الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي
؟
اللفظ المشترك هو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنيين فأكثر وضعاً
أولاً، وسيأتي إن شاء اللَّه بيان ذلك مع ذكر مسائله في الفصل الرابع
من الباب الرابع الذي هو في " الألفاظ ودلالتها على الأحكام "
وبما أني - الآن - أتكلم عن القرآن وما يخصه من مباحث، فإنه
لزاماً عليّ أن أبين هذا الموضوع، وهو: هل يوجد في القرآن
مشترك لفظي؛ فأقول:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يوجد في القرآن مشترك لفظي.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن القرآن نزل بلغة العرب، قال تعالى: (بلسان
عربي مبين) ، ولغة العرب يرد فيها المشترك، فيكون القرآن قد
اشتمل على المشترك؛ لأنه نزل بلغتهم.
والدليل على أن لغة العرب يرد فيها المشترك: التردد في المراد من
لفظ " القرء "، و " العين "، و " الشفق "، و " الجون "،
و"الجلل "، وإذا تردد الذهن بين معنيين فهو علامة الاشتراك، فمثلاً:
أطلق أهل اللغة: " القرء " على الطهر والحيض وهما ضدان، فدل
على وقوع الاشتراك في اللغة.
الدليل الثاني: أن المشترك اللفظي قد وقع في القرآن، بحيث يرد
اللفظ فيه فيتردد الذهن بين معنيين له أو أكثر.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ،
والقرء يصلح للطهر والحيض.
فجاء لفظ " القرء " بمعنى الطهر فى قول الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة
…
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزاً وفي الحي رفعة
…
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي: ضيع أطهارهن في غزواته، فالقرء هنا: الطهر.
وجاء لفظ " القرء " بمعنى: الحيض في قول الشاعر:
يا رب ذي طعن علي فارض
…
له قروء كقروء الحائض
أي: أنه لما طعن كان له دم كدم الحائض.
وبسبب هذا اللفظ المشترك اختلف العلماء في عدة المطلقة الحائض
على رأيين:
الرأي الأول: أن عدتها ثلاث حيضات؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء
الوارد في الآية هو: الحيض.
الرأي الثاني: أن عدتها ثلاثة أطهار؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء
الوارد في الآية هو: الطهر.
واستدل كل فريق من العلماء بأدلة قد ذكرت أكثرها في " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فراجعه من هناك.
ومن ذلك - أي: من الألفاظ المشتركة الواردة في القرآن - قوله
تعالى: (والليل إذا عسعس) ، فإن لفظ " عسعس " يأتي بمعنى
"أقبل "، و " أدبر " على سبيل الاشتراك ذكره الجوهري في الصحاح.
اعتراض على ذلك:
اعترض معترض قائلاً: إن القرء ليس مشتركاً بين " الطهر "،
و"الحيض "، بل هو موضوع للقدر المشترك بينهما، واختلف في
تعيين ذلك المشترك على أقوال.
أولها: أنه " الجمع " من قول القائل: " قريت الماء في
الحوض ": إذا جمعته فيه، والدم يجتمع في زمن الطهر في الجسد،
وفي زمن الحيض في الرحم.
ثانيها: أنه الانتقال، فالانتقال يُسمَّى قرءاً لغة، فالحائض تنتقل
من الطهر للحيض، وتنتقل من الحيض للطهر.
ثالثها: أنه الزمان تقول العرب: " جاءت الريح لقرئها " أي:
لزمانها، والحيض له زمان، والطهر له زمان، فسميا قرءاً لذلك.
وكذلك قالوا: إن لفط " عسعس " ليس مشتركا، بل هو
متواطئ، نظراً للقدر المشترك بينهما، وهو: اختلاط الظلام بالضياء.
وفعلوا ذلك في كل مشترك فردوا ذلك إلى التواطؤ، أو الحقيقة
والمجاز.
جوابه:
نجيب عن ذلك الاعتراض: بأن هذه التأويلات يمكن أن تسوغ
وتقبل لو امتنع ثبوت المشترك في اللغة، ولكن الحقيقة: أن لفظ
"القرء " ولفظ " عسعس " من الألفاظ المشتركة، وهذا ثابت في
اللغة كما سبق بيان ذلك، وهذه التأويلات التي ذكرها المانعون من
ثبوت المشترك متكلَّفة، وليس لأحد أن يتعسف التأويل.
المذهب الثاني: أنه لا يوجد في القرآن مشترك.
نسب هذا المذهب إلى داود الظاهري.
دليل هذا المذهب:
استدل من ذهب إلى هذا المذهب بقوله: إن المشترك لو وقع في
القرآن لوقع إما مبيَّناً بأن يذكر معه قرينة تفيد المعنى المراد من المعاني
كما يقال - مثلاً -: " ثلاثة قروء وهي الأطهار ": فيلزم التطويل
بغير فائدة " لأنه يمكن أن يعبر عن ذلك المعنى بلفظ مفرد وضع له
فقط.
وإما أن يقع المشترك غير مبيَّن فيكون غير مفيد - حيث إنه لم
يحصل المقصود وهو: الفهم التفصيلي - وغير المفيد لا يقع به
الخطاب، ولو وقع لكان عبثاً، والله عز وجل منزه عن العبث.
جوابه:
نجيب عنه: بأنا لا نسلِّم أنه إذا وقع غير مبيَّن لم يكن مفيداً،
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الفائدة منحصرة في الفهم التفصيلي وهو:
ممنوع، وذلك لأن غير المبيَّن في القرآن مفيد، وهو إما أن يقع في
الأحكام، أو يقع في غير الأحكام.
فإن وقع في الأحكام ففائدته الاستعداد للامتثال إذا بين.
وإن وقع في غير الأحكام ففائدته مثل الفائدة في أسماء الأجناس
وهو الفهم الإجمالي.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه راجع إلى اصطلاح كل من
الفريقين.