المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب المرضى 33 - عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٤

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌ ‌كتاب المرضى 33 - عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة

‌كتاب المرضى

33 -

عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"

-[المعنى العام]-

لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لقد أنزلت على آية هي لأمتي خير من الدنيا وما فيها ثم قرأها قال إن العبد إذا أذنب ذنبا فتصيبه شدة أو بلاء في الدنيا من تعب أو مرض أو هم أو حزن أو غم وإن قل حتى الشوكة الصغيرة تصيبه في قدمه فإن الله يحط بها عنه من خطاياه ويكتب له بها حسنات ويرفع له بها درجات

-[المباحث العربية]-

(ما يصيب المسلم من نصب) قال الراغب أصل أصاب يستعمل في الخير والشر قال تعالى {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا} الآية وقيل الإصابة في الخير مأخوذة من الصوب وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضرر وفي الشر مأخوذ من إصابة السهم قال الكرماني المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقا وفي

ص: 125

العرف ما نزل به من مكروه خاصة وهو المراد هنا والنصب هو التعب وزنا ومعنى و"من" قبله زائدة

(ولا وصب) أي مطلق مرض أو مرض ملازم

(ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم) الهم المكروه يلحق الإنسان بحسب ما يقصده والحزن بفتحتين أو بضم وسكون هو ما يلحقه بسبب حصول مكروه في الماضي وهما من أمراض الباطن والأذى ما يلحقه من تعدي الغير عليه والغم كما قال الكرماني يشمل جميع المكروهات لأنه إما بسبب ما يعرض للبدن أو النفس والأول إما بحيث أن يخرج الجسم عن المجرى الطبيعي فهو المرض وأما بحيث أن لا يخرجه فإن لوحظ فيه الغير فهو الأذى وإن لم يلاحظ وظهر فيه الانقباض والاغتمام بسبب ما يقصد مستقبلا فهو الغم أو في الماضي فهو الهم والحزن فذكر الغم ذكر عام بعد خاص

(حتى الشوكة) يجوز فيه الحركات الثلاث فالجر على معنى الغاية أي إلى الشوكة أو للعطف على لفظ (نصب) والرفع للعطف على محل (نصب) لأنه فاعل (يصيب) و (من) زائدة والنصب بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوكة

(يشاكها) بضم أوله أي يشوكه بها غيره وفيه وصل الفعل بالضمير بعد حذف حرف الجر لأن الأصل يشاك بها وفي معنى ذلك ما لو دخلت من غير إدخال والجملة في محل النصب على الحال

(إلا كفر الله بها من خطاياه) من تبعيضية وكفر من التكفير وهو التغطية والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحال والتقدير ما يصيب المسلم غم في حال من الأحوال إلا في حال تكفير خطاياه أي إنما يصيب المسلم هذه الأمور مكفرة خطاياه والقصر قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة

ص: 126

-[فقه الحديث]-

قال ابن بطال إن المسلم يجازى على بعض خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها وظاهر الحديث أن الثواب على نفس المصيبة بشرط ألا تقترن بالسخط وعليه الجمهور وقيل إن الثواب والعقاب على الكسب والمصائب ليست منه بل الأجر على الصبر عليها والرضا بها ورد بأن ذلك قدر زائد يمكن الثواب عليه زيادة على ثواب المصيبة ومن المعلوم أن الناس عند البلاء درجات فمنهم من يسلم الأمر ومنهم من يبتغي به وجه الله ويقصد الأجر ومنهم من يتلذذ بالبلاء راضيا عن الفعال لما يشاء وأما الساخطون فليسوا من الله في شيء ويؤخذ من الحديث حصول الثواب للمصاب وتخفيف العقاب عنه.

34 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء"

ص: 127

-[المعنى العام]-

يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن من حيث كثرة ابتلاء الله له في دنياه ومن حيث إطاعته لربه وصبره على المصائب ورضاه بها واحتسابها بالنبتة الصغيرة اللينة التي تشتد عليها الريح فتقلبها مرة وتميلها أخرى ولا تكاد تعتدل حتى تهب عليها الريح من جانب آخر فتقلبها إلى الجهة الأخرى وهكذا المؤمن كلما اختبره الله برزء انطاع له ولان ورجا منه الخير فإذا سكن عنه البلاء اعتدل قائما بالشكر لربه أما الكافر الفاجر فمثله مثل شجرة ضخمة صلبة غير جوفاء لا تعصف بها الريح ولا تتأثر بالعوارض حتى إذا شاء الله لها الهلاك قصمها قصما وكسرها كسرا وهكذا الفاجر لا يتفقده الله باختبار بل يعافيه في دنياه ويمهله ويملى له ويجعل له التيسير في المال والصحة والأولاد وبهجة الحياة الدنيا حتى إذا أخذه لم يفلته وإن أخذ ربك لشديد

-[المباحث العربية]-

(مثل المؤمن) المثل هو الصفة العجيبة الشأن

(كمثل الخامة من الزرع) الخامة هي أول ما ينبت من الزرع على ساق واحدة غضا طريا و (من الزرع) متعلق بمحذوف صفة للخامة لأن تعريفها للجنس أو حال منها

(من حيث أتتها الريح كفأتها) أي أمالتها والجار والمجرور متعلق بكفأتها أي تميلها الريح من أي جانب وصلت إليها والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب سيقت لبيان وجه الشبه

(فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء) تكفأ أصله تتكفأ وحذفت إحدى التاءين وأصل الكلام فإذا اعتدلت الخامة تكفأت بالريح أي تقلبت فعبر عن الريح بالبلاء لأنها بلاء بالنسبة إلى الخامة أو أراد بالبلاء ما يضر بالخامة وقال الكرماني لما شبه المؤمن بالخامة أثبت للمشبه به ما هو من خواص المشبه

ص: 128

وهو البلاء وقال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون جواب الشرط محذوفا والضمير في اعتدلت يعود على الريح والتقدير فإذا اعتدلت الريح استقامت الخامة ويكون قوله بعد ذلك (تكفأ بالبلاء) فوجه الشبه قبول العوارض التي تخرج الشيء عن اعتداله قهرا

(والفاجر كالأرزة) بفتح الهمزة وسكون الراء شجرة الصنوبر وهي مشهورة بالطول والغلظ وهي شعار جمهورية لبنان

(صماء) صلبة مكتنزة شديدة ليست بجوفاء ولا خوارة وفي (صماء معتدلة) النصب على الحال أو الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف

(حتى يقصمها الله) من القصم وهو الكسر عن إبانة بخلاف الفصم بالفاء فإنه كسر بدون إبانة ووجه الشبه بين الفاجر والأرزة قلة العوارض التي تخرج الشيء عن اعتداله حتى يأتيه الهلاك دفعة واحدة

-[فقه الحديث]-

يرمي الحديث إلى غرس الصبر في قلب المؤمن عند البلاء وبعث له على الرضا بالقضاء فإن الله تعالى يخص أولياءه بشدة الأوجاع والمصائب والآلام لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم ثواب طاعاتهم ويكفر عنهم سيئاتهم فليست المصائب والفقر والأحزان التي تصيب المؤمن ليست لهوانه على الله وإنما ليدخر له النعيم المقيم فالبلاء في مقابلة النعمة فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد حتى قال عليه الصلاة والسلام "إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم" وفي رواية "ثم الأمثل فالأمثل" فالجدير بالمؤمن أن يشكر الله على الضراء كما يشكره على السراء قال المهلب والمؤمنون أمام البلايا على أقسام منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه ومنهم من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام

ص: 129

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن نعم الدنيا وآلامها ليست علامة على رضا الله وسخطه

2 -

الحث على الصبر على الشدائد وتحملها بشجاعة ورضا

3 -

الحث على شكر الله على البلاء كشكره على السراء حيث إنه من قبيل لطف الله بالمؤمن.

35 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" يريد عينيه

-[المعنى العام]-

دخل أعمى على أنس بن مالك رضي الله عنه فأدناه منه ثم قال له متى ذهب بصرك قال وأنا صغير قال أنس ألا أبشرك قال الرجل بلى قال أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يقول في الحديث القدسي إذا سلبت من عبدي كريمتيه وابتليته بفقد عينيه حبيبتيه -وهو

ص: 130

بهما ضنين- فصبر عند الصدمة واحتسب لم أرض له ثوابا إلا الجنة فسر الأعمى ذلك وشكر الله

-[المباحث العربية]-

(ابتليت عبدي) المراد من العبد المؤمن بدلالة المقام كقوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}

(بحبيبتيه) فعلية بمعنى مفعولة أي بمحبوبتيه وقد فسرهما البخاري في آخر الحديث بقوله يريد عينيه قال الحافظ لم يصرح بالذي فسرهما وعزا الشرقاوي تفسيرهما إلى أنس وإنما وصف العينين بهذا الوصف لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد من خير فيسر به أو شر فيجتنبه

-[فقه الحديث]-

إنما اختار الله هذا النوع من الابتلاء ورتب عليه هذا الجزاء لأنه أشد الأنواع بعد فقدان الدين فقد روي "ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره ومن ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تعالى ولا حساب عليه" فإذا صبر العبد على أكبر المصائب كان على ما دونها أكثر صبرا وقد قيد الحديث الجزاء على فقد هذه النعمة بالصبر لأن الأعمال بالنيات فإن لم يستحضر ما وعد الله تعالى به الصابرين من الثواب وأظهر الجزع والضجر فلا ثواب له ويكون شأنه كالبعير يعقله أهله ثم يرسلونه فلا يدري لم عقل ولم أرسل وقد جاء في رواية أخرى للبخاري "إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت" إلخ فهي تشير إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم وإلا فمتى ضجر وقلق في أول وهلة ثم يئس فصبر فلا يحصل له الوعد المذكور وفي الحديث إشارة إلى أن ابتلاء الله لعبده في الدنيا ليس من سخطه عليه ولا لهوان شأنه بل إما لدفع مكروه أو لتكفير ذنوب أو لرفع

ص: 131

منزلة فإذا ما تلقى ذلك بالرضاء تم له المراد ولذا جعل العوض الجنة وهي أعظم العوض لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها.

36 -

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة واثكلياه والله إني لأظنك تحب موتي ولو كان ذاك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون"

-[المعنى العام]-

رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من البقيع فوجد عائشة تمسك برأسها من صداع وهي تقول وارأساه كأني سأموت من هذا الألم فقال صلى الله عليه وسلم ما يضرك شيء لو مت قبلي فأكفنك وأصلي عليك وأدفنك واستغفر لك وأدعو لك وفهمت عائشة بدافع الغيرة أن الرسول يحب موتها قبله فقالت والله إني بعد كلامك هذا لأظن أنك تتعجل موتي وأتصور أنك ترجع من دفني

ص: 132

إلى بيتي متزوجا بغيري وتنساني في نفس اليوم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعي ما تحسين من ألم واشتغلي بي فإنك -يعلم الله- لن تموتي في هذه الأيام أما أنا فموتي قريب قربا جعلني أفكر في خليفتي فهممت أن أرسل إلى أبي بكر لأعهد إليه بالخلافة خشية أن يتقاتل عليها المسلمون ويطمع فيها المتمنون ولكني رجعت فيما هممت به وقلت لا داعي لهذا العهد فإن الله قضى لأبي بكر بالخلافة وسيرد المسلمون من يتقدم لها غيره عهدت أو لم أعهد فآثرت أن يختار المسلمون خليفتهم ليؤجروا

-[المباحث العربية]-

(وارأساه) وا -حرف ندبة رأس مندوب يعطي حكم المنادى فهو منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة والألف للندبة والهاء للسكت والمعنى أتوجع من الصداع في رأسي قال الطيبي ندبت رأسها وأشارت إلى الموت

(ذاك) ذا اسم إشارة والكاف مكسورة حرف خطاب للمؤنث والإشارة إلى ما يستلزمه المرض من الموت والإشارة مبتدأ والجملة بعده خبره

(لو كان) قيل "لو" للتمني فلا جواب لها وقيل للشرط والجواب محذوف التقدير لو كان وأنا حي لم يكن عليك بأس ويرشد إلى ذلك رواية "ما ضرك لو مت قبلي" وكان تامة وفاعلها ضمير يعود على اسم الإشارة

(وأنا حي) جملة في محل النصب على الحال وقعت بين الشرط والجزاء على جعل "لو" شرطية

(فاستغفر لك وأدعو) حمل بعضهم الاستغفار والدعاء على صلاة الجنازة من إطلاق الجزء وإرادة الكل تفسيرا له برواية "لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"

ص: 133

(واثكلياه) إعرابه كإعراب (وارأساه) والثكل بضم الثاء فقدان المرأة ولدها أو الموت والهلاك وليست حقيقته مرادة هنا بل هو كلام يجري على ألسنتهم عند وقوع المصيبة أو قوقعها أو خوف مكروه فالمعنى وا مصيبتاه

(والله إني لأظنك تحب موتي) كأنها أخذت ذلك من قوله لها (لو كان وأنا حي)

(ولو كان ذاك) أي ولو حصل موتي

(لظللت آخر يومك) أي الذي أموت فيه

(معرسا) بتشديد الراء المكسورة من عرس بامرأته إذا بنى بها أو غشيها وروي بتخفيف الراء من أعرس

(بل أنا وارأساه) إضراب عما قالته أي دعي ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي فإنك تعيشين بعدي علم ذلك بالوحي

(لقد هممت أو أردت) أو للشك

(وأعهد) المعمول محذوف والتقدير وأعهد إليه بالخلافة أي أوصي له بها

(أن يقول القائلون) في الكلام مضاف محذوف هو مفعول لأجله والعامل فيه (هممت) والتقدير هممت بالإرسال إلى أبي بكر والعهد إليه بالخلافة خشية أن يطمع الناس فيها بعد وفاتي ومقول القول محذوف أي يقول القائلون الخلافة لفلان

(أو يتمنى المتمنون) بضم النون وأصله المتمنيون على وزن المتطهرون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء وضمت النون لمناسبة الواو ومفعول "يتمنى" محذوف أي يتمنى المتمنون الخلافة

(ثم قلت) معطوف على "هممت" فالقائل الرسول يحكي لعائشة أنه هم بكذا ثم رجع عما هم به وقال في نفسه إلخ

ص: 134

(يأبى الله) إلا خلافة أبي بكر عهدت إليه أو لم أعهد

(ويدفع المؤمنون) خلافة غيره اعتمادا على استخلافي له في الصلاة

(أو يدفع الله) خلافة غيره

(ويأبى المؤمنون) إلا خلافته أو للشك من الراوي في أي العبارتين صدرت عن الرسول

-[فقه الحديث]-

ذكر البخاري هذا الحديث تحت عنوان "باب قول المريض وارأساه" واستدل به على الترخيص للمريض بأن يقول ذلك دون كراهة وأشار بذلك إلى الرد على من كره أنين المريض وتأوهه والتحقيق في الموضوع أن المذموم من ذلك ذكره للناس تضجرا أو تسخطا وأما من أخبر به إخوانه ليدعوا له بالشفاء والعافية أو كان أنينه وتأوهه للاستراحة فليس ذلك من قبيل الشكوى المذمومة وسبب تراجع الرسول عما هم به من العهد لأبي بكر بالخلافة مع أن هذا العهد كان قاطعا للنزاع إنه علم بطريق الوحي حصول الخلافة لأبي بكر وتشريعا لمبدأ المشورة بينهم وترغيبا في جعل الخلافة عن طريق الانتخاب لا عن طريق التعيين وليحصل المسلمون أجر اجتهادهم واختيارهم لمن يعهد بالخلافة وترك الأمر لهم وإنما عين أبو بكر عمر رضي الله عنهما لضرورة قصوى فقد كان المسلمون في حروب يؤثر فيها أدنى خلاف على أن الشبهة في هذا التعيين منفية تمام الانتفاء فلم يعين أبو بكر ابنه ولا أحد من أقربائه بل اختار مرضيا عنه من جميع المسلمين وإنما ذكر الرسول ابن الصديق معه في العهد بالخلافة ولم يكن له دخل لأن المقام مقام استمالة قلب عائشة أي كما إن الأمر يفوض إلى أبيك كذلك الائتمار في ذلك بحضور أخيك وأقاربك هم أهل أمري وأهل مشورتي ويروي الحديث بلفظ "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر أو آتيه" من الإتيان بمعنى المجيء فلا ذكر لابن أبي بكر وعليه فلا إشكال

ص: 135

-[ويؤخذ من الحديث: فوق ما تقدم]-

1 -

ما طبعت عليه المرأة من الغيرة

2 -

ومداعبة الرجل أهله

3 -

والإفضاء إليهم بما يخفيه عن غيرهم

4 -

وأن ذكر الوجع ليس من الشكاية

5 -

وأن الميت لا ينفع الحي ولا يكون واسطة بينه وبين الله بالدعاء والاستغفار وإلا لما علق النبي استغفاره ودعاءه لعائشة على كونه حيا.

ص: 136

37 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"

-[المعنى العام]-

إنما يقدم على الموت بالانتحار من فقد دينه وعقله ورجولته وشجاعته وإنما ينهار أمام شدائد الحياة من اتصف بالجبن والخور وضعف العزيمة وفساد التفكير والمؤمن ينبغي أن يكون أرفع من هذا العمل القبيح المزري بالإنسانية بل لا يليق به أن يتمنى الموت لضر أصابه مهما عظم فإن كان في شدة لا ينفس عنه إلا طلب الموت فليقل اللهم مد لي في حياتي ما دامت الحياة خيرا لي من الوفاة واقبضني إليك ما كانت الوفاة خيرا لي من الحياة

-[المباحث العربية]-

(لا يتمنين أحدكم) الخطاب للصحابة وينسحب الحكم على من بعدهم من المسلمين ولا ناهية والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم وفي رواية "لا يتمنى" بإثبات الياء فلا نافية والفعل مرفوع خبر في معنى النهي وهو أبلغ من النهي الصريح لأنه قدر فيه أن المنهي قد امتثل وأن المنهي عنه قد نفي فأخبر عنه وفي رواية "لا يتمن" بحذف الياء ومن غير توكيد

(لضر أصابه) المراد من الضر ما يشمل المرض وغيره من أنواع الضر وجملة "أصابه" في محل الجر صفة لضر

(فإن كان -لا بد- فاعلا) فاعلا خبر كان واسمها يعود على المصاب المفهوم من الكلام السابق و"لا" نافية للجنس و"بد" اسمها والخبر محذوف والجملة معترضة بين كان وخبرها والتقدير فإن كان متمنيا الموت لا غنى عن التمني موجود فليقل إلخ

ص: 137

(ما كانت الحياة) ظرفية مصدرية أي مدة كون الحياة خيرا لي

(إذا كانت الوفاة) عبر في جانب الحياة بقوله "ما كانت" لأنها حاصلة فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط "إذا كانت"

-[فقه الحديث]-

ظاهر الحديث يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الأعلى" ومع تمني عمر بن الخطاب الموت إذ قال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط وأجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما سأل ما قارن الموت وبأنه إنما دعا بذلك بعد أن علم أنه ميت في يومه ذلك ورأى الملائكة المبشرين له عن ربه بالسرور الكامل ولهذا قال لفاطمة رضي الله عنها لا كرب على أبيك بعد اليوم فكان ذلك خيرا له من كونه في الدنيا وبأن عمر خشي فتنة في دينه والنهي في الحديث عن التمني خاص بخوف ضرر دنيوي فلا يتوجه إلى من خاف ضررا أخرويا بقي أنه نهى عن تمني الموت في أول الحديث وأمر به في آخره بقوله "فليقل وتوفني" وأجيب بأن النهي وارد على التمني المطلق والإجابة واردة على التمني المقيد بما إذا كان الموت خيرا ففي الأول نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي الثاني نوع تفويض وتسليم للقضاء والأمر في قوله "فليل" أمر بعد حظر فلا يبقى على حقيقته من الوجوب أو الاستحباب وإنما هو للإذن والإباحة

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

محافظة الإسلام على الأرواح

2 -

وحرصه على حياة الإنسان

3 -

ونهيه عن تمني الموت فضلا عن الإقدام عليه بالانتحار

4 -

ودعوته إلى التسليم والرضا بالقضاء

ص: 138

5 -

والصبر على الضراء.

38 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لن يدخل أحدا عمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال "لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا وإما مسيئا فلعله أن يستعتب"

-[المعنى العام]-

حرصا على عدم اغترار المسلمين بطاعاتهم وعباداتهم وبعثا للخوف والرجاء في نفوسهم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليس منكم أحد ينجيه عمله من النار وليس منكم أحد يدخله عمله الجنة قال رجل منهم ولا أنت ينجيك عملك ويدخلك الجنة يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتداركني الله منه برحمة وفضل فليس العمل إلا سببا عاديا لجلب رضا الله المؤدي

ص: 139

إلى الجنة فلا تغتروا به ولا تتكلوا على الفضل والرحمة ولكن اقصدوا في أعمالكم السداد والصواب وقاربوا بينكم وبين رضا الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ولا يتمن أحد منكم الموت رجاء التعجل بدخول الجنة والفوز برحمة الله لأنه إن كان محسنا ومطيعا بأنه يرجى له أن يزداد طاعة فيزداد رضا ورحمة وإن كان مسيئا عاصيا فإنه يرجى له أن يرجع إلى ربه ويتوب إليه ويرد المظالم ويتدارك ما فاته من الطاعات

-[المباحث العربية]-

(لن يدخل أحدا عمله الجنة) المضارع مبني للمعلوم وأحدا مفعوله الأول مقدم والجنة مفعوله الثاني وعمله فاعله آخر لاشتماله على ضمير يعود على المفعول

(ولا أنت) أنت مبتدأ والخبر محذوف والجملة على تقدير همزة الاستفهام معطوفة على محذوف أي لا يدخل أحدا عمله الجنة ولا أنت يدخلك عملك الجنة

(ولا أنا) الخبر محذوف أيضا والجملة معطوفة على محذوف أي لن يدخل أحدا عمله الجنة ولا أنا يدخلني عملي الجنة

(إلا أن يتغمدني الله بفضل) يقال تغمده الله برحمته أي غمره بها كالغمد للسيف ففيه استعارة تبعية حيث شبه غشيان الرحمة على الإنسان بغشيان الغمد على السيف بجامع الوقاية في كل ثم استعير المشبه به للمشبه إلخ والباء للملابسة والاستثناء منقطع أو متصل من عموم الأحوال والتقدير ولا أنا يدخلني عملي الجنة في حال من الأحوال إلا في حال تغمد فضل الله لي

(فسددوا وقاربوا) أي اطلبوا السداد وهو الصواب وهو ما بين الإفراط والتفريط أي فلا تغلو ولا تقصروا واعملوا به فإن عجزتم عنه فقاربوا منه ويروى "وقربوا" أي قربوا غيركم إليه وقيل معنى سددوا اجعلوا أعمالكم مستقيمة ومعنى قاربوا اطلبوا قربة الله عز وجل وجاء في

ص: 140

رواية "ولكن سددوا" وفائدة الاستدراك هنا إنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل فكأنه قيل بل للعمل فائدة وهي أنه علامة على الرحمة التي تدخل العامل الجنة فسددوا وقاربوا والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فسددوا

(ولا يتمنين) ضبطه العيني بنون التوكيد الخفيفة فالفعل معها مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية وروي "لا يتمن أحدكم" وأصله يتمنى حذفت الياء للجزم بلا الناهية وروي "لا يتمنى" بإثبات الياء فهو نهي في صورة الخبر ولا نافية

(إما محسنا) خبر لكان المحذوفة مع اسمها والتقدير إما يكون محسنا والجملة تعليل للنهي عن تمني الموت

(فلعله أن يزداد خيرا) لعل للرجاء المجرد عن التعليل ودخلت أن على خبرها وخيرا مفعول "يزداد"

(أن يستعتب) من الاستعتاب وهو طلب زوال العتب أو من العتبى وهي الرضا

-[فقه الحديث]-

ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدا عمله الجنة" يتعارض مع قوله تعالى {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} وقوله {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} وقد جمع بين الحديث والآيات بعدة وجوه

منها أن العمل لا يوجب دخول الجنة بل الدخول بمحض فضل الله تعالى والعمل سبب عادي ظاهر إذ العمل مهما عظم ثمن ضئيل بالنسبة لدخول الجنة فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة ومتاعا واسعا بدرهم واحد فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين المبيع والثمن بل لتفضله على المشتري ورحمته به فمن رحمة الله بعبادة المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى ويؤيده

ص: 141

قول ابن عباس لما قرأ قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} نعمت الصفقة أنفس هو خالقها وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة حقا نعمت الصفقة الرابحة على أنه تعالى هو المتفضل في الحقيقة بالثمن جميعا وهو الموفق للعمل والمعين عليه فلا جرم أن يكون دخول الجنة بفضله ورحمته وهذا الوجه أحسن الوجوه

ومنها أن أصل دخول الجنة بالفضل وعليه يحمل الحديث وأن المنازل والدرجات بالعمل وعليه تحمل الآيات

ومنها أن الفوز بالجنة ونعيمها إنما هو بالفضل والعمل جميعا فقوله تعالى {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} أي مع فضل الله ورحمته وقوله صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدا عمله الجنة" أي مجردا عن فضل الله تعالى فالآية لم تذكر الفضل لئلا يتكلوا والحديث اقتصر عليه لئلا يغتروا وإنما خص الرسول نفسه بذكر التغمد بالفضل ولم يقل إلا أن يتغمدنا الله لأن تغمد الله له بالرحمة مقطوع به ولأنه إذا كان دخوله صلى الله عليه وسلم موقوفا على فضل الله فغيره بالطريق الأولى واستشكل تعليل النهي عن تمني الموت بازدياد الخير إن كان محسنا استشكل هذا بأنه قد يعمل السيئات فيزيده طول عمره شرا وأجيب بأن الخطاب للمؤمن الكامل الساعي في ازدياد ما يثاب عليه قال الحافظ ابن حجر وفيه بعد وقيل إن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من حسنات آخر قد تقاوم بتضعيفها سيئاته وما دام الإيمان باقيا فالحسنات بصدد التضعيف والسيئات بصدد التكفير وخير ما قيل في هذا الإشكال أن الحديث خرج مخرج تحسين الظن بالله وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه إلى المزيد من عمله الصالح وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه يدل على ذلك التعبير بلفظ "لعل" المشعر بالوقوع غالبا لا جزما

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن عمل الإنسان مهما بلغ لا يقابل دخول الجنة

ص: 142

2 -

إرشاد المسلم إلى سلوك الطريق الوسط في العبادة من غير إفراط ولا تفريط

3 -

النهي عن تمني الموت فضلا عن الإقدام عليه

4 -

الرد على المعتزلة القائلين بأن الطاعة سبب الثواب موجبة له والمعصية سبب العقاب موجبة له بناء على قاعدتهم في الحسن والقبح العقليين

5 -

إن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن.

ص: 143