المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الرقاق الرقاق بكسر الراء جمع رقيقة وفي بعض الكتب كتاب - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٤

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌ ‌كتاب الرقاق الرقاق بكسر الراء جمع رقيقة وفي بعض الكتب كتاب

‌كتاب الرقاق

الرقاق بكسر الراء جمع رقيقة وفي بعض الكتب كتاب الرقائق والمعنى واحد قال الراغب متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رفيق وثوب صفيق ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسيه سميت الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب بذلك لما فيها من الوعظ والتنبيه الذي يجعل القلب رقيقا فكأنه قال كتاب الكلمات المرققة للقلوب

53 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"

-[المعنى العام]-

يدعو الرسول إلى المثابرة في عمل الدنيا والآخرة فيقول نعمتان لا يقدرهما كثير من الناس حق قدرها ولا ينظر في عاقبتهما حتى يخسرهما هما الصحة التي يتمتع بها والفراغ الذي يضيعه وقد كان يستطيع أن يستغل صحته وفراغه في طاعة ربه

-[المباحث العربية]-

(نعمتان) تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة وقيل هي الفعلة على جهة الإحسان إلى الغير

ص: 197

(مغبون فيهما كثير من الناس) إما مشتق من الغبن بسكون الباء وهو النقص في البيع وإما من الغبن بفتح الباء وهو النقص في الرأي فكأنه قال هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما أي باعهما ببخس لا تحمد عقباه أو ليس له في ذلك رأي و"كثير" مرفوع بالابتداء و"مغبون" خبر مقدم والجملة خبر "نعمتان"

(الصحة والفراغ) خبر مبتدأ محذوف تقديره هما الصحة والفراغ والجملة استئناف لبيان النعمتين ففيه التفصيل بعد الإجمال

-[فقه الحديث]-

يرمي الحديث إلى التشمير والجد والعمل والحرص على النعمة والاستفادة منها واختار من النعم التي لا تحصى نعمتين خصهما من بينها لعظم فائدتهما وكثرة الغافلين عن استغلالهما بأنك لا تكاد ترى من يذكر الصحة إلا من فقدها حتى قال بعضهم الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى كما أن كثيرا من الناس لا يحسب للزمن حسابا فيقطعه في اللهو ويستكثر الفراغ ويؤخر الهام من الأمور إلى الغد وهو لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم موجود غدا وأن الأيام التي تمر محسوبة من العمر المحدود وكان الرسول في هذا الحديث يقول الصحة والفراغ إن لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما فيهما أي باعهما ببخس لا تحمد عاقبته فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعة في زمن صحته ففي زمن المرض من باب أولى وكذلك شأنه في الفراغ أيضا وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لانشغاله بالمعاش وبالعكس فإذا تهيأ للعبد الصحة والفراغ وقصر في نيل الفضائل فذلك هو الغبن كل الغبن لأن الدنيا سوق الأرباح وتجارة الآخرة فمن استغل فراغه وصحته في طاعة مولاه فهو المغبوط ومن استعملها في معصيته فهو المغبون لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم قال صلى الله عليه وسلم "أغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك"

ص: 198

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن الصحة والفراغ من النعم العظيمة التي يمكن أن تعود بالنفع الأكبر على الإنسان

2 -

أن الغافلين عن استغلال النعم فيما وضعت له كثير قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور}

3 -

الحث على الاستفادة من الصحة قبل المرض ومن الفراغ قبل الانشغال.

54 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"

-[المعنى العام]-

طبع الله الإنسان على حب المال والسعي في طلبه وعدم الشبع منه حتى لو ملك جبلا من ذهب لتمنى جبلا ثانيا ولو ملك جبلين من ذهب وفضة لتمنى ثالثا وهكذا لا يقنع حتى يموت ويدفن وحتى يمتلئ فمه وعيناه وجوفه بعد الفناء بالتراب وخير الناس من عصمه الله من هذا الشر ورزقه غنى النفس وجعل دنياه في يده لا قلبه وإن خير الناس من إذا أعطي الدنيا جعلها وسيلة للآخرة وقال كما قال عمر حينما صبت أمامه كنوز

ص: 199

كسرى اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا اللهم الهمنا الرضا وارزقنا أن ننفقه فيما يرضيك يا رب العالمين

-[المباحث العربية]-

(لو كان لابن آدم واديان) تثنية واد وهو كل منفرج بين جبال أو آكام وهو منفذ السيل وفي رواية "لو كان لابن آدم مثل واد مالا" وفي أخرى "لو أن ابن آدم أعطي واديا" وفي أخرى "لو أن لابن آدم واديين" قال الشرقاوي وهنا نكتة دقيقة فإنه ذكر ابن آدم ولم يقل لو كان للإنسان تلويحا إلى أنه مخلوق من التراب ومن طبعه القبض واليبس فيمكن إزالته بأن يمطر الله عليه توفيقه فيثمر حينئذ الخلال الزكية

(من مال) وفي رواية "من ذهب" وفي أخرى "من ذهب وفضة"

(لابتغى) أي لطلب وفي رواية "لأحب أن له إليه مثله" وفي أخرى لتمنى مثله ثم تمنى حتى يتمنى أودية

(ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) وقعت هذه الجملة موقع التذييل والتقرير للكلام السابق كأنه قيل لا يشبع من خلق من التراب إلا بالتراب وفي رواية "ولا يملأ عين ابن آدم" وفي أخرى "ولا يسد جوف ابن آدم" وفي أخرى "ولن يملأ فا ابن آدم" قال الكرماني ليس المقصود من هذه التعبيرات الحقيقة بل هو كناية عن الموت لأنه مستلزم للامتلاء فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت فالغرض من العبارات كلها واحد وليس فيها إلا التفنن في الكلام قال الحافظ وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة وقال بعضهم إن نسبة الامتلاء إلى الجوف والبطن واضحة أما نسبته إلى النفس التي عبر بها عن الذات وأريد منها البطن فمن قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء وأما نسبته إلى الفم فلكونه الطريق الموصل إلى الجوف وأما نسبته إلى العين فلأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه فيطلبه ليحوزه وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل المستلذات وأكثرها تكرار للأكل والشراب

ص: 200

(ويتوب الله على من تاب) وقعت هذه الجملة موقع الاستدراك فكأنه قال حب المال جبل في الإنسان ولكن يمكن تهذيبه بتوفيق الله لمن يريد له ذلك

-[فقه الحديث]-

في معنى هذا الحديث يقول الله تعالى {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} حيث فسر كثير من المفسرين زيارة القبور بالموت يعني شغلكم التكاثر في الأموال إلى أن متم والمراد ذم الحرص على الدنيا والشره نعم جبل الإنسان على حب المال والسعي في طلبه وعدم الشبع منه لكنه مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه ولهذا كانت هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب وجعل التخلص منها أو الحد من طغيانها رجوعا إلى الله وإلى شرعته ولا يفهم من هذا أن الإسلام يدعو أبناءه إلى الفقر والخمول ويباعد بينهم وبين السعي ويقصر هممهم عن بلوغ قمة الحياة فالإسلام الذي خرج بالبدو من العصا والعنز إلى قصور وكنوز كسرى وقيصر أبعد ما يكون عن هذا الفهم القاصر ولكنه يحذر من أن يأكل أهله التراث أكلا لما ومن أن يحبوا المال حبا جما يعميهم عن تخير مصدره ويطغيهم عن إحسان مصرفه يحذر من أن تستولي فكر المال على كل أهدافنا فلا نسعى إلا له ولا نفكر فيما بعده يوضح أن هذه الشهوات للقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ينبغي ألا يشغلنا عن حقوق الله وعن حقوق الناس وعما ينتظرنا في الدار الآخرة من جزاء فما هذه الشهوات إلا متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن الثواب ومن أجل هذا يلوح الحديث إلى المبدأ والنهاية بذكر التراب وبتذكيرنا بأننا أبناء آدم الذي خلق من التراب يدعونا إلى غنى النفس قل المال أو كثر وينأى بنا عن خسة بعض المتمولين فقراء النفس الذين هم لشدة شرههم وحرصهم على جمع المال يحسون بأنهم فقراء يأكلون ولا يشبعون بل كلما ازدادوا أكلا ازدادوا جوعا

ص: 201

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن حب المال وعدم الشبع منه جبلى في الإنسان

2 -

ذم هذه الصفة والحث على تهذيبها وتقويمها

3 -

التحول إلى المصالح وطلب توفيق الله لتقويم المعوج من الطباع.

55 -

عن عبد الله رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه قال "فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر"

-[المعنى العام]-

يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربات لينتفع به في الآخرة فيسأل أصحابه من منكم يحب مال وارثه أكثر من ماله فيجيبون لا أحد منا إلا وهو يحب ماله أكثر من حبه لمال وارثه فيقول صلى الله عليه وسلم إنما المال الذي يصح أن ينسب إليكم في حياتكم ومماتكم ويستدعي محبتكم هو ما أنفقتموه في الخيرات وقدمتموه في سبيل الله فإنه هو الذي ينفعكم نفعا أبديا أما ما تدخرونه وتحرمون أنفسكم من

ص: 202

التمتع الحلال به حتى تموتوا عنه فليس في الحقيقة مالا لكم وإنما هو مال ورثتكم فمن كان ماله أحب إليه من مال وارثه فليقدم ومن كان مال وارثه أحب إليه فليؤخر

-[المباحث العربية]-

(عبد الله) بن مسعود كما مر في الحديث 49

(أيكم مال وارثه أحب إليه) أي مبتدأ ومال مبتدأ ثان و"أحب" خبر الثاني والجملة خبر أي والمراد بالاستفهام تقريرهم بما جبل عليه الإنسان من حب مال النفس ليبني عليه صلى الله عليه وسلم ما يريد بيانه لهم زيادة في الإيضاح والمراد من المحبة لازمها من الحرص وعدم التفريط

(فإن ماله ما قدم) الفاء أفصحت عن شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فإن ماله ما قدم وعائد الصلة مفعول "قدم" المحذوف والمراد من التقديم الإنفاق في وجوه الخيرات

(ومال وارثه) نسبة المال إلى المورث في دنياه حقيقة ونسبته إلى الوارث حينئذ مجاز باعتبار المال و (مال) بالنصب عطفا على اسم إن وبالرفع على الابتداء

-[فقه الحديث]-

مال الإنسان باعتبار الانتفاع به على ثلاثة أنواع لأنه إما أن ينفقه في الملاذ والشهوات بطريق الإسراف والتبذير فلا ينبغي أن يقال إنه ماله بل الأولى أن يقال إنه مال الشيطان وإما أن ينفقه في وجوه الخيرات من الصدقة والبر والحج وفك العاني ونحوها فهذا هو الجدير بأن يطلق عليه أنه ماله حقيقة بل هو جدير بأن يقال عنه أنه حفظه بدلا من أن يقال إنه أنفقه قال تعالى {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وإما أن يكنزه ويدخره ويشح به ولا يؤدي حق الله فيه حتى يموت عنه ويتركه لورثته فلا ينبغي أن يقال إنه ماله بل هو مال وارثه وكل ماله فيه الكد والتعب والجمع

ص: 203

دون الانتفاع لأن الوارث إن صرفه في وجوه الخير فالمنفعة له لا للمورث وإن صرفه في معصية فلا فائدة للمورث من باب أولى إن سلم من تبعته ولا يعارض هذا ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم لسعد "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" لأن سعدا أراد أن يتصدق بماله كله في مرضه وكان وارثه بنتا ولا طاقة لها على الكسب فأمره أن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه لابنته وبيت المال وحديث الباب إنما خاطب به أصحابه في صحتهم ليحرضهم على تقديم شيء من مالهم لينفعهم يوم القيامة فكأنه طلب من المؤمن في هذين الحديثين أن يراعي مصلحة نفسه ومصلحة وارثه فلا يبذل كل ماله ولا يبخل بكل ماله بل يكون وسطا كما قال تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

مراعاة مقتضى الحال وسؤال المخاطب وتقريره ليبني عليه الجواب

2 -

بيان جبلة الإنسان في حبه لنفسه فوق حبه لأولاده

3 -

الدعوة إلى البذل والإنفاق في وجوه الخير قبل أن يرحل عن المال ويتركه للغير.

ص: 204

56 -

عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجا النجاء فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم"

-[المعنى العام]-

يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإيمان به وتصديقه وإطاعته في كل ما جاء به عن ربه ويحذر من عصيانه وتكذيبه ومن ضرر مخالفته فيشبه حاله وحال ما جاء به ومن جاء إليهم بحال رجل تحقق عنده جيش العدو تحقق العيان وهو حريص على خير قومه راغب في إبعادهم عن كل مكروه فأقبل ينصحهم باتخاذ وسائل الهرب والنجاة مما لا قبل لهم بمواجهته فمن خاف العدو فسار ليلا سيرا لا ضرر معه ولا إزعاج فإنه ينجو من الهلاك والاجتياح وأما من تقاعس عن الهرب واشتغل بالملاذ حتى أدركه جيش الأعداء فإنه لا محالة هالك هلاكا يفوق كل تشف وكل انتقام وهكذا حال رسول الإسلام مع أمته بين لهم ما فيه خيرهم وما فيه هلاكهم فمن صدقه واستقام على شرعة الله السهلة التي لا مشقة فيها ولا إرهاق نجا من عذاب الله وفاز بالسعادة الأبدية والنعيم المقيم ومن كذبه وعصاه وطغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى

-[المباحث العربية]-

(مثلي) المثل بفتحتين هو الصفة العجيبة الشأن يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم

(ومثل ما بعثني الله به) في بعض النسخ حذف العائد

(أتى قوما) التنكير للشيوع

(رأيت الجيش) أل للعهد والمراد الجيش المعهود عداوته للمخاطبين

ص: 205

(بعيني) بالتثنية وفي رواية بالإفراد والغرض من ذكره الإرشاد إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر به تحقق من رأى شيئا بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك

(وأنا النذير العريان) النذير المنذر والعريان بضم العين الذي تجرد عن ثيابه قال الطيبي في كلامه تأكيدات (1) قوله بعيني (2)"وإني أنا"(3) قوله "العريان" لأنه للغاية في قرب العدو ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق والنذير العريان مثل قديم والأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فأسروه وسلبوه وجردوه من ملابسه فانقلب إلى قومه فقال إني رأيت الجيش بعيني إني أنا النذير لكم وترونني عريانا إذ جردوني من ملابسي فتحققوا صدقه لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولم تجر عادته بالتعري فالتحقق من صدق النذير المشبه به نتيجة لهذه القرائن والتحقق من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله على يده من المعجزة القاطعة بصدقه قال العيني وتنزيل الحديث على هذه القصة بعيد والأنسب لأن يتمثل به النبي صلى الله عليه وسلم هو ما كان من عادة العرب من أن الرجل إذا رأى غارة فاجأت قومه وأراد أن يعلمهم يتعرى من ثيابه ليشير بها أنه فاجأهم أمر ثم صار مثلا لكل منذر مما يخاف مفاجأته ويؤيد هذا ما رواه أحمد "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنادى ثلاث مرات أيها الناس مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو فأقبل ليذكر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أوتيتم (ثلاث مرات)

(فالنجاء النجاء) روي بالهمزة فيهما وبالقصر فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية تخفيفا وروي بتاء التأنيث والنصب في الكل على الإغراء أي اطلبوا النجاة بأن تسرعوا بالهرب فإنكم لا تطيقون مقاومته والتكرير للتأكيد والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا صدقتموني فاطلبوا النجاة

(فأطاعته طائفة) الفاء لترتيب الإطاعة على القول وفي رواية "فأطاعة طائفة" بتذكير الفعل لأن الطائفة بعض القوم

ص: 206

(فأدلجوا) أي ساروا أول الليل أو كله

(على مهلهم) بفتح الهاء الأولى وبسكونها وهو السكينة والتؤدة والرفق

(وكذبته طائفة) كان الظاهر أن يقول "وعصته" ليقابل "فأطاعته" أو يقول فصدقته بدل "فأطاعته" ليقابل "كذبته" ولكنه عدل عن ذلك ليفيد أن النجاة موقوفة على الطاعة ولا يكفي فيها التصديق مع العصيان وإن الاجتياح الذي هو الإهلاك والاستئصال إنما يتناسب مع التكذيب ويكفي لحصوله التكذيب وحده وإن وجدت معه طاعة ظاهرية كحال المنافقين وقال الطيبي عبر في الأولى بالطاعة وفي الثانية بالتكذيب ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق ويشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان

(فصبحهم الجيش) أصله أتاهم صباحا ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغته ولو في غير الصباح

شبه الرسول حاله وحال ما جاء به وحال المبعوث إليهم شبه هذه الصفة كلها بصفة رجل مقطوع بصدقه جاء ينصح قومه بما ينفعهم وينجيهم من هلاك ودمار على يد جيش لا قبل لهم به فصدقه جماعة فاتخذوا وسائل النجاة فنجوا وكذبه آخرون فتقاعسوا حتى أدركهم العدو فأبادهم

-[فقه الحديث]-

أفاد هذا الحديث

1 -

وجوب المبادرة بالاعتصام بحبل الله والإيمان بالرسول وطاعته والانتهاء عن المعاصي لتحقق النجاة للمرء من عذاب الله

2 -

فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته إذ هداهم إلى الله وأنار لهم السبيل وبصرهم بالعواقب وأنذرهم عذاب يوم كبير

3 -

ضرب الأمثال تقريبا لإفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.

ص: 207

57 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه"

-[المعنى العام]-

طبع الإنسان على حب المال والطمع فيه وعدم الوقوف منه عند حد وطبع على النظر إلى ما في يد الغير والرغبة فيه لكنه مأمور بتهذيب هذا الطبع وتقويمه بما يوافق الشرع فإذا نظر إلى من فضل عليه في المال أو الجاه أو الأولاد أو الأتباع أو غير ذلك من متاع الحياة الدنيا فليتبع هذه النظرة بنظرة إلى من هو أقل منه في ذلك فهو أجدر ألا يتحسر وألا يعيش في هم ونكد وأجدر ألا يزدري نعمة الله تعالى عليه

-[المباحث العربية]-

(من فضل عليه) بالبناء للمجهول أي فضله الله عليه بأن أعطاه أكثر منه

ص: 208

(والخلق) بفتح الخاء وسكون اللام الخلقة والصورة وقد يراد به المخلوق فيشمل الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا

(إلى من هو أسفل)"هو" مبتدأ و"أسفل" خبره والجملة صلة "من" ويجوز في "أسفل" الرفع على الخبرية والنصب على الظرفية فيتعلق بمحذوف هو الخبر وهو في الأصل صفة لظرف محذوف والتقدير هو كائن في مكان أسفل منه قال تعالى {والركب أسفل منكم}

-[فقه الحديث]-

يوجهنا الحديث إلى وسائل الرضا والسعادة النفسية ومحاربة التحسر والجزع والهم والنكد ولا شك أن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه أسى وحسرة فدواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون في ذلك شعور بأن نعمة الله وصلت إليه فوق كثير من الناس فيعظم اغتباطه ويشكر وكل إنسان في حالة خسيسة من الدنيا يجد من أهلها من هو أخس حالا منه وتقييد التفضيل بالمال والخلق للاحتراز عن التفضيل بالعلم والتقوى فإنه ينبغي للمرء أن ينظر إلى من فضل بشيء من ذلك ليستصغر حال نفسه فيطلب اللحاق به فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه فقد روى الترمذي "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فآسف على ما فاته لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا" وأخرج الحاكم والبيهقي "أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عز وجل" ومن رواية الترمذي والبيهقي تتبين علة الأمر بالنظر إلى من هو دوننا في المال وإنها خوف الأسف على ما فات وازدراء نعمة الله ولا يبعث الحديث على الكسل في طلب الرزق ولا يمنع من التأسي بالعاملين للوصول إلى حالة أفضل إنما يطلب أن يأخذ الإنسان في

ص: 209

الأسباب ثم يحمد الله على ما رزق ولا يحزن على ما فقد ولا يكون نظره إلى من هو أعلى منه في المال باعثا له على التكالب عليه وعلى جمعه من الحل وغير الحل تاركا بذلك حرث الآخرة ومضيعا حق الله فيما جمع

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

جواز النظر إلى من فضل على الإنسان في المال ليبعثه ذلك إلى الجد والسعي على أن ينظر لمن هو دونه ليشكر على ما هو فيه

2 -

وأنه لا يكون أحد على حال سيئة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أسوأ حالا منه

3 -

وأن الشكر على النعم واجب مهما صغرت هذه النعم بالنسبة لغيرها

4 -

وأن الرضا النفسي بما قسم الله هو الغنى الحقيقي وهو المحصل للسعادة الروحية.

58 -

عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحشرون حفاة عراة غرلا" قالت عائشة فقلت يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض فقال "الأمر أشد من أن يهمهم ذاك"

-[المعنى العام]-

يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الحشر بعد البعث من القبور فيقول

ص: 210

تحشرون إلى الموقف عارية أقدامكم لا يسترها خف ولا تعتمد على نعل عارية أجسامكم لا يخفي عورتكم إزار ولا رداء ويعود إلى أعضائكم ما قطع منها في الدنيا حتى ما يقطعه الخائن وكان في القوم عائشة فتعجبت من هذا الوصف وبما طبع في نفسها من استقباح كشف العورة واستنكار النظر إليها قالت يا رسول الله كيف يحشر الرجال والنساء جميعا وكيف ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وأجابها رسول الله اطمئني يا عائشة نعم يحشر الرجال والنساء جميعا عراة ولكنهم لا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض لهول ما هم فيه {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}

-[المباحث العربية]-

(تحشرون) الخطاب للصحابة ومن على شاكلتهم في الإنسانية والحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه ولا يقال الحشر إلا في الجماعة والحشر منه ما هو في الدنيا كحشر جنود سليمان وحشر يهود بني قريظة إلى خيبر ومنه ما هو في الآخرة وهو سوق الأموات من قبورهم بعد البعث إلى الموقف وهذا هو المراد في الحديث

(حفاة) أي بلا نعل ولا خف ولا شيء يستر أرجلهم

(عراة) جمع عار أي بلا شيء يستر عورتهم

(غرلا) بضم الغين وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا أول مرة ويعادون كما كانوا في الابتداء لا يفقد منهم شيء حتى الغرلة وهي ما يقطعه الخاتن من ذكر الصبي

(الرجال والنساء) الكلام على تقدير الاستفهام والرجال مبتدأ والخبر محذوف والتقدير هل الرجال والنساء يحشرون جميعا

(ينظر بعضهم إلى بعض) الجملة حالية أو هي خبر الرجال وفي الكلام مضاف محذوف أي سوأة بعض كما جاء في رواية أخرى "فقالت

ص: 211

وأسواتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض

(الأمر أشد) أي أمر القيامة وأهوال المحشر أشد

(من أن يهمهم ذلك) بضم الياء من أهم الرباعي أي يشغلهم وبفتح الياء من همه الشيء إذا أذاه قال ابن حجر والأول أولى والإشارة إلى نظر بعضهم إلى سوأة بعض

-[فقه الحديث]-

وصفت أحاديث أخرى أرض المحشر بأنها ستكون بيضاء كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل فوقها خطيئة مستوية لا حدب فيها يرد البصر ولا بناء يستر ما وراءه ولا علامة يعلمها بها أحد ويصف هذا الحديث أهل المحشر بأنهم سيكونون حفاة عراة ولكل واحد ما كان له من الأعضاء يوم ولد فمن قطع عنه شيء رد إليه وقد تعارض ظاهر هذا الحديث مع حديثين

أحدهما رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن أبي سعيد أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" وجمع بينهما بأنهم يخرجون من قبورهم بثيابهم التي دفنوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة وقيل في الجمع أن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا وهذا القول ليس بشيء وحمل بعضهم قول الرسول في حديث أبي سعيد "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" حمله بعضهم على العمل أخذا من قوله تعالى {ولباس التقوى ذلك خير}

وثانيهما يفهم من قوله "حفاة" أنهم سيكونون مشاة وهذا صرح به في رواية وهذا يتعارض مع ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير" وجمع الكرماني فقال هذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة والتعبير بالاعتقاب

ص: 212

على الإبل مجاز عن الحرص على الفرار والهرب من النار التي يبعثها الله عليهم يؤيد ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنكم تحشرون ونحا بيده نحو الشام رجالا وركبانا وتحشرون على وجوهكم" وعندي أنه يحتمل أن تكون هذه النار مجازا عما يخترعه العالم المتمدن من أسلحة الدمار والخرابمن القنابل الذرية والصواريخ الموجهة وأن هذا الحشر سيكون عبارة عن هجر الناس من المناطق المهدمة إلى مناطق نائية حتى يأتيهم أمر الله وإشارة الرسول نحو الشام ليست نصا في جعله أرض الهجرة والحشر

-[ويؤخذ من الحديث فوق صفة الحشر السابقة: ]-

1 -

أن أهوال الآخرة شديدة تشغل الناس عن كل ما يشتهون

2 -

أن النظر إلى العورة مستقبح وحرام

3 -

مراجعة المستمع للعالم إذا أشكل عليه الخبر.

59 -

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل والقمقم"

ص: 213

-[المعنى العام]-

يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم العصاة بصفة عامة والمشركين بصفة خاصة من عذاب النار وشدته وبالغ أثره فيقول إن أخف أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يقف في نار تبلغ الكعبين فكأنه يلبس نعلين من نار وأهون منه رجل يوضع تحت باطن قدميه الذي لا يصل إلى الأرض عند المشي جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ويفور كما يغلي القدر بالماء فيقول الله تبارك وتعالى له لو أنك لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي

-[المباحث العربية]-

(رجل يوضع على أخمص قدميه جمرتان) الأخمص بفتح الهمزة والميم وقد تضم الميم ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم وعبر هنا بعلى من أن الجمرة تكون تحت القدم للإشارة إلى تمكن الجمرة من قدمه كتمكن المستعلي من المستعلى عليه وقد وقع في بعض الروايات "رجل توضع في أخمص قدميه جمرة" بالإفراد فيحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بها بقرينة القدمين كما إذا قلت ضربت ظهر ترسيهما فإنه لا بد من إرادة الظهرين

(كما يغلي المرجل والقمقم) المرجل بكسر الميم وفتح الجيم قدر من نحاس والقمقم بضم القافين إناء من نحاس ضيق الرأس له عروتان غالبا يسخن فيه الماء ويستقى به وهذه الرواية بواو العطف لا أشكال فيها إذ المقصود تشبيه غليان رأسه بغليان هذين الإناءين وكذلك جاء في رواية بلفظ "أو" بدل الواو فهي على الشك من الراوي أو على إرادة التنويع في التشبيه أي لك أن تشبه الرأس بالمرجل ولك أن تشبهه بالقمقم لكن المشكل رواية "كما يغلي المرجل بالقمقم" الذي هو إناء آخر وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بجعل الباء بمعنى مع وجوز بعضهم أن تكون

ص: 214

الرواية "بالقمقم" بكسر القافين وهو يابس البسر ويكون المعنى يغلي منهما دماغه كما يغلي القدر بالبسر اليابس ويكون قد شبه تحرك أجزاء رأسه الداخلة بتحرك البسر في الماء عند الغليان

-[فقه الحديث]-

قال الحافظ ابن حجر وقع التصريح بأن المراد من الرجل أبو طالب في حديث ابن عباس عند مسلم ولفظه "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب" وسبب ذلك كما قال بعض العلماء أنه دافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض نفسه لمن أراد الرسول بسوء وكان يمدح ما جاء به إلا أنه كان يخشى العار إذا فارق ما كان عليه آباؤه مثبتا قدمه على ملتهم حتى قال عند الموت إنه على ملة عبد المطلب فهون الله عليه العذاب نظرا لقوة دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم في أيام ضعفه وسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه من باب مشاكلة الجزاء للعمل واعترض هذا القول بأن حسنات الكفار تصير بعد الموت هباء منثورا ولهذا قيل إن التخفيف على أبي طالب بسبب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه نعم يشكل عليه "فما تنفعهم شافعة الشافعين" وأجيب بأنه خصوصية لأبي طالب والنبي صلى الله عليه وسلم

ويفهم من هذا أن المراد من أهل النار ملازموها وهم الكفار ولا يشمل مرتكبي الكبائر من المؤمنين يدل لذلك ما رواه البخاري "أن الله يقول لأهون أهل النار أردت منك أهون من هذا أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي"

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

شدة عذاب النار

2 -

أن المعذبين به من الكفار ليسوا في درجة واحدة

ص: 215

3 -

تحذير العصاة والكافرين من هول هذا العذاب ليبتعدوا عما يؤدي إليه.

ص: 216