الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب التوحيد
79 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"
-[المعنى العام]-
يبين الحديث فضل الله على عباده المؤمنين الذين يتقربون إليه تعالى فيعملون الصالحات ويؤدون الواجبات راجين القبول طامعين في الغفران تمسكا بصادق وعده فإنه سبحانه يقبل أعمالهم ويثيبهم على طاعتهم يستجيب دعاءهم ويقبل عليهم ويرضى عنهم ويخلصهم من المحن والشدائد والكروب كما يبين أيضا أن من وفق من عباد الله لعمل طاعة من الطاعات مخلصا فيها ضمن من الله جزاء وافرا وذلك بالرضا عنه والإقبال والمبادرة إلى إكرامه أعظم الإكرام فسبحان من تفضل على عباده المؤمنين بنعمة الإيجاد في البداية وفي حال الحياة بالهداية وبالنعيم المقيم في النهاية
-[المباحث العربية]-
(أنا عند ظن عبدي) قال بعضهم لفظ "عند" موضوع للمكان والله
تعالى منزه عن المكان فالمراد هنا سبق إثابة الله لمن يظن به خيرا وقال الراغب أنه موضوع للقرب ويستعمل في المكان
(في ملإ) أي في جماعة وقوم والظاهر أن "في" هنا للظرفية المجازية لتلبس الذكر بالملإ حيث وصل إلى أسماعهم كتلبس المظروف بالظرف فيكون الشخص ذاكرا والملإ مستمعين وعلى هذا لا تكون "في" للمصاحبة
(شبرا ذراعا باعا) بالنصب على التمييز أي مقدار شبر ومقدار باع والباع عبارة عن طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره
(هرولة) أي إسراعا وفي المصباح هرول أسرع في مشيه ولهذا يقال هو بين المشي والعدو ولفظ النفس والتقرب والهرولة في جانب الله مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو قصد إرادة لوازمها وإلا فهذه الإطلاقات وأشباهها مستحيلة على الله تعالى على سبيل الحقيقة
-[فقه الحديث]-
يقول الله عز وجل "أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامله به فإن ظن أني أعفو عنه وأغفر له فله ذلك وإن ظن أني أعاقبه وأؤاخذه فذلك وقيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر وما قبل ذلك فالمختار الاعتدال وعليه فينبغي للمرء أن يجتهد في العبادات موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك والله لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله تعالى وهذا من الكبائر ومن مات على ذلك وكل إلى ظنه ومحل ذلك أن يكون العبد قائما بما طلب منه وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرور والخلاصة أن حسن الظن المعتبر مستلزم لحسن العمل وإلا فهو الطمع المذموم الذي يورد صاحبه موارد الهلكة ومعنى "وأنا معه إذا ذكرني" أن العبد حين يذكر فالله معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي معية خصوصية غير المعلومة من قوله تعالى {وهو معكم أين ما كنتم} فإنها
المعية بالعلم والإحاطة "فإن ذكرني" بالتنزيه والتقديس والتعظيم "في نفسه" بالقلب أو باللسان سرا "ذكرته" أي أثبته ورحمته وأمنته إن كان خائفا وآنسته إن كان مستوحشا "في نفسي" دون أن أعلنه للملائكة أو غيرهم "إن ذكرني في ملإ" أي أمام جمع وهمم يستمعون عظمة الله تعالى وجلاله ونعمه وكل ما يليق به "ذكرته في ملإ خير منهم" وهم الملأ الأعلى أي أن الله تعالى يذكره بحسن الثناء والوعد بالجزاء مسمعا بذلك الملائكة وغيرهم وهذا فخر دونه كل فخر ولا يلزم من ذلك تفضيل الملائكة على بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكر الأنبياء
والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضا فإن الخيرية إنما حصلت بالذكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الملأ الذي ليس فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالمجموع على المجموع "وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" يعني من تقرب إلي بطاعة قليلة جازيته بمثوبة كثيرة وكلما زاد في الطاعة زدت في ثوابه وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني فإتياني له بالثواب على السرعة
-[ويستفاد من الحديث: ]-
1 -
جواز إطلاق النفس على الذات العلية فهو إذن شرعي في إطلاقها عليه تعالى ويقويه قول الله تعالى {ويحذركم الله نفسه}
2 -
مضاعفة الله للعبد ثواب أعماله
3 -
سعة فضل الله على عباده وإكرامه لهم بعاجل الثواب
4 -
قال الكرماني وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة العندية فإن العاقل إذا سمع ذلك ظن لنفسه الخير
80 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"
-[المعنى العام]-
يدفع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى السمو النفسي والطهر القلبي والنور الرباني والصفاء الروحاني والتفاني ظاهرا وباطنا في تقديس الله تعالى وتنزيهه وتمجيده وتعظيمه وإجلاله فيحتم على مداومة ذكره تعالى بكلمتين خفيفتين على اللسان فلا يصعب على أحد ترديدهما ولكنهما ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن يعم من يتقرب إليه بهما كل إكرام وتفضيل من الخالق على المخلوقين وإن شئت فاستمع إلى قوله عليه الصلاة والسلام من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وعن علي رضي الله عنه قال من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه أو حين يقوم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
-[المباحث العربية]-
(كلمتان) أي كلامان فهو من باب إطلاق الكلمة على الكلام وهو خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة والمبتدأ جملتا "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" لأنهما وإن كانا منصوبين على الحكاية فهما في محل رفع ولا يرد أن الخبر مثنى والمبتدأ ليس كذلك لأنه على حذف العاطف أي سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم كلمتان خفيفتان إلخ وقدم الخبر ليشرف السامع إلى المبتدأ فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ورجح بعضهم كون "سبحان الله إلخ" هو الخبر لأنه مؤخر لفظا والأصل عدم مخالفة اللفظ محله إلا لموجب يوجبه ولأنه محط للفائدة بنفسه بخلاف "كلمتان" فإنه إنما يكون محطا للفائدة باعتبار وصفه بالخفة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن لا باعتبار ذاته إذ ليس متعلق الغرض الإخبار منه صلى الله عليه وسلم عن سبحان الله إلخ بأنهما كلمتان بل بملاحظة وصفه بما ذكر فكان اعتبار سبحان الله إلخ خبرا أولى وهو من قبيل الخبر المفرد بلا تعدد لأن كلا من سبحان الله عامله المحذوف الأول والثاني مع عامله الثاني إنما أريد لفظه والجملة المتعددة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد المبتدأ لأنه معلوم وكلمتان باعتبار وصفه بما ذكر هو الخبر لأنه مجهول والقاعدة إذا اجتمع معلوم ومجهول يجعل المعلوم مبتدأ والمجهول خبرا
(حبيبتان) تثنية حبيبة بمعنى محبوبة وفعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا ذكر الموصوف نحو رجل قتيل وامرأة قتيل فإن لم يذكر الموصوف فرق بينهما نحو قتيل وقتيلة وحينئذ فوجه لحوق علامة التأنيث هنا أن التسوية جائزة لا واجبة ومناسبته للخفيفة والثقيلة لأنهما بمعنى الفاعل لا المفعول وقيل هذه التاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية
(خفيفتان على اللسان) فيه استعارة حيث شبه سهولة جريانهما على اللسان بخفة المحمول من الأمتعة واشتق من ذلك (خفيفتان) بمعنى سهلتي الجري على اللسان لقلة حروفهما ورشاقتهما
(الميزان) هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد والأصح أنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين وفي كيفيته أقوال وفي هذا الجزء من الحديث المقابلة والموازنة في السجع لأنه قابل الخفة على اللسان بالثقل في الميزان وقال حبيبتان إلى الرحمن لأجل الموازنة بقوله على اللسان وحبيبتان وخفيفتان وثقيلتان صفات لقوله كلمتان كما مر وفي الرواية تقديم حبيبتان على ما بعدها وفي رواية "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن"
(سبحان الله) سبحان اسم مصدر لسبح بالتشديد وقياس مصدر فعل المشدد إذا كان صحيح اللام التفعيل كالتسليم والتكريم وقيل مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء الملازمة للإضافة وقد يفرد فإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون وهو لازم النصب بفعل مقدر ولا يجوز إظهاره وإضافته إلى المفعول أي سبحت الله ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه نفسه والأول هو المشهور ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص
(وبحمده) قيل الواو زائدة فهو مع سبحان الله جملة واحدة وقيل عاطفة أي وبحمده سبحته فذلك جملتان وقيل للحال أي أسبحه متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه لي للتسبيح ونحوه والباء في قوله "بحمده" للملابسة والحمد مضاف للمفعول أي متلبسا بحمدي له كما تقرر وقيل للاستعانة والحمد مضاف للفاعل أي أسبحه بحمده إذ ليس كل تنزيه محمودا ألا ترى أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات وقيل للسببية أي أسبح الله وأثني عليه بحمده قال الخطابي المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب على حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي يريد أنه مما أقيم فيه المسبب مقام السبب
-[فقه الحديث]-
أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" أن قائلهما محبوب
لله تعالى ومحبة الله لعبده إرادته إيصال الخير له والتكريم وخص اسم الرحمن دون غيره من أسماء الله الحسنى لأن كل اسم منها إنما يذكر في المكان اللائق به كقوله تعالى {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} وكذلك هنا ولما كان جزاء من يسبح بحمده تعالى الرحمة ذكر في سياقها الاسم المناسب لذلك وهو الرحمن والكلمتان خفيفتان على اللسان للين حروفهما وسهولة مخارجهما فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشدة المعروفة ولا من حروف الاستعلاء أيضا سوى حرفين "الباء والظاء" وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة "الألف والواو والياء" وبالجملة فالحروف السهلة الخفيفة فيهما أكثر من العكس واختلف في قوله "ثقيلتان في الميزان" فقيل الثقل حقيقة كما هو مذهب أهل السنة لكثرة الأجور المدخرة لقائلهما والحسنات المضاعفة للذاكر بهما فالموزون نفس الكلمات لأن الأعمال تتجسم وقيل الموزون صحائفها لحديث البطاقة المشهور ووصف الكلمتين بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب وفي هذا الوصف إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان وقد روي في الآثار أن عيسى عليه الصلاة والسلام سئل ما بال الحسنة تثقل والسيئة تخف فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت عليك فلا يحملنك على فعلها خفتها فإنما بذلك تخف الموازين يوم القيامة "سبحان الله وبحمده" أي أسبح الله تسبيحا يختص به وأنزهه عن كل ما لا يليق به تنزيها متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه لي وقدم التسبيح على التحميد تقديما للتخلية وختم بقوله "سبحان الله العظيم" ليجمع بين مقامي الرجاء والخوف إذ معنى الرحمن يرجع إلى الإنعام والإحسان فيقتضي الرجاء ومعنى العظيم يشعر بالقوة
والغلبة فيقتضي الخوف من هيبته تعالى وفي رواية "سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده" وكرر التسبيح دون التحميد اعتناء بشأن التسبيح لكثرة المخالفين فيه قال الحافظ وجاء ترتيب هذا الحديث على إسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم
بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
الحث على إدامة الذكر باللفظ المذكور لمحبة الرحمن له وخفته بالنسبة لما يتعلق بالعمل وثقله بالنسبة لإظهار الثواب
2 -
أن مثل هذا السجع الوارد فيه جائز فإن المنهي عنه في قوله عليه الصلاة والسلام "سجع كسجع الكهان" ما كان متكلفا أو متضمنا للباطل لا ما جاء عن غير قصد أو تضمن حقا ويؤخذ من ذلك أن السجع ليس يشعر فلا يوزن على أن الممنوع منه صلى الله عليه وسلم ما كان عن قصد كما تقدم
3 -
إيراد الحكم المرغوب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من الحديث الأمر بملازمة الذكر
4 -
جواز المقابلة والموازنة في السجع.
5 -
فيه إشارة إلى امتثال قوله تعالى {وسبح بحمد ربك}