أو نذير وليس المراد أنه يموت كافرا بل يكون عاصيا ويحتمل أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير وظاهره غير مراد كما قصد النبي بقوله (فارق الجماعة) الخروج عن طاعة الإمام أو الأمراء ونصب العداء لهم قال ابن أبي جمرة المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء وإنما حذر الشارع من ذلك
لأن من خرج على السلطان فقد خرج على جماعة المسلمين وفي الخروج على الجماعة من الفتن العامة الجالبة للشر الكثير ما يجب على المسلم أن يتجنبه ولو ناله في سبيل ذلك ضرر إذ ضرره وحده أخف من ضرر جماعة المسلمين ولا شك أن المؤمن الذي يتحمل هذا الضرر لهذا القصد يكون له عند الله ثواب عظيم
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن السلطان لا يعزل بالفسق إذ قد يكون عزله سببا للفتنة وإراقة الدماء وتفريق ذات البين فالمفسدة في عزله أكثر منها في إبقائه
2 -
فيه حجة على ترك الخروج على أئمة الجور وعلى لزوم السمع والطاعة لهم وقد أجمع الفقهاء على أن الإمام المتغلب تلزم طاعته فيما ليس معصية ما أقام الجماعات والجهاد إلا إذا وقع منه كفر صريح فلا تجوز طاعته بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها.
68 -
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"
-[المعنى العام]-
يحدث عبادة بن الصامت أنه كان مما بايعهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى أن يسمعوا ويطيعوا له عليه السلام ولغيره من الحكام في جميع الأحوال إلا في حال وقوع الكفر الصريح من ولي الأمر الشرعي فلا سمع ولا طاعة وفيما عدا ذلك عليهم أن يمتثلوا وينقادوا لما يأمرهم به إمامهم في حال نشاطهم وحبهم للأمر وفي حال كسلهم وكراهتهم له وفي حال فقرهم وفي حال غناهم حتى لو استأثر الولاة بأمور الدنيا وحظوظها ولم يعطوهم منها فلا ينازعوهم في ولايتهم ولا يخرجوا من طاعتهم لما في ذلك من تصدع الأمة وتفرق كلمتها وسقوط هيبتها وسقوط هيبتها وقيام الفتن الداخلية الجالبة للشر الكثير ولذا أوصد النبي هذا الباب فأوجب السمع والطاعة لولاة الأمر ما أقاموا على شريعة الله وأحكام دينه القويم
-[المباحث العربية]-
(دعانا النبي فبايعناه) بإثبات ضمير الفعول في النسخ المعتمدة وفي رواية بإسقاط الضمير وفي أخرى "فبايعنا" بفتح العين أي دعانا صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة فبايعناه والمراد عاهدناه ففيه استعارة تبعية
(فيما أخذ علينا) أي فيما عاهدنا عليه واشترك علينا الوفاء به وظاهر هذه العبارة أن عبادة لم يذكر هنا كل ما أخذه عليهم
(أن بايعنا) بفتح همزة أن وعين "بايعنا" والفاعل ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وأن مفسرة لجملة قال مع مفعولها المحذوف وهذا على رأي من لا يشترط في أن المفسرة أن تسبق بما فيه معنى القول دون حروفه وإلا فلنجعل أن زائدة والجملة بعدها بيانا لجملة "قال"
(في منشطنا ومكرهنا) بفتح الميم فيهما مصدران ميميان والجار والمجرور تنازعه كل من السمع والطاعة أي نسمع ونطيع في حال نشاطنا وحبنا للمأمور به كالسفر في جو معتدل إلى غزو قوم مضمون الظفر بهم
وفي حال كرهنا للمأمور به كالدعوة إلى السفر في الحر إلى عدو قوي الشكيمة
(وأثره علينا) بفتحات أو بضم الهمزة وسكون التاء أي أنانية وحب النفس وهو مجرور عطفا على منا قبله
(وأن لا ننازع الأمر أهله) لمراد بالأمر الملك والإمارة والمصدر المسبوك من أن والفعل عطف تفسير لما قبله لأن معنى عدم المنازعة هو الصبر على الأثرة
(إلا أن تروا) استثناه من عموم الأحوال والتقدير وأن لا ننازع الأمر أهله في حال من الأحوال إلا في حال أن نرى منهم إلخ وكان المناسب أن يقول "إلا أن نرى" لكن عبر بضمير المخاطب لأن التقدير بايعنا قائلا إلا أن تروا إلخ
(بواحا) أي ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا إذا أذاعه وأظهره
(عندكم فيه من الله برهان) أي نص من قرآن أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل
-[فقه الحديث]-
قال النووي المراد بالكفر هنا المعصية ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه مخالفا لقواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم وقال الكرماني الظاهر أن الكفر باق على ظاهره والمراد من النزاع القتال فلا يقاتل السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر
-[ويدل الحديث: ]-
1 -
على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وعدم الخروج عليه ما دام فعله يحتمل التأويل
2 -
وعلى ضرر الشقاق والخروج على الحاكم الشرعي
3 -
وعلى إثم ذلك عند الله.
69 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به"
-[المعنى العام]-
أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سيقع في الأمة المحمدية من الفتن والأحداث التي يختلط فيها الأمر ولا يتبين الصواب وحذر من الخوض فيها ومشايعة أربابها أو اذكاء نارها أو مباشرة أي عمل فيها إذا في كل ذلك شر لما يترتب عليه من إزهاق أرواح وإضاعة أموال من غير موجب لذلك وبدون تضحية في سبيل الله والإسلام ثم أرشد النبي المسلمين إلى أن من أدخل نفسه في الفتن صرعته وأهلكته ومن وجد منفذا ينجو منه فليسلك
طريقه ويعتزل تلك الفتن فإنه أسلم لدينه وأبعد عن مواطن الزلل والشبهات أنجانا الله من ذلك
-[المباحث العربية]-
(فتن) بكسر الفاء وفتح التاء على صيغة الجمع وفي رواية "فتنة" بالأفراد هو فاعل تكون لأنها تامة
(القاعد فيها) أي في زمن الفتن أو في نفسها
(من تشرف لها) بفتح التاء والشين والراء المشددة أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها
(تستشرفه) بالجزم جواب الشرط أي تجعله مشرفا على الهلاك يقال استشرفت الشيء أي علوته وأشرفت عليه
(ملجأ) أي موضعا يلتجئ إليه من شرها
(أو معاذا) بفتح الميم والذال وضبطه بعضهم بضم الميم وهو بمعنى الملجأ
-[فقه الحديث]-
المراد بالفتن جميع الاختلافات التي تكون بين أهل الإسلام ولا يكون الحق فيها معلوما وقيل المراد ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل وزاد الإسماعيلي عن إبراهيم بن سعد في أول هذا الحديث "النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد" واليقظان هو المضطجع والظاهر أن المراد بيان طبقات المباشرين للفتنة في أطوارها كلها وأنهم درجات بعضهم في ذلك أشد من بعض فأعلاهم الساعي فيها بحيث يكون مدبرا لها ومهيئا أسبابها ثم من يكون محافظا على قيام أسبابها وهو الماشي ثم من يكون مباشرا لها أي منفذا لأعمالها وهو القائم ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد ثم من يكون مجتنبا لها
ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض عنها وهو النائم فالمراد من الأفضلية في هذه الخيرية أن يكون بعضهم أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور وقوله "من تشرف لها تستشرفه" أي من انتصب وتعرض لها انتصبت وتعرضت له فوقع فيها ومن أعرض عنها أعرضت عنه وقيل هو من المخاطرة والإشراف على الهلاك أي من خاطر بنفسه فيها أهلكته ونحوه قول القائل من غلبها غلبته "ومن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به" أي من لقي في زمن الفتنة مكانا بعيدا عنها فليعتصم به ويعتزل فيه ليسلم من الفتنة
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها
2 -
وأن شرها يكون بحسب التعلق بها والدور الذي يقوم به الداخل فيها.
70 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم"
-[المعنى العام]-
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يسكت المرء على المنكرات والمعاصي وإن كان لم يفعلها بنفسه ولكن قومه وبني وطنه يأتونها سرا وجهرا ولا ينكر عليهم يحذر النبي أمثال هذا بأن العقاب ينزل عليهم عقوبة لهم على سيئ أعمالهم يصيبهم جميعا صالحا وطالحا وإن كان جزاؤهم في الآخرة سيكون مختلفا على حسب أعمالهم وإذا كان ذلك الشأن مع من سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضي فكيف بمن عاون نسأل الله السلامة
-[المباحث العربية]-
(أصاب العذاب) الجملة جواب إذا والعذاب الثاني هو الأول إذ النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول
(ثم بعثوا) بالبناء للمجهول أي بعثهم الله يوم القيامة
-[فقه الحديث]-
لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "من كان فيهم" ذلك الذي يكون مع العصاة وإن لم يعمل بعملهم وليس على منهاجهم فالمعنى أن العذاب يصيبهم حتى الصالحين منهم ثم يبعث كل واحد على حسب عمله إن كان صالحا فعقباه صالحة وإلا فسيئة وذلك العذاب طهرة للصالحين وزيادة في درجاتهم ونقمة على الفاسقين فلا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في العذاب بل يجازى كل بعمله على حسب نيته وهذا من الحكم العدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون عليها في الآخرة وأما في الدنيا فما أصابهم من بلاء فهو تكفير لما قدموه من عمل سيئ كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو رفع لدرجاتهم أما أخذ الأطفال فهو لتكفير سيئات آبائهم أو رفع درجاتهم
-[ويدل الحديث على: ]-
1 -
أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي
2 -
وأن المجتمع لا ينجيه إلا الاستقامة لأن وجود العصاة المفسدين في المجتمع يهدمه ويمزقه
3 -
وأنه لا يلزم من الاشتراك في كيفية الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب
4 -
وفيه تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
5 -
ومشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة هذا إذا لم يرض أفعالهم فإن أعان أو رضي فهو منهم قاله في الفتح.