المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب النفقات النفقات جمع نفقه يقال نفقت الدراهم نفقا من باب - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٤

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌ ‌كتاب النفقات النفقات جمع نفقه يقال نفقت الدراهم نفقا من باب

‌كتاب النفقات

النفقات جمع نفقه يقال نفقت الدراهم نفقا من باب تعب ويتعدى بالهمزة والنفقة اسم منه ونفقت الدابة نفوقا من باب قعد ماتت ونفقت السلعة والمرأة نفاقا بالفتح كثر طلابها وفي الشرع ما وجب لزوجة أو قريب أو مملوك وجمعها في العنوان لاختلاف أنواعها

21 -

عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة"

-[المعنى العام]-

في بيان فضل النفقة على الأهل قليلة أو كثيرة يقول عليه الصلاة والسلام إذا أطعم الرجل أو بذل مالا أو غيره على أهله دون رياء ولا سمعة يقصد أداء ما أمر الله بأدائه ويبتغي من الله الفضل والأجر كان له بنفقته هذه ثواب كثواب المتصدق على الفقراء والمساكين

-[المباحث العربية]-

(عن أبي مسعود) هو عقبة بن عمرو -قيل شهد بدرا- والصحيح أنه نزلها فقط فنسب إليها

(على أهله) أهل الرجل امرأته وولده والذي في عياله ونفقته كالأخ والأخت والعم وابن العم أو أجنبي يقوته في منزله وعن الأزهري

ص: 83

أهل الرجل أخص الناس به ويجمع على أهلين وأهالي على غير قياس ويقال الأهل يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب ويحتمل أن يختص بالزوجة ويلحق بها من عداها بطريق الأولى لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب دائما فثبوته فيما ليس بواجب دائما بل يسقط في بعض الأحيان أولى أو لأن الثواب إذا ثبت فيما هو عوض -فإن نفقة الزوجة عوض عن الاستمتاع بها- فثبوته فيما هو صلة أولى

(وهو يحتسبها) أي يعملها وهو ينوي بها وجه الله والجملة في محل النصب على الحال

(كانت له صدقة) اسم كان يعود على النفقة وفي الكلام تشبيه بليغ أي كانت النفقة كالصدقة في حصول مطلق الثواب لكل لا في الكمية ولا في الكيفية

-[فقه الحديث]-

قال النووي إن طريق الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الاتفاق فينفق بنية أداء ما أمر به وظاهر الحديث إن الإنفاق الواجب صدقة لكن صرفه الإجماع عن معناه الحقيقي وحمله على التشبيه وإلا لحرمت النفقة على الزوجة الهاشمية والمطلبية وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم المؤونة ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع

وقال ابن المنير تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتآنس والتحصن وطلب الولد كان الأصل ألا يجب لها عليه شيء إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة وبالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق والصدقة على النفقة

ص: 84

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

عظم أجر جهاد الرجل في سبيل عيشه ونفقة أهله

2 -

الحث على تصفية أعمال الخير من الشوائب

3 -

الحث على قصد الثواب من الله عند القيام بالواجب

4 -

إن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية.

22 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار"

-[المعنى العام]-

يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإنفاق على نوع خاص من الأقارب الذين فقدوا عائلهم الأول لما في هذا النوع من الأجر الكبير الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي القربى ثنتان صدقة وصلة" من أجل هذا وضع الشارع الحكيم الرجل الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين -غريبا كان أو قريبا- في منزلة المجاهد في سبيل الله

ص: 85

الذي باع نفسه وماله ابتغاء الدار الآخرة أو منزلة الذي يصوم النهار أبدا ولا يفطر ويقوم الليل أبدا ولا يفتر

-[المباحث العربية]-

(الساعي على الأرملة والمسكين) أي الذي يحصل العيش لهما أو يخدمهما والأرملة بفتح الميم التي لا زوج لها

(كالمجاهد في سبيل الله) المحارب للكفار في ميادين القتال في حصول الثواب لكل

(أو القائم الليل) أو للشك من الراوي والليل والنهار يجوز فيه ثلاثة أوجه على إرادة الصفة المشبهة من القائم والصائم مثل الحسن الوجه فالرفع على الفاعلية المجازية فإنه يقال قام ليله وصام نهاره والنصب على الظرفية والجر على إضافتها للفاعل المعنوي المجازي

-[فقه الحديث]-

ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب فضل النفقة على الأهل ومناسبته له من حيث جواز إنصاف الأهل أي الأقارب بصفة الأرملة أو المسكنة وإذا ثبت هذا الفضل لمن ينفق على من ليس له بقريب ممن اتصف بالوصفين فالمنفق على المتصف بهما إذا كان قريبا أولى.

ص: 86

23 -

عن عمر بن أبي سلمة قال "كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد"

-[المعنى العام]-

يحدث عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حادثة وقعت له قبل التاسعة من عمره حافظ بمقتضاها على آداب الطعام والشراب كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت يده تروح وتغدو في مواطن متعددة من الإناء وأخذ يأكل من نواحي القصعة ولعله لم يسم الله عند ابتداء الأكل ولاحظ الرسول عليه الأكل بالشمال فقال له يا غلام قل بسم الله الرحمن الرحيم وكل بيمينك دون شمالك وكل مما يليك وما يقرب منك ولا تمدن يدك إلى موضع يد الذي يأكل معك قال عمر فسمعت ووعيت وأطعت وحافظت على النصيحة والعمل بها منذ سمعتها

-[المباحث العربية]-

(عن عمر بن أبي سلمة) هو ابن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة إذ كان أبوه وأمه من المهاجرين إليها وصحح ابن حجر مولده قبل الهجرة بسنتين وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج أم المؤمنين أم سلمة

(كنت غلاما) أي دون البلوغ يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ غلام والجمع أغلمة وغلمان وللأنثى غلامة وقصده من ذكر هذا الوصف بيان عذره في الإساءة

(في حجر رسول الله) ضبطه بعضهم بفتح الحاء أي في تربيته وتحت نظره وأنه يربيه في حضنه تربية ولده وقال عياض الحجر يطلق

ص: 87

على الحضن وعلى الثوب فيجوز فيه الفتح والكسر وإذا أريد به الحضانة فبالفتح لا غير وحضن الإنسان ما دون أبطه إلى الكشح ثم قالوا فلان في حجر فلان أي في كنفه وحمايته ومنه قوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم}

(وكانت يدي تطيش) أي تتحرك وتمتد في جوانب الصفحة ولا تقتصر على موضع واحد قال الطيبي والأصل أطيش بيدي فأسند الطيش إلى يده مبالغة في أنه لم يراع أدب الأكل

(فما زالت طعمتي بعد) الإشارة إلى جميع ما ذكر من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه وطعمتي بكسر الطاء اسم للهيئة "وبعد" مبني على الضم أي بعد ذلك

-[فقه الحديث]-

اشتمل هذا الحديث على ثلاثة من آداب المائدة تسمية الله والأكل باليمين والأكل مما يلي الأكل

أما الأمر بالتسمية عند الأكل فمحمول على الندب عند الجمهور ويقاس عليه الشرب وحمله بعضهم على الوجوب لظاهر الأمر قال النووي استحباب التسمية في ابتداء الطعام مجمع عليه كذا يستحب حمد الله في آخره قال العلماء يستحب أن يجهر بالتسمية لينبه غيره فإن تركها عامدا أو ناسيا أو جاهلا أو مكرها أو عاجزا لعارض ثم تمكن في أثناء الأكل استحب له أن يسمي فقد روي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا "إذا أكل أحدكم الطعام فليقل باسم الله فإن نسي في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره" وتحصل التسمية بقول باسم الله فإن اتبعها بالرحمن الرحيم كان حسنا ويسمي كل واحد من الآكلين بناء على ما عليه الجمهور من أن سنة الكفاية مطلوبة من الجميع لا من البعض فإن سمى واحد منهم حصلت التسمية وفي الحكمة من التسمية عند الأكل قيل إنها لطرد الشيطان ومنعه من المشاركة في الطعام والأوجه أن يقال إن التسمية تجلب البركة

ص: 88

وتدعوا إلى القناعة وعدم الشره وتعين على البعد عن الحرام والمكروه فيما يأكل ثم هي ذكر الله وانشغال بالعبادة في الوقت الذي ينشغل فيه النهم بملء البطن ولا مانع أن تكون الحكمة مجموع هذه الأمور

وأما الأكل باليمين فالأمر فيه محمول على الندب أيضا عند الجمهور وقد نص الشافعية في الأم على وجوبه لظاهر الأمر ولورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت فما رفعها إلى فيه بعد" والحكمة في الأكل والشرب باليمين أنها في الغالب أقوى من الشمال وأمكن منها وإنها مشتقة من اليمن بمعنى البركة فهي وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعا ودينا وإن اليسار تعالج بها النجاسات

وأما الأكل مما يلي فهو سنة متفق عليها وخلافها مكروه شديد الاستقباح إذا كان الطعام واحدا لجماعة وغير جاف والحكمة في ذلك ما في ما خلقته من إظهار الحرص والفهم وسوء الأدب ولأن في الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وإفساد مودة لتقزز النفس مما خاضت فيه الأيدي وهل هذا الحكم عام في كل مأكول أو يباح في الأطعمة الجافة التي لا تخوض فيها الأيدي الظاهر أنه خاص بالأطعمة السائلة استدلالا بما رواه الترمذي عن عكراش قال بعثني بنو مرة بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة فوجدته جالسا بين المهاجرين والأنصار قال ثم أخذ بيدي فانطلق بي إلى بيت أم سلمة فقال هل من طعام فأتتنا بجفنة كثيرة الثريد والودك -الدسم- فأقبلنا نأكل منها فخطبت بيدي في نواحيها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمين ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد ثم أتتنا بطبق فيه ألوان التمر فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق قال "يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد" والذي ترتاح إليه النفس أن يقال إن كان الطعام الجاف أنواعا متعددة كانت في إناء واحد أو في أواني متعددة جاز التنقل وإن كان الأولى تركه لأن الأدب

ص: 89

يتطلب عدم مد الأيدي إلى البعيد لما في ذلك من مظاهر الشره والحرص والأنانية وإن كان نوعا واحدا فلا يجوز أما حديث الترمذي فهو محمول على ما إذا علم رضا من يأكل معه على أنه ضعيف قال الترمذي نفسه عنه هذا حديث غريب وقال ابن حبان في رواية منكر الحديث وقال أبو حاتم مجهول نعم الكراهة في الأطعمة السائلة أشد منها في الأطعمة الجافة للفرق بين التقزز في كل

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

استحباب الأكل والشرب وغير ذلك باليمين وكراهة ذلك بالشمال إذا لم يكن عذر من مرض أو جراحة

2 -

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل

3 -

استحباب تعليم أدب الأكل والشرب

4 -

البعد عما يورث الاشمئزاز في الطعام والشراب وما شابههما

5 -

وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر ومواظبته على مقتضاه

6 -

وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم وطيب نفسه بأكله مع ربيبه الصغير في إناء واحد مع ما يبدو من الصغير غالبا لما يثير التقزز والاشمئزاز

ص: 90

24 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا فقال يا نافع لا تدخل هذا علي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء"

-[المعنى العام]-

كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول لخادمه نافع عند كل طعام ائتني بمسكين يأكل معي لا يأكل حتى يجلس معه مسكين فأتاه خادمه يوما بمسكين يدعي "ابن نهيك" من أهل مكة فجعل ابن عمر يضع بين يديه ويضع بين يديه وجعل الرجل يأكل ويأكل حتى انتهى قال ابن عمر لخادمه يا نافع لا تدخل على هذا الرجل مرة أخرى لأن صفاته في الأكل لست من صفات المؤمنين إنه يأكل بشره واستكثار ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء

-[المباحث العربية]-

(سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) جملة "يقول" حال وجملة "سمعت" مستأنفة استئنافا تعليليا لنهي الخادم عن إدخال هذا مرة ثانية

(المؤمن يأكل في معي واحد) عدي يأكل بفي لأنه بمعنى يوقع الأكل فيها ويجعلها ظرفا للمأكولات كقوله تعالى {/ إنما يأكلون في بطونهم} ومعي بكسر الميم وفتح العين مقصورا هو المصير على وزن أمير

ص: 91

وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة وجمعه مصران كقضيب وقضبان وجمع الجمع مصارين

(سبعة أمعاء) حقيقة العدد ليست مرادة وتخصيص السبعة للمبالغة في التكثير في الآحاد كقوله تعالى {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} كما أن السبعين للمبالغة في العشرات قال تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} والسبعمائة مبالغة في المئات وقيل حقيقة العدد مرادة وسيأتي توضيح ذلك في فقه الحديث

-[فقه الحديث]-

اختلف في معنى الحديث اختلاف كثيرا فقيل إن الحديث على ظاهره وأن أمعاء الإنسان سبعة المعدة والبواب والصائم والرقيق والأعور والقولون والمستقيم فالكافر لا يشبعه إلا ملء الأمعاء السبعة لشرهه والمؤمن لقناعته يشبعه ملء معي واحد وقيل إن شهوات الطعام سبع شهوة الطبع وشهوة النفس وشهوة العين وشهوة الفم وشهوة الأذن وشهوة الأنف وشهوة الجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن أما الكافر فيأكل بالجميع

وقال الكثير من المحققين ليس المراد من الحديث ظاهره واختلفوا في توجيهه على أقوال أوجهها أنه مثل للمؤمن وزهده في الدنيا وللكافر وحرصه عليها فكأن المؤمن وزهده في الدنيا إنسان يأكل في معي واحد وكأن الكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها إنسان يأكل في سبعة أمعاء فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل وإنما المراد الحث على التقلل من الدنيا وللتنفير من الاستكثار منها فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء وقيل هو مثل للمؤمن وأكله الحلال وللكافر وأكله الحرام والحلال أقل من الحرام في الوجود كما تقول فلان يأكل الدنيا أكلا وقيل هو مثل لحال المؤمن وقناعته ولحال الكافر وشرهه

ص: 92

وهي آراء متقاربة والعدد عليها لا مفهوم له بل المراد منه المبالغة في التكثير ولا يلزم من هذا إطراده في حق كل مؤمن وحق كل كافر فقد روي عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير وفي الكافرين من يأكل القليل مراعاة للصحة أو رهبانية أو ضعفا في البنية وإنما المراد أن هذا هو الأعم الأغلب وأن الشأن في المؤمن التقلل والقناعة لاشتغاله بأسباب العبادة بخلاف الكافر ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عمر قال "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال فأخذ كل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وأخذ النبي رجلا فقال له ما اسمك قال أبو غزوان فحلب له النبي صلى الله عليه وسلم سبع شياه فشرب لبنها كله فقال له النبي هل لك يا أبا غزوان أن تسلم قال نعم فأسلم فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره فلما أصبح حلب له النبي شاة واحدة فلم يتم لبنها فقال له ما لك يا أبا غزوان فقال والذي بعثك بالحق لقد رويت قال إنك أمس كان لك سبعة أمعاء وليس لك اليوم إلا واحد"

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

الحض على التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة بما تيسر منها

2 -

فضيلة ابن عمر رضي الله عنه وتواضعه وحرصه على ما يقربه إلى الله

3 -

مؤاكلة أفاضل السلف للمساكين والتودد إليهم والانبساط لهم

ص: 93

25 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه"

-[المعنى العام]-

من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ومراعاته لآداب الطعام ورعايته لحق النعم وتأديبه للأمة الإسلامية لم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما حلالا طيلة حياته بل كان إذا قدم إليه طعام يشتهيه ويحبه أكله وإذا قدم إليه طعام ليس كذلك أنصرف عنه إلى غيره واعتذر بعذر لا ينفر كما قال لأصحابه حينما وضع الضب على مائدته "كلوا لكنه ليس بأرض قومي فنفسي تعافه"

-[المباحث العربية]-

(قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة ظرف زمان لاستغراق ما مضى ويختص بالنفي وهو مبني على الضم واشتقاقه من قططت الشيء بمعنى قطعته

(إن اشتهاه أكله) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل فماذا كان يفعل إزاء ما يحب وما لا يحب

-[فقه الحديث]-

المراد من الطعام الذي لم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم بعيب الطعام الحلال أما الحرام فكان يعيبه وينهي عنه وسواء في ذلك الطعام الحلال ما كان من صنع الآدمي وما لم يكن قال النووي ومن آداب الطعام ألا يعاب فلا يقال مالح أو قليل الملح أو حامض أو غليظ أو رقيق أو غير ناضج أو نحو ذلك وقال قوم إن كان التعييب من جهة الخلقة فهو لا يجوز لأن خلقة الله لا تعاب وإن كان من جهة صنعة الآدميين لم يكره لكن ظاهر الحديث العموم

ص: 94

وحكم التعييب الكراهة عند الجمهور وقال ابن بطال وهو من حسن الأدب والحكمة في ذلك أن المرء قد يكره الشيء ويشتهيه غيره فربما يتأذى بعيبه من يشتهيه وحينئذ لو كان وحده لا يتأذى بالتعييب أحد لم يكره وقيل في الحكمة لأن كل مأذون فيه من جهة الشرع لا يعاب وعليه يكره أن يعيب وإن كان منفردا ومحل الكراهة في غير مقام التعليم والنصح

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

النهي عن عيب الطعام الحلال مطلقا إلا على سبيل التعليم والنصيحة

2 -

رعاية حق النعمة بعدم انتقاصها.

26 -

عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة"

-[المعنى العام]-

كان حذيفة بن اليمان بالمدائن عاصمة مملكة الأكاسرة فطلب أن يشرب فجاءه زعيم القوم بماء في إناء فضة فرمى الإناء بالماء ثم قال

ص: 95

للحاضرين من قومه لم أرمه إلا لأني نهيته بالحسنى مرارا ألا يقدم الشرب في إناء من فضة فلم ينته ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا قصعاتها لأن هذه الأشياء يستعملها الكفار في الدنيا فخالفوهم تكن لكم في الأخرة وهكذا يعلم الرسول أمته التواضع والزهد والبعد عن النعومة وعن التشبه بالكفار ويبشرهم بأن هذه المحظورات ستباح لهم في الآخرة ويستمتعون بما يستصغر أمامه كل ما يتعجبون اليوم من حسنه وبهائه ولقد أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فجعل الصحابة يلمسونه ويتعجبون فقال صلى الله عليه وسلم أتعجبون من هذا قالوا نعم قال "مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا"

-[المباحث العربية]-

(تلبسوا) الخطاب للرجال الحاضرين ويلحق بهم الغائبون أو لكل من يتأتى له الخطاب ويلحق بالرجال الحاضرين الخناثى لاحتمال كونهم رجالا

(الديباج) الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب رقيقه السندس وغليظة الاستبرق أنواع من الحرير كانت ترد للعرب من بلاد الفرس فهو من عطف الخاص على العام

(آنية) جمع إناء وهو الوعاء صغيرا كان أو كبيرا وعلى أي هيئة كان

(في صحافها) جمع صفحة وهي إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها والضمير فيه يرجع إلى الفضة وكان القياس أن يقال في صحافهما وهذا كقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} فإذا علم حكم الفضة علم حكم الذهب بالطريق الأولى والإضافة بمعنى "من" وقيل الضمير للآنية لأنها تكون صحافا وغير صحاف ولما كانت العادة استعمال الأواني المبسوطة في الطعام دون الشراب ذكر الأكل مع الصحاف وليس المراد إباحة الأكل في غير الصحاف منها

ص: 96

(فإنها) الضمير للمذكورات من الحرير والديباج وأواني الذهب والفضة والفاء للتعليل

(لهم) الضمير للكفار دل عليه السياق

-[فقه الحديث]-

نقاط الحديث

1 -

لبس الحرير ولبس ما بعضه حرير واتخاذه فرشا وستائر وبيان حكمة التحريم

2 -

الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة أو في آنية مضببة أو مطلبة بهما أو اتخاذها للزينة وبيان حكمة التحريم

أما الحرير بجميع أنواعه فقد حكى النووي الإجماع على تحريمه على الرجال واختلفوا في التطريز بالحرير واتخاذ العلم والشريط منه والأكثرون على الترخيص بما كان قدر أربعة أصابع فما دونها والجمهور من المالكية والشافعية على تحريم الجلوس على الحرير لما ورد في البخاري "نهانا صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه" وأجازه أبو حنيفة وبعض الشافعية أجابوا بأن لفظ "نهى" ليس صريحا في التحريم أو أن النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده أما مس الحرير وبيعه والانتفاع به فهو غير حرام واختلفوا في الحكمة في تحريم الحرير على الرجال فقيل السرف ورد بأنه لو كان كذلك لحرم على النساء أيضا وقيل الخيلاء وقيل التشبه بالنساء لأنه من زينة النساء التي أذن لهن في التزين بها ونهى الرجال عن التشبه بهن وقيل التشبه بالكفار أخذا من قوله {فإنها لهم في الدنيا} والأولى اعتبار الحكمة في مجموع هذه الأمور

وأما الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة فإنه لا يحل لرجل أو امرأة بل لا يحل استعمال هذه الأواني بأي وجه ولا اقتناؤها بدون

ص: 97

استعمال وسواء في ذلك ما كان كله أو بعضه من ذهب أو فضة كذلك يحرم استعمال إناء مضبب -أي مكسور ثم ملحوم- بضبة من ذهب كبيرة أو صغيرة وأبيحت ضبة كبيرة من فضة لحاجة والعرف هو الحكم في الصغيرة والكبيرة أما الإناء الذي اتخذ من معدن آخر ثم طلي بالذهب أو الفضة فإنه لا يحل أن حصل من ذلك شيء بعرضه على النار فإن لم يحصل أبيح لقلة المموه به وحيث حرم استعمال إناء الذهب والفضة مع الحاجة إليه حرم اتخاذه للزينة من باب أولى والحكمة في هذا التحريم الإسراف والترف والتشبه بالكفار وكسر قلوب الفقراء وظاهر الحديث تحريم الحرير على الرجال والنساء إن كان الخطاب في "لا تلبسوا ولا تأكلوا" للعموم أو إباحة أكل النساء وشربهن في آنية الذهب والفضة إن كان الخطاب في "لا تأكلوا" للرجال لهذا قال بعضهم بمنع استعمال النساء الحرير والديباج وأجاب الجمهور عن الحديث بأن الخطاب للمذكر ودخول المؤنث في استعمال أواني الذهب والفضة بدليل آخر وقيل الخطاب عام وجاءت إباحة التزين بالذهب والحرير للنساء بأدلة أخرى ولا يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم {"فإنها لهم في الدنيا"} إباحة استعمال الكفار للمذكورات إذ المراد بيان الواقع لا تجويزه لهم لأنهم مكلفون بفروع الشريعة على الصحيح وظاهر الحديث أنهم ليسوا بمكلفين بالفروع

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

تحريم الحرير الخالص بأنواعه على الرجال دون النساء

2 -

تحريم أواني الذهب والفضة استعمالا واقتناء

3 -

الحض على مخالفة الكفار في عاداتهم وتقاليدهم

ص: 98