المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس في خبر الواحد - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٢

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث في أدلة الأحكام الشرعية

- ‌المطلب الأول في تعريف الدليل

- ‌المطلب الثاني في هل الدليل شامل للقطعي والظني

- ‌الفصل الأول في الأدلة المتفق عليها إجمالاًَ

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الكتاب

- ‌المطلب الأول في تعريف القرآن

- ‌المطلب الثاني في القراءة الشاذة " غير المتواترة

- ‌المطلب الثالث في وجود المجاز في القرآن

- ‌المطلب الرابع في هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية

- ‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه

- ‌المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي

- ‌المطلب السابع في النسخ

- ‌المبحث الثاني في الدليل الثاني من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: السُّنَّة

- ‌المطلب الأول في تعريف السُّنَّة

- ‌المطلب الثاني في حجية السُّنَّة

- ‌المطلب الثالث في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينهوبين الإنشاء، وأقسامه

- ‌المطلب الرابع في خبر المتواتر

- ‌المطلب الخامس في خبر الواحد

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الإجماع

- ‌المطلب الأول في تعريف الإجماع

- ‌المطلب الثاني في إمكان الإجماع

- ‌المطلب الثالث في العلم بالإجماع والاطلاع عليه

- ‌المطلب الرابع في حجية الإجماع

- ‌المطلب الخامس في شروط الإجماع

- ‌المطلب السادس في أقسام الإجماع

- ‌المطلب السابع في الإجماعات الخاصة

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المتفق علها إجمالاًَ - وهو: القياس

الفصل: ‌المطلب الخامس في خبر الواحد

‌المطلب الخامس في خبر الواحد

ويشتمل على المسائل التالية:

المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟

المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان ضمن

خبر الواحد؟

المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً.

المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به سمعا.

المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟

المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟

المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت عدالته.

أولاً: حقيقة الصحابي.

ثانيا: طرق معرفته.

ثالثاً: ثبوت عدالته.

المسألة الثامنة: شروط الراوي غير الصحابي.

المسألة التاسعة: شروط ظن بعضهم أنها تشترط في الراوي، وهي

ليست كذلك.

ص: 673

المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المأوِّل.

المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المأولّ.

المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأداه بعد البلوغ فهل

يقبل؟

ْالمسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة.

المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه:

أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح.

ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي.

ثالثا: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟

رابعا: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟

خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟

سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟

سابعا: حكم تعديل العبد للراوي.

ثامنا: حكم تعديل المرأة للراوي.

تاسعا: الجارح والمعدل هل يقبل قولهما بدون ذكر سبب التعله يل والجرح؟

عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدل.

حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه.

ص: 674

ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم؟

ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين.

المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية الحدود بالقذف.

المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر:

القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر.

أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي

يقول، أو حدَّثني، أو أخبرني، أو شافهني ".

ثانيا: إذا قال الصحابي: " قال رسول الله، أو

أخبر، أو حدث " فما الحكم؟

ثالثا: إذا قال الصحابي: " أمر رسول الله، أو

نهى، أو حرم، أو أباح، أو فرض "، فما

الحكم؟

رابعا: قول الصحابى: " أمرنا بكذا، أو نهينا

عن كذا " ما حكمه؟

خامسا: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا " أو

" السُّنَّة جارية بكذا " ما حكمه؟

سادسا: قول - الصحابي: " عن صلى الله عليه وسلم " ما حكمه؟

سابعا: قول الصحابي: " كلنا نفعل، أو كانوا

يفعلون " ما حكمه؟

ص: 675

ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون " هل

يفيد حكاية الإجماع؟

القسم الثاني: كيفية ألفاظ الراوي غير

الصحابي في نقل الخبر:

أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع.

ثانياً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي إذا أراد أن

يحدث بما سمعه من شيخه فيما سبق.

ثالثا: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي

أم العكس أم ماذا؟

رابعا: قراءة الراوي على الشيخ وهو يسمع،

ثم قال الشيخ: نعم، هل تجوز الرواية عنه؟

خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو

يسمع، ثم قال الراوي للشيغ: هل سمعت أيها

الشيخ؛ فسكت الشيخ فهل تجوز الرواية عنه؟

سادساً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما

يريد أن يحدث بما قرأه على شيخه.

سابعا: إذا قرأ الراوي على الشيخ فهل يجوز

أن يقول: " أخبرنا "، و " حدثنا " مطلقا بدون

عبارة. " قراءة عليه "؟

ثامنا: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز

للراوي أن يبدل ذلك بلفظ " أخبرنا " أو بالعكس؟

ص: 676

تاسعا: إذا قال الشيخ: "حدَّثنا " أو " أخبرنا "

فهل يجوز أن يبدل الراوي ذلك إلى لفط "سمعت "؟

عاشراً: حقيقة الإجازة أو صورة المناولة، وصيغة الراوي فيهما.

حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة.

ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة.

ثالث عشر: أنواع الإجازة.

رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدثني

فلان " أو " أخبرني فلان " وأطلق ولم يقيد ذلك بلفظ: " إجازة "،

فهل هذا يجوز؟

خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر، والفاسق؟

سادس عشر: إذا قال الشيخ: " خذ هذا

الكتاب وهو مسموعي "، ولم يقل: "إروه عني"، فهل تجوز الرواية بذلك؟

سابع عشر: حقيقة الوجادة، وهل تجوز الرواية بها؛ وما هي صيغتها؟

ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " فهل يقبل قوله،

وهل يروى عنه؟

تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب

ص: 677

ووجده ولم يذكر سماعه، ولا قراءته، لكن

غلب على ظنه سماعه كلما يراه من خطه الذي

توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟

عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟

واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث، والتبس عليه مع غيره فما الحكم؟

تاني وعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في

حديث أنه مسموع من شيخه؟

ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ

الحديث إنكاراً صريحاً؟

رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ

الحديث إنكاراً غير صريح وهو التوقف؟

المسألة السابعة عشر: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟

المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه.

المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد.

المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس.

المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى.

المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات.

المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى.

المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث.

ص: 678

المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي.

المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي.

المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند.

المسألة الثامنة والعشرون: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامها.

أولاً: أفعاله الجبلِّية.

ثانياً: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات.

ثالثاً: أفعاله التي لم يتبين أمرها ولا يعلم هل هي قربة أو عادة.

رابعاً: أفعاله لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق.

خامساً: الفعل الخاص به صلى الله عليه وسلم.

سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟

المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم:

أولاً: بيان تعريفه.

ثانيا: حجيته.

ثالثاً: أنواع الإقرار.

المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة:

أولاً: أقسام السُّنَّة من حيث حقيقتها:

1 -

قولية

2 -

فعلية

3 -

تقريرية.

ص: 679

ثانيا: أقسام السُنَّة من حيث السند:

1 -

متواتر

2 -

آحاد.

ثالثاً: أقسام السُنَّة من حيث الصحة وعدمها:

1 -

الحديث الصحيح، تعريفه، أنواعه، حجيته.

2 -

الحديث الحسن، تعريفه، أنواعه، حجيته.

3 -

الحديث الضعيف، تعريفه، حجيته.

ص: 680

المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن خبر الواحد لا يفيد العلم، بل يفيد الظن.

ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من

الأدلة:

الدليل الأول: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لكان العلم

حاصلاً بخبر الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم من غير حاجة إلى إظهار

المعجزات والأدلة على صدقهم، فلما أخبروا عن نبوتهم وأظهروا

المعجزات الدالة على ذلك: ثبت أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد

العلم.

الدليل الثاني: أنه لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لوجب على

القاضي أن يصدق المدعي على غيره من غير بينة؛ لأن العلم يحصل

بقوله، فلما ثبت أنه لا يصدق إلا ببينة ثبت أن خبر الواحد بمجرده

لا يفيد العلم.

الدليل الثالث: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لما احتيج إلى

عدد من الشهود - اثنين فأكثر -، بل كان الشاهد الواحد يكفي،

ولما كان الأمر بخلاف ذلك وأنه احتيج إلى عدد من الشهود دلَّ على

أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم.

الدليل الرابع: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لجاز لخبر

الواحد أن ينسخ القرآن والسُنَّة المتواترة؛ لأنه يكون حينئذٍ - في

قوتهما فيقوى على نسخهما، ولكن لما لم يجز نسخ خبر الواحد

ص: 681

للقرآن والممئُنَّة المتواترة - كما سبق بيانه - دلَّ على أن مرتبته أضعف

من مرتبتهما، فدلَّ على أنه لا يفيد العلم مثلهما، بل يفيد الظن.

المذهب الثاني: أن خبر الواحد يفيد العلم.

ذهب إلى ذلك كثير من أهل الظاهر كداود الظاهري، والحسين

الكرابيسي، والحارث المحاسبي، وابن حزم، واختاره بن خويز

منداد من المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.

دليل أصحاب هذا المذهب:

لقد استدل لهذا المذهب بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، وقوله:(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، ثم أمرثا

بالعمل بخبر الواحد، وهذا الأمر يدل على أن خبر الواحد يفيد

العلم.

جوابه:

يجاب عنه: بأن وجوب العمل بخبر الواحد لا يدل على أنه يفيد

العلم؛ إذ لو كان لا يفيد العلم لم نعمل به هذا غير مراد، وإنما

العمل بخبر الواحد لا يقف على كونه مفيداً للعلم، وإنما وجب

العمل بغلبة الظن كما وجب العمل بالقياس، وكما وجب العمل

بقول الشاهدين، وكما وجب العمل بقول المفتي.

المذهب الثالث: أن خبر الواحد مفيد للعلم إذا كان في رؤية الله

تعالى وما ماثلها ممن توفرت فيه أمور ثلاثة: كثرة رواته، وتلقي

الأُمَّة له بالقبول، ودلالة القرائن على صدق راويه.

وهذا رواية عن الإمام أحمد.

ص: 682

المذهب الرابع: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن

تؤيده، وتدل على صدقه، وهي كما يلي:

1 -

أن يروي خبر الواحد راوي متصف بالعدالة، والثقة، والإتقان.

2 -

أن ينقل الخبر من طرق متساوية بحيث لا تختلف.

3 -

أن تتلقاه الأُمَّة بالقبول.

4 -

أن لا ينكره أحد ممن يعتد بقوله.

فإذا توفرت هذه الأمور في خبر الواحد فإنه - حينئد - يفيد العلم.

الجواب عن هذين المذهبين:

يجاب عنهما بأن هذين المذهبين - الثالث والرابع - لا يدخلان

في محل النزاع؛ لأن النزاع في خبر الواحد المجرَّد عن القرائن التي

تدل على صدقه، أما خبر الواحد الذي احتفت به قرائن دلت على

صدقه، فإنه يفيد العلم بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على أنه

يجب العمل بخبر الواحد، سواء أفاد العلم أو الظن، وهذا هو

الذي يهم الأصولي؛ حيث إنه يبحث في الأحكام الناجزة وهي

أحكام الدنيا، والله أعلم.

ص: 683

المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان

ضمن خبر الواحد؟

المستفيض هو: ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة، فلا بد أن يكون

الرواة أربعة فصاعداً، وهو مذهب جمهور الأصوليين.

وقيل: إن المستفيض هو الشائع بين الناس، وقد صدر عن أصل.

ولا فرق بين المستفيض والمشهور.

وقيل: بل بينهما فرق وهو: أن المستفيض: ما سبق بيانه،

والمشهور هو: ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث.

والمستفيض والمشهور داخلان ضمن الآحاد؛ لأن خبر الواحد

ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما لا يفيد الظن أصلاً وهو: ما تقابلت فيه

الاحتمالات على السواء.

والقسم الثاني: ما يفيد الظن وهو: ترجيح أحد الاحتمالين

الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع سواء أخبر نقله واحد

فقط، أو نقله الثلاثة والأربعة، وهذا مذهب جمهور الأصوليين

وهو الحق.

وقيل: إن المستفيض والمشهور في مرتبة متوسطة بين المتواتر

والآحاد. نقل هذا عن الأستاذين: أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي

منصور، لذلك قال بعض العلماء: إن ضابطه: أن ينقله عدد كثير

يربو على الآحاد، وينحط عن عدد المتواتر.

وقيل: إن المستفيض بمعنى المتواتر.

وقيل: إن المستفيض في رتبة أعلى من المتواتر.

والصحيح ما قلناه وهو: أن المستفيض والمشهور بمعنى واحد.

ص: 684

وأنهما داخلان ضمن الآحاد، ولا يخرجان عنه؛ لأنه لا يفيد إلا الظن.

المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً:

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يجوز التعبُّد بخبر الواحد وقبوله عقلاً.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، أي: أن العقل أجاز قبول خبر

الواحد والعمل به.

وهو الحق؛ لأن جواز التعبد بخبر الواحد لا يفضي إلى اجتماع

الضدين، ولا يفضي إلى أن يكون الواحد أكثر من الاثنين، ولا

يناقض مصلحة عقلية، فجاز القضاء بتجويزه.

المذهب الثاني: أنه يجب التعبُّد بخبر الواحد عقلاً، أي: أن

العقل أوجب علينا قبول خبر الواحد والعمل به.

ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن الحوادث والوقائع الجديدة كثيرة، فلو لم نتعبد

بخبر الواحد ونعمل به: للزم من ذلك تعطيل وخلو تلك الحوادث

والوقائع عن الأحكام الشرعية، لأمرين: أولهما: ندرة الأدلة

القواطع، وثانيهما: قلة مدارك اليقين كالأوليات، وهي العقليات

المحضة كعلم الإنسان باستحالة اجتماع الضدين، والمشاهدات كعلم

الإنسان بجوع نفسه، والمحسوسات الظاهرة وهي الحواس الخمس،

والمتواترات.

ص: 685

ولكن بتعبدنا بخبر الواحد وعملنا به يلزم منه إيجاد أحكام شرعية

لكثير من الحوادث المتجددة.

جوابه:

يجاب عنه بأن هذا لا يسلَّم، أي: لا يلزم من عدم التعبد بخبر

الواحد والعمل به تعطيل الحوادث بلا أحكام؛ وذلك لأن المجتهد إذا

لم يجد حكماً للحوادث المتجددة من القواطع، فإنه لا يتركها بلا

حكم، بل يستصحب حال البراءة الأصلية فيها حتى يأتي دليل قاطع

يغير الحالة.

الدليل الثاني قالوا فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى جميع الناس، ولا يمكنه مشافهة جميعهم، ولا إبلاغهم بالتواتر، فلم يبق إلا

الآحاد لإبلاغهم بالرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب التعبد به

عقلاً؛ إذ لا طريق غيره.

جوابه:

يجاب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم غير مكلَّف بإبلاغ الجميع عن طريق الإيجاب، بل إنه أرسل إلى الناس كافة وكلف بأن يبلغ من يقدر

عليه، ويستطيع تبليغه، فليقتصر على ذلك، فليس تبليغ الجميع

واجباً.

الدليل الثالث: أن الواحد إذا أخبرنا بأن اللَّه أمر بكذا، أو رسوله

أمر بكذا، فإنا نحتمل صدقه، وإذا احتملنا صدقه، فإنه يجب

العمل به احتياطاً لأنفسنا، إذ لو لم نعمل بذلك للزم مخالفة أمر

ظننا وجوده.

ص: 686

جوابه:

يجاب عنه بأنا لا نسلِّم ذلك؛ لوجوه:

الوجه الأول: أن خبره يحتمل الكذب - أيضاً - فربما يكون عملنا

بخلاف الواجب.

الوجه الثاني: إذا كان مستند العمل هو احتمال صدقه - فقط -

فإنه يلزم من ذلك وجوب العمل بخبر الكافر والفاسق؛ لأن صدقه

محتمل.

الوجه الثالث: أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي، فلا

ترفع بمجرد ظن لا دليل عليه.

المذهب الثالث: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً.

ذهب إلى ذلك الجبَّائي، وابن علية، وأبو بكر بن الأصم،

وطائفة من المتكلمين.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد يحتمل أن

يكون صدقاً، ويحتمل أن يكون كذباً، والاحتمالان متساويان،

وهذا هو الشك - الذي هو تساوي الطرفين - فإذا عملنا بخبر

الواحد المحتمل لهذين الاحتمالين على التساوي نكون قد عملنا

بالشك، والشك يؤدي إلى الجهل؛ حيث إننا إذا شككنا في شيء

نكون قد جهلنا المراد به، فنكون قد أقدمنا على العمل بالجهل،

ويقبح أن نحيل الخلق أن يعملوا بالمجهولات، فيكون العمل بالجهل

قبيح، والعقل لا يجيز القبيح.

ص: 687

جوابه:

يجاب عنه بوجهين:

الوجه الأول: أن هذا الدليل مبني على قاعدة وهي: " التحسين

والتقبيح العقليين "، وهي صحيحة عند المعتزلة؛ حيث زعموا أن

إحالة الأحكام على ما يجوز كذبه قبيح، وأن اللَّه لا بد أن يفعل

كذا؛ لأنه حسن، وهذه القاعدة باطلة عندنا.

الوجه الثاني: لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد هو عمل بالشك

المؤدي إلى الجهل، بل إن العمل بخبر الواحد عمل بالظن؛ حيث

إن خبر الواحد يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، ولكن احتماله

للصدق أرجح، والظن غير الشك؛ لأن الظن هو ترجيح أحد

الطرفين، والشك هو تساويهما، وأيضاً: الظن يجب العمل به،

أما الشك فلا يعمل به.

ثم إننا لا نعمل بظن كل أحد، بل إننا لا نعمل إلا بظن المجتهد

الذي بلغ درجة الاجتهاد، أما من لم يبلغ ذلك فلا يعمل بظنه مهما

كان.

اعتراض على ذلك:

اعترض معترض قائلاً: إن الظن - أيضاً - لا يعمل به؛ لوجود

احتمال كذبه.

جوابه:

فإنا نجيب عن ذلك: بأن هناك أموراً كثيرة قد أفادت الظن، ومع

ذلك قد تعبدنا اللَّه بأحكامها وعمل بها منها: أنه يجب العمل

بالشهادة مع أنها تفيد الظن ط ومنها: أنه يجب العمل بالفتوى مع

أن المفتي واحد، ولم يفد إلا الظن، ومنها: أنه إذا اشتبهت عليه

القِبْلة في سفر وحضرت الصلاة: فإنه يجتهد في اتجاه القِبْلة ويصلي،

ص: 688

وهذا كله ظني، فإذا كان الأمر كذلك في هذه الصور، فما المانع

من التعبد بخبر الواحد وإن كان لا يفيد إلا الظن.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ إذ لا يترتب عليه عمل.

***

المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به:

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به.

وهو مذهب جمهور العلماء.

وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: إجماع الصحابي السكوتي، بيان ذلك:

أنه ثبت في وقائع وحوادث - لا يمكن حصرها - قد اشتهرت

ونقلت عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - أنهم عملوا بخبر الواحد

بدون نكير، مما يدل على إجماعهم على ذلك.

وكل واقعة لم تتواتر، ولكن بمجموع تلك الوقائع والحوادث قد

حصل لنا العلم بأنهم اتفقوا على العمل به، وإليك بعضا منها:

1 -

أن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة قد شهدا عند أبي بكر

رضي الله عنهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطى الجدة السدس فقبل منهما وعمل به، مع أن ذلك لم يبلغ حد التواتر.

2 -

أن حمل بن مالك قال: " كنت بين امرأتين فضربت

إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في

ص: 689

جنينها بغرة عبد أو أَمَة، وأن تقتل "، فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يسأل عن إملاص المرأة - قبل منه وقال: " اللَّه أكبر

لو لم أسمع بهذا لقضينا بغيره "، فقبل منه هذا الخبر وعمل به مع

أنه خبر واحد.

3 -

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: الدية

للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، فقال له الضحاك بن

سفيان الكلابي: كتب إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فقبل منه ذلك وعمل به مع أنه خبر واحد.

4 -

أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّ صلى الله عليه وسلم قال: " سنوا بهم سُنَّة أهل

الكتاب "، فقبل عمر ذلك وعمل به وبدأ يأخذ من المجوس الجزية

مع أنه خبر واحد.

5 -

أنه لما اختلف بعض المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم

في الذي يوجب الغسل سألوا عائشة رضي الله عنها فقالت:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل "،

فقبل الصحابة وعملوا به مع أنه خبر واحد.

6 -

أنه لما كان أهل قباء يصلون إذ جاءهم آت فقال: " إن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة ".

فقبل هؤلاء خبر الواحد وعملوا به من غير نكير.

7 -

أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يذهب إلى أن الربا

المحرم هو ربا النسيئة فقط، ثم حكي عنه أنه رجع، وذهب إلى

تحريم؛ كلٍّ من ربا النسيئة وربا الفضل، ولا يفرق بينهما أخذاً بخبر

ص: 690

أبي سعيد الخدري في الصرف وهو: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض "

أي: لا تفضلوا، فأخذ بخبر الواحد وعمل به.

8 -

قال ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نخابر أربعين سنة

لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة "، فهنا قد أخذ بخبر الواحد وعمل به.

وغير ذلك من الأخبار مما لا يحصى، حيث رجعوا إلى عائشة،

وأم سلمة، وحفصة، وميمونة، وزيد، وأسامة، وأبي الدرداء،

وغيرهم من الرجال والنساء، والعبيد والموالي، مما يدل دلالة

واضحة على أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد ويعملون به.

وهذه الأخبار وإن لم تتواتر آحادها، إلا أنها بمجموعها أفادتنا

علماً يقينياً لا يقبل الشك: أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد

ويعملون به، ويتركون ما خالفه، دون نكير من أحد، إذ لو وجد

إنكار لبلغنا كما بلغتنا تلك الأخبار، مما يدل على إجماع الصحابة

على العمل بخبر الواحد.

الاعتراض على هذا الدليل:

أنه يحتمل أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعملوا بتلك الأخبار

الآحادية بمجردها، وإنما عملوا بها بسبب قرائن اقترنت بها، ونظراً

إلى هذا الاحتمال الذي تطرق إلى هذا الدليل، فإنه يبطل به الاستدلال.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم قد عملوا بمجرد

خبر الواحد دون قرائن، دلَّ على ذلك أمران:

ص: 691

أولهما: أن بعض الصحابة قد صرح بأنه لم يعمل إلا بمجرد

الخبر فقط من ذلك:

(أ) أن عمر رضي الله عنه قال في خبر حمل بن مالك في

إسقاط الجنين: " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ".

(ب) أنه لما اختلف الصحابة في الغسل من الجنابة رجعوا إلى

قول عائشة بمفرده وهو: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ".

(ب) قول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نخابر أربعين

سنة حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها ".

هذه النقول تدل على أنهم قد عملوا بمجرد خبر الواحد دون قرائن.

ثانيهما: أنه لو كان هناك قرائن اقترنت بالخبر بسببها عملوا بذلك

الخبر: لنقلت إلينا كما نقل الخبر، وبلغتنا كما بلغنا الخبر، فلما أنه

بلغنا الخبر، ولم يبلغنا شيء من القرائن دلَّ على أن الصحابة قد

عملوا بالخبر فقط، فأصبح كلامكم مجرد احتمال لا دليل عليه،

وما لا دليل عليه لا يلتفت إليه.

الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الصحابة لم يعملوا بخبر

الواحد بمجرده، بل عملوا به بسبب قرينة أوجبت العمل به "، يلزم

منه أن الصحابة لم يعملوا بأي آية من الكتاب، أو أي حديث متواتر

إلا بسبب قرينة أوجبت العمل بهما، وأنه لو لم توجد هذه القرينة

لم يعملوا بالكتاب، ولا بالسُّنَّة المتواترة، وهذا باطل قطعاً،

لأمرين:

أولهما: أن الصحابة قد ثبت عنهم أنهم عملوا بظواهر الآيات

والأحاديث المتواترة بدون قرائن.

ص: 692

ثانيهما: أن تقدير قرينة في الآية والمتواتر يؤدي إلى إبطال أدلة

الشريعة عن العمل، وبالتالي يؤدي إلى تعطيل الشريعة كلها؟

حيث يلزم منه: أنه لا يعمل بأي دليل إلا بقرينة، إذن لا حاجة إلى

الأدلة؛ لأن العمل كان بسبب القرينة.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .

وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد شرط في التبين والتثبت: كون

المخبر فاسقاً، فبان من هذا أن خبر العدل يقبل بدون تثبت؛ لأنه لو

كانت حالة الفاسق والعدل سواء لم يكن لذكر الفسق معنى.

اعتراض على هذا الدليل:

أن هذه الآية نزلت في حالة خاصة، فلا تصلح للاستدلال بها

على إثبات قاعدة عامة وهي: " حجية خبر الواحد "، حيث إنها

نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم جابياً للزكاة، فعاد وأخبر أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، فنزلت تلك الآية لتخبره أنه غير عدل.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذه الآية تصلح للاستدلال بها من وجهين:

الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل خبره لذلك هم بغزوهم لولا أن الوحي قد نبهه، فدل على أن خبر الواحد مقبول ويعمل به.

الوجه الثاني: أن الآية وإن كانت قد نزلت بسبب خاص فإنها

تصلح للاستدلال بها على إثبات ما نحن فيه؛ لأن اللفظ أعم من

سببه فلا يقتصر عليه؛ حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص

السبب، كما سيأتي تفصيله في باب العموم.

ص: 693

الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث آحاد الصحابة إلى البلاد النائية ليعلمهم الأحكام الشرعية: مثل ما بعث مصعب بن عمير إلى المدينة، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وعلياً ومعاذا إلى اليمن، وابن

حزم إلى نجران، وبعث سعاته لجباية الصدقات، وتعليم أرباب

الأموال ما يجب عليهم من الزكاة، فكان السامعين يقبلون ذلك بلا

تردد، فثبت أن خبرهم - وإن كانوا آحاداً - مقبول؛ إذ لو كان قول

الواحد غير مقبول لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قبل السامعون لهم الأحكام التي جاءوا بها من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأكد والتثبت.

الدليل الرابع: قياس الرواية على الفتوى، بيان ذلك:

أن المفتي إذا أفتى شخصاً بحكم شرعي، فإنه يجب على المستفتي

أن يصدق ذلك المفتي ويعمل بفتواه، مع أن ذلك المفتي ربما يخبر عن

ظنه، فإذا كان الأمر كذلك في الفتوى فإنه إذا أخبر هذا المفتي بخبر

سمعه، فكذلك يجب قبول خبزه وتصديقه، ولا فرق بينهما،

والجامع: أن كلًّا منهما يجوز عليه الغلط، أي: يجوز الغلط على

المفتي كما يجوز على الراوي، بل الغلط على المفتي أقرب منه على

الراوي " لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم،

وعرف كيفية الاستدلال به، وذلك دقيق، أما الرواية فلا تحتاج إلا

إلى السماع، فثبت أنه إذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد، فمن

باب أوْلى أن تكون الرواية مقبولة.

ما اعترض به على هذا الدليل:

الاعتراض الأول: أن هذا الدليل مبني على القياس، والقياس لا

يفيد إلا الظن، والظن لا يثبت به أصل حجية خبر الواحد والعمل

ص: 694

جوابه:

يجاب عنه بأن:

قياس الرواية على الفتوى قياس يفيد القطع؛ لأن الفرع - وهي

الرواية - أَوْلى بالحكم من الأصل - وهي الفتوى - أي: أنه إذا

كانت الفتوى مقبولة وهي من واحد، فمن باب أوْلى أن يقبل الخبر

إذا رواه واحد؛ لأن الغلط في الفتوى أقرب من الغلط في الرواية

كما قلنا سابقاً.

وإذا لم يسلم أنه قياس أولى، فإنه قياس مساوي، أي: أن الفرع

مساوي للأصل ولا فرق بينهما؛ حيث إنه لا فرق بين المفتي الذي

يخبر عن ظن نفسه، والراوي الذي يروي عن قول غيره.

فإذا كان القياس أولى، أو مساوياً، فإنه يكون قطعيا، وإذا كان

قطعياً فإنه تثبت به قاعدة أصولية كحجية خبر الواحد.

الاعتراض الثاني: أن قياسكم الرواية على الفتوى قياس فاسد؟

لأنه قياس مع الفارق؛ ووجه الفرق بين الرواية والفتوى هو: أن

العمل بالفتوى ضروري؛ لأن تكليف العامي الاجتهاد في كل حادثة

لا يمكن، فاضطر إلى تقليد المفتي، أما العمل بخبر الواحد فغير

ضروري؛ لأنا إن وجدنا في المسألة دليلاً قاطعاً عملنا به، وإن لم

نجد عملنا بالبراءة الأصلية.

جوابه:

يجاب عنه: بأن قياسنا الرواية على الفتوى قياس صحيح؛ لأن

العمل بالفتوى غير ضروري مثل العمل بخبر الواحد ولا فرق؟

فالعامي - أيضاً - يرجع إلى البراءة الأصلية، ويستصحب حال الحكم

السابق الذي يعرفه إذا لم يجد مفتياً، أو وجد ولكن لم يثق به.

ص: 695

الدليل الخامس: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:

إذا وجب العمل بشهادة الشاهدين العدلين، فيجب العمل بخبر

العدلين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعثد بخبر الواحد سمعا، أي:

لا يجوز العمل بخبر الواحد.

نسب ذلك إلى محمد بن داود الظاهري، ومحمد بن إسحاق

القاساني الظاهري، وبعض الرافضة.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) .

وجه الدلالة: أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وقد نهانا الله

تعالى عن اتباع الظن؛ لأنه لا يغني عن الحق شيئاً.

جوابه:

يجاب عنه: بأن اللَّه قد ذم من اتبع مجرد ظنه من غير دليل،

ونحن لا نتبع خبر الواحد بالظن، بل بالدليل الموجب للعلم.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ،

وقوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) .

وجه الدلالة: أن العمل بخبر الواحد اقتضاء لما لا نعلم، وقول

بما لا نعلم؛ لأنه موقوف على الظن.

جوابه:

يجاب عنه: بأنا لم نتبع خبر الواحد ونعمل به إلا بعد أن ثبتت

ص: 696

الأدلة الدالة على وجوب العمل به، وهي الأدلة الخمسة السابقة،

وكذلك لم نقل إلا ما علمناه.

الدليل الثالث: أن المخبر الواحد يجوز أن يكذب، أو يغلط،

فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز العمل بخبره.

جوابه:

يجاب عنه بأنه إذا كان ما ذكرتموه هو عِلَّة عدم العمل بخبر

الواحد، فإنه يلزم منه عدم قبول خبر الشاهدين في الحقوق، وعدم

قبول فتوى المفتي، وعدم قبول رسول المفتي، وعدم قبول قول

الطبيب في المرض، وعدم قبول الخبر عن الطريق؛ لأنه يجوز

عليهم الكذب والغلط، وهذا غير صحيح؛ لأنا عملنا بتلك الأخبار

ويجب العمل بها، فإذا عملنا بها مع جواز الكذب والغلط، فإنه

يجوز العمل بخبر الواحد ولا فرق.

الدليل الرابع: أن من ادَّعى أنه نبي، وخوَّفنا من مخالفته، لا

يلزمنا قبول قوله من غير حُجَّة، فكذلك من أخبرنا بأحكام الشرع

بخبر الواحد لا نقبله ولا فرق.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق من

وجهين:

الوجه الأول: أنه لم يدل دليل واحد على قبول مدعي النبوة،

بخلاف خبر الواحد فقد دلَّت أدلة كثيرة على قبول قوله والعمل به.

الوجه الثاني: أن النبوة من الرياسات العظيمة التي تحبها النفوس،

ويحمل عليها حب التعظيم، فلا يقبل قول المدعي لها بغير دليل،

ص: 697

يؤيد ذلك أنا لا نقبل قول من ادَّعى مالاً لنفسه من غير دليل، وتقبل

شهادته لغيره، أما المخبر بخبر واحد فهو لا يضيف إلى نفسه شيئاً،

وإنما ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقبل.

الدليل الخامس: أنه لا طريق لقبول شيء والعمل به إلا طريق

الشرع، ونحن لما استقرأنا الشرع وتتبعناه لم نجد أي دليل منه يدل

على قبول خبر الواحد، ولو كان قبول خبر الواحد جائزاً لوجدنا

ذلك في الشرع كما وجدنا الدليل على قبول الشاهدين في الحقوق،

وهو قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ، ووجدنا

الدليل على قبول قول المفتي، وهو قوله تعالى:(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .

جوابه:

يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك، بل لما تتبعنا الشرع وجدنا

أدلة كثيرة دلَّت دلالة واضحة على قبول خبر الواحد، وهي الأدلة

الخمسة السابقة التي ذكرناها.

المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين هما:

المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك، بل يقبل الخبر وإن كان راويه

واحداً.

وهو مذهب الجمهور.

وهو الحق: لما سبق من الأدلة على قبول خبر الواحد فقط؟

حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث آحاد الصحابة إلى القبائل والبلدان

ص: 698

النائية للإخبار عن الأحكام الشرعية والناسخ والمنسوخ، وكان

الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم يقبلون خبر الواحد منهم

ويعملون به، كما قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس،

وخبر عائشة في الغسل، وخبر رافع بن خديج في المخابرة.

المذهب الثاني. أنه يشترط لقبول الخبر أن يرويه عدلان عن النبي

صلى الله عليه وسلم، ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان عدلان، أما إذا رواه واحد لم يجز العمل به إلا بأحد شروط، منها: أن يعضده ظاهر، أو

عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشراً.

ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قياس الرواية على الشهادة، بيانه:

أن الشهادة لا يقبل فيها إلا قول اثنين، فكذلك الرواية ينبغي أن لا

يقبل فيها إلا رواية اثنين ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما إخبار

عن الغير، فالشهادة هي شهادة على الغير، والرواية هي رواية عن

الغير، وهناك جامع آخر وهو: أن كلًّا منهما يعمل به، فإذا اتفقت

الرواية مع الشهادة في هذين الأمرين وهما: " الإخبار عن الغير "

و" جواز العمل بهما "، فلماذا يفرق بينهما في العدد، بحيث

يشترط العدد في الشهادة دون الرواية؟!

فثبت أن الرواية مثل الشهادة في اشتراط العدد ولا فرق.

جوابه.

يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد؛ لأنه

قياس مع الفارق؛ حيث إن الرواية تفارق الشهادة من وجوه:

ص: 699

أولها: أن الشهادة إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص

بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام، أما الرواية فهو إخبار عن أمر

عام لا يختص بشخص معين من الأُمَّة، فلا ترافع فيه عند الحكام.

ثانيها: أن الشهادة لا تقبل من النساء إلا إذا كان معهن رجل إلا

ما خصصه الشارع، أما الرواية فإنها تقبل من النساء فقبلت من

عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وغيرهن.

ثالثها: أنه لا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على شهادة الأصل،

أما الرواية فبخلاف ذلك: فقد كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض

مع القدرة على مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يلزمهم قبول أقوال وروايات آحاد رسله وسعاته من غير مراجعة.

الدليل الثاني: أن صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول ذي اليدين في الصلاة حتى قال لأبي بكر وعمر: " أحق ما يقول ذو اليدين؛ " فقالا:

نعم، وهذا واضح.

جوابه:

يجاب عنه: أنه لم يقبل قول واحد في السهو؛ لأن هذا القول

مساو لظنه، فليس أحدهما بأوْلى من الآخر، فأراد أن توجد قرينة

ترجِّح قول ذلك الواحد، فلما شهد معه أبو بكر وعمر قبل قول

الواحد؛ لأنه صار أقوى من ظنه.

الدليل الثالث: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقبل قول المغيرة

ابن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة، وأن

عمر رضي الله عنه لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى

شهد معه أبو سعيد الخدري، فهذا يدل على أنه لا يقبل خبر الواحد

فقط وإن كان ثقة.

ص: 700

جوابه:

يجاب عنه: بأننا نقبل خبر الواحد إذا غلب على ظننا أن الراوي

قد توفرتْ فيه شروط الرواية، أما إذا لم يغلب على ظننا ذلك فلا

يقبل، بل لا بد من التأكد والاستظهار، وهنا ربما أن أبا بكر وعمر

لم يغلب على ظنهما أن أبا موسى والمغيرة قد توفرت فيهما شروط

الراوي، فطلبا من يشهد معهما للتأكد وللاستظهار، ولهذا إذا لم

يتقوى في قلب الحاكم قول الشاهدين فإنه يجب عليه أن يلتمس

شاهداً ثالثاً.

***

المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن الرواية في الزنا لا يشترط فيها أن يكون الرواة

أربعة، بل يكفي واحد كغير الرواية في الزنا ولا فرق.

ذهب إلى ذلك الجمهور.

وهو الحق؛ لعموم أدلة قبول خبر الواحد السابقة الذكر وهي:

إجماع الصحابة، وبعث صلى الله عليه وسلم آحاد الصحابة إلى البلدان النائية، وقياس الرواية على الفتوى وغيرها، حيث دلَّت على أن خبر الواحد

الثقة يقبل مطلقاً سواء في الزنا أو في غيره.

المذهب الثاني: أن الرواية في الزنا يشترط فيها كون الرواة أربعة،

أى: أنه لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة.

ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي.

ص: 701

دليل هذا المذهب:

استدل على ذلك بقياس الرواية في الزنا على الشهادة فيه، بيانه:

أنه كما يشترط في الشهادة في الزنا أربعة شهود، فكذلك يشترط

في الرواية فيه أربعة رواة ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما ينبغي

الاحتراز والحذر منه، وأن الخطأ والغلط فيهما أعظم من غيرهما.

جوابه:

يجاب عنه بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد، لأنه قياس

مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية من وجوه ذكرنا ثلاثة

منها في المسألة السابقة، ونزيد هنا أمراً رابعاً وهو: أن الشهادة ينبغي

أن يحتاط فيها، لذلك اشترط العلماء فيها العدد بخلاف الرواية.

المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت

عدالته:

ويتبين ذلك فيما يلي:

أولاً: حقيقة الصحابي:

أقرب تعريفات الصحابي إلى الصحة هو: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، واختص به اختصاص المصحوب، متبعاً إياه مدة يثبت

معها إطلاق صاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة، سواء

روى عنه أو لم يرو عنه.

وهذا هو تعريف جمهور الأصوليين وأكثر العلماء، وقد صوَّبته،

لأنَّ شهود التنزيل، والاطلاع على أسباب ورود الأحكام، ومعرفة

ص: 702

التأويل، ومقاصد الشريعة لا يمكن إلا باختصاص مصاحبة، وكثرة

مجالسة.

وهناك تعريفات أخرى للصحابي لعلي أشير إليها هنا فأقول:

قيل: إن الصحابي هو: من أدرك زمن صلى الله عليه وسلم مؤمنا به وإن لم يره.

وقيل: هو: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار وهو مسلم عاقل بالغ.

وقيل: هو: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين.

وقيل: هو: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، وصاحبه ولو ساعة سواء روى عنه، أو لم يرو عنه، وسواء اختص به اختصاص

المصحوب أو لم يختص به.

وقيل: هو: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وطالت صحبته، ولازمه، وأخذ عنه العلم، وروى عنه.

وقيل: هو: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة قدرها ستة أشهر فصاعداً.

وهذه التعريفات للصحابي قد ذكرتها، ناسباً كل تعريف إلى قائله

ذاكراً دليل كل قول، وقد اعترضت على تلك التعريفات وبيَّنت

أسباب اختياري للتعريف الأول الذي صحَّحته وذلك في كتابي

"مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية "

فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع متداول، ولا داعي لأن أكرر ما

ذكرناه هناك في هذا المقام.

ص: 703

بيان ثمرة الخلاف في تعريف الصحابي:

إن الخلاف في تعريف الصحابي له ثمرة، حيث إنه من دخل

ضمن الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة - فإنه تثبت له

أمور وصفات هي كما يلي:

1 -

ثبوت عدالته، فلا يحتاج إلى تزكية.

2 -

تفسيق من سبه.

3 -

قبول مراسيله.

4 -

حجية قوله وفتواه وفعله عند كثير من العلماء.

5 -

أنه إذا خالف الحديث النبوي الشريف، فإن مخالفته معتبرة،

ويسقط الاحتجاج بالحديث عند بعض العلماء.

وهذا الأمر الخامس هو الذي دعاني لتأليف كتابي السابق الذكر وهو:

" مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، دراسة نظرية تطبيقية".

أما من خرج من الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة -

فلا تكون تلك الصفات والميزات ثابتة له.

ثانيا: طرق معرفة الصحابي:

الطريق الأول: أن يخبر الشخص عن نفسه بأنه صحابي بأن

يقول: " أنا صحبت النبي صلى الله عليه وسلم "، فإذا قال ذلك العدل الثقة المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون صحابيا؛ لأنه ثقة عدل مقبول في ذلك كروايته، ولم يرد عن واحد من الصحابة رد قوله.

الاعتراض على هذا:

قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن قوله:

ص: 704

" أنا صحابي " يعتبر شهادة لنفسه، وشهادة الشخص لنفسه لا تقبل،

إذن لا يقبل قوله؛ لأنه متهم بتحصيل منصب الصحبة لنفسه.

جوابه:

يجاب عن ذلك: بأن هذا الشخص الذي قال: " أنا صحابي "

موصوف بالعدالة والثقة، في حين أنه معاصر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك نرجح صدقه، وإذا ترجح صدق شخص، فيجب قبول قوله بأنه

صحابي كما وجب قبول روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما، وعلى هذا: تكون التهمة بعيدة.

الطريق الثاني: النقل المتواتر؛ حيث إن كثيراً من الصحابة قد

علمنا أنهم صحابة عن طريق التواتر كالخلفاء الأربعة، وزوجاته صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ويشمل المشهورين كرواة الأحاديث،

والقادة، والقضاة الذين لم يحصل الاختلاف فيهم.

الطريق الثالث: أن يخبر الواحد ممن ثبتت صحبته: أن فلاناً من

الصحابة، فإذا أخبر بذلك يكون ذلك الشخص المخبر عنه صحابيا؛ الصحابي عدل، فيقبل ما يأتي به كروايته.

اعتراض على هذا:

قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن

الشخص لا تثبت له الصحبة بقول الواحد؛ حيث يترتب على قوله

ثبوت كل ما يأتي به من أحاديث، وإنما يثبت بما يوجب العلم

ضرورة أو اكتساباً.

جوابه:

يجاب عنه: بأن الصحابي قد ثبتت عدالته، ومن ثبتت عدالته

ص: 705

فإن كل ما يأتي به فهو مقبول من أقوال، وأخبار، فكما يقبل كل

خبر يأتي به، فكذلك يقبل خبره عن غيره بأنه صحابي ولا فرق:

بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما.

الطريق الرابع: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " كنت أنا

وفلان من الصحابة عند النبي صلى الله عليه وسلم ".

الطريق الخامس: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " دخلنا

على النبي صلى الله عليه وسلم ".

ثالثاً: ثبوت عدالة الصحابي:

الصحابة كلهم عدول، دلَّ على ذلك ما يلي:

الدليل الأول: قوله تعالى: (لقد رضى اللَّه عن المؤمنين) .

وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد صرَّح - هنا - بأنه قد رضي عن

الصحابة، ومن رضي الله عنه فقد اتصف بالعدالة، حيث إنه لا

يرضى عن الفاسق.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين

والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم .

وجه الدلالة كسابقه.

الدليل الثالث: ما رواه عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".

وجه الدلالة: أنه وصف الصحابة بأنهم خير القرون، ولو لم

يكونوا عدولاً لما وصفهم بهذا الوصف - وهو الخيرية -؛ لأن

الفساق لا خير فيهم.

الدليل الرابع: ما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 706

"لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد

أحدهم ولا نصيفه ".

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن سب الصحابة وبين فضلهم، ولا يكون ذلك إلا لمن اتصف بالتقوى والمروءة، وهذه هي العدالة، فلو كانوا فساقاً أو واحداً منهم لما نهى عن سبهم جميعاً "

لأن الفساق لا خير فيهم.

اعتراض على ما سبق من الأدلة:

لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن تلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة

لم تصرح بعدالة الصحابة، وكل ما فيها بيان فضلهم - فقط -،

وبيان الفضل لا يدل على تعديلهم.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه إذا كان التعديل يحصل بقول واحد أو اثنين من

الناس مع عدم عصمتهما، وعدم علمهما إلا ببعض الظواهر،

فكيف بتعديل علام الغيوب، وتعديل رسوله الكريم الذي لا ينطق

عن الهوى؟! لا شك أن تعديل علام الغيوب الذي لا يعزب عن

علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء مع استحالة الكذب عليه،

وتعديل رسوله المعصوم عن الخطأ والكذب: هو التعديل الحق الذي

يجب الأخذ به.

الدليل الخامس: أن عدالتهم ثبتت من العقل السليم، بيان ذلك:

أن تواتر واشتهار طاعتهم المطلقة لله ولرسوله، وبذل النفس

والنفيس، وقتالهم للآباء، والأبناء، والأقرباء، والأهل في سبيل

إعلاء كلمة اللَّه، واشتدادهم في أمور الدين بحيث لا تأخذهم في

ص: 707

الله لومة لائم، كل ذلك يقطع بالحكم بصلاحهم وأنهم آمنوا

وصدقوا باطناً وظاهراً، وكل ذلك قد نفى فسقهم، ومن انتفى

فسقه، وظفر صلاحه فهو العدل.

والمراد بعدالة الصحابة هو: ليس ثبوت العصمة لهم، واستحالة

المعصية، وإنما المراد بعدالتهم هو: قبول رواياتهم من غير تكلف في

أن يبحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا من يثبت عليه

ارتكاب قادح، ولم يثبت والحمد لله، فنحن نستصحب ما كانوا

عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من التقوى والمروءة حتى يثبت خلافه.

ثمرة ذكر عدالة الصحابة:

إنه يتخرج عليه أنه إذا قال العدل في الإسناد: " عن رجل من

أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ": كان حُجَّة، ولا تضر الجهالة به؛ نظراً لثبوت عدالتهم.

هذا هو الحق؛ لأن من توفرت فيه شروط الرواية التي ستأتي

وهي: - الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - إذا روى

خبراً فإنه يغلب عندنا ظن صدقه، فيكون خبره حُجَّة.

وذهب بعض العلماء - كأبي زيد الدبوسي - إلى أن العدل إذا

قال: " عن رجل من الصحابة " لا يكون حُجَّة إلا بأحد الشروط

التالية:

إما أن يعمل السلف بهذا الخبر الذي يرويه.

أو ينتشر الخبر بين السلف، ويسكتوا عن ردة.

فإن لم ينتشر فإن وافق القياس: عمل به، وإلا: فلا.

ص: 708

جوابه:

يجاب عن ذلك بأنا لو قلنا بأنه لا يقبل خبره إلا بأحد تلك

الشروط، فلا داعي لاشتراط العدالة في الراوي؛ ولكن إذا توفر

في الراوي هذا الشرط - وهو العدالة - قد كفانا عن البحث عما

يقوي الحديث.

***

المسألة الثامنة: في شروط الراوي غير الصحابي:

الراوي الصحابي يقبل خبره؛ لثبوت عدالته كما سبق بيان ذلك،

أما الراوي غير الصحابي فلا يقبل خبره إلا إذا توفر فيه شروط هي

كما يلي:

الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما.

فلا تقبل رواية الكافر في أمور الإسلام؛ لأن الكافر متهم بالدين

غير مؤتمن على أي خبر يخص الشريعة الإسلامية، فخصومته

للمسلمين وعداوته لهم في الدين يحمله على الكيد لهم والحرص

على التدليس والتلبيس عليهم في دينهم؛ لأنه إنما أبغضهم من أجله،

فهو لا يتحرج من الكذب على الرسول وتحريف دينه؛ ليبين للغير أن

هذا الدين الإسلامي أضعف وأقل شأنا مما هو عليه، لذلك ليس من

اللائق لمن عنده ولو ذرة من الحكمة والسياسة أن يقبل أيَّ شيء من

الكافر مما يخص الأحكام الشرعية.

الشرط الثاني: أن يكون الراوي بالغا.

وهو من احتلم، أو أنبت من قبل، أو بلغ خمسة عشر سنة، أو

جاء المرأة الحيض.

ص: 709

أما الصبي - مطلقاً - المميز أو غير المميز - فلا تقبل روايته؟

لأدلة ثلاثة هي كما يلي:

الأول: أن الصبي لا يعرف اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فلا

يخاف عقاب من لا يعرفه، ولا يرجو ثواب من يجهله، فيكون

الصبي لا رغبة له في الصدق، ولا يوجد شيء يجعله يتجنب

الكذب، فينتج عدم الثقة بخبره، فلا يقبل.

الثاني: أن الصبي إذا أقر بشيء على نفسه فإنه لا يقبل، فإذا كان

لا يقبل منه هذا مع أنه خاص بنفسه، فإنه من باب أوْلى أن لا يقبل

خبره عن غيره.

اعتراض على هذا:

لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن هذا الدليل مبني على القياس،

وهو غير صحيح، وذلك لأن الأصل المقاس عليه لا نسلِّمه؛ حيث

إن الصبي يقبل إذا أخبر عن نفسه، فإنه إذا أخبر أنه متطهر: قبل

خبره، ويصح الاقتداء به في الصلاة.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه لا يلزم من قبول قوله في التطهر: قبول روايته،

وذلك لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في

الصلاة، ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته، ولا تقبل

روايته وإن ظن صدقه.

الثالث: قياس الصبي على الفاسق، بيانه:

إذا كان الفاسق لأ تقبل روايته مع أنه يخاف اللَّه أحياناً، فمن باب

أَوْلى أن لا تقبل رواية الصبي؛ لأنه لا يخاف اللَّه تعالى في جميع

الأوقات؛ حيث لا يعرف اللَّه حتى يخافه.

ص: 710

الشرط التالث: أن يكون الراوي عاقلاً.

فلا تقبل رواية المجنون مطلقاً - أي سواء كان جنونه مطبقاً أو لا -.

واشترط كونه عاقلاً؛ لأمور ثلاثة هي:

الأول: ليعلم بهذا العقل ما ينقل كيف هو.

الثاني: ليميز بهذا العقل بين خبر الرسول صلى الله عليه وسلم وخبر غيره.

الثالث: ليعلم بهذا العقل قبح الكذب، وحسن الصدق.

الشرط الرابع: أن يكون الراوي عدلاً.

والعدالة هي: هيئة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة

التقوى والمروءة، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه، ويتحقق ذلك

باجتناب جميع الكبائر وهي: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق،

وقذف المحصن، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل

مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد بالبيت الحرام، والغيبة

والنميمة على الراجح، وشهادة الزور.

وباجتناب بعض الصغائر مما يدل فعله على نقص الدين وعدم

الترفع عن الكذب مثل: التطفيف بحبة، وسرقة لقمة، ونحو ذلك.

وباجتناب بعض المباحات التي يدل فعلها على نقص المروءة،

ودناءة الهمة مثل: الأكل في السوق، والإفراط في المزاح، والبول

في الشارع، وصحبة الأراذل، ونحو ذلك.

والضابط في ذلك: ظهور أمارة الصدق، وعدم ظهور أمارة

الكذب، وهذا يختلف باختلاف المجتهدين.

وعلى هذا لا تقبل رواية الفاسق، وقد أجمع العلماء على ذلك؟

لدليلين:

ص: 711

الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .

وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد نهانا عن قبول ص الفاسق

والعمل به إلا بعد التثنت والتأكد من صحته، فلو كان خبر الفاسق

مقبولاً لما أمرنا بالتثبت عن خبره.

الدليل الثاني: أن الشخص إذا ثبت أنه فاسق، فإنه لا يتقي الله

ولا يخافه ولا يخشى عقابه، ولا يرجو ثوابه، - فهو - بهذا - لا

نستبعد عنه الكذب، فلا نثق بقوله وخبره، والخبر الذي لا نثق به لا

يقبل.

ولا بد من الكشف عن سبب التفسيق ليظهر إن كان يصلح سببا

لذلك أو لا، كما سيأتي بيان ذلك في الجرح والتعديل إن شاء اللَّه.

الشرط الخامس: أن يكون الراوي ضابطاً.

أي: أن يكون الراوي يحفظ الخبر بإتقان دون تغيير أو تبديل.

واشترط كونه ضابطاً لأنه إذا لم يضبط فإنه ينتج ما يلي:

الأول: أنه يغير لفظ الخبر ومعناه، فيتغير بسبب ذلك الحكم

الشرعي.

الثاني: أنه يسقط من الخبر ما يحتاج إليه للاستدلال به على حكم

من الأحكام.

الثالث: أنه يضيف إلى الخبر ما يفسد الاستدلال به.

فإذا كان كذلك فلا تحصل الثقة بقوله ولا بخبره، وإن توفرت فيه

الشروط السابقة وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة.

ولا يشترط - هنا - القطع بضبطه وإتقانه لما حفظه، بل المشترط:

ص: 712

أن يكون ضبطه لما سمعه أرجح من عدم ضبطه، وذكره له أرجح من

سهوه وغفلته مما يحصل غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.

أما إذا تساوى ضبطه مع عدمه، أو كان محدم ضبطه أرجح فلا

تكون روايته مقبولة، لعدم حصول الظن بصدقه.

أما إن جهل حاله في ذلك: فلا بد من اختباره وامتحانه.

المسألة التاسعة: شروط ظَنَّ بعضهم أنها تشترط في الراوي

وهي ليست كذلك:

لما ذكرنا الشروط المعتبرة في الراوي وهي: الإسلام، والتكليف،

والعدالة، والضبط: كان لا بد أن أذكر أن بعض العلماء ذكروا أشياء

ظنوا أنها تشترط وهي ليست كذلك، وفيما يلي بيانها:

أولاً: اشترط بعض أهل الحديث كون الراوي معروف ومشهور

النسب.

وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط

الأربعة السابقة، سواء عرفنا نسبه أو لم نعرف ذلك.

دليل ذلك: أن العدالة هي السبب لعدم الكذب، وهي السبب

لغلبة الظن بالصدق، فإذا توفرت العدالة في الراوي مع الإسلام

والضبط والتكليف: غلب على ظننا أنه صادق، وبناء عليه تقبل

روايته، سواء علمنا نسبه أو لا، فليست معرفة النسب تفيد شيئاً،

فلذلك لا ينظر إلى وجودها ولا إلى عدمها.

ثانياً: اشترط بعض العلماء: كون الراوي فقيهاً مطلقاً.

وقال آخرون: يشترط فقه الراوي إذا خالف خبره القياس.

ص: 713

وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر المسلم المكلف الضابط

العدل، سواء كان فقيهاً أو لا؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .

وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أوجب أن نتبين في حالة الفسق،

وبناء عليه: لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان فقيهاً أو غير

فقيه.

الدليل الثاني: ما رواه زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه

غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ".

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع الحديث، وأداه كما سمعه دون تعديل ولا تبديل، سواء كان فقيهاً أو غير فقيه.

الدليل الثالث: أن الاعتماد على خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرنا العدل بذلك، فإن الظاهر منه أنه لا يروي إلا ما ثبت عنده على

الوجه الذي سمعه، وخبر العدل يفيد الصدقَ، فوجب العمل به؛ العمل بالظن ؤاجب، وهذا مطلقاً سواء كان هذا الراوي العدل

فقيهاً أو لا.

ثالثاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة مجالسته للعلماء.

وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله

عنهم - قد قبلوا رواية بعض الأعراب، والأعرابي - بحكم كثرة

تنقله وترحاله - لا يجالس العلماء، فلم يفرقوا بين الراوي المكثر

لمجالسة العلماء وبين غيره إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة

الذكر.

ص: 714

رابعاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة روايته للأحاديث.

وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله

عنهم - قد قبلوا خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثاً واحداً

- فقط - فلم يفرقوا بين من يروي حديثاً واحداً، وبين من يروي

الأحاديث الكثيرة إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة الذكر.

خامساً: اشترط بعضهم في الراوي: أن يكون الراوي مشاهداً

حال السماع منه.

وهذا الشرط ليس بصحيح؛ فتقبل الرواية بشرط أن تتوفر شروط

الراوي السابقة - وهي: الإسلام، والتكليف، والعدالة،

والضبط - وله آلة الأداء، وهذا مطلقاً أي: سواء رأى المخبر أو لم

يره بشرط معرفته لصوته.

دليل ذلك: إجماع الصحابة على قبول رواية عائشة - رضي الله

عنها - فقد كانوا يسمعون حديثها وخبرها من ستر؛ اعتماداً على

صوتها، بدون رؤية شخصها، فهم في تلك الحالة كالعميان بالنسبة

لعائشة.

سادساً: اشترط بعضهم: كون الراوي عالماً باللغة العربية.

وهذا الشرط ليس بصحيح، فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط

السابقة مطلقاً، سواء كان عارفاً باللغة العربية أو لا.

دليل ذلك أن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه للحديث،

ولهذا يمكنه حفظ القرآن الكريم وإن لم يعرف معناه.

سابعاً: اشترط بعضهم: أن يكون الراوي ذكراً.

وهذا الشرط ليس بصحيح، فتقبل رواية كل من توفرت فيه

ص: 715

الشروط السابقة - الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط -

سواء كان ذكراً، أو أنثى، أو خنثى بدون فرق.

دل على ذلك الأدلة التالية:

الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الصحابة رضي الله عنهم

قد قبلوا أخبار وأقوال عائشة، وحفصة، وأم سلمة - رضي الله

عنهن أجمعين - ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو وقع الإنكار لبلغنا،

ولم يبلغنا شيء من ذلك، فصار إجماعاً منهم على قبول روياتهن.

الدليل الثاني: أن النساء في الشهادة فوق الأعمى، وقد قبلت

رواية الأعمى، فالمرأة أَوْلى.

الدليل الثالث: أنه لو كان نقص الأنوثة مانعاً للمرأة من قبول

روايتها لم يقبل قولها في الفتوى، ولكن قولها يقبل في الفتوى،

فيقبل خبرها في الرواية قياساً عليه.

ثامناً: اشتراط بعض العلماء عدم القرابة، وعدم العداوة، قياساً

على الشهادة.

وهذا الشرط ليس بصحيح، بل تجوز رواية الولد بما يعود منفعته

إلى والده، ويجوز العكس، ويجوز أن يروي خبراً يضر بعدوه،

وينفعه مطلقاً.

أي: لا يشترط في الرواية عدم القرابة بين الراوي وبين من ينفعه

مضمون الحديث الذي رواه، ولا تشترط في الرواية عدم العداوة بين

الراوي وبين من يضره مضمون الحديث الذي رواه، بل تقبل رواية

كل واحد إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة.

دليل ذلك: أن الرواية تختلف عن الشهادة، ووجه الاختلاف:

أن حكم الرواية عام، وأن الشهادة خاصة، بيان ذلك:

ص: 716

أن الحديث عام في حق الكل يلزم الراوي، والمروي له،

وغيرهما، فلا يختص بواحد معين، فالتهمة معدومة حتى تكون

العداوة، أو القرابة، أو الصداقة مؤثرة فيه بنفي أو إثبات، بخلاف

الشهادة، فإنها مختصة بالمشهود له أو عليه نفعا أو ضراً.

***

المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المتأوِّل:

الكافر الخارج عن الإسلام كاليهودي، والنصراني، لا تقبل

روايته، وقد سبق بيان ذلك:

أما الكافر المتأوِّل، وهو المسلم الذي فعل بدعة كفَّره بها أهل

السُّنَّة والجماعة، وهو يعلم بهذا التكفير أو لا يعلم، فهل هذا تقبل

روايته إذا توفرت فيه شروط الراوي؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو لبدعته، فلا يقبل خبره،

وبين من لم يدع إلى بدعته فيقبل.

ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وكثير من العلماء.

وهو الحق عندي، فلا يقبل خبر من يدعو إلى بدعته؛ لأنه لا

يؤمن أن يضع حديثا يوافق تلك البدعة ويقويها، فأثر ذلك في صدقه.

ويقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي كفر بسببها -؛ لأن

الراوي الذي توفرت فيه شروط الرواية الذي أخطأ بتأويل: قد أمن

جانبه، وهذا يقوي الظن لصدقه، وإذا ثبت ذلك، فإن خبره

مقبول.

ص: 717

المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الكافر المتأوِّل مطلقاً أي: سواء

كان داعية أو لا.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن علماء الأُمَّة قد أجمعت

على ردِّ خبر الكافر، ولا فرق بين كافر وكافر، فإن الكافر الذي لم

يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كاليهودي والنصراني أيضاً متأوِّل، فهو لا يعلم أنه كافر، بل يزعم أنه هو الذي على حق وغيره على باطل،

وأما الذي ليس بمتأول وهو: المعاند بلسانه بعد معرفته للحق بقلبه،

فذلك مما يندر وجوده.

وتورع الكافر المتأول عن الكذب كتورع النصراني واليهودي بلا

فرق، فلا يقبل أي خبر يأتي به أي واحد منهما.

جوابه:

يجاب عنه: بأن العلماء قد أجمعوا على ردِّ خبر من كفر لا

بتأويل، بل ابتغى غير الإسلام ديناً، أما المتمسك بالإسلام، ولكن

فعل بدعة كُفِّر من أجلها - فقط - وثبت أنه لا يدعو إلى بدعته ولا

ينشرها، وتوفرت فيه شروط الراوي السابقة، فإن هذا معظم للدين

الإسلامي، ممتنع عن المعصية، فهذا يؤمن جانبه، وإذا أمن جانبه

ترجح صدقه، وإذا ترجح صدقه قبل خبره فيما لا. يخص بدعته.

فبان أن هذا يفارق الكافر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كاليهودي والنصراني؛ حيث إن هذا يحتقر الدين الإسلامي ويعتقد بطلانه، فالحكمة

والسياسة تمنع قبول أي شيء منه، كما بيَّنا فيما سبق.

ص: 718

المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المتأوِّل:

لقد سبق بيان أن الفاسق بعمل الجوارح لا تقبل روايته،

أما الفاسق المتأول، وهو الذي فعل بدعة فسِّق بسببها، وقد يعلم بذلك

التفسيق، وقد لا يعلم، فهل هذا تقبل روايته إذا توفرت فيه شروط

الراوي؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو إلى بدعته فلا يقبل، وبين

من لا يدعو إلى بدعته فيقبل.

ذهب إلى ذلك أكثر العلماء.

وهو الحق، فلا يُقبل خبر من يدعو إلى بدعته، لأنه لا يؤمن أن

يضع خبراً يوافق تلك البدعة، فأثرت تلك الريبة في صدقه،

فترجح عدم صدقه، فلا يقبل ما يأتي به من الأخبار.

ويُقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي فسِّق بسببها -؛ لأمرين:

أولهما: أن الراوي الذي توفرت فيه شروط الراوي الذي أخطأ

بتأويل، إذا كان لا يجوِّز الكذب، وهو يعتقد أنه على حق قد أمن

جانبه، وهذا يقوي الظن بصدقه فيقبل خبره.

ثانيهما: أن السلف من الصحابة والتابعين وقع بينهم اختلاف في

كثير من المسائل، وكل واحد يعتقد أنه على حق وغيره على خطأ،

ومع ذلك قبل بعضهم أخبار بعض.

المذهب الثاني: أن الفاسق المتأول لا يقبل خبره مطلقاً.

ص: 719

ذهب إلى ذلك الإمام مالك، والباقلاني، والآمدي، وكثير من

المعتزلة.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الفاسق المتأول على الفاسق

غير المتأول، وهو الفاسق بأفعال الجوارح، بيانه:

أنه لا فرق بين فسق وفسق، فإن خبر من فسَق بأفعال الجوارح قد

رُدَّ لأجل الفسق، وقد وجد سبب الرد هذا في الفسق في الاعتقاد.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق،

ووجه الفرق: أنا لم نقبل خبر من فسق بأفعال الجوارح " لأن هذا

الفاسق يفعل المعصية، وهو يعلم أنه فسق بسببها، ومن يفعل ذلك،

فإنه يوصف بالاستهتار وعدم المبالاة في الدين، وهذا لا يؤمن أن

يقدم على الكذب، فأثر ذلك في قوة الظن بصدقه.

أما الفاسق المتأول، فإنه أوَّل ما هو عليه من بدعة وهو يظن أنه

على حق، في حين أنه لا يجوِّز الكذب، فلهذا قوي الظن بصدقه،

فقبل خبره.

المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأدَّاه بعد البلوغ

فهل يقبل؟

لقد سبق بيان أن الصبي إذا سمع الخبر قبل البلوغ، وأدى ما

سمعه قبل البلوغ - أيضاً - فإنه لا يقبل خبره مطلقاً.

ص: 720

أما إذا سمع الخبر وهو صبي وتحمَّله قبل البلوغ، وكان مميزاً

ضابطاً لذلك الخبر، لكنه لم يؤده ولم يخبر به إلا بعد البلوغ

وظهور رشده في دينه، فإن خبره مقبول؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: إجماع الصحابة والسلف على قبول أخبار وروايات

أصاغر الصحابة - وهم الذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم لم يبلغوا - كابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن جعفر، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين،

وغيرهم من أحداث الصحابة رضي الله عنهم أجمعين - فقُبل منهم

كل خبر يروونه من غير تفريق بين ما تحملوه في حالة الصبا، وما

تحملوه بعد البلوغ.

الدليل الثاني: أن السلف والخلف قد درجوا على إحضار الصبيان

مجالس سماع الأحاديمث والأخبار، ولو كان خبر الصبي غير مقبول

إذا أداه وهو بالغ لما كان لإحضاره في هذه المجالس وهو صبي فائدة،

فثبت أن فائدة إحضارهم لصبيانهم - تلك المجالس هي: قبول تلك

الأخبار اِذا أدوها بعد البلوغ.

الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:

أنه مع أن العلماء يحترزون في الشهادة أكثر من الرواية، فقد

أجمعوا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به

بعد البلوغ، فإنه مقبول، فالرواية أَوْلى بالقبول، أي: إذا جاز أن

يتحمل الشهادة صبياً، ويشهد بها بعد البلوغ، فمن باب أَوْلى جواز

تحمل الرواية في حالة الصبا وأداءها بعد البلوغ؛ لأن الشهادة يحترز

منها أكثر من غيرها.

ص: 721

المسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة:

إذا روى لنا شخص حديثاً وهو مجهول الحال عندنا في الشروط

الثلاثة وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، أي: لا نعرف أنه

مسلم أو كافر، ولا نعلم عنه أنه مكلف أو غير مكلف، ولا نعلم

عنه أنه يضبط أو لا، فإن هذا لا نقبل حديثه ولا نعمل به.

أما إذا كنا نعلم أنه مسلم، ومكلَّف، وضابط، ولكننا لا نعلم

هل هو عدل أو فاسق؛ فقد اختلف العلماء في قبول خبره على

مذهبين:

المذهب الأول: أن خبر مجهول الحال في العدالة غير مقبول.

وهو مذهب الجمهور.

وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: قياس مجهول الحال في العدالة على مجهول الحال

في الإسلام والتكليف والضبط، بيان ذلك:

أننا إذا شككنا في الشخص هل هو مسلم أو لا، أو هل هو

مكلف أو لا، أو هل هو ضابط أو لا، فإن خبره لا يقبل بالاتفاق،

فكذلك إذا شككنا في الشخص هل هو عدل أو فاسق لا تقبل

روايته وخبره، ولا فرق، والجامع: أنه لم يثبت شرط قبول

الرواية، وإذا تخلف الشرط، فلا بد أن يتخلف المشروط، وهو

القبول كالطهارة في الصلاة إذا لم توجد الطهارة فإن الصلاة لا

تصح، كذلك هنا.

الدليل الثاني: أن هناك ثلاثة أشخاص: " عدل "، و " فاسق "

و" مجهول الحال "، أما العدل فقد ثبت أنه مقبول الرواية،

ص: 722

أما الفاسق فقد ثبت أنه غير مقبول الرواية، أما مجهول الحال - وهو

الذي لم نعرف عنه عدالة ولا فسقاً - فلم يثبت أنه عدل، ولم يثبت

أنه في معنى العدل حتى يقاس على العدل، فإذا كان مجهول الحال

ليس بعدل، ولا هو في معنى العدل، فقد انتفى فيه شرط من أهم

شروط الراوي، وهو:" العدالة "، وإذا انتفى الشرط فقد انتفى

المشروط - وهو قبول روايته - فثبت أنه غير مقبول الرواية.

الدليل الثالث: قياس مجهول العدالة في الرواية على مجهول

العدالة في الفتوى، بيان ذلك: أن المفتي إذا بلغ درجة الاجتهاد

وشُك في عدالته، أي: لا يعلم هل هو عدل أم فاسق؛ فإن هذا

الشك منع من قبول فتواه.

فكذلك الراوي الذي شك السامع في حاله، فلم تثبت عنده

عدالته ولا فسقه، يجب أن يكون هذا الشك مانعاً من قبول روايته

وخبره، والجامع: أن كلا منهما يحكي حكماً شرعياً يعمل به، إلا

أن المفتي يحكيه عن اجتهاد نفسه واستنتاجه من الأدلة المعتبرة،

والراوي يحكي ذلك الحكم عن غيره بصورة خبر.

الدليل الرابع: قياس مجهول العدالة في الرواية على مسألة

الشهادة على الشهادة، بيان ذلك:

أنه لا تقبل شهادة الفرع - وهو زيد مثلاً - إلا إذا عيَّن زيد شاهد

الأصل - وهو عمرو مثلاً - وعرَّفه إن كان الحاكم يجهل عمرو.

فهنا: يجب تعيين والتعريف بشاهد الأصل.

فلو كان قول مجهول الحال مقبولاً فلأي غرض وجب تعيين شاهد

الأصل والتعريف به؛

ص: 723

ولا جواب عن ذلك إلا أن يقال: لم يجب تعيين شاهد الأضل

إلا للتأكد من عدالته، فإن كان عدلاً قبلت شهادته، وإن كان فاسقاَ

أو مجهولَا رُدَّت شهادته، وبناء عليه لا تقبل شهادة الفرع.

فكذلك مجهول العدالة في الرواية لا يقبل خبره حتى نتأكد من

عدالته قياساً على مجهول الحال في مسألة الشهادة على الشهادة.

المذهب الثاني: أن خبر مجهول الحال في العدالة يقبل.

ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كابن فورك،

وسليم الرازي.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى أن أعرابياَ

جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت الهلال قال: " أتشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنَّ محمداً عبده ورسوله "؛ فقال: نعم، قال: " يا بلال،

أذن في الناس فليصوموا غداً ".

وجه الدلالة: أن صلى الله عليه وسلم قبل شهادة هذا الأعرابي في رؤية

هلال شهر رمضان، وهو لا يعرف عنه إلا كونه مسلماً، ولم يعلم

منه عدالة ولا فسقاً، فإذا قبل شهادته فمن باب أَوْلى أن يقبل خبره؟

نظراً لأنه يحترز بالشهادة أكثر من الرواية.

جوابه:

يجاب عنه بأنكم لم تثبتوا دليلاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل شهادة ذلك الأعرابي، وهو لا يعلم عن عدالته شيئاً، فقولكم هذا مجرد

دعوى لا دليل عليها.

ص: 724

بل إن الظاهر أن صلى الله عليه وسلم لم يقبل شهادته إلا لكونه عدلاً؟

لوجهين:

الوجه الأول: أن الصحابة كلهم عدول بتعديل اللَّه لهم، حيث

قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وبتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:" إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، ونحو ذلك من النصوص، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل.

فلذلك لا يشك بعدالة أي صحابي.

الوجه الثاني: أن زمن صلى الله عليه وسلم كانت الخيانات قليلة، والخبث والكذب نادراً، والقلوب صافية، فكان الظاهر من المسلمين

العدالة، فلذلك قبل شهادته، فأما في زماننا فقد كثرت فيه الخيانات

من المسلمين، فليس الظاهر من السلم كونه عدلاً.

وبذلك ثبت أن صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر مجهول الحال في العدالة، وإنما قبله؛ لأن ظاهره العدالة.

الدليل الثاني: اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قبول

روايات وأخبار العبيد، والنساء، والأعراب؛ مع أنه لا يعرف عنهم

إلا الإسلام فقط، ولم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر قول أو خبر

أيّ واحد من هؤلاء، فصار إجماعا سكوتيا.

جوابه:

يجاب عنهم بجوابين:

الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ هذا على إطلاقه، فإن الصحابة - رضي

الله عنهم - كانوا يقبلون رواية العبيد، والنساء، والأعراب الذين

كانوا يعرفونهم بالعدالة والضبط والثقة كزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجات أصحابه، وإمائهم، وعبيدهم، وبعض الأعراب.

ص: 725

أما الذين لا يعرفون عنهم شيئاً، فقد ثبت أنهم لا يقبلون منهم

شيئاً من الأخبار، كما رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر

فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة، وكما رد عليّ - رضي الله

عنه - خبر معقل بن سنان الأشجعي في المفوضة، وكان - أي:

عليّ بن أبي طالب - إذا روى له أحد خبراً يستحلفه إلا أبا بكر،

فإنه إذا حدَّثه لا يستحلفه لكونه عدلاً عنده.

الجواب الثاني: سلمنا أن الصحابة كانوا يقبلون روايات العبيد،

والنساء، والأعراب مطلقاً؛ وذلك لأن كل من عاش في عصر النبي

صلى الله عليه وسلم ورآه، وهو مؤمن به فهو صحابي، والصحابة كلهم عدول، فثبت أنه قبلت أخبارهم لكونهم عدولاً، لا لكونهم مجهولين.

الدليل الثالث: أن المسلم مجهول العدالة إذا أخبر بخبر يخص

أحكاماً شرعية معينة: فإنه يقبل خبره كأن يخبر بأن هذا الماء طاهر،

أو يخبر بأنه نجس، أو أخبر بأنه متطهر، أو أخبر بأن هذه الجارية

التي عرضها للبيع ملكه، وأنها خالية عن زوج، فإنه يقبل خبره في

تلك الحالات فيترتب على ذلك أحكام شرعية: فيجوز - بناء على

القبول - في الحالة الأولى: صحة الوضوء من الماء الذي أخبر بأنه

طاهر، ويجوز - في الحالة الثانية - اللجوء إلى التيمم وترك الماء

الذي أخبر بأنه نجس، ويجوز - في الحالة الثالثة - كونه إماماً لغيره

ويحل وطء الجارية التي أخبر أنها ملكه وأنها خالية عن زوج في

الحالة الرابعة.

فإذا قبلت منه هذه الأخبار السابقة في الأحكام الشرعية، فما

المانع من قبول قوله فيما يرويه عن غيره؛ إذ لا فرق بينهما،

والجامع: أن الكل يعمل به.

ص: 726

جوابه:

يجاب عنه: بأن قياس الرواية على ما ذكرتموه من الصور قياس

فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الرواية عن النبي

صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة، وأشرف منصباً، وأعم خطراً من الأخبار فيما ذكرتموه من الصور، فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي

والمخبر فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما.

المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه:

لقد بيَّنا فيما سبق أن العدالة من أهم شروط الراوي، وبيَّنا حقيقة

العدالة، وفي هذه المسألة سنبين حقيقة التعديل والتجريح، والأمور

التي يحصل بها التعديل، وهل يشترط العدد فيه، وحكم تعديل

العبد والمرأة، وذكر سبب التعديل والجرح، ونحو ذلك مما يتعلق

بالتعديل والتجريح فأقول:

أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح:

التعديل هو: أن يوصف المسلم المكلَّف الضابط بملازمة التقوى

والمروءة، فينسب إليه فعل الخير والعفة، والتدين بفعل الواجبات،

وترك المحرمات، والشبهات، وكل شيء يجعلنا نحكم بأن هذا

الشخص يتحرى الصدق، ويتجنب الكذب مما يؤدي بنا إلى قبول

قوله شرعاً.

أما التجريح فهو ضد التعديل، أي: أن ينسب إلى ذلك

الشخص ما يرد لأجله قول من فعل معصية، أو ارتكاب ذنب،

ونحو ذلك مما يخل بالعدالة مما يجعلنا نظن ظناً غالبا بأن هذا

الشخص لا يتحرى الصدق.

ص: 727

ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي هي كما يلي:

الأمر الأول: التعديل بالحكم بشهادته إذا علمنا أنه حكم بتلك

الشهادة.

فإذا حكم الحاكم العدل بشهادة الراوي فإنه يدل على أن هذا

الراوي عدل عنده.

وهذا الأمر هو أقوى الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي، لذا

قدمناه على التزكية والتعديل بالقول؛ لأن الحكم بشهادته استلزم

القول وتضمنه، أما التعديل بالقول - وهو قوله: هو عدل رضي

كما سيأتي - فهو قول مجرد لم يتضمن الحكم بشهادته، فيكون

الحكم بشهادته قولاً وزيادة.

الأمر الثاني: التعديل بالقول، وهو على مراتب:

المرتبة الأولى: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع ذكر السبب.

المرتبة الثانية: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع عدم ذكر

السبب.

وهذه المرتبة - أعني الثانية - تتفاوت في القوة، فأعلاها قوة: أن

يكرر اللفظ فيقول: " هو عدل عدل "، أو " ثقة ثقة "، أو " ثقة

عدل "، أو " ثقة ثبت "، أو " ثقة حُجَّة "، أو " ثقة حافظ "،

أو " ثقة ضابط ".

وأدناها: أن يذكر اللفظ بدون تكرار فيقول: " هو عدل "، أو

"ثقة".

المرتبة الثالثة: أن يقول المعدِّل: " هو صدوق "، أو " مأمون "،

أو " خيار ".

ص: 728

المرتبة الرابعة: أن يقول المعدِّل: " محله الصدق "، أو " رووا

عنه "، أو " صالح الحديث "، أو " حسن الحديث "، أو " أرجو

أن ليس به بأس "، ونحو ذلك.

الأمر الثالث: أن يعمل العدل الثقة بخبر ذلك الشخص، فهذا

يعتبر تعديلاً لذلك الشخص بشرط: أن نعلم يقيناً أن العدل لم يعمل

إلا بخبر ذلك الشخص.

أي: أن نعلم أنه لا مستند للعمل إلا ذلك الخبر الذي رواه ذلك

الشخص، فهذا يعتبر تعديلاً لذلك الشخص، لأن عمله بخبر ذلك

الشخص يدل على ثبوت عدالة ذلك الشخص، فلو لم يدل على

ثبوت عدالته عند العامل - وهو الثقة العدل - للزم من ذلك أن

يكون ذلك العامل قد عمل بذلك الخبر بدون ثبوت عدالة المروي عنه

عنده، ولو ثبت ذلك - وهو: أنه عمل بذلك الخبر بدون ثبوت

عدالة المروي عنه عنده - لثبت فسق ذلك العامل؛ لأنه عمل بخبر

من لم تثبت عدالته عنده، وفي ذلك تلبيس وتدليس على الأُمَّة "

حيث إن عمله بذلك الخبر يوهم بعدالة المروي عنه، والحقيقة ليست

كذلك.

أما إذا انتفى الشرط بأن لم نعلم يقيناً - أن ذلك العدل الثقة لا مستند

له في العمل إلا ذلك الخبر، فإن العمل بذلك الخبر لا يكون تعديلاً

للمروي عنه؛ لاحتمال أن يكون قد عمل به احتياطاً، أو أنه عمل

بدليل آخر وافق روايته، وإذا تطرق الاحتمال يبطل الجزم.

هذا هو الحق.

وبعض العلماء لا يرى ذلك الشرط، فقال: إن عمل العدل الثقة

ص: 729

بخبر شخص يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لأنه لم يعمل

بذلك الخبر عند رواية الراوي له إلا لكون الراوي عنده عدلاً.

وبعض العلماء ذهبوا إلى أن عمل العدل الثقة بخبر شخص لا

يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لوجود الاحتمال.

والحق هو ما قلناه؛ لما ذكرنا من التعليل، وفيه الجواب عما ذكره

الآخرون.

ثالثاً: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟

لقد اختلف العلماء على مذاهب:

المذهب الأول: أن رواية العدل عن غيره لا تعتبر تعديلاً لذلك

الغير مطلقاً.

ذهب إلى ذلك الماوردي، والروياني، وأبو الحسين القطان،

وصحَّحه ابن الصلاح، والقاضي أبو بكر، وابن حزم، والخطيب

البغدادي، وهو مذهب أكثر أهل الحديث وأكثر الشافعية والمالكية،

وهو رواية عن الإمام أحمد.

وهو الصحيح عندي؛ لأمرين:

أولهما: أن بعض الأئمة قد رووا عن العدل وغير العدل، وإذا

كان الأمر كذلك فقد وجد الاحتمال - وهو احتمال أن يكون عدلاً أو

غير عدل - وليس أحدهما أَوْلى من الآخر، فيجب التوقف فيه حتى

يأتي دليل وقرينة تبين عدالة المروي عنه.

ثانيهما: أنه قد يكون هذا الشخص عدلاً عند الراوي، وليس

عدلاً عند غيره، فيجب التأكد.

المذهب الثاني: أن رواية العدل عن غيره تعديل لذلك الغير مطلقاً.

ص: 730

ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، واختاره أبو يعلى في

" العدة "، وتلميذه أبو الخطاب في " التمهيد "، وهو مذهب بعض

الشافعية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العدل يتحرج أن يُحدِّث

عمن يعلم كذبه أو فسقه؛ لأن ذلك يفضي إلى الكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما حدَّث عنه وروى عنه ظهر لنا أنه قد عرف عدالته.

جوابه.

يجاب عنه: بأن هذا المحدث عنه يجوز أن يكون عدلاً وعند غيره

ليس بعدل، أو مجهول الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول

الحال.

المذهب الثالث: التفصيل: بيانه:

إن عرفناً أدن من عادة هذا الراوي العدل الثقة أنه لا يروي إلا عن

عدل: إما بصريح قوله بأنه لا يروي إلا عن عدل، وإما لمعرفتنا من

مذهبه أنه لا يجوز الرواية إلا عن العدل: فإن روايته عن ذلك

الشخص تعتبر تعديلاً لذلك الشخص.

أما إذا عرفنا أن من عادة هذا العدل الثقة أنه يروي عن العدل،

وعن غير العدل، فلا تعتبر روايته تعديلاً للشخص المروي عنه.

ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية كالغزالي، والرازي،

والآمدي، والهندي، وبعض المالكية كابن الحاجب، والمازري،

وبعض الحنفية كابن الهمام، وابن عبد الشكور، وبعض الحنابلة

كابن قدامة.

ص: 731

جوابه:

يجاب عن هذا بأن يقال: يجوز أن يكون هذا الشخص المروي

عنه عدلاً عند هذا الراوي، وليس عدلاً عند غيره، أو هو مجهول

الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول الحال.

رابعاً: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟

إذا اشتهر شخص بين طائفة من الناس بالعدالة والثقة، وشاع

الثناء عليه بينهم فهل يعتبر ذلك تعديلاً له؟

الحق عندي: أن الاستفاضة لا تكون من الأمور التي يحصل بها

التعديل؛ لأن الشخص قد شاع عنه أنه عدل وثقة، وما أشاع ذلك

إلا أنصاره وأتباعه، ومن لهم فيه مصلحة، فإذا تحققنا من الأمر

ودققنا فيه بأن خلاف ذلك، لذلك يقتصر في التعديل على الأمور

الثلاثة التي يحصل التعديل بها وقد سبقت؛ لما فيها من الاحتياط.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الاستفاضة تعتبر في التعديل.

نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وقال ابن الصلاح:

هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.

دليل هذا: أن العلم بذلك من الاستفاضة أقوى من تعديل واحد

واثنين يجوز عليهما الكذب.

جوابه:

يجاب عنه: بأن تعديل الشخص الواحد الموصوف بالعدالة والثقة

أقوى من تعديل طائفة كثيرة لم يوصفوا بالعدالة، أو قد يكونوا

مجهولين الحال.

ص: 732

خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟

لقد قلنا: إن الحاكم العدل إذا حكم بشهادة الراوي، فإنه يدل

على أن الراوي عدل عنده، لكن إذا لم يحكم الحاكم بشهادة

الراوي - ولم يعمل بها، فهل هذا يعتبر جرحاً للراوي فلا تقبل

روايته؟

الحق: أن هذا لا يعتبر جرحاً في الراوي، فلا يلزم من عدم

قبول شهادته عدم قبول روايته؛ لأن الحاكم قد يتوقف في الحكم

بشهادة الراوي لأسباب غير الجرح، وذلك لأن الشهادة والرواية

تشتركان في شروط الراوي الأربعة السابقة الذكر - وهي: الإسلام،

والتكليف، والعدالة، والضبط -.

وانفردت الشهادة في أمور - غير معتبرة في الرواية - منها: عدم

القرابة، والحرية، والذكورية، والبصر، والعدد، والعداوة،

والصداقة، فهذه تؤثر في الشهادة، ولا تؤثر في الرواية، لذلك

تقبل رواية القريب بما ينفع قريبه، وتقبل رواية العبد والمرأة إلى غير

ذلك - كما سبق بيانه -.

فهنا يحتمل أن الحاكم العدل ترك الحكم بشهادته لسبب غير الفسق

كعداوة، أو تهمة قرابة، أو صداقة، فيكون ترك شهادة الراوي

لواحدٍ من تلك الاحتمالات، لا لانتفاء العدالة، إذن: لا يحكم

عليه بالجرح والتفسيق مع وجود تلك الاحتمالات.

سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه لا يشترط العدد في التعديل والتجريح، بل

ص: 733

يكفي في مسائل الجرح والتعديل واحد ليس من عادته أن يتساهل في

التعديل أو يبالغ في الجرح، فلو عدَّل شخص عارف بأمور التعديل

راوياً من الرواة فإنا نسمع منه ذلك، ونقبل رواية الراوي المعدَّل،

وكذا لو جرح شخص عارف بأمور الجرح راوياً من الرواة، فإنا

نسمع منه ذلك ونرد رواية ذلك الراوي المجرح.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الصحيح عندي؛ لأن العدالة شرط من شروط قبول الرواية،

والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه، أي: أن شرط الشيء لا

يزيد على أصله، ومعروف أن الأصل - وهو الرواية - يكفي فيه

واحد، فتعديل الراوي وتجريحه تبع للرواية وفرع لها؛ لأنه إنما يراد

لأجلها، فإذا كانت الرواية يكفي فيها راو واحد، فكذا ما هو تبع

وفرع لها.

فلو قلنا: تقبل رواية الواحد، ولا يكفي في تعديله وتجريحه إلا

اثنان لزاد الفرع على أصله، وزيادة الفرع على الأصل مخالف

لقواعد الشريعة.

ففي هذا: قياس التعديل والجرح على الرواية، وهو واضح.

المذهب الثاني: أن العدد مشترط في التعديل والتجريح.

ذهب إلى ذلك ابن حمدان من الحنابلة، وأكثر فقهاء المدينة كما

حكاه عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني.

دليل هذا المذهب:

لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقياس التعديل والتجريح على

الشهادة؛ وذلك لأنه يشترط في تعديل الشاهد أو جرحه اثنان،

ص: 734

فكذلك الرواية يشترط في تعديل الراوي أو جرحه اثنان، فكان

العدد معتبراً فيهما معاً.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لافتراق

أصل الشهادة عن أصل الجرح والتعديل، بيان ذلك:

أنه لا يقبل في تعديل الشاهد، أو جرحه إلا اثنان، ولا يكتفى

بواحد، وذلك لأن الأصل - وهي الشهادة - يشترط فيه اثنان،

فالفرع مثل ذلك يشترط فيه اثنان.

أما الرواية فتختلف عن ذلك فيقبل في تعديل الراوي أو جرحه

واحد، وذلك لأن الأصل - وهي الرواية - لا يشترط العدد فيه

فيكفي فيه واحد، فالفرع - وهو جرح الراوي أو تعديله - مثل ذلك

لا يشترط.

أي: كما أن العدد لا يشترط في قبول الخبر، فلا يشترط في

جرح وتعديل راوي الخبر.

المذهب الثالث: الفرق بين تعديل الراوي فيقبل من واحد، وبين

تجريحه فلا يقبل إلا من اثنين.

نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، واختاره بعض الحنفية،

ومنهم الكمال بن الهمام.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا التفريق بينهما لا دليل عليه صحيح، وما لا

دليل عليه فلا يعوَّل عليه، ثم إنه لا فرق بينهما فيما يؤول إليه الأمر.

ص: 735

سابعاً: حكم تعديل العبد للراوي:

الحق: أن تعديل العبد للراوي مقبول، وبناء على ذلك تقبل

رواية من عدَّله ذلك العبد؛ قياساً على روايته للخبر، بيانه:

أنه كما أن رواية العبد للخبر مقبولة، فكذلك تعديله لراوي الخبر

مقبول، ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق.

ثامناً: حكم تعديل المرأة للراوي:

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن تعديل المرأة للراوي مقبول.

وهو مذهب الجمهور، وهو الحق، لدليلين:

الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بريرة رضي الله عنها عن حال عائشة أم المؤمنين - في قصة الإفك - حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة: " هل علمت على عائشة شيئاً يريبك؛ أو رأيت شيئاً تكرهينه؟

" قالت: أحمي سمعي وبصري، عائشة أطيب من طيب الذهب.

وجه الدلالة: أنه لو لم يكن تعديل المرأة مقبولاً لما سأل الرسول

صلى الله عليه وسلم بريرة عن عائشة، وهذه هي فائدة سؤاله، ولو لم نقل ذلك لكان سؤاله لا فائدة فيه ويكون لغواً، وهذا لا يمكن.

الدليل الثاني: القياس على روايتها للخبر، بيانه:

أنه كما أن رواية المرأة للخبر مقبولة، فكذلك تعديلها لراوي الخبر

مقبول، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه

الصدق.

المذهب الثاني: أن تعديل المرأة للراوي لا يقبل.

ص: 736

حكي هذا المذهب عن كثير من فقهاء المدينة.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك:

أنه كما أن تعديل المرأة وتزكيتها للشاهد لا يقبل، فكذلك تعديلها

للراوي لا يقبل ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه:

أنه لا يقبل تعديل المرأة للشاهد، وذلك لأن الأصل - وهي

الشهادة - لا تقبل فيها المرأة، فالفرع - وهو تعديل الشاهد - مثله.

أما الرواية فبخلاف ذلك: فيقبل تعديل المرأة للراوي، وذلك لأن

الأصل - وهي الرواية - يقبل فيه رواية المرأة، والفرع - وهو تعديل

الراوي - مثله.

تاسعاً: الجارح والمعدِّل هل يلزمهما ذكر سبب التعديل والجرح؟

لقد اختلف العلماء في هذا على مذاهب:

المذهب الأول: يلزم الجارح والعدل ذكر سبب التعديل والجرح.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

وهذا هو الحق: فيجب بيان سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل

لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة؛ لأن العادة قد جرت بتسارع الناس

إلى ذلك بناء على الظاهر، وكم من شخص قد خدعنا بمظهره،

حيث يظهر الصلاح والتقى، فإذا دققنا في شأنه وحالته وجدناه على

ص: 737

خلاف ظاهره، فمثلاً: بعض الناس تجده يحافظ على الصلوات

وعلى مظهره الإسلامي، ولكنه يتساهل في كسب ماله، فلا يأخذه

من طرقه التي أحلها اللَّه تعالى، وبعضهم يظهر الصلاح لطائفة من

العلماء " نظراً لطمعه في منصب أو جاه، بينما يحتقر آخرين،

كذلك تجد أناساً يتساهلون في تعديل شخص، بينما يتشدَّدون في

تعديل شخص آخر، وهكذا والأمثلة على ذلك كثيرة، فيجب أن

يبين المعدِّل سبب تعديله للشحخص، فإن كانت صحيحة ويعدل بها:

وافقناه، وإن كانت غير صحيحة: بيَّنا وجه الخطأ فيها " قياساً على

الاستدلال على المذاهب، فإن المجتهد تجده يأخذ بمذهب معين، ثم

يقيم أدلة على ذلك، وتجد المجتهد الآخر يخالفه ويبين أدلته على

ذلك، فلو ذكر كل واحد منهما مذهبه بدون ذكر أدلة لما قبل.

وقلنا: جب بيان سبب الجرح " لاختلاف الناس فيما يجرح به،

فلعل الجارح اعتقد شيئاً جارحاً، وغيره لا يراه جارحاً: فتجد

شحخصاً يرد الخبر بسبب تدليس الراوي، وتجد آخر يرد الخبر بسبب

فسق اعتقاد الراوي، وتجد ثالثاً يرد الخبر بسبب تعبير الراوي بالعنعنة

وتجد رابعاً يرد الخبر بسبب إسباله لثوبه وإزاره، وتجد خامساً يرد

الخبر بسبب كذب الراوي مرة واحدة في العمر، وكل ما سبق فيه

نظر هل يجرح به ويفسق أم لا؟

وقد ثبت عن بعض العلماء أنه ردَّ تجريح بعض العلماء الآخرين،

وإليك بعض الأمثلة.

1 -

ذهب الخطيب في الكفاية: أن الإمام الشافعي إنما أوجب

الكشف عن ذلك " لأنه بلغه أن إنساناً جرح رجلاً فسئل عما جرحه

به، فقال: رأيته يبول قائماً، فقيل له: ما في ذلك ما يوجب

ص: 738

جرحه؛ فقال: لأنه يقع الرشش عليه، وعلى ثوبه، ثم يصلي،

فقيل له: رأيته يصلي كذلك؛، فقال: لا، فهذا جرح بالتأويل،

والعالم لا يجرح أحداً بهذا.

2 -

أنه قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟

قال: رأيته يركض على برذونه فتركته،

ومن العلوم: أن هذا ليس بجرح موجب لتركه.

3 -

أن شعبة أتى النهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور من بيته

فتركه، فقال له تلميذه وهب بن جرير: فهلا سألت؛ عسى أن لا

يعلم هو.

قال السخاوي - في شرح الألفية -: قال شيخنا -

يقصد ابن حجر -: " وهذا اعتراض صحيح، فإن هذا لا يوجب

قدحاً في النهال ".

4 -

أن الحكم بن عتبة سئل مرة: لِمَ لم ترو عن راذان؛ فقال:

كان كثير الكلام.

وهناك أمثلة كثيرة لكون بعض العلماء يجرحون بعض الأشخاص،

فإذا سئلوا عن السبب اتضح أن السبب الذي جرح به لا يصلح

لتجريح الراوي.

فبان: أن الحق أنه لا بد من ذكر سبب التعديل والجرح حتى يسبر

ويختبر، فإن كان صالحاً قبلناه، وإن كان غير ذلك رددناه.

المذهب الثاني: أنه لا يلزم الجارح والمعدل ذكر سبب الجرح

والتعديل، فيقبل قولهما بدون ذكر السبب.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم القاضي أبو بكر.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنا نكتفي ببصيرة المعدل

ص: 739

والجارح، فهما عارفان بالأمور التي يُعدَّل بها، وبالأمور التي يجرح

جوابه:

يجاب عنه: بما قلناه فيما سبق من أن بعض المعدلين قد ينخدعون

في المظاهر، وقد يكون مظهر الشخص يختلف عن باطنه، وهذا قد

كثر في الأزمنة المتأخرة.

ولا يكتفي ببصيرة الجارح؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به، فقد

يعتقد الجارح شيئاً جارحاً، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وقد بيَّناه

فيما سبق.

المذهب الثالث: أنه لا يلزم الجارح ذكر سبب الجرح، فيقبل قوله

بدون ذكر السبب؛ لأن مطلق الجرح مبطل للثقة.

أما المعدل فيلزمه ذكر سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل لا تحصل

به الثقة، نظراً لتسارع الناس إلى الظاهر - كما سبق بيانه -.

جوابه:

يجاب عنه بأنه لا فرق بين التعديل والجرح، بل إن ذكر سبب

الجرح أَولى؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به أكثر من اختلافهم فيما

يعدل به.

المذهب الرابع: - عكس الثالث - وهو: أنه لا يلزم المعدل ذكر

سبب التعديل، فيقبل قوله بدون ذكر السبب؛ لكثرة أسباب التعديل

فيشق ذكرها.

أما الجارح فيلزمه ذكر سبب الجرح لنرى فيه، وذلك لاختلاف

الناس في سبب الجرح - كما سبق -.

ص: 740

جوابه:

يجاب عنه: بأنكم فرقتم بين متماثلين، ثم إنا لا نجد تلك الشقة

التي تكون في ذكر أسباب التعديل.

المذهب الخامس: أن ذكر السبب وعدم ذكره يختلف باختلاف

العدلين والمزكين والمجروحين، فإن كان عالما بأسباب الجرح والتعديل

اكتفينا بإطلاقه فيهما، وإن لم يكن عارفاً فلا بد من ذكر سبب

التعديل والجرح لنرى فيهما.

ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية.

جوابه:

يجاب عنه: بأن علمنا بأن هذا الشخص عالم بأسباب الجرح

والتعديل، أو غير عالم لا يمكن؛ لأن بعض الناس قد يذَعي

معرفته بذلك، فإذا دققنا فيه وجدناه غير عارف، أو أنه يجعل أسبابا

تعدل وتجرح ويدعي بأنها هي الأسباب الحقيقية، بينما الأمر غير

ذلك فلا ضابط لذلك.

لذلك اضطررنا إلى الأخذ بالمذهب الأول وهو: أن يبين العدل

والمجرح سبب الجرح والتعديل مطلقاً، سواء كان عارفا لأسباب

التعديل والجرح أو ليس كذلك؛ لأمرين:

أولهما: أن أسباب التعديل والجرح لا ضابط لها.

ثانيهما: الاحتياط للشريعة، والابتعاد عن ظلم الآخرين.

عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدَّل:

إذا ذكر اسم راوي الحديث، وهذا الاسم معدَّل، ولكنه اشتبه

باسم رجل آخر مجروح، فإن خبره لا يقبل؛ نظراً للاشتباه بالاسم

ص: 741

الثاني؛ وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح، فلا تقبل

روايته، بل يتوقف حتى يعلم هل هو المجروح أو غيره، ويفعل

المدلسون ذلك أحياناً: يذكرودن الراوي الضعيف باسم يشاركه فيه راو

تقة.

حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه:

إذا كان للراوي اسمان، وهو بأحدهما أشهر: فإنه تجوز الرواية

عنه بواسطة الاسم المشهور؛ لأنه عُرِف به.

وإذا اختلف في اسم الراوي، وله كنية أو لقب يعرف به، فلا

يرد بذلك خبره ولا روايته، لأنه عرف بتلك الكنية واللقب، وخرج

عن الجهالة.

ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم:

هذا له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: إذا جرح عمرو الراوي، وعدَّله زيد، ولم يذكر

كل واحد منهما سبب ذلك: فإنه يقدم قول الجارح، ويرد خبر ذلك

الراوي؛ لأن الجرح تضمن زيادة لم يعرفها المعدل، ولم ينف

المعدل هذا الجرح، لامتناع الشهادة على النفي، ولأن الجارح مصدق

للمعدل فيما يخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه - أي الجارح - يخبر

عن أمر باطن خفي عن المعدل.

وهذا على رأي من يجوز قبول قول الجارح والمعدل بدون ذكر

السبب.

وقد أجبنا عنه فيما سبق.

الحالة الثانية: إذا جرح عمرو الراوي، وعدله زيد، وذكر

ص: 742

الجارح سبب الجرح بأن يقول: " رأيته وقد قتل فلاناً " فلا يخلو من

أمرين:

الأول: إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك.

الثاني: أن يتعرض المعدل لنفيه.

فإن كان الأول - وهو: عدم تعرض المعدل لنفي ذلك - فإنه

يقدم قول الجارح؛ لأن قوله تضمن زيادة لم يعرفها المعدل ولم ينفها

- كما سبق -.

وإن كان الثاني - وهو: تعرض المعدل لنفي ذلك - بأن قال

المعدل: " رأيت فلاناً المدعى قتله حياً بعد ذلك "، فهاهنا يتعارضان

ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بشدة التورع، والتحفظ، وزيادة

البصيرة، ونحو ذلك.

الحالة الثالثة: إذا ورد التجريح والتعديل من واحد، أي: أن

زيداً جرح عمراً وعدَّله، ففيه تفصيل:

فإن علمنا التأخر من المتقدم من الجرح والتعديل، فإنا نعمل

بالمتأخر، لكونه نسخ المتقدم.

وإن لم نعلم المتأخر من المتقدم، فإنا نتوقف حتى يثبت جرحه أو

تعديله.

ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين:

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يقدم الجرح على التعديل وإن كثر عدد المعدلين.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

ص: 743

وهو الحق، لأن سبب تقدم الجرح هو اطلاع الجارح على زيادة

في العلم عن الراوي قد خفيت على المعدل؛ لأن المعدلين وإن كثروا

ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك

لكانت شهادة باطلة على نفي، فلا ينتفي ذلك العلم الذي أخبر به

الجارحون بسبب كثرة عدد المعدلين، فلا يلتفت إلى الكثرة مع وجود

زيادة في الجرح.

المذهب الثاني: أنه يقدم التعديل.

وهو مذهب بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن كثرة المعدلين تقوي

حالهم، وقلة الجارحين تضعف قولهم، فالكثرة تقدم على القلة؛

حيث إن الكثرة تقوي الظن، والظن إذا قوي وجب العمل به.

جوابه:

يجاب عنه: بأن المعدلين مهما كثروا، فإنه قد خفيت عليهم

الزيادة في العلم التي أتى بها المجرح، وهم - أي: العدلون - لم

ينفوا تلك الزيادة التي ذكرها المجرح، فلا يلتفت إلى الكثرة مع

وجود زيادة في الجرح كما قلنا.

***

المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية المحدود بالقذف:

إذا قذف مكلف آخر بالزنا وحدَّه الإمام حدَّ القذف فهل روايته

مقبولة؟

اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

ص: 744

المذهب الأول: أن روايته مقبولة، أي: نقبل خبره بشرط: أن

يكون قد أخرج القول بالقذف مخرج الشهادة، أما إن أخرج القول

مخرج القذف فلا تقبل إلا إذا ثبتت توبته.

وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: الوقوع، فقد ورد أن أبا بكرة - نفيع بن الحارث

ابن كلدة الثقفي - قد شهد - هو واثنان معه - على المغيرة بن شعبة

بالزنا، ولم تتم الشهادة فجلده عمر ثمانين جلدة حد القذف، ومع

ذلك فقد قبل أهل الحديث ما رواه من الأحاديث، وقد ورد في

كتاب " الخلاصة " أن لأبي بكرة مائة واثنين وثلاثين حديثاً، اتفق

البخاري ومسلم على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم

بأخرى، روى عنه أولاده عبد الرحمن، وعبد العزيز، وعبيد اللَّه،

ومسلم، وجماعة.

الدليل الثاني. أن الشاهد العدل يغلب على الظن صدقه، ولكن

لم يكمل العدد في الشهادة على الزنا؛ ونقصان عدد الشهادة لم

يكن من جهته ولا من فعله، وبناء على نقص الشهادة أقام الإمام

الحد على هؤلاء الذين لم تكتمل شهادتهم، وذلك لا يقدح بعدالة

المحدود بالقذف؛ لأنه - كما قلنا - لا دخل له فيما حصل من

نقصان العدد في الشهادة، فلا مانع من قبوله روايته.

المذهب الثاني: أن المحدود في القذف تقبل روايته مطلقاً، سواء

كان قوله بلفظ الشهادة أو لا.

ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية.

دليل هذا المذهب:

استدل هؤلاء على ذلك: بأن هذا المحدود قد توفرت فيه شروط

ص: 745

الراوي، وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فما

المانع من قبول روايته؟

يجاب عنه: بأنا قبلنا خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ الشهادة

لما ذكرناه من الدليلين السابقين، ولما ذكرتم من اجتماع شروط

الراوي فيه.

ولم نقبل خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ القذف؛ لأنه قد فسق

بهذا، فإن تاب توبة نصوحاً قبلنا خبره؛ لأنه يلحق بالأول ولا فرق.

المذهب الثالث: أن المحدود في القذف لا تقبل روايته مطلقاً،

أي: سواء كان قوله بلفظ الشهادة أو لا.

نسب هذا إلى أبي حنيفة، ونفى هذه النسبة بعض الحنفية كابن

الهمام في " التحرير ".

دليل هذا المذهب:

استدل لهذا المذهب بأن القاذف بالزنا الذي لم تتم شهادته قد

اتهم بالكذب، ولذلك حدَّه الإمام حدَّ القذف، ويبقى هذا الاتهام

بعد الحد، ومع بقاء ذلك لايقبل منه شيء.

جوابه:

يجاب عنه بأن ترجيح صدقه ممكن، نظراً لتوفر شروط الراوي

الأربعة فيه، أما عدم إكمال العدد في الشهادة على الزنا فلم يكن

من فعله، ولذلك أقام الإمام عليه حد القذف، وهذا لا يقدح في

عدالته فلا مانع من قبول روايته.

ص: 746

المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر:

الراوي للخبر إما أن يكون صحابياً، أو غير صحابي.

فالصحابي إذا نقل خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينقله بألفاظ وطرق وكيفيات، وكذلك غير الصحابي، لذلك قسمت الكلام عن هذه المسألة إلى قسمين:

القسم الأول: في كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر.

القسم الثاني: في كيفية ألفاظ غير الصحابي في نقل الخبر.

وإليك بيان ذلك فأقول:

القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر وتتبين فيما يلي:

أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي يقول، أو

أخبرني، أو حدَّثني، أو شافهني ":

إذا قال الصحابي: " سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول كذا "، أو قال:" أخبرني رسول اللَّه بكذا "، أو قال:" حدَّثني بكذا "، أو

قال: " شافهني بكذا "، فإن هذا خبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجب قبوله والعمل به بإجماع العلماء؛ لصراحته في أنه لا يوجد واسطة بين الصحابي وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يتطرق إلى هذه الرواية أيُّ احتمال.

ثانياً: إذا قال الصحابي: " قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو: " أخبر رسول اللَّه "، أو: " حدَّث رسول اللَّه "، فما الحكم؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنا نحكم بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون حُجَّة كقوله:" سمعت صلى الله عليه وسلم يقول كذا ".

ص: 747

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي:

الدليل الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: " قال

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يمكن أن يجزم بذلك إذاً إلا عن سماع؛ حيث إن الظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة العربية وطرق استعمالاتها المتأكد من أن هذه الشريعة سيعمل بها إلى قيام الساعة: أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره.

بخلاف غير الصحابي إذا قال ذلك، فإن قرينة حاله تدل على أنه

لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: اتفاق السلف على أن الخبر إذا نقل على هذه الصفة

- وهي قول الصحابي: " قال رسول اللَّه كذا " - فإنهم لم يفهموا

من ذلك إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فلذلك اتفقوا على قبوله.

المذهب الثاني: أنه لا يحكم بأنه إذا قال: " قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذا " أنه قد سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بل هو متردد بين أن يكون سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن يكون قد سمعه من غيره.

ذهبِ إلى ذلك أبو الخطاب الحنبلي، ونسبه الآمدي، وأبو يعلى

إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وهذه النسبة إلى الباقلاني قد أنكرها

الزركشي في البحر المحيط، وأكد أن القاضي الباقلاني مع الجمهور.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم:

إن صيغة: " قال رسول اللَّه " أعم من صيغة: " سمعت رسول

الله "، وذلك لأن قوله: " قال رسول اللَّه " يعم ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 748

مباشرة، ويعم ما حكاه له صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أما قوله:" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم "، فهو خاص بالأصل وهو: ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.

ويدل على عموم الصيغة الأولى: أنه وقع من بعض الصحابة

رضي الله عنهم أنهم يعبرون بها - أي: بقولهم: " قال رسول

الله " - عما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وهذا كثير، ويعبرون بهذه الصيغة عما سمعوه من صحابة آخرين، فلما استكشفوا وروجعوا بيَّنوا وقالوا: لم نسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل حدَّثنا به فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما

أنه كان يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ربا إلا في النسيئة "، فلما سئل عنه قال: حدثني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الربا في النسيئة "، وكذلك أبو هريرة كان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

"من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما بينت عائشة - رضي الله

عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم، قال أبو هريرة: لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعته من الفضل بن العباس.

جوابه:

يجاب عنه بأجوبة:

أولها: أن نقل الصحابي الحديث عن غيره من الصحابة ثبت في

وقائع قليلة، والوقائع القليلة لا يثبت بها قاعدة أصولية، بخلاف

نقل الصحابي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: أنه لو فرض أن الصحابي قال: " قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " وهو لم يسمعه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، بل سمعه من بعض الصحابة،

ص: 749

فإن هذا يصبح مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع

العلماء المعتد بأقوالهم، فيكون لا فرق بينه وبين قوله: " سمعت

رسول اللَّه يقول ".

ثالثها: أنه على فرض أن الصحابي قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم، فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كلهم عدول كما سبق بيانه.

ثالثاً: إذا قال الصحابي: " أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا "، أو "نهى عن كذا "، أو " حرم كذا "، أو " أباح كذا "، أو " فرض

كذا "، أو " يأمر بكذا "، أو " ينهي عن كذا "، فما الحكم؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه حُجَّة، وأن الحكم يثبت بذلك، ويحكم به

بالأمر والنهي.

هذا ما ذهب إليه الجمهور.

وهو الحق، لدليلين:

الدليل الأول: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان ينقل

الحديث بمثل تلك الألفاظ - نهى رسول اللَّه أو أمر

إلخ - وكان

الصحابة الآخرون يقبلون هذا، ويعولون عليه، ويحتجون به من

غير نكير، ولا يمكن لمن اختارهم اللَّه لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعولوا ويعتمدوا على شيء لا تقوم به الحُجَّة، فكان ذلك إجماعا سكوتيا

على ذلك.

من ذلك ما قاله بعض الصحابة: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بالمضمضة والاستنشاق، وأمر ألا توصل صلاة بأخرى، وفرض زكاة

ص: 750

الفطر صاعاً من تمر..، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى

الصلاة، وأمر برجم ماعز، والغامدية، ونهى عن المخابرة، ونهى

عن الوصال، ونهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى،

ونهى عن الضرر والضرار، ونهى عن قراءة القرآن في الركوع

والسجود، والأمثلة على ذلك كثير.

الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابي وهو المشهود له

بالعدالة، ومعرفته بأوضاع اللغة وطرق استعمالاتها: أن لا يطلق

ذلك اللفظ - وهو أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو نهى، أو فرض

إلخ - إلا إذا كان متيقناً وعالماً تمام العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أو نهى حقيقة، بحيث سمعه يقول:" أمرتكم بكذا "، أو يقول:"افعلوا كذا "، أو يقول:" نهيتكم عن كذا "، أو يقول:

" لا تفعلوا كذا "، وينظم إلى ذلك من القرائن ما يدل كونه أمراً، أو

يدرك ضرورة قصده الأمر أو النهي، أو نحو ذلك مما ذكر.

وذلك نفياً للتدليس والتلبيس عن الصحابي بنقل ما يوجب على سامعه

اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً أو نهياً.

المذهب الثاني: أن الصحابي إذا قال: " أمر رسول اللَّه أو نهى

إلخ "، فإن هذا لا يثبت به الحكم، ولا يحكم به بالأمر

والنهي، وأنه لا حُجَّة فيه ما لم ينقل لفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وحكاه الجزري من الظاهرية عن

داود الظاهري

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الحُجَّة بلفظ الرسول

صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه، أو نهى

إلخ "

ص: 751

لا يدل على وجود الأمر والنهي حقيقة، وذلك لأنه يتطرق إليه

احتمالان:

الاحتمال الأول: أن هذا التعبير ليس نصا صريحاً في سماعه من

الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل يحتمل أن يقول الصحابي:

" أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو نهى " اعتماداً على ما بلغه تواتراً، أو بلغه بلسان يثق بقوله.

الاحتمال الثاني: أن العلماء اختلفوا في صيغ ومعاني الأوامر،

فمنهم من قال: الأمر المطلق للوجوب، ومنهم من قال: هو

للندب، ومنهم من قال: للإباحة.

وكذلك اختلفوا في صيغ ومعاني النواهي، فمنهم من قال:

النهي المطلق يقتضي التحريم، ومنهم من قال: هو للكراهة.

فإذا كان كذلك فربما ظن الصحابي الراوي واعتقد ما ليس بأمر

أمراً، وما ليس بنهي نهياً، أي: سمع الصحابي الراوي صيغة

اعتقد أنها أمر أو نهي، وليست كذلك حقيقة مما يسبب اللبس في

أوامر الشريعة ونواهيها.

ونظراً لهذين الاحتمالين قلنا: إنه لا يحكم به بالأمر والنهي.

جوابه:

يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول مسلَّم وقد يقع، ولكنه لا يمنع

من قبول قول الصحابي: " أمر رسول اللَّه أو نهى " فهو حُجَّة،

وكأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ لأنه مرسل صحابي، ومرسل الصحابي مقبول بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، فلا فرق بينه وبين

قوله: " قال رسول اللَّه "، أو " سمعت رسول اللَّه ".

ص: 752

أما الاحتمال الثاني - وهو أنه قد يعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما

ليس بنهي نهياً - فإنه يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن الغلط والوهم من الصحابة بعيد جداً، نظراً

لمعرفتهم الدقيقة باللغة العربية وطرق استعمالاتها وأساليبها،

ومعرفتهم يعموم وشمول هذه الشريعة لهم ولغيرهم ممن سيأتي

بعدهم إلى قيام الساعة - فلا يمكن - والأمر كذلك - أن يتساهلوا

بهذا لعلمهم بأن فيه تدليساً وتلبيساً على الأُمة، وهذا مستحيل على

الصحابة المشهود لهم بالعدالة من قِبَل اللَّه ورسوله.

لذلك يجب علينا حمل ظاهر أقوالهم وأفعالهم على أنها سليمة

وصحيحة وموافقة لما أمر به رسول اللَّه ونهى عنه - مهما أمكن -.

الجواب الثاني: وقولكم - في الاحتمال الثاني - يمكن أن يصح

لو كان الاختلاف في صيغ الأوامر والنواهي مبنيا على اختلاف

الصحابة فيها.

ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فلم يرد عن الصحابة - رضوان

الله عليهم - أنهم اختلفوا في تلك الصيغ واقتضائها، إذ لو كان

هناك اختلاف في ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا اختلافهم في بعض

الأحكام الفقهية كاختلاف ابن عباس مع زيد بن ثابت في مسألة الجد

والأخوة، واختلاف عائشة مع ابن عمر في نقض شعر المرأة في

الاغتسال من الجنابة، واختلاف عليّ وعثمان في الجمع بين الأختين

الأمتين، واختلاف عليّ مع عمر في بيع أمهات الأولاد، واختلاف

علي مع ابن مسعود في المفوضة، واختلافهم في العول، وغير ذلك

من المسائل الفقهية التي نقلت إلينا.

ثم اعلم أنه ليس من ضرورة اختلاف العلماء في زمن من

ص: 753

الأزمان - بعد الصحابة - في مسألة معينة أن يكون هذا الاختلاف مبنيا

على اختلاف الصحابة بدليل: أن علماء السلف والخلف اختلفوا في

كثير من المسانل الأصولية والفقهية في حين أنه لم يرد عن الصحابة

أنهم اختلفوا في أي منها.

المذهب الثالث: التفصيل، وبيانه:

إن كان الصحابي القائل لذلك من أهل المعرفة باللغة وطرق

استعمالاتها وأساليبها، فإن هذا يجعل قوله:" أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو نهى رسول اللَّه " مثل نقله لفظة الأمر حقيقة، وذلك نظراً لتلك المعرفة.

أما إن كان الصحابي غير ذلك، فإنه يجوز عليه احتمال أنه يجعل

ما ليس بأمر أمراً وما ليس بنهي نهياً، وذلك لجهله باللغة العربية

وطرق استعمالاتها.

حكى هذا المذهب كل من القاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين.

جوابه:

يجاب عنه: بأن العدل الثقة إذا نقل شيئاً مطلقاً، فإنا نحمله على

أرجح محامله، إلا إن وجد ما يعارض ذلك، فلا يتعرض لتقرير

وجوه البطلان فيه، يؤيد ذلك: أن الشخص إذا شهد على بيع أو

إجارة، أو غيرهما من العقود فإنا لا نكلفه أن ينعت لنا وجه الصحة

فيما يشهد عليه، بل يكتفي بإطلاقه القول، وكذا هنا.

والصحابي الذي ليس من أهل المعرفة باللغة - إن وجد - لا يمكن

أن يعبر بمثل هذا ويقول: " أمر رسول اللَّه أو نهى " إلا إذا كان

ص: 754

متأكداً من أن ذلك أمر حقيقة، وإن شك في ذلك فإنه يسكت نظراً

لعدالته.

المذهب الرابع: التوقف، وهو الذي يفهم من كلام الإمام الرازي

في " المحصول "، وهو الذي حكاه إمام الحرمين عن بعض الظاهرية

في " التلخيص "، وذلك لتعارض الأدلة.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلتنا على أنه

يحكم به.

رابعاً: قول الصحابي: " أُمِرْنا بكذا "، أو " نُهينا عن كذا "،

أو " أوجب علينا كذا "، أو " حُرِّم علينا كذا "، أو " أُبيح لنا كذا"

ونحو ذلك من الفعل المبني للمجهول، ما حكمه؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن الصحابي إذا قال ذلك، فإنه يفيد أن الآمر

والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحمل على غير ذلك.

وهذا هو مذهب جمهور العلماء.

وهو الصحيح، لدليلين:

الدليل الأول: أن مراد الصحابي وغرضه من نقله لهذا الخبر بهذه

الصيغة - وهي أمرنا أو نهينا - هو الاحتجاج به لإثبات الأحكام

الشرعية، فيجب حمل الأمر على أنه صدر ممن يحتج بقوله وهو

الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحمل على أنه صدر ممن لا يحتج بقوله من الأئمة والولاة والعلماء.

الدليل الثاني: أن الواقع يشهد لذلك، حيث إنه من المعروف أن

ص: 755

من يتبع رئيساً أو أميراً إذا قال: " أمرنا بكذا "، أو " نهينا عن

كذا"، وأطلق ذلك فإنه يفهم منه أن الآمر هو ذلك الرئيس أو الأمير،

فكذلك الصحابة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ولا فرق، فإنه إذا قال الصحابي:" أمرنا "، أو " نهينا "، فإنه لا يفهم من ذلك إلا أن الآمر والناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم.

المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " أمرنا. "، أو " نهينا " - وما

ذكر هنا - لا يفيد هذا أن الآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يضاف إليه، وبالتالي لا يكون حُجَّة.

ذهب إلى ذلك أبو الحسين الكرخي، والسرخسي، والجصاص،

وأبو بكر الصيرفي، والإسماعيلي، وإمام الحرمين، وأكثر مالكية

بغداد.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن قول الصحابي ذلك

ليس بنص صريح في النقل بل يتطرق إليه ثلاثة احتمالات هي كما يلي:

الاحتمال الأول: أن قوله: " أمرنا أو نهينا " لا يفيد أنه سمعه من

النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة - فقط -، بل قد يحتمل أنه قال ذلك اعتماداً على ما بلغه بالتواتر، أو بلغه على لسان شخص يثق به.

الاحتمال الثاني: أن الصحابي ربما توهم ما ليس بأمر أمراً، وما

ليس بنهي نهياً.

الاحتمال الثالث: أنه يحتمل أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة والعلماء بدليل قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

ص: 756

، فهنا أمر اللَّه عز وجل باتباع أمره، وأمر

رسوله، وأمر العلماء، والخلفاء، والسلاطين المحكمين لشرع اللَّه.

وعلى هذا يكون ذلك متردداً بين كونه مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبين كونه مضافاً إلى الأئمة والعلماء، وإذا احتمل هذا وذاك فلا يكون مضافا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا يكون حُجَّة.

جوابه:

يجاب عن ذلك: بأن الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني

باطلان؛ لما سبق من الدليل والتعليل.

أما الاحتمال الثالث - وهو قولهم: يحتمل أن الآمر غير النبي

صلى الله عليه وسلم من العلماء والولاة - فيجاب عنه بأن الصحابي إذا قال: " أمرنا أو نهينا "، وأطلق، فإنا لا نعقل من هذا الإطلاق سوى أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لأن الآمر والناهي حقيقة هو اللَّه تعالى، ويبلغنا بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الصحابي:" أمرنا أو نهينا " انصرف إلى الحقيقة، ولا يقال: إن الآمر والناهي غيره إلا بقرينة، كما لو قال مثلاً:" هذا الفعل طاعة "، فإنه لا يعقل أحد إلا طاعة اللَّه تعالى وطاعة رسوله.

أما الآية، وهي قوله تعالى:(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، فإنه يحتمل أن يكون المراد بها: أطيعوا أولي الأمر فيما نقلوه من أمري، وما أخبروا به عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما

قال أبو يعلى الحنبلي.

المذهب الثالث: التفصيل، بيانه:

إن كان الصحابي القائل: " أمرنا ونهينا " من أكابر الصحابة

ص: 757

وعلمائهم كالخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن

ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس،

وغيرهم ممن يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يغلب على الظن أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إن كثرة ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم تجعلنا

نكاد نجزم بأنه لا آمر ولا ناهي إلا هو صلى الله عليه وسلم، واحتمال أن الآمر والناهي غيره احتمال بعيد جداً.

أما إذا كان الصحابي لم يكثر ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم كمن يفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعود، أو من تأخر إسلامه والتحق به في آخر سنة عاشها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن احتمال كون الآمر والناهي غير النبي صلى الله عليه وسلم احتمال قوي.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا التفريق بين الصحابة لا دليل عليه،

فالصحابي الذي شهد له اللَّه عز وجل، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدالة إذا نقل شيئاً وأطلق قائلاً:" أمرنا ونهينا "، فإنا لا نحمله

إلا على أمر من له الأمر الحقيقي، وهو اللَّه تعالى الذي بلغنا به

رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نحمله على أمر غيره إلا بقرينة، وهذا الكلام ينطبق على جميع الصحابة.

تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي: " أمرنا

ونهينا "، فالآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

خامساً: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا "، أو " السُّنَّة جارية

بكذا "، أو " مضت السُّنَّة بكذا "، ما حكمه؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

ص: 758

المذهب الأول: أنه لا يفهم من ذلك إلا سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل عليه دون غيره.

هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء.

وهو الحق عندي، لدليلين هما:

الدليل الأول: أن غرض الصحابي ومراده من روايته لذلك أن

يعلمنا الشرع، فيجب حمل قوله:" من السُّنَّة كذا " - وغيرها من

الصيغ الأخرى مما في معناها - على أنه صادر منِ الشرع، وهو

سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: أن كلمة "؛ السنَّة" إذا أطقت في أحكام الشرع،

فإن المقصود بها ما سَنَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه، لأنه إذا أريد بها سُنَّة غيره فإن لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها، يؤيد ذلك: ما انتشر على ألسنة جميع العلماء، وهو

قولهم: " عليكم بالقرآن والسُّنَّة "، فلا يعقل من ذلك إلا اتباع

النبي صلى الله عليه وسلم، دون غيره.

المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا ".. إلخ

لا يحمل على سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب بعض العلماء، ونسبه الآمدي إلى الكرخي، ونسبه

الزركشي إلى الصيرفي.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن اسم " السُّنَّة " متردد

بين سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وبين سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:

"عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "،

وقال عليّ بن أبي طالب:

ص: 759

" جلد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّة ".

فإذا كان اللفظ متردد بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما

دون الآخر أَوْلى من العكس.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا لا يعارض ما ذهبنا إليه، بيان ذلك:

أننا قلنا: إن لفظ " السُّنَّة " إذا أطلق فلا يتبادر إلى الذهن من

هذا الإطلاق شرعاً إلا سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دون غيره، أما إذا وجدت قرينة، فإنا نحمل لفظ " السُّنَّة " على ما دلَّت عليه تلك

القرينة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسُنَتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: عليكم بما سمعتموه مني، وبما حدَّثكم به خلفائي عني.

وكذلك قول عليّ يحمل على سُنَّته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيادة حد، وقد ثبت الحد بالسُّنَّة.

تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي:

" من السُّنَّة كذا "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن لأي عالم من التابعين أو غيرهم، ممن ثبتت عدالته أن يقول ذلك، ويطلق إلا وهو يريد سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث هو الذي تجب طاعته.

وقيل: لا يحمل على سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لتطرق احتمال أن يقصد التابعي سُنَّة الصحابة، والجواب عن ذلك كما سبق.

ص: 760

وقيل: الفرق بين قول سعيد بن المسيب فيحمل على سُنَّة رسول

الله صلى الله عليه وسلم، نظراً لثبوت ذلك عنه، وبين قول غيره فيتطرق إليه الاحتمال، والجواب عنه: أن العدل الثقة لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان قاصداً سُنَّة من تقوم الحُجَّة بقوله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين عالِم وعالِم في ذلك.

سادساً: قول الصحابي: " عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما حكمه؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه ظاهر في أن الصحابي قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يطلق

ذلك إلا لأنه سمعه حقيقة من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن عدالته تمنعه من إطلاق ذلك إذا لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو شك في ذلك، وقد سبق بيان ذلك.

المذهب الثاني: أنه لا يحمل على أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد يكون سمعه من غيره بالتواتر أو ممن يثق بقوله، ونظراً لهذا

الاحتمال، فإنه لا يحكم بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون حُجَّة حتى يثبت بالقرائن على أنه سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال وارد، ولكنه لا يمنع من قبول

قول الصحابي: " عن النبي "، فهو حُجَّة فكانه سمعه من النبي

صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه مرسل صحابيْ، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، إذن لا فرق بينه وبين قوله:

" قال رسول اللَّه ".

ص: 761

المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يأتي دليل يرجح أحد

الأمرين، وهو اختيار فخر الدين الرازي فى " المحصول "، وذلك

نظراً لتعارض أدلة أصحاب المذهبين السابقين، وضعف كل منهما.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة الدليل على أنه

ظاهر في أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وضعف دليل أصحاب المذهب الثاني.

سابعاً: قول الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون " ما حكمه؟

فيه تفصيل وهو كما يلي:

إذا قال الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون "، وأطلق فإنه

لا يكون كالمستند فلا يكون حُجَّة اتفاقاً؛ لأن الحُجَّة في إقراره صلى الله عليه وسلم، والإقرار هنا منتف في غير عهده، فيحتمل أنه رأي جماعة.

أما إذا قال الصحابي: " كنا نفعل فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كانوا يفعلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين:

المذهب الأول: أنه كالمسند، فهو حُجَّة.

وهذا هو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن الصحابي ذكر ذلك في معرض الاحتجاج

لإثبات حكم من الأحكام يدل على أنه أراد ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وسكت عنه، ولم يتبين أنه دليل، فأراد الصحابي أن يبين لنا ذلك

ليكون دليلاً شرعيا يستدل به في الأحكام الشرعية، ولا يكون كذلك

إلا وقد علمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره.

ص: 762

الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابة أنهم لا يقدمون على

أمر من أمور الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إلا إذا كان عالِماً به فيكون من السُّنَّة التقريرية.

المذهب الثاني: أن هذا التعبير لا يكون كالمسند، فلا يكون حُجَّة.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون

الصحابة يفعلون ما لا يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم.

يؤيد ذلك الاحتمال: ما روي أن زيد بن ثابت كان يحدث الناس

بأن الرجل إذا جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، فسأله عمر عن ذلك

قال: حدَّثني أعمامي: " أبي بن كعب "، و " أبو أيوب "،

و"رفاعة"، وكان رفاعة عند عمر فقال رفاعة لعمر: " قد كنا نفعله

على عهد رسول اللَّه "، فقال عمر: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلم؛ قال: لا علم له، فجمع عمر المهاجرين والأنصار فأشاروا إليه: أن لا غسل في ذلك، إلا علياً ومعاذاً قالا: إذا جاوز الختان، فقد وجب

الغسل، قال عمر: لا أسمع برجل يفعل ذلك إلا أوجعته، فهذه

القصة تدل على أن الصحابة كانوا يفعلون أشياء لا يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال - وهو كون الصحابة يفعلون ما لا

يعلمه صلى الله عليه وسلم في عهده - لا دليل عليه، والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يلتفت إليه.

أما القصة التي ذكروها فيمكن أن يجاب عنها بأن نقول: إنه في

ص: 763

أول الإسلام كان التقاء الختانين لا يوجب الغسل، ثم نسخ ذلك،

فعلم ذلك قوم، ولم يعلمه آخرون، فكان من لم يعلم النسخ

مستمراً على ذلك الحكم الذي كان في صدر الإسلام حتى تبين لهم

خبر عائشة رضي الله عنها والعمل على حكم سابق جائز إذا لم

يعلم الناسخ، أما الإقدام على ابتداء فعل يتعلق بالدين من غير

استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بالصحابة فعله.

ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون كذا " هل يفيد حكاية الإجماع؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يفيد حكاية الإجماع، أي: أن الصحابي

يكون بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع على هذا الفعل.

ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.

وهو الحق عندي؛ لأن اللفظ - في قوله: كانوا يفعلون كذا -

يدل دلالة واضحة على أن الصحابي يحكي هذا الفعل عن الجميع؛

لأنه قال ذلك في معرض الاحتجاج به على حكم معين، فيجب أن

يحمل على من قولهم حُجَّة، وهو الإجماع.

فلو كان الصحابي الراوي يحكي ذلك عن واحد منهم، أو عن

طائفة: لما قاله في معرض إقامة الحجة على حكم معين؛ لأن قول

البعض لا حُجَّة فيه.

المذهب الثاني: أنه لا يفيد حكاية الإجماع، أي: أنه لا يفيد

إضافة الفعل المحكي عن الصحابة إلى جميعهم ما لم يصرح

الصحابي الراوي بنقل الإجماع عن أهله.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

ص: 764

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لو كان ذلك مستندا إلى

فعل الجميع، لكان إجماعا، ونظراً لأنه يسوغ مخالفته عن طريق

الاجتهاد دلَّ على عوده على البعض دون الجميع.

جوابه:

يجاب عنه: بأن سبب تسويغ الاجتهاد فيه هو: أن إضافة ذلك

إلى الجميع وقع ظنا، لا قطعا، كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه

الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنيا، وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد إذا ثبت بطريق القطع.

القسم الثاني - من قسمي كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر - هو:

كيفية ألفاظ الراوي غير الصحابي في نقل الخبر، وتتبين فيما يلي:

أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع، سواء كانت

قراءته إملاء من مكتوب، أو من حفظه، فتجوز الرواية عنه مع

العمل بذلك بالاتفاق.

ثانياً: الصيغ التي يتلفظ الراوي إذا أراد أن يُحدِّث بما سمعه من

شيخه فيما سبق، فيهاتفصيل:

1 -

إن قصد الشيخ إسماع الراوي خاصة فإن الراوي يقول:

"حدَّثني فلان "، أو " أخبرني فلان ".

2 -

إن قصد الشيخ إسماع الراوي مع. غيره فإنه يقول: " حدثنا

فلان "، و " أخبرنا فلان ".

3 -

إن لم يقصد الشيخ إسماع الراوي منفرداً ولا مع جماعة،

ص: 765

فلا يقول الصيغ السابقة، بل يقول:" سمعته يقول كذا "، أو

"يخبر بكذا "، أو " قال فلان كذا "، أو " سمعته يحدث بكذا ".

ثالثاً: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي أم العكس، أم

ماذا؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن قراءة الشيخ على الراوي أقوى من قراءة

الراوي على الشيخ، وهو مذهب الجمهور.

وهو الحق، لدليلين:

الدليل الأول: أنه طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه الذي كان يحدث أصحابه كما نقلوه عنه.

الدليل الثاني: أن قراءة الشيخ على الراوي أبعد عن الخطأ والسهو

والغلط؛ لكونه يقرأ ما تحقق منه، فيكون أحق فيما هو المقصود،

وهو تحمل الأمانة بصفة تامة.

المذهب الثاني: العكس، وهو: أن قراءة الراوي على الشيخ

أقوى.

ذهب إلى ذلك أبو حنيفة كما نقله عنه السرخسي، وحكاه ابن

الصلاح عن ابن أبي ذؤيب.

دليل هذا المذهب:

أن عناية الطلب أشد عادة؛ لأنه إذا قرأ الراوي على الشيخ كانت

المحافظة من الطرفين، وإذا قرأ الشيخ لا تكون المحافظة إلا منه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا لا يسلَّم؛ فإن قراءة الشيخ على إلراوي

ص: 766

أقوى من العكس؛ لما قلناه، والراوي المستمع لقراءة الشيخ أحرص

على استماع كل ما يقوله شيخه، وكل منهما قد توفرت فيه شروط

الراوي - الإسلام والتكليف والضبط والعدالة -.

المذهب الثاني: هما سواء.

ذهب إلى ذلك الإمام مالك فيما نقله عنه ابن الصلاح، واختاره

ابن الساعاتي.

دليل هذا المذهب:

أن الذي يقرأ كتاباً ويسهو لا فرق فيه بين القارئ والسامع؛ نظراً

لمساواة من يتكلم أو يستمع فيستفهم فيقول: نعم.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه لا يسلم تساوي القارئ والمستمع، فإن الشيخ

إذا قرأ مع تثبت ودقة في حين أن الراوي قد اتصف بشدة الطلب

يكون هذا أقوى وأصح.

رابعاً: قراءة الراوي " التلميذ " على الشيخ وهو يسمع، فيقول

الراوي للشيخ - بعد الفراغ من القراءة -: هل سمعت أيها الشيخ؛

فيقول الشيخ: نعم، أو يقول الشيخ:" الأمر كما قرئ عليّ "،

فتجوز الرواية عنه، مع العمل بذلك بالاتفاق.

خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو يسمع، ثم قال الراوي

للشيخ: هل سمعت أيها الشيخ؛ فسكت الشيخ، فهل تجوز

الرواية عنه؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه تجوز الرواية عنه، ويجب العمل به.

ص: 767

وهذا هو مذهب جمهور العلماء بشرط: أن لا يوجد لدى الشيخ

أي مانع من الإنكار إذا أخطأ الراوي في القراءة.

وهو الحق؛ لأنه لو لم يكن ما قرأه الراوي صحيحا كله لما سكت

الشيخ، بل لاعترض على الخطأ منه، ولكن سكوت الشيخ وعدم

اعتراضه دليل واضح على أن كل ما قرأه وما ذكره الراوي صحيح،

وما دام أنه صحيح فيجب العمل به.

أي: لو لم تكن قراءة الراوي على الشيخ صحيحة لكان سكوت

الشيخ عَن الإنكار مع القدرة عليه فسقا؛ لما فيه من إيهام صحة ما

ليس بصحيح، وذلك بعيد جداً عن العدل الثقة.

أما إذا غلب على ظننا بأنه يوجد لدى الشيخ مانع من الإنكار

كغفلة فيه، أو قلة مبالاة، أو نوم، أو إكراه على السكوت، ففي

هذه الحالة لا يكتفى بسكوته، بل لا بد من - نطقه بقوله:" نعم " أو

نحو ذلك مما يدل على موافقته على صحة ما قرئ عليه.

المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية عنه، ولا العمل به.

ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن سكوت الشيخ لا يكفي

في الدلالة على صحة ما قرأه، فقد يكون غافلاً، أو مكرها، أو

نحو ذلك، فلا بد من نطقه بأن يقول:" نعم ".

جوابه:

يجاب عنه: باننا لما قلنا: إن سكوت الشيخ إذا قرأ عليه الراوي

وقال له: هل سمعت أيها الشيخ يدل على صحة ما قرأه عليه،

ص: 768

فتجوز الرواية عنه، ويجب العمل به، فإننا لم نقل ذلك مطلقا،

بل اشترطنا: أن لا يكون عند الشيخ أيُّ مانع من الإنكار - إذا أخطأ

الراوي في القراءة - كما بينا فيما سبق، فلذلك لا يصح ذلك

الاحتمال الذين ذكرتموه.

سادسا: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما يريد التحدث بما قرأه

على شيخه هي: أن يقول: " أنبأنا فلان قراءة عليه "، أو يقول:

"حدَّثنا فلان قراءة عليه "، أو يقول:" أخبرنا فلان قراءة عليه "،

وهذا متفق عليه؛ لتصريحه بهذه الرتبة.

سابعاً: إذا قرأ الراوي على الشيخ، فهل يجوز أن يقول:

"أخبرنا"، أو " حدَّثنا " مطلقاً، أي: بدون عبارة: " قراءة عليه "؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول:

" أخبرنا أو حدَّثنا قراءة عليه ".

ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وعبد اللَّه بن المبارك،

والإمام مسلم، والنسائي، وإلغزالي، - وأبو إسحاق الشيرازي،

والآمدي، وأبو الحسين البصري، وهو مذهب كثير من العلماء.

وهو الحق عندي؛ قياسا على أنه لا يجوز لمن قرأ على الشيخ أن

يقول: " سمعت من فلان كذا "، والجامع: أن ظاهر هذه العبارة،

وقول التلميذ في هذه المسألة: " حدَّثنا أو أخبرنا " مطلقا: يقتضي:

أن الشيخ هو الذي تولى القراءة بنفسه، وهذا ليس بصحيح؛ حيث

إن حقيقة الأمر أن الراوي هو الذي تولى القراءة على الشيخ، فترك

عبارة: " قراءة عليه " يوهم السماع من لفظ الشيخ، وهذا كذب

في الرواية.

ص: 769

المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك، فيقول:" أخبرنا وحدَّثنا " في

هذه المسألة بدون ذكر عبارة: " قراءة عليه ".

ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة، ومالك، ومحمد بن الحسن،

وأبو يوسف، والإمام أحمد في رواية أخرى عنه، والبخاري،

وسفيان بن عيينة، وأبو يعلى، وأبو بكر عبد العزيز، ومعظم

الحجازيين والكوفيين.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك:

أن الراوي إذا قرأ على الشيخ، فلما فرغ قال له: هل سمعت

أيها الشيخ؛ فقال: " نعم "، أو سكت - مع عدم المانع من

النطق -: كان هذا يعتبر إقراراً من الشيخ أن قراءة الراوي عليه

صحيحة، فكأنه بذلك قال له:" نعم قراءتك صحيحة "،

والجواب بلفظ: " نعم " خبر؛ قياسا على الشهادة، فلو قال

شخص لعمرو: " هل لزيد عليك خمسة ريالات؛ "، فقال

عمرو: نعم: كان للشاهد عليه أن يقول: " أشهدني على نفسه

بخمسة ريالات " قال ذلك مع أنه لا يوجد إلا لفظ " نعم "،

فكذلك في الرواية فإذا قال الشيخ: " نعم "، فإنه يكون.

تقدير الكلام: " نعم أخبرني بأني رويت له كذا ".

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

ْالجواب الأول: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛

حيث إنه يوجد فرق بين الشهادة والرواية، كما سبق بيانه.

ص: 770

الجواب الثاني: أن هذا الدليل لا يمنع من إيهام السماع من لفظ

الشيخ، فيكون احتمال السماع من الشيخ قوياً؛ لذلك لا بد من

ذكر عبارة " قراءة عليه " منعا من ذلك الإيهام.

المذهب الثالث: التفصيل؛ بيانه:

أنه يجوز أن يقول الراوي - وهو القارئ على الشيخ -: "أخبرنا

فلان بكذا " مطلقا، أي: بدون ذكر لفظ " قراءة عليه "، ولا

يجوز أن يقول: " حدثنا فلان كذا " مطلقاً، بل لا بد أن يقيد ذلك

بقوله: " قراءة عليه " ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب: بوجود الفرق بين " أخبرنا "،

و"حدَّثنا "، وهو: أن الإخبار يستعمل في كل ما يتضمن الإعلام،

أما التحديث فإنه لا يستعمل إلا فيما سمع من فيه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن بعض أهل الحديث قد اصطلح على التفريق

بينهما بما ذكرزم، وهذا لا يلزمنا؛ لأن معنى " حدَّثنا "، و " أخبرنا"

متحد في اللغة؛ ذلك لأنه مشتق من الخبر والحديث وهي واحدة.

ثامناً: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز للراوي أن يبدل

ذلك بلفظ: " أخبرنا "، أو العكس؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، فيجوز أن يقول الشيخ:

"حدَّثنا "، ثم يقول الراوي القارئ عليه:" أخبرنا "، ويجوز

-

ص: 771

العكس، وهو أن يقول الشيخ:" أخبرنا "، فيقول الراوي القارئ

عليه: " حدَّثنا".

ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد.

وهو الحق: لما سبق من أن معنى " حدَّثنا " و " أخبرنا " متحد في

اللغة؛ لاشتقاقه من الخبر والحديث، وهي واحدة.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون الشيخ

من الذين لا يرون التسوية بين " أخبرنا "، و " حدَّثنا "، فيكون

كذباَعليه.

جوابه:

يجاب عنه بما سبق، وهو أن تفريقه بينهما لا يلزمنا ما دامت اللغة

لم تفرق بينهما، فالمرجع في ذلك إلى لسان العرب.

تاسعاً: إذا قال الشيخ " حدَّثنا "، أو " أخبرنا "، فهل يجوز

للراوي أن يبدل ذلك بلفظ: " سمعت فلانا "؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك.

وهو مذهب الجمهور.

وهو الحق؛ لأن لفظ " سمعت " مشعر بأن شيخه هو الذي تولى

القراءة بنفسه، أي: هو الذي نطق، وهذا خلاف الحقيقة؛ لأن

ص: 772

الحقيقة أن الراوي هو الذي قرأ على الشيخ، فقال الشيخ: نعم،

أو سكت، وإذا كان مخالفاً لحقيقة الأمر الواقع فهو كذب.

المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك إذا علمنا بصريح قوله، أو بقرينة

حاله أنه يريد بقوله: " وهو سمعت فلاناً " - القراءة على الشيخ

دون سماع حديثه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا متفق عليه، وإنما الخلاف فيما إذا قال:

"سمعت فلاناً "، وهو في الحقيقة قد قرأ على الشيخ، ولم يسمع

منه.

عاشراً: حقيقة الإجازة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " أجزت لك

أن تروي عني ما صح عندك من مسموعاتي "، وعند ذلك يجب

الاحتياط في تعيين المسموع.

وحقيقة المناولة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " خذ هذا الكتاب

فأروه عني "، أو يقول: " خذ هذا وحدث به عني فقد سمعته من

فلان "، وهو اصطلاح قد اتفق عليه أهل الحديث؛ حيث إن

أحدهم يناول الآخر كتابا فيقول: " اروه عني ".

وصيغة الراوي أن يقول: حدَّثني فلان إجازة "، أو " أخبرني

فلان إجازة ".

حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة.

الحق أن المناولة تعتبر قسما من أقسام الإجازة، فالمناولة لا تخرج

عن الإجازة؛ لأن الشيخ لو اقتصر على مجرد المناولة، وهو:

اعطاؤه الكتاب دون اللفظ - أي: لم يقل له: " اروه عني " -

ص: 773

لم تجز الرواية مطلقاً، أما لو اقتصر الشيخ على مجرد اللفظ - وهو

قوله له: " اروه عني " - دون أن يناوله كتابا بيده فإنه يكفي ويغني،

وتجوز الرواية بذلك؛ لأن الإذن إنما يستفاد من اللفظ، لا من إعطائه

الكتاب، فبان أنه لا معنى للمناولة بدون إجازة، وحينئذ تعتبر

المناولة نوعاً من أنواع الإجازة.

ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة.

لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان:

المذهب الأول: أنه تجوز الرواية بهما.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، ومنهم: مالك، والشافعي،

وأحمد.

وهذا هو الحق؛ لدليلين هما:

الدليل الأول: أن الطريق - وهو قول الراوي: حدثنا فلان عن

فلان - إنما هو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث، ومعرفة صحة

الحديث حاصلة بالإجازة والمناولة؛ لأن المجيز عدل ثقة، والظاهر

أنه لم يجز إلا ما علم صحته، وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه

فاسقاً، وهو لا يمكن في العدل، وإذا علمت الرواية، أو ظننت

بإجازته جازت الرواية عنه.

الدليل الثاني: قياس الإجازة والمناولة على الراوي إذا قرأ على

الشيخ، بيانه:

أن الشيخ - وهو المجيز - إذا قال للراوي: " هذا كتاب مسموعي

فاروه عني "، يكون ذلك بمنزلة ما إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو

ساكت، ولا فرق بينهما بجامع: أن الشيخ فيهما لم يتكلم بما في

داخل الكتاب ومسموعاته.

ص: 774

المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية بالإجازة والمناولة.

ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالقاضي حسين،

والماوردي، والروياني، وبعض الظاهرية كابن حزم، وبعض أهل

الحديث كشعبة بن الحجاج، وأبي زرعة، وإبراهيم الحربي من

أصحاب الإمام أحمد.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشهادة على الشهادة لا

تجوز بالإجازة والمناولة، فيقاس عليها الأخبار، فلا تجوز بالمناولة

والإجازة، ولا فرق بينهما.

جوابه:

يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس غير صحيح؛

لأنه قياس مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية في أمور

كثيرة، ومنها: أن شاهد الفرع لا يقبل مع وجود شاهد الأصل

بخلاف الرواية، فإن رواية الراوي تقبل مع وجود شيخه الذي أخبر

بهذا الخبر.

ثالث عشر: أنواع الإجازة:

تتنوع الإجازة إلى أنواع:

النوع الأول: الإجازة بمعين لمعين مثل أن يقول الشيخ:

" قد أجزت لك الكتاب الفلاني "، وهذا النوع أعلى أنواع الإجازة.

النوع الثاني: الإجازة لمعين في غير معين مثل أن يقول الشيخ:

"قد أجزت لك جميع مسموعاتي "، وهذا يجوز عند الجمهور.

النوع الثالث: إجازة معين لمعين بوصف العموم مثل أن يقول:

ص: 775

"أجزت للمسلمين، أو لمن أدرك حياتي الكتاب الفلاني "، وهذا

جائز لمن كان موجوداً من المسلمين عند الإجازة.

النوع الرابع: إجازة المجاز مثل أن يقول الشيخ: " أجزت لك

ما أجيز لي روايته ".

النوع الخامس: الإذن في الإجازة مثل أن يقول الشيخ: " أذنت

لك أن تجيز عني من شئت ".

رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدَّثني فلان "، أو قال:

" أخبرني فلان " وأطلق، ولم يقيد ذلك بلفظ " إجازة "، فهل هذا

يجوز؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول: " حدَّثني

فلان إجازة "، أو يقول: " أخبرني فلان إجازة ".

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الحق عندي، لأنه لو قال الراوي المجاز:" حدَّثني فلان "،

أو أخبرني فلان " بدون لفظ " إجازة " لأوهم ذلك أن الرواية

بالتحديث على الحقيقة والسماع " لأنها الأصل المتبادر إلى الذهن،

ومنعاً لهذا الوهم، قلنا: لا بد من ذكر لفظ " إجازة ".

المذهب الثاني: أنه يجوز للراوي المجاز أن يقول: " حدَّثنى "،

أو " أخبرني " بدوق ذكر لفظ " إجازة ".

ذهب إلى ذلك الإمام مالك وأهل المدينة، وبعض الحنفية

كالجصاص، والبزدوي، والدبوسي، وابن عبد الشكور.

ص: 776

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الإجازة والمناولة على السماع

حيث قالوا: إن الإجازة والمناولة بمعنى إسماع الشيخ وقراءة الراوي

عليه، فكأن الشيخ لا قال للراوي عنه: " أجزت لك أن تروي عني

هذا الكتاب " أن الراوي قرأه عليه ولا فرق.

جوابه:

يجاب عن هذا بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛

لأن الراوي المجاز لم يسمع من الشيخ شيئاً، ولم يقرأ على الشيخ

شيئاً في الحقيقة، بل أعطاه كتاباً وقال: " أجزت لك أن تروي عني

هذا الكتاب "، وليس في ذلك ما يفيد أنه سمع منه، أو قرأ عليه،

فكيف يجعل في مرتبة السماع؟!

خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر والفا سق؟

الحق: أنه تجوز الإجازة لهؤلاء، وذلك ليروي الصبي ما أجيز به

إذا بلغ، ويروي المجنون ما أجيز به إذا عقل، ويروي الكافر ما أجيز

به إذا أسلم، ويروي الفاسق ما أجيز به إذا صلح وثبتت عدالته.

سادس عشر: إذا قال الشيخ: " - خذ هذا الكتاب وهو مسموعي "

ولم يقل: " اروه عني " فهل تجوز الرواية عنه؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه لا تجوز الرواية عنه مطلقاً.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الحق عندي؛ لدليلين:

ص: 777

الدليل الأول: أن جواز الرواية يستفاد من عبارة: " اروه عني "

فهذه العبارة علامة على الإذن، وما دام أن هذه العبارة لم ترد من

الشيخ - وهو المجيز - فهو لم يأذن بالرواية عنه؛ لأنه ليس في

الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه، ولا على صحة

الحديث نفسه، فيحتمل - احتمالاً قوياً - أن الشيخ لم يقل: " اروه

عني " نظراً لكونه يعرف أن في هذا الكتاب أو بعضه خللاً قد منع من

إذنه لروايته عنه، فلم يجوز ذلك، فامتنع من قوله:" اروه عني ".

الدليل الثاني: قياس المناولة على الشهادة، بيان ذلك:

إن الشاهد لو قال: " عندي شهادة بكذا "، ولم يقل: " أذنت

لك أن تشهد على شهادتي " لا يجوز - حينئذٍ أن يشهد بها،

فكذلك الرواية إذا قال الشيخ: " هذا مسموعي "، ولم يقل:

"اروه عني "، فإنه لا يجوز أن يروي هذا الكتاب، ولا فرق بينهما

في ذلك.

المذهب الثاني: أنه إذا قال الشيخ: " خذ هذا الكتاب "، أو

قال: " هذا سماعي "، ولم يقل:" اروه عني "، فإنه يجوز

للراوي أن يرويه عنه.

ذهب إلى ذلك ابن الصباغ الشافعي وبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشيخ لو علم أن في

بعض مروياته الموجودة، في الكتاب الذي ناوله الراوي خللاً لما قال

للراوي: " خذ هذا الكتاب أو هذا مسموعي "؛ لأنه يكون بهذا

القول قد غش المسلمين ودلس عليهم.

ص: 778

جوابه:

يجاب عنه: بأن الإنسان قد يوجد منه تساهل في إلقاء الكلام،

ولكن عندما يكون هذا الكلام يترتب عليه عمل في الشريعة يتوقف

عن ذلك.

فلا يمتنع أن يقول الشيخ للراوي: " خذ سماعي "، أو أن

يقول: " هذا سماعي "، ليروي عنه، ولكن بشرط أن يتحقق حال

روايته له فيما بعد، فإذا تحقق من ذلك وقال له:" اروه عني " فإنه

حينئذٍ يجوز للراوي أن يروي عنه، أما قبل أن يتلفظ بذلك فلا يجوز.

سابع عشر: حقيقة الوجادة هي: ما أخذ من العلم من صحيفة

من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، وهي عند الحدثين: أن

يجد الراوي شيئاً من الأحاديث مكتوباً بخط الشيخ الذي يعرفه ويثق

بأنه خطه حياً كان الكاتب أو ميتاً.

ولا تجوز الرواية هنا، فلا يجوز أن يقول: " حدَّثني، أو حدَّثنا،

أو أخبرني، أو أخبرنا فلان إجازة ولا غيرها "؛ لأن روايته بذلك

شهادة عليه بأنه قاله، وهذا ليس بصحيح، فيكون كذباً.

ولكن الشخص إذا وجد صحيفة مكتوبة بخط شيخه له أن يقول:

" رأيت مكتوباً في كتاب بخطٍ ظننت أنه خط فلان " يقول ذلك؛

لأن الخط قد يشبه الخط.

ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " يقبل قوله، ولكن لا

يروى عنه ما لم يأذن بروايته عنه بصريح قوله بأن يقول: " اروه عني "

- كما سبق - أو يكون الإذن بقريتة حاله في الجلوس لرواية الحديث.

تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب ووجده، ولم يذكر

ص: 779

سماعه، ولا قراءته، لكن غلب على ظنه سماعه كما يراه من خطه

الذي توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز له روايته، والعمل به.

ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، كما نسبه إليه الآمدي في

"الإحكام "، والإمام أحمد كما ذكر ذلك أبو يعلى في " العدة "،

وأبو الخطاب في " التمهيد "، واختاره أبو يوسف، ومحمد بن

الحسن، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله ".

وهذا هو الصحيح عندي؛ لدليلين:

الدليل الأول: رجوع الصحابة إلى كتب النبي صلى الله عليه وسلم والعمل عليها، فقد كان الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - يعتمدون على كتب النبي صلى الله عليه وسلم التي ينقلها آحاد الصحابة، وكانوا يعملون بها مثل عملهم على كتب الصدقات، وعملهم على كتاب عمرو بن حزم، وهو الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في - الديات، وبعث به إلى أهل نجران، ثم رواه الناس عن آل عمرو بن حزم من بعده، كما ذكر ذلك النسائي، والدارقطني، فهذا من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب.

الدليل الثاني: أن الرواية قد بني أمرها على حسن الظن،

وغلبته، والمسامحة، ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أن الرواية

تقبل من العبيد والنساء، ولا تعتبر فيها العدالة الباطنة، كل ذلك

دل على خفتها، فإذا وجد الراوي سماعه، وغلب على ظنه أنه

سمعه كما يراه من خطه الذي توثق منه، فإنه تجوز الرواية بذلك،

والعمل به.

ص: 780

المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، ولا يعمل به إلا أن يذكر

سماعه.

ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله "

وتبعه على ذلك بعض الحنفية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان

ذلك:

كما أنه لم يجز أن تؤدى الشهادة معتمداً على خطه - ولم يذكر

شهادته - فكذلك الخبر لا يجوز أن يرويه معتمداً على خطه إذا لم

يذكر سماعه؛ والجامع: أن كل واحد منهما يحتاج فيه إلى معرفة

المخبر عنه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن دليلكم مبني على قياس الرواية على الشهادة؛

ولا نسلم هذا القياس ولا يصح؛ لأمرين هما:

الأمر الأول: أنكم قستم على شيء لم يتفق عليه الخصمان؛

حيث إن المقاس عليه وهي - الشهادة - يجوز - فيها - أن يشهد إذا

عرف خطه، ولم يخرج عن يده، وإن لم يذكر شهادته هذا عند

بعض العلماء، ومنهم الإمام أحمد.

فإذا كان هذا يجوز في الشهادة فمن باب أوْلى جوازه في الرواية؛

حيث إن الشهادة آكد من الرواية، فحينئذ إذا وجد سماعه في كتاب

بخطه الذي يثق به، فإنه يجوز أن يرويه وإن لم يذكر سماعه.

الأمر الثاني: على فرض أن المقاس عليه متفق عليه وهو:

ص: 781

أنه لا يشهد إذا عرف خطه، فإن قياسكم فاسد أيضاً؛ لأنه قياس مع

الفارق " حيث إنه اعتبر. في الشهادة من الاحتياط والتأكد ما لم يعتبر

مثله في الرواية كما سبق.

عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟

إن الراوي إذا شك في سماع حديث واحد من شيخه وتردد فيه:

هل سمعه منه أو لا؛ فإنه لا يجوز له أن يرويه عنه، فلو وجد في

مسموعاته عن الزهري - محمد بن مسلم المدني - حديثاً معينا شك

أنه سمعه من الزهري أم لا؛ لم يجز أن يرويه عنه ويقول: "سمعت

الزهري "، ولا يقول: " قال الزهري "، ولا يقول: " أخبرنا أو

حدَّثنا الزهري "، أو نحو ذلك.

دليل ذلك: أن روايته عنه، وقوله:" قال فلان "، أو "سمعت

فلاناً "، أو نحو ذلك يعتبر شهادة عليه، والشهادة لا بد فيها من

الجزم والعزم والعلم " حيث لا شهادة مع التردد والشك، ولا يوجد

علم مؤكد، - بل شك في سماعه، فلا يجوز أن ينسبه إليه مع هذا

الشك، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقراراً ولم يعلم أن

المقر زيد، أو عمرو، فلا يجوز أن يجزم أنه زيد كما لا يجوز أن

يجزم أنه عمرو.

واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث والتبس عليه مع غيره

فما الحكم؟

إن الراوي إذا روى كتاباً عنْ بعض المحدثين فيه مائة حديث

- مثلاً - وشك في سماع حديث واحد منها، ولم يستطع أن يعين هذا

ص: 782

الحديث ولا تميزه من مسموعاته والتبس عليه، فالحكم والحالة هذه

أنه لا يجوز أن يروي شيئاً من جميع تلك الأحاديث المائة.

دليل ذلك: أن الرواية عنه تعتبر شهادة عليه، والشهادة لا تجوز

مع الشك والتردد، فهنا ما من حَديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي

لم يسمعه من شيخه، فلذلك يتركها جميعها احتياطا.

ثاني والعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في حديث أنه

مسموع من شيخه؛

إذا غلب على ظن الراوي أن حديثاً قد سمعه من شيخه - ولكنه

لم يقطع بذلك، فهل يجوز أن يرويه أو لا؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: يجوز أن يرويه.

وهو مذهب جمهور العلماء.

وهو الحق؛ لأن الراوي العدل الثقة إذا غلب على ظنه وجود

شيء فهو صدق يجب العمل على مقتضاه في حين أنه لا معارض

لذلك، وغالب الأحكام مبناها على غلبة الظن، وهذا منها: فإن

الراوي العدل الثقة قد غلب على ظنه أنه سمع الحديث من شيخه،

فعليه أن يعمل بذلك فيرويه؛ عملاً بغلبة الظن.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، أي: لا يجوز للراوي أن

يروي حديثاً قد غلب على ظنه أنه سمعه من شيخه، بل لا بد من

الجزم في ذلك وإلا يتوقف.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الغزالي في " المستصفى".

ص: 783

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيانه:

أن الشهادة لا بد فيها من العلم والجزم، فالشاهد يجب عليه أن

يتأكد ويتحقق؛ لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم، وكذلك

الراوي لا سبيل إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة

قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق ويتأكد من السماع، فلا يروي.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

أولهما: أن هذا قياس للرواية على الشهادة، وهو قياس فاسد؛

لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشهادة يحتاط فيها، ويحترز منها ويتأكد

منها، ويعتبر فيها أشياء لا تعتبر في الرواية كما سبق.

ثانيهما: أننا قلنا إذا غلب على ظن الراوي: أن هذا الحديث قد

سمعه من شيخه بأمارات وقرائن، فإنه يجوز أن يرويه ويعمل به؛

لأنه إذا غلب على ظنه فإنه يكون راجحاً، والعمل بالراجح متعين،

وجل الأحكام الشرعية مبنية على الظنون، ولو قصرنا ذلك على

القطع، لانتفت أكثر الأدلة مما يؤدي إلى تعطيل أكثر الحوادث بلا

أحكام.

ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً صريحاً؟

إذا أنكر الشيخ العدلى الحديث الذي رواه عنه الفرع - وهو الراوي

الفرع - إنكار جحود وتكذيب للفرع بصورة صريحة كقوله - مثلاً -:

" كذب عليَّ "، أو " ما رويت له قط ": فالحكم هنا: أن الحديث

لا يقبل، فيمتنع العمل بهذا الحديث اتفاقاً.

ص: 784

دليل ذلك: أن كل واحد منهما - أعني: الشيخ والفرع الراوي

عنه - موصوف بالعدالة والثقة، وكل منهما مكذب للآخر فيما

يدعيه، فلا بد أن يكون أحدهما - غير معين - كاذب، وهذا

موجب للقدح في الحديث.

لكن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين؛ لأنه وقع

الشك في كذبه، والأصل العدالة، وهي متيقنة، فلا يترك اليقين

بالشك.

وفائدة ذلك: تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك

الحديث الذي أنكره الشيخ، هذا إذا كان الإنكار صريحاً.

رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير

صريح وهو التوقف؟

إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير صريح بأن يقول - مثلاً -:

"لست أذكر ذلك الحديث "، أو نحو ذلك: فقد اختلف العلماء هل

يقدح ذلك الإنكار في الحديث فلا يقبل، أو لا يقدح فيقبل؛ على

مذهبين:

المذهب الأول: أنه لا يقدح في الحديث، بل يقبل ويُعمل به.

ذهب إلى دلك الإمام مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه،

وجمهور العلماء، وبعض الحنفية كمحمد بن الحسن.

وهو الصحيح عندي، لدليلين:

الدليل الأول: أن الراوي - وهو الفرع - موصوف بالعدالة

والثقة، وقد روى هذا الحديث، وقد جزم بهذه الرواية عن الشيخ

في حين أن الشيخ لم يكذبه، ولم ينكر حديثه على وجه العزم، بل

ص: 785

كل ما قاله: " لست أذكره "، وهذا لا يفيد إنكاره بصراحة، فهذا

كله يقتضي ترجيح صدق الراوي - وهو الفرع -، وإذا كان صادقا

فيجب قبول الحديث الذي رواه والعمل به.

أما قول الشيخ، فإنه يحمل على أنه قد نسي هذا الحديث، لأن

النسيان غالب على الإنسان، ولا يمكن لأي شخص أن يتذكر كل ما

حفظ في عمره في لحظة واحدة.

الدليل الثاني. ما ثبت في سن أبي داود عن ربيعة بن أبي عبد

الرحمن - ربيعة الرأي - عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة:

أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمن مع الشاهد، فذكر ذلك لسهيل فقال:

"أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه، ولا أحفظه،

فلم ينكره أحد من التابعين، فكان ذلك إجماعاً على قبول الحديث

والعمل به، إذا رواه الراوي وإن لم يذكره الشيخ.

ما وجه إلى هذا الدليل من الاعترضات:

الاعتراض الأول: قال المعترض فيه: إن هذه القصة لا حُجَّة

فيها، لاحتمال أن سهيلاً قد ذكر الرواية لما روى ربيعة عنه، ومع

الذكر فالرواية تكون مقبولة.

جوابه:

يجاب عنه بأن النص الذي ذكره أبو داود في سننه يُضعِّف هذا

الاعتراض، حيث قال سهيل:" أخبرني ربيعة أني حدَّثته إياه " فلو

صح ما قاله ذلك المعترض - وهو أن سهيلاً قد تذكر - لما ذكر

ربيعة، إذ لا حاجة إلى ذلك، ولروى سهيل عن شيخه مباشرة كما

لو نسي ثم تذكر بنفسه، ولكنه ذكر ربيعة، فهذا يقوي ما قلناه.

الاعتراض الثاني: قال المعترض: إنكم قلتم بأن التابعين قد

ص: 786

أجمعوا على جواز مثل ذلك، ولا نسلم ذلك الإجماع؛ إذ لا دليل

عليه، وعلى فرض صحة الإجماع، فإنه لا يلزم منه وجوب العمل

بالحديث إذا أنكره الشيخ إنكار توقف؛ حيث إن سهيلاً لم ينقل ذلك

عن طريق تصحيح روايته، وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة

بزعمه، وهذا لا يدل على وجوب العمل، وإنما يدل على جواز

قول الأصل بعد النسيان: " حدثني الفرع عني "، وهذا لا يلزم منه

وجوب العمل ولا جوازه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن إجماع التابعين صحيح؛ لأنه لم ينكر أحد على

سهيل فيما قاله؛ إذ لو وجد إنكار لنقل، ولكن لم ينقل شيء من

ذلك فيعتبر ذلك إجماعاً سكوتياً، وبناء على هذا الإجماع فإنه يلزم

العمل بمقتضى الخبر.

المذهب الثاني: أن إنكار الشيخ للحديث إنكاراً غير صريح يقدح

في الحديث فلا يقبل.

ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، ومنهم أبو الحسن الكرخي،

والجصاص، وأبو زيد الدبوسي، وأبو عبد اللَّه الصيمري،

والبزدوي، والنسفي، وهو ظاهر كلام السرخسي في أصوله،

ونسبه إلى أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذ. االمذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان

ذلك:

أنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فإذا نسي شاهدا

ص: 787

الأصل الشهادة وقالا: لا نذكر ولا نحفظ شيئاً: ففي هذه الحالة لا

يجوز للحاكم العمل بشهادة شاهدي الفرع، فكذلك هنا في

الرواية، فإن الأصل - وهو الشيخ المروي عنه - لم يصدِّق الفرع -

وهو الراوي عنه، وإنما توقف في ذلك ونسي ما رواه الفرع عنه،

فلا يجوز العمل بروايته عنه بجامع: الفرعية والنسيان في كل منهما.

جوابه:

يجاب عنه: بأنكم قستم الرواية على الشهادة في ذلك، وهذا

القياس فاسد؛ لأن قياس مع الفارق؛ حيث إنا بينا - فيما سبق -

أن الشهادة تفارق الرواية وتختلف عنها في أمور كثيرة؛ فباب الشهادة

أضيق من باب الرواية وأغلظ حكماً، وقد اعتبر في الشهادة من

الاحتياط والشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية، فكيف يقاس

أحدهما على الآخر مع الاعتراف بتلك الفروق.

ومن هذه الفروق بينهما - مما يخص الموضوع الذي نحن

بصدده -: أن شهادة الفرع - وهو الذي شهد على شهادة الأصل - لا

تسمع مع وجود شاهد الأصل والقدرة على سماع الشهادة منه مباشرة

على مذهب جمهور العلماء.

بخلاف الرواية: فإن رواية الفرع تسمع وتقبل ويعمل بها مع

القدرة على السماع من الأصل وهو الشيخ.

دل على ذلك ما يلي:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله وسعاته أفراداً وجماعات إلى القبائل، وأطراف البلدان، فيخبرون المسلمين في هذه البلدان بما جد من الأحكام الشرعية، فكان هؤلاء يسمعون ذلك ويلزمون أنفسهم

ص: 788

بالعمل بتلك الأعمال أخذاً من هؤلاء الرواة، ولا يرجعون إلى النبي

صلى الله عليه وسلم مع استطاعتهم على الرجوع إليه.

2 -

أن أهل قباء تحولوا من التوجه إلى بيت المقدس إلى الكعبة

بقول واحد، ولم يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع استطاعتهم على ذلك.

3 -

أنه كان أبو طلحة، وأبو عبيدة، وأبي بن كعب يشربون

الخمر - قبل أن تحرم - فجاء آتٍ، وقال لهم: إن الخمرة قد

حرمت، فقبلوا ذلك منه، فأمروا أنساً بإراقة ما في الجرار من الخمر

فهؤلاء عملوا بهذا الخمر، دون مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم مع القدرة على ذلك.

فهذه أدلة على أن رواية الفرع تسمع ويعمل بها مع القدرة على

سماع رواية الأصل.

أما الشهادة على الشهادة فلا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على

سماع شهادة الأصل.

فإذا افترقا في ذلك، فإنهما كذلك يفترقان في هذه المسألة،

وهي: أن شاهد الأصل إذا نسي الشهادة، فإنه لا يجوز العمل

بشهادة شاهد الفرع.

بخلاف الرواية، فإن راوي الأصل - وهو الشيخ - إذا نسي

الرواية فإنه يجوز للراوي - وهو الفرع - أن يروي وتقبل روايته،

وذلك لأن الرواية يتوسع فيها أكثر من الشهادة كما سبق بيانه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، وهو واضح.

ص: 789

المسألة السابعة عشرة: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟

المسألة تحتاج إلى تفصيل:

أولاً: إن كانت الزيادة مخالفة للمزيد عليه، بحيث لا يمكن

الجمع بينهما: كانا متعارضين، ولا يمكن أن نرجح أحدهما إلا

بمرجح خارجي.

ثانياً: وإن كانت الزيادة غير مخالفة للمزيد عليه، بل موافقة

مثل: " ما روي أن صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فصلى بين العمودين

اليمانيين " وما روي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وكبر، ولم يصل فيها "، فهنا لا تنافي بين الروايتين، وفي ذلك تفصيل كما يلي:

1 -

إن علم تعدد المجلس: قبلت الزيادة اتفاقاً؛ لأنه لا يمتنع أن

يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في مجلس، ويتركها في مجلس آخر، فيكون راوي الزيادة قد حضر المجلس الذي ذكرت فيه تلك الزيادة،

أما الآخر فلم يحضر ذلك المجلس.

2 -

إن لم نعلم ذلك، أي: جهلنا أن المجلس متعدد، أو

متحد، فإنا نقبل تلك الزيادة؛ لأن ذاكر تلك الزيادة قد توفرت فيه

شروط الراوي، ومنها: العدالة والثقة، فيترجح صدقه، وإذا

ترجح صدقه وجب قبول قوله، والمعارض له لم ينف احتمال تعدد

المجلس.

3 -

إن علمنا أن المجلس واحد ففيه تفصيل:

(أ) فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً، والذي نقل الخبر بدون

زيادة جماعة، لا يجوز في العادة ذهولهم عما ضبطه الراوي الواحد

وانفرد به: فإن الزيادة - حينئذٍ - لا تقبل؛ وذلك لأن تطرق الخطأ

ص: 790

والسهو والغفلة إلى الواحد فيما نقله من الزيادة أقرب من تطرق ذلك

إلى هؤلاء الجماعة.

(ب) أما إن كان الذي نقل تلك الزيادة واحد، والذي نقل الخبر

بدون زيادة واحد أيضاً، ففيه تفصيل:

إن كان ناقل الزيادة أشهر ممن لم ينقل الزيادة بالحفظ والضبط

والعدالة والثقة، فإن الزيادة تقبل لتلك الشهرة بالأوصاف السابقة.

وإن كان العكس فالعكس، أي: إن كان الذي لم ينقل الزيادة

أشهر ممن نقل الزيادة بالحفظ والضبط والثقة والعدالة: لم تقبل تلك

الزيادة.

أما إن تساويا في جميع تلك الأوصاف، أي: أن ناقل الزيادة

قد تساوى مع من لم ينقل الزيادة في الحفظ والضبط والعدالة وجميع

شروط الراوي، فهذا هو الذي اختلف فيه على مذهبين:

المذهب الأول: أن تلك الزيادة تقبل مطلقا، سواء كانت تلك

الزيادة معنوية كما سبق، أو لفظية، كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رواية: " إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد "، وروي عنه أنه قال:" ربنا لك الحمد " بحذف الواو.

وهذا هو الحق عندي؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: أن العدل الثقة لو انفرد بنقل حديث لقبل،

فكذلك لو انفرد بزيادة ولا فرق بجامع: رواية العدل الثقة الجازم

لكل منهما.

الدليل الثاني: أن من أتى بالزيادة قد وصف بالعدالة والثقة، وقد

جزم بتلك الزيادة، ولم يوجد له مخالف، فهذا يغلب صدقه على

ص: 791

كذبه، وإذا غلب صدقه فلا يجوز تكذيبه، وإذا لم يجز تكذيبه

فيجب قبول ما أتى به من الزيادة.

الدليل الثالث: أن انفراد الثقة العدل بحفظ زيادة في الحديث غير

ممتنع عقلاً ولا شرعا؛ لأنه ممكن وواقع - كما سبق - وما دام أنه

يمكن رواية الزيادة، فإنه يجب قبولها؛ نظراً لورودها من شخص قد

اتفق على قبول كل ما رواه.

المذهب الثاني: أن تلك الزيادة لا تقبل.

ذهَب إلى ذلك بعض الظاهرية.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أنه يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ تلك الزيادة مع

إصغاء الآخر للحديث واستماعه له مع اتحادهما بالثقة والعدالة

والضبط والحفظ، فتكون هذه الزيادة قد توهمها من أتى بها فلا

تقبل.

جوابه:

يجاب عن ذلك: بأن الراوي قد قطع بسماع تلك الزيادة،

والآخر ما قطع بنفيها، وكون ذلك الراوي لم ينقل تلك الزيادة التي

تفرد بها ذلك الراوي، فلاحتمالات كثيرة.

منها: كون راوي الزيادة قد. حضر جميع المجلس، بينما الذي لم

يرو الزيادة قد دخل في أثناء المجلس، ففاته ما قيل في أوله.

ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما

قيل فيه، أما الذي لم يورد الزيادة، فإنه حضر أول المجلس، ثم

خرج في آخره لشيء أوجب خروجه وقيامه.

ص: 792

ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما

قيل فيه، أما الآخر وهو الذي لم ترد الزيادة في حديثه، فإنه عرض

له في أثناء المجلس ما يزعجه ويدهشه عن الإصغاء لكلام الشيخ.

ومنها: أن الذي لم يرو الزيادة قد نسيها، بينما حفظها الآخر.

وغير ذلك من الاحتمالات، وإذا تطرقت هذه الاحتمالات فلا

يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ زيادة.

الدليل الثاني: أنه قد جرت عادة الراوي بتفسير الحديث، فيزيد

لفظاً من أجل ذلك، فربما ظنها من سمع منهم أنها من قول النبي

صلى الله عليه وسلم فيرويها، وليست من قوله.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا بعيد جداً، لأن العدل الثقة الضابط المثبت

يظهر من حاله أنه لا يدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس.

ولو قبلنا مثل هذا الاحتمال فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق

إليه مثل ذلك الاحتمال، مما يؤدي إلى الشك في جميع الأحاديث

أن فيها زيادات، وهذا يبطلها كلها - وهذا لا يمكن -.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي له أثره في الأحكام الفقهية، وهو واضح،

فعلى مذهبنا وهو المذهب الأول، فإنه يؤخذ، ويعمل بما دلَّ عليه

الخبر، وما دلت عليه الزيادة، وعلى المذهب الثاني فإنه يعمل بما دل

عليه الخبر فقط، ولا يعمل بما دلت عليه الزيادة.

ص: 793

المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه:

إذا روى الراوي العدل حديثا، وروي عنه: أنه قد عمل بخلافه،

فهل نعمل بالحديث، ونترك عمله المخالف له أو نترك الحديث ونعمل

بما رآه وعمل به؟

الحق أن في ذلك تفصيلاً هو كما يلي:

أولاً: إن علمنا مأخذه ودليله على مخالفته للحديث الذي رواه،

وكان هذا المأخذ وهذا الدليل مما يوجب حمل الحديث على ما ذهب

إليه وجب اتباع ذلك الدليل، وترك الحديث لأجل ذلك الدليل

الذي أوجب مخالفته، لا لأن الراوي عمل به؛ لأنه ليس عمل أحد

المجتهدين حُجَّة على المجتهد الآخر.

ثانياً: إن جهلنا مأخذه ودليل الراوي على مخالفة الحديث الذي

رواه، فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنة يجب العمل بالحديث، وترك عمل الراوي

مطلقا.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: أن الراوي قد توفرت فيه شروط الرواية، وقد

جزم بروايته للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل في وجوب العمل بالحديث.

أما عمل الصحابي بخلاف ما روى فيتطرق إليه عدة احتمالات:

ومنها: احتمال أنه قد نسى الحديث، ومنها: احتمال أنه قد

حمل الحديث على أحد محامله وقد أخطأ فيه، ومنها: أنه قد اطلع

ص: 794

على وجود ناسخ للحديث، وقد يكون ناسخا في ظنه، ولا يكون

ناسخاً عند غيره من المجتهدين، ومنها: احتمال أنه خالفه لدليل

أقوى من الحديث وقد أخطأ فيه، أو هو مما يقول به دون غيره مق

المجتهدين كما فعل الإمام مالك، حيث ترك حديث خيار المجلس؟

لأنه خالف إجماع أهل المدينة، وإذا تردد عمل الراوي بين تلك

الاحتمالات، فلا يترك ما جزم به، وهو ثبوت الحديث عن النبي

صلى الله عليه وسلم من أجل شيء دخله الشك والاحتمال.

الدليل الثاني: أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حُجَّة، وقول الراوي أو عمله ليس بحُجَّة، وبناءعلى ذلك لا يقدم ما ليس بحُجَّة على ما

هو حُجة.

المذهب الثاني: أنه يقدم عمل الراوي، ويترك الحديث الذي رواه.

ذهب إلى ذلك كثير من الحنفية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الراوي قد ترك العمل

بالحديث إما لأمر أوجب الترك، أو فعل ذلك تحكماً.

فإن فعل ذلك تحكماً فهذا باطل؛ لأن عدالته تمنع من ذلك.

فلم يبق إلا الأول وهو: أنه قد ترك العمل بالحديث لأمر أوجب

الترك، فيجب متابعته في ذلك؛ لأن حسن الظن بالراوي يقتضي

تقديم ما فعله على ما رواه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا الأمر الذي اقتضى ترك العمل بالحديث قد

ص: 795

يكون ثابتاً عنده بالاجتهاد كما قلنا في الاحتمالات السابقة، وما ثبت

عنده قد يكون غير ثابت عند غيره من المجتهدين، فما ظهر في نظره

لا يكون حُجَّة على غيره، وإذا احتمل هذا وهذا فلا يترك النص

الذي لا احتمال فيه لأمر محتمل.

ويدل على حسن الظن بالراوي المخالف لروايته: أننا قد عملنا

بالحديث الذي خالفه؛ إذ لو كنا نسيء الظن به لما علمنا بروايته

أصلاً، أما عمله الذي خالف به ما رواه فلا نعمل به؛ نظراً لما يعتريه

من الاحتمالات التي ذكرنا بعضها.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في بعض المسائل الفقهية

ومنها:

1 -

هل يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً أو ثلاثا؛ على

قولين:

القول الأول: أنه يجب غسل الإناء من ذلك سبع مرات لحديث

أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا

"، وهذا هو قول أصحاب المذهب الأول السابق وهم الجمهور.

القول الثاني: أن الواجب غسل الإناء من ذلك ثلاث مرات؛

لأن أبا هريرة قد خالف ما رواه وغسل ثلاثا، وهو قول أكثر الحنفية.

2 -

هل يشترط الولي في النكاح؟

اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يشترط الولي في النكاح.

وهو مذهب أصحاب المذهب الأول السابق في المسألة مستدلين

ص: 796

بحديث عائشة وهو: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل.. ".

القول الثاني: أنه لا يشترط الولي في النكاح.

وهو قول أصحاب المذهب الثاني، وهم أكثر الحنفية مستدلين بأن

عائشة قد زوجت ابنة أخيها عبد الرحمن بدون إذنه على المنذر بن

الزبير، وبهذا خالفت ما روته، وبهذا يسقط الاستدلال بذلك

الحديث.

وقد بحثت هذه المسألة بالتفصيل في كتاب سميته " مخالفة

الصحابي للحديث النبوي الشريف " قد طبع في مجلد فارجع إليه إن شئت.

***

المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد:

الحق: أنه إذا عمل أكثر الأمة بما يخالف حديثا من الأحاديث،

فإنه يعمل بالحديث، ويترك عمل الأكثر؛ لأن عمل أكثر الأمة حجة

ظنية، وخبر الواحد وإن كان يفيد الظن في سنده إلا أننا نرجح

العمل به؛ لأن الراوي العدل قد جزم بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قولا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله حُجَّة فيعمل به لذلك.

***

المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس:

لقد اختلف في ذلك على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: أنه إذا تعارض خبر الواحد مع القياس، فإنه يقدم

خبر الواحد مطلقا.

ص: 797

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الحق " للأدلة التالية:

الدليل الأول: حديث معاذ، وهو أنه لما بعثه إلى اليمن قال له:

" بِمَ تقضي؛ " قال: بكتاب الله، قال:" فإن لم تجد؟ "

قال: بسُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: " فإن لم تجد؟

" قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم.

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر معاذاً على تقديم السُّنَّة على العمل بالاجتهاد الذي يعتبر القياس نوعا من أنواعه من غير تفريق بين السُّنَّة المتواترة والسنَّة الآحادية، وهذا يفيد تقديم الخبر على القياس

إذا تعارضا.

الدليل الثاني: إجماع الصحابة السكوتي على تقدرم خبر الواحد

على القياس.

بيان ذلك: أن بعض الصحابة كانوا إذا حدثت حادثة فإنهم

يبحثون عن حكمها في كتاب اللَّه، فإن لم يجدوا فيه، بحثوا عنه

في السُّنَّة، فإن لم يجدوا حكمها اجتهدوا بأنواع الاجتهادات،

ومنها: القياس، فكانوا لا يستدلون بقياس ولا بغيره من أنواع

الاجتهادات إلا إذا لم يجدوا نصا، كان هذا فعل بعضهم، ولم

ينكر عليهم أحد؛ إذ لو أنكر لبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من

ذلك، فكان إجماعا سكوتيا، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومنها: أن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب قضى

بالإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر،

وفي التي تفي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست، فحكم بذلك لما

عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة

ص: 798

أطراف مختلفة الجمال والمنافع، فحكم لكل واحد من الأطراف

بقدره من دية الكف، وهذا يعتبر قياسا على الخبر، ووافقه من سمع

من الصحابة على ذلك، فلما علم بكتاب عمرو بن حزم في

الديات، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:

" وفي كل إصبع مما هنا لك عشر من الإبل "

رجع إليه هو ومن وافقه من الصحابة.

ومنها: أنه كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من دية زوجها

اجتهاداً؛ لأن الميراث يثبت بملكه قبل الموت، وهو لا يملك الدية

قبله، فلما علم بخبر الضحاك بن سفيان وهو: أنه كتب إليه النبي

صلى الله عليه وسلم: "أن أرث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها " رجع إليه، وعمل به دون إنكار من الصحابة، فهذا يدل على أن خبر الواحد مقدم على الاجتهاد مطلقاً، سواء كان قياسا أم لا.

الدليل الثالث: أن خبر الواحد قول للمعصوم، وهو صلى الله عليه وسلم وكلامه، أما القياس فإنه اجتهاد المجتهد واستنباطه، وإذا تعارض

كلام المعصوم، وكلام غيره، فإنه يقدم كلام المعصوم؛ لأنه يثير

غلبة الظن بصورة أبلغ وأقوى من كلام غيره، فخبر الواحد أغلب

على الظن من القياس، فيجب تقديمه عليه.

المذهب الثاني: أن القياس يقدم على خبر الواحد مطلقا.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والمالكية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن القياس أقوى من خبر

الواحد؛ لأن الاحتمالات تتطرق إلى الخبر أكثر من تطرقها إلى

القياس، بيان ذلك:

ص: 799

أن خبر الواحد يحتمل فسق أحد الرواة، ويحتمل ذهول أحد

الرواة وغفلته وسهوه، ويحتمل الخبر النسخ والتجوز والإضمار، أما

القياس فلا يحتمل شيئاً من ذلك، وغير المحتمل يقدم على المحتمل،

فيقدم القياس على الخبر.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أننا بينا أن الراوي المقبول خبره يشترط فيه أربعة

شروط هي: (لإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فهذه

الاحتمالات بعيدة جداً إذا توفرت هذه الشروط حقيقة في ذلك

الراوي.

الجواب الثاني: أن هذه الاحتمالات كما تتطرق إلى الخبر تتطرق

- أيضاً - إلى القياس إذا كان أصله خبراً.

المذهب الثالث: التفصيل بين الرواة.

فإن كان الراوي فقيها كالخلفاء الأربعة، والعبادلة، وزيد بن

ثابت، ومعاذ، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري،

فإن خبره يقدم على القياس إذا عارضه.

وإن كان الراوي غير فقيه كأبي هريرة، وأنس، وسلمان، وبلال،

فإن القياس يقدم على خبره إذا تعارضا، وهذا عند الضرورة.

ذهب إلى ذلك بعض الحنفية.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن الراوي نقل

الحديث بالمعنى على حسب فهمه وأخطأ في ذلك، ولم يدرك مراد

ص: 800

النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان مخالفا للقياس من كل وجه، فلهذه الضرورة

يترك الحديث ويعمل بالقياس.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه هذا التفريق بين الرواة لا دليل صحيح عليه،

وما لا دليل عليه فلا يعتد به.

وما ذكرتموه من احتمال أن الراوي نقل الحديث بالمعنى وأخطأ فيه،

وأنه لم يدرك مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا بعيد جدا مع ظهور عدالة الراوي، لا سيما الصحابة الذين قد عدلهم اللَّه ورسوله - كما سبق بيانه -.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة معنوي، وقد أثر في كثير من مسائل الفقه

ومنها:

1 -

إذا مات زوج عن امرأته بعد العقد وقبل الدخول، فهل لها

المهر أو لا؟

اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أن لها مهر مثلها.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء مستدلين بما روي عن ابن مسعود

أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أرى أن لها مهر مثيلاتها وعليها العدة

ولها الميراث، فقال معقل بن سنان الأشجعي: أشهد أنك قضيت

فيها بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق من جماعتنا.

القول الثاني: أنه لا مهر لها.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الإمام مالك ورد الحديث

ص: 801

بأنه مخالف للقياس، وذلك لأن المهر عوض عن الاستمتاع بالبضع،

فلما لم يقبض المعوض - وهو البضع - لم يجب العوض؛ قياسا

على البيع.

2 -

هل يجب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً؟

اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا قضاء عليه.

ذهب إلى ذلك كثير من العلماء مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم:

"من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه اللَّه وسقاه ".

القول الثاني: أنه يجب القضاء عليه.

ذهب إلى ذلك بعض المالكية، ولم يعملوا بالحديث؛ لأنه على

خلاف القياس، فإن الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات،

والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات.

***

المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى:

المراد بذلك: أن يرد خبر واحد ويدل على حكم شرعي يحتاج

كل أحد من المكلَّفين إلى معرفته مع كثرة تكرره ووقوعه، كان يتعلق

بأحكام الوضوء، أو الصلاة، ونحو ذلك مما تشتد حاجة المكلَّفين

إلى معرفة حكمه مثل: قوله صلى الله عليه وسلم:

"من مس ذكره فليتوضأ "، ونحوه.

فإذا روى واحد خبراً تعم به البلوى هل يقبل؟

اختلف في ذلك عاى مذهبين:

المذهب الأول: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول.

ص: 802

ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء.

وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي على ذلك: فقد قبل

الصحابة رضي الله عنهم خبر الواحد فيما تعم به البلوى

وعملوا به دون أن ينكر ذلك أحد منهم؛ إذ لو وقع إنكار لبلغنا

ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فيكون إجماعاً سكوتيا، ومن أمثلة

ذلك ما يلي:

1 -

أنهم قبلوا خبر عائشة وهو:

" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ".

2 -

أنهم قبلوا خبر رافع بن خديج: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ".

3 -

أنهم قبلوا خبر الغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء

الجدة السدس.

فهنا كل واحد من هذه الأحاديث مما تعم به البلوى، وانفرد

بروايته واحد، ومع ذلك فقد قبلها الصحابة وعملوا بها دون نكير.

الدليل الثاني: أن هذا الراوي لهذا الخبر فيما تعم به البلوى عدل

ثقة قد جزم بتلك الرواية، فهذا يغلب على الظن صدقه، وإذا كان

كذلك فيجب تصديقه؛ لأن العمل بالغالب واجب، فيقبل خبره؛

قياساً على خبر الواحد فيما لا تعم به البلوى.

المذهب الثاني: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يقبل، ولا

يعمل به.

ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية وعلى رأسهم: أبو الحسن الكرخي

ص: 803

وعيسى بن أبان، والجصاص، وبعض المالكية كمحمد بن خويز

منداد، نقله عنه الباجي في " إحكام الفصول "، واختاره أبو

العباس بن سريج من الشافعية، كما نقله عنه صاحب الكبريت

الأحمر.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول قالوا فيه: إن الدواعي متوفرة على نقل خبر الواحد

فيما تعم به البلوى على سبيل الشهرة والاستفاضة، نظراً لحاجة

عموم المكلَّفين إليه، وكثرة سؤالهم واستفسارهم عنه، وإذا كثر

السؤال كثر الجواب، وإذا كثر الجواب كثر ناقليه من الرواة، فيبعد

كل البعد أن يخفى حكم ما يقع للمكلفين بكثرة، فإذا لم يروه - مع

ذلك - إلا واحد وانفرد به دلَّ على كذبه، وأنه لا أصل له كانفراد

الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق.

جوابه:

يجاب عنه: بأنه إنما يلزم توفر الدواعي على نقله أن لو كان لا

طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر، وأما إذا كان طريق معرفة ذلك

إنما هو الظن، فخبر الواحد يكفي فيه، ولهذا يجوز إثبات ما تعم

به البلوى بالقياس اتفاقاً.

ولا نسلم ما قلتموه من أنه يلزم من كثرة الاستفسارات والأسئلة

والأجوبة عنها أن يكثر النقل، بل إنه يجوز أن تكثر الأجوبة، ولا

يكثر الناقلون، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: شروط البيع،

وشروط النكاح، والأذان والإقامة، فإنها نقلت وثبتت بخبر الواحد

وهي مما يفعل في كل يوم، ولم ينقل نقلاً عاما، والسبب في

ص: 804

ذلك: انشغال الصحابة بأمورهم الخاصة والعامة وانشغالهم بالجهاد،

وإذا كان هذا جائزاً فإنه يجوز كثرة الأجوبة دون كثرة الناقلين.

الدليل الثاني قالوا فيه: إن ما تعم البلوى به كخروج النجاسة من

السبيلين يوجد كثيراً، ويتكرر في كل وقت، فيجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته، وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به، بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته؛ لأن عدم إشاعته يؤدي إلى إخفاء بعض

الأحكام الشرعية، وإبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون، ولما

كان هذا الخبر مما تعم به البلوى لم ينقله إلا الواحد، فإن هذا مما

يثير الشك في ثبوته، والحديث المشكوك في ثبوته لا يقبل.

جوابه:

يجاب عنه: بأن ما ذكرتموه إنما يصح أن لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كلَّفه الّه تحالى بإشاعة الأحكام على لسان أهل التواتر، وهذا غير مسلم، فليس من شرط الخبر الذي تعم به البلوى أو غيره أن يشيعه

الرسول صلى الله عليه وسلم، بل الحق في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلَّف بإشاعة بعض الأحكام، ورد الخلق في بعضها الآخر إلى خبر الواحد؛ لأن مصلحة الخلق اقتضت ذلك؛ قياساً على حديث الأشياء الستة، فقد بين فيه: أنه لا يجوز الربا في البر - فقط - فقاس العلماء عليه كل المطعومات بجامع: الطعم في كل، وكان يسهل على النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم أن يقول:" حرمت الربا في المكيل أو في المطعوم " حتى يستغنى عن الاستنباط والقياس على الأشياء الستة،

وما فعل ذلك إلا لمصلحة أرادها الشارع، كذلك يقال هنا: من

الجائز أن تقتضي مصلحة الخلق ردهم فيما تعم به البلوى إلى خبر

الواحد.

ص: 805

- أما ما ذكروه من أنه يلزم من عدم إشاعته إبطال صلاة أكثر الخلق،

فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لا يلزم العمل بأي خبر إلا بشرط بلوغ

ذلك الخبر إليهم، فمثلاً: من لم يبلغه حديث الوضوء من مس

الذكر، فإنه غير ثابت في حقه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية

ومنها: -

1 -

هل ترفع اليدان عند الركوع والرفع منه؟

اختلف في ذلك

على قولين:

القول الأول: إن المصلي يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه

كما يفعل ذلك عند تكبيرة الإحرام، وهو مذهب الجمهور مستدلين

بحديث ابن عمر أنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع

الله لمن حمده.. ".

القول الثاني: إن المصلي لا يرفع يديه عند الركوع ولا عند الرفع

منه.

ذهب إلى ذلك الحنفية وبعض العلماء من غيرهم مستدلين بحديث

ابن مسعود أنه قال: " لأصلين لكم صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى فلم يرفع يديه إلا مرد واحدة "، ولم يعمل هؤلاء بحديث ابن عمر مع أنه في الصحيحين؛ لأنه من باب ما تعم به البلوى، فكان من

حقه أن يشتهر ولم يشتهر.

2 -

هل مس الذكر باليد ينقض الوضوء؟

اختلف في ذلك على قولين:

ص: 806

القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء، وهو مذهب

الجمهور وقد استدلوا بحديث بسرة بنت صفوان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ ".

القول الثاني: أن مس الذكر غير ناقض للوضوء، وهو مذهب

أكثر الحنفية، وقد استدلوا بحديث قيس بن طلق عن أبيه طلق بن

عليّ أنه سأل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من مس الذكر، فقال " لا، هل هو إلا بضعة منك "، ولم يأخذوا بحديث بسرة، لأنه خبر

واحد فيما تعم به البلوى.

المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات:

خبر الواحد إذا ورد بإيجاب حد أو نحوه مما تسقطه الشبهة، فهل

يقبل ذلك الخبر، ويثبت به أصل الحد والعقوبة؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن خبر الواحد الوارد بإثبات حد، أو ما يجري

مجراه مما تسقطه الشبهة يقبل مطلقاً.

وهو مذهب جمهور العلماء.

وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: قياس خبر الواحد في الحدود على خبر الواحد في

غير ذلك، بيانه:

أنه كما وجب قبول خبر الواحد فى غير الحد من سائر الأحكام

الشرعية، فإنه يجب قبول خبر الواحد في الحدود وما يجري مجراها

ص: 807

مما تسقطه الشبهة، ولا فرق بينها، والجامع: أن الراوي في ذلك

كله عدل ثقة جازم في الرواية، ولم يعارضه مثله.

الدليل الثاني: أن أدلة حجية خبر الواحد عامة لجميع أخبار

الآحاد، فلم تفرق بين ما ورد بإثبات حد، أو بغير ذلك، ولا

يوجد دليل صحيح على التفريق بينهما.

الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:

أن شهادة الشهود توجب غلبة الظن، والاحتمال فيها متطرق،

ومع ذلك تثبت بها - أي بالشهادة - الحدود وما يجري مجراها مما

تسقطه الشبهة، فإذا كان الأمر كذلك في الشهادة وهي آكد، فمن

باب أَوْلى قبول خبر الواحد الوارد في إثبات الحدود، قياساً عليها،

ولا فرق بينهما، والجامع: إفادة الظن، وتطرق الاحتمال لكل

منهما.

المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الواحد الوارد بإثبات الحدود،

وما يجري مجراها مما تسقطه الشبهة.

حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي، واختاره أبو عبد اللَّه البصري،

والسمرقندي في " ميزان الأصول "، وهو ظاهر كلام أبي عبد الله

الصيمري في " مسائل الخلاف "، والبزدوي في " أصوله "،

والسرخسي في " أصوله ".

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد لا يفيد إلا

الظن، فهو غير مقطوع في صحته، فصار فيه شبهة الغلط، وشبهة

الكذب، فلم يثبت كونه خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق القطع، بل إن

ص: 808

الشبهة والحدود وضعت أصلاً على أنها تسقط بالشبهات؛ لما روي

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ادرأوا الحدود بالشبهات "، فعلى هذا: لا يجوز إثبات الحدود وما يجري مجراها بخبر الواحد؛ نظراً لتطرق الشبهة إلى ذلك.

جوابه:

يجاب عن ذلك بما يلي:

1 -

قولكم: " إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وما دام كذلك

ففيه شبهة الغلط والكذب " ظاهر البطلان؛ لأن الحدود تثبت بما لا

يفيد إلا الظن مثل " الشهادة " - كما سبق -، ومثل " القياس "

فهو لا يفيد إلا الظن ومع ذلك فإن الحد يثبت به.

2 -

استدلالكم بحديث: " ادرأوا الحدود بالشبهات "

لا نسلمه؛ لوجهين:

الوجه الأول: أن لفظ " الشبهة "، أو " الشبهات " لم يرد في

الحديث، والحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها ورد

بلفظ: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " - أخرجه الحاكم في

" المستدرك " وقال " صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي

في " مختصره "، فقال: فيه يزيد بن زياد - وهو من رواة الحديث -

قال فيه النسائي: متروك، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في "سننهما"

مرفوعاً، وقال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب، وللحديث

طريق آخر عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً بنفس اللفظ السابق.

قال الزيلعي في " نصب الراية " - لما ذكر ما سبق -: " ولكن في

إسناده رجل ضعيف ".

الوجه الثاني: على فرض صحته، وعلى فرض ورود لفظ

ص: 809

"الشبهة أو الشبهات " في الحديث، فإن المراد بالشبهة هنا هي:

الشبهة في الفاعل كأن يكون جاهلاً للتحريم، أو زائل العقل، أو

الشبهة في الفعل، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، أو أمَته، أو الشبهة

في المفعول به، كأن تكون الموطوءة أَمَة ابنه، أو أمَة مشتركة.

فتكون الشبهة - على هذا - في نفس السبب، لا في المثبت.

إذن لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية،

فأصحاب المذهب الثاني لا يعملون بخبر الواحد الوارد بإثبات حد

بمجرده، بل يشترطون أن يؤيد بدليل آخر.

أما أصحاب المذهب الأول: فإنهم يعملون بخبر الواحد الوارد

بإثبات حدود وما أشبه ذلك بمجرده.

المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى:

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه تجوز رواية الحديث بالمعنى.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.

وهو الحق، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل بشروط هي كما

يلي:.

الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما مكلفا، ضابطا عدلا -

وهو شروط الراوي السابقة الذكر - مع معرفته بدلالات الألفاظ،

ص: 810

وصيغ الخطابات وأساليبها واستعمالاتها، بأن يكون مفرقا بين أقسام

المنطوق، والمفهوم، ومفرقاً بين عبارة النص، وإشارته، ودلالته،

واقتضائه، ومفرقاً بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر

والعام والأعم، واشترطنا ذلك حتى تكون روايته لمعنى الحديث

مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، فإن كان جاهلاً بذلك فلا تجوز

له رواية الحديث بالمعنى.

الشرط الثاني: أن يبدل لفظة بما يرادفها، ولم يختلف الناس في

هذا الترادف كأن يبدل لفظ " الجلوس " بلفظ " القعود "، ويبدل

لفظ " الصب " بلفظ " الإراقة "، ولفظ " الاستطاعة " بلفظ

"القدرة"، ونحو ذلك مما لا يتطرق إليه تفاوت الاستنباط والفهم بين

الناس، أما إذا تفاوتت أنظار المجتهدين في هذا اللفظ، فلا يجوز

قطعاً إبداله بلفظ آخر.

الشرط الثالث: أن لا يكون اللفظ في الحديث من باب المتشابه

كأحاديث الصفات، فإن كان من هذا الباب فلا يجوز نقلها بالمعنى،

لأن الذي يحتمله ما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه التأويل لا ندري أن غيره من الألفاظ يساويه أم لا.

الشرط الرابع: أن لا يكون اللفظ الوارد في الحديث مما تعبدنا

بلفظه، فإن كان مما تعبدنا بلفظه كألفاظ " التشهد " والأذان،

والتكبير، فهذا لا يجوز نقله بالمعنى.

الشرط الخامس: أن لا يكون الحديث من جوامع الكلم، فإن

كان منها كقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار "،

وقوله: " البينة على المدعي "، وقوله:" لا ضرر ولا ضرار "،

وقوله: " الخراج بالضمان "،

فلا تجوز رواية ذلك بالمعنى، أي: لا بد من نقلها

بلفظها؛ لأنه لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم.

ص: 811

فإذا توفرت هذه الشروط فإنه تجوز رواية الحديث بالمعنى عندنا ولا

مانع؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: القياس على ترجمة السُّنَّة بلغة العجم، بيانه:

أنه يجوز شرح ونقل الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال

لفظة عربية بلفظة أعجمية تساويها وترادفها، فإنه يجوز إبدال لفظة

عربية بلفظة عربية أخرى ترادفها بجامع: استبدال لفظة بما يرادفها

دون زيادة ولا نقصان.

بل إن إبدال لفظة عربية بأخرى عربية ترادفها أَوْلى من إبدال لفظة

عربية بلفظة أعجمية؛ لأن اللسان متحد في إبدال لفظة عربية بلفظة

عربية، بخلاف إبدال لفظة عربية بعجمية، فإن اللسان مختلف.

الدليل الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الصحابة رضي الله عنهم

الذين رووا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس، وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس، بل كما

سمعوها تركوها، وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين، وذلك

يغلِّب على الظن أنه يتعذر روايتها على تلك الألفاظ التي سمعوها

من النبي صلى الله عليه وسلم

الدليل الثالث: الوقوع من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم -

بيان ذلك:

أن صلى الله عليه وسلم كان يقيم الخطب في الجمع،

وفي بعض الوقائع يتكلم بكلام طويل فيه الأوامر والنواهي، والمواعظ والإرشادات التي تهم المسلمين، وقد رواها بعض الصحابة بألفاظ تختلف عن ألفاظ البعض الآخر، مع أن المقصود واحد، ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو

ص: 812

كان هناك إنكار لنقل وبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك مما يدل

على أن نقل الحديث بالمعنى جائز.

الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سفراءه ورسله إلى الروم، والفرس، وأطراف البلاد، والقبائل، وكان هؤلاء يبلغون أوامر

النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه، وكل ما يقولونه بلغة المبعوثين إليهم بدون إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن لغته تختلف عن لغة هؤلاء، فكان هذا إقرار منه على جواز نقل الحديث بالمعنى.

المذهب الثاني: أنه لا تجوز رواية الحديث بالمعنى مطلقا، بل

الواجب نقل الحديث بلفظه وصورته.

ذهب إلى ذلك أكثر الظاهرية، وبعض متأخري أهل الحديث،

وبعض الفقهاء كمحمد بن سيرين.

أدلة أصحاب هذا المذهب:

الدليل الأول: ما رواه زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "،

فإن هذا نص في عدم جواز رواية الحديث بالمعنى، حيث إن قوله: " فوعاها

فأداها كما سمعها " يدل على ذلك دلالة صريحة.

جوابه:

يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن الحديث حُجَّة مؤيدة لمذهبنا

- وهو جواز رواية الحديث بالمعنى - وذلك من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن الظاهر أن الحديث المروي حديث واحد، ولم

يتكرر منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل عدم التكرار، ومع ذلك فقد روي نفس

ص: 813

الحديث بألفاظ مختلفة، فإنه قد روي بلفظ:" نضر اللَّه امرءاً "،

وروي بلفظ: " رحم اللَّه امرءاً "، وروي بلفظ: " فرب حامل فقه

غير فقيه "، وروي بلفظ: " ورب حامل فقه لا فقه له "، وكلها

بمعنى واحد، فهذا يدل على جواز رواية الحديث بالمعنى.

الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر علَّة المنع من رواية الحديث بالمعنى وهي: اختلاف الناس في الفقه والفهم، لأنه هو المؤثر في اختلاف المعنى، فيكون المراد بذلك على طريق الاحتياط في حق من

لا يفهم المعنى خوفاً من أن يبدله بما ليس في معناه، ونحن قد

اشترطنا لرواية الحديث بالمعنى شروطاً، منها: أن يكون الراوي عالما

مفرقاً بين صيغ الخطابات ودقائق الألفاظ ودلالتها، فإن لم يكن

كذلك فلا تجوز رواية الحديث بالمعنى.

الوجه الثالث: أن من نقل معنى لفظ الحديث، دون زيادة: ولا

نقصان، فقد أدى الحديث كما سمعه، ولا يمكن أن يقال عنه: إنه

كذب في الحديث، يؤيد ذلك: أن المترجم والشاهد يقال له: أدى

ما سمع، وكذلك من بلغ إنساناً رسالة فحفظ معناها يقال له: أدى

ما سمع.

وهكذا بأن لك أن الحديث يدل على ما ذهبنا إليه، وهو جواز

رواية الحديث بالمعنى.

الدليل الثاني: قياس الحديث على القرآن وكلمات الأذان،

والتشهد، والتكبير.

بيان ذلك: أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم قول: " قد تعبدنا باتباعه " فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن، وكلمات الأذان، كالتشهد، والتكبير.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لأن

ص: 814

المقصود من ألفاظ القرآن الكريم الإعجاز، فتغييره مما يخرجه عن

ذلك الإعجاز لا يجوز، بخلاف الحديث؛ حيث إن المقصود منه

المعنى دون اللفظ.

أما كلمات الأذان والتشهد والتكبير، فالمقصود منها إنما هو التعبد

بها، وذلك لا يحصل إلا بألفاظها، دون معانيها، وقد بينا ذلك في

الشرط الرابع، بخلاف الحديث، فالمقصود المعنى دون اللفظ.

المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث:

إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه، فالحكم في

ذلك فيه تفصيل:

أولاً: إن كان الحديث قد تضمن أحكاماً يتعلق بعضها ببعض كأن

يكون مشتملاً على ذكر شرط، أو استثناء، أو غاية، فلا يجوز

للراوي أن يحذف شيئاً منه؛ لأن فيه تغييراً للحكم وتبديلاً للشرع.

مثال الشرط: قوله عليه الصلاة والسلام: " من قاء أو رعف أو

أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة ".

ومثال الاستثناء: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبيعوا البر

بالبر

إلا سواء بسواء مثلاً بمثل ".

ومثال الغاية: " نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تزهى "، فهذه الأحاديث لا يجوز حذف بعضها.

ثانيا: إن كان الحديث قد تضمَّن أحكاما لا يتعلق بعضها ببعض،

فإن الأفضل نقل الحديث بتمامه.

ولكن يجوز حذف بعضه عند الحاجة؛ قياسا على الأخبار المتعددة

ص: 815

بيان ذلك: أن من حفظ أخباراً متعددة، فله رواية بعضها وترك

بعضها الآخر عند الحاجة، فإذاً هذا جائزاً، فهذا مثله ولا فرق

بجامع: أنه نقل ما يتم المعنى به.

مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم "،

فهنا يجوز حذف بعض هذا الحديث للاستدلال به على حكم معين.

***

المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي:

المقصود بذلك: أن يروى الصحابي حديثا عن صلى الله عليه وسلم وهو لم يسمعه منه شفاها، بل سمعه من صحابي آخر.

وسمي مرسلاً نظراً لعدم تقييده بذكر الواسطة بين الراوي

والرسول صلى الله عليه وسلم.

واختلف العلماء في قبول مرسل الصحابي على مذهبين:

المذهب الأول: أن مرسل الصحابي مقبول مطلقا، أي: سواء

عرفنا أنه لا يروي إلا عن عدل أو لم نعرف بذلك، وسواء صرَّح

بذلك، أو لم يصرح.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: الإجماع؛ حيث وقع أن الصحابة - رضي الله

عنهم - كانوا يرسلون الأحاديث، بدون نكير من أحد، إذ لو كان

هناك إنكار لبلغنا، وما دام أنه لم يبلغنا شيء من ذلك، فإنه يدل

دلالة واضحة على إجماعهم على قبول مرسل الصحابي مطلقا،

فأكثر روايات الصحابة - سواء كانوا صغاراً أم كبارا - عن صلى الله عليه وسلم -

ص: 816

لم يسمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل بواسطة صحابي آخر، فتكون مراسيل، أيَّد ذلك أمران:

الأمر الأول: ما ذكره الخطيب البغدادي في " الكفاية ": أن

البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري قال: " ليس كلنا سمع

حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كانت لنا صنيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون - يومئذٍ - فيحدث الشاهد الغائب "،

وهذا نص فيما نحن فيه.

الأمر الثاني: أنه وقع من بعض الصحابة أنه كان يروي الحديث

عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمعه منه مباشرة، فإذا استكشف وسئل عنه بين أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل سمعه من صحابي آخر، ومن أمثلة ذلك:

المثال الأول: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ربا إلا في النسيئة "،

ولما أخبره أبو سعيد الخدري بحديثه في الربا، قال ابن عباس:

" ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثني به أسامة بن زيد

المثال الثاني: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى أنْ النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما سئل عنه أسنده إلى الفضل بن عباس.

المثال الثالث: أن أبا هريرة رضي الله عنه روى - عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما أخبر أن عائشة أنكرت ذلك وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا ويتم صومه، ذكر أن الفضل بن عباس هو الذي حدَّثه بهذا الحديث.

المثال الرابع: أن ابن عمر رضي الله عنهما روى: أن النبي

ص: 817

- صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى على جنازة فله قيراط "، وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة.

الدليل الثاني: أن الأُمَّة قد أجمعت على قبول كل ما رواه عبد الله

ابن عباس رضي الله عنهما مع إكثاره في الرواية، وهو لم

يسمع أكثر الأحاديث التي يرويها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابن عباس لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، بل سمعها وأخذها من كبار الصحابة.

وكذلك غير ابن عباس من صغار الصحابة كعبد الله بن جعفر بن

أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والنعمان بن بشير، والحسن

والحسين ابني عليّ بن أبي طالب، وغيرهم، فقد كان الصحابة

وغيرهم من التابعين يقبلون ما يروون مع علمهم بأن أكثر ما رووه لم

يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل من كبار الصحابة، حيث كان هؤلاء يحرصون كل الحرص على إحضار صغارهم أماكن اجتماعاتهِم ليرووا عنهم، ولما روى هؤلاء - أعني صغار الصحابة - قبلت الأُمَّة كل رواياتهم، ولم ينكر أحد شيئاً من ذلك، ولو وقع إنكار لنقل

إلينا، ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فثبت أنه يجب قبول مرسل

الصحابي مطلقا.

المذهب الثاني: أن مرسل الصحابي لا يقبل إلا بشرط معرفتنا:

أن من عادة هذا الصحابي أنه لا يروي إلا عن صحابي آخر.

ذهمب إلى ذلك قوم وصفهم بعض العلماء بانهم شواذ.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن عدالة الصحابي معلومة

وثابتة، ولا نتهمه في ذلك، فلم يكن السبب في عدم قبولنا لمرسله

ص: 818

هو الشك في ذلك، ولكن لم نقبل مرسله لسبب آخر وهو:

احتمال أن يروي عن شخص لم تثبت صحبته، أو عن تابعي لم

تثبت عدالته.

وهذا الاحتمال هو الذي سبب هذا التوقف حتى يأتي ما ينفي ذلك.

جوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه لا يروي الحديث

إلا عن شخص قد ثبتت صحبته، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمال الرواية من غير الصحابي احتمال بعيد، وتصور مجرد عن الدليل، والاحتمال المجرد عن الدليل لا يعتمد عليه.

الجواب الثاني: على فرض أن الصحابة قد روى عن بعض

التابعين فإنا نجزم بأنه لا يروي إلا عن من ثبتت عدالته لديه،

واحتمال أن الصحابي قد يروي عمن لم تثبت عدالته هذا احتمال

بعيد جداً، وتصور غير واقع، ولا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا

يعول عليه؛ ذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم قد اختارهم الله

عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد عدلهم اللَّه في كتابه وسُنَّة رسوله، فمن كانت هذه صفته يستحيل أن يرووا عن غير العدل الثقة؛ لأن هذا فيه تلبيس وتدليس على الأُمَّة، وهذا يستحيل في حقهم.

تنبيه: قال أبو الخطاب في " التمهيد "، وعبد العزيز البخاري

في " كشف الأسرار ": إن مراسيل الصحابة مقبولة بالإجماع.

قلت: هذا ليس بصحيح، بل الصحيح: أن قبول مراسيل

ص: 819

الصحابة هو مذهب الجمهور، كما قلنا - هنا -؛ لأن هناك فرقة

من الناس قد خالفت في ذلك، ومع ذلك فلا إجماع.

اعتراض على ذلك:

قال معترض على ذلك: إن الفرقة المخالفة فرقة شاذة لا يُعتد

بقولها، فلا يؤثر بإجماع العلماء.

جوابه:

يجاب عنه: بأن العلماء قد اعتدوا بخلاف تلك الفرقة، وسردوا

أدلتهم، وأجابوا عنها، ولو لم يعتد بخلاف تلك الفرقة لما ردوا

عليهم ولما أبطلوا مذهبهم بالأدلة.

المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي:

والمراد به: أن يقول الراوي العدل الثقة المتحرز لدينه الذي لم

يدرك النبي صلى الله عليه وسلم: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذا ".

أو يقول الراوي الذي لم يدرك أبا هريرة: " قال أبو هريرة كذا".

هذا تعريف المرسل عند الفقهاء وأكثر الأصوليين، وهو الحق؛

لأنه أعم من غيره.

أما عند المحدثين وبعض العلماء من غيرهم، فالمرسل هو: قول

التابعي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

واختلف العلماء في قبول مرسل غير الصحابي على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يقبل مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء،

وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الحق؛ للأدلة التالية:

ص: 820

الدليل الأول: أن الظاهر من حال الراوي العدل الثقة أنه لا يجوز

لنفسه أن يروي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا علم، أو غلب على ظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فعلاً، وهذا لا يكون إلا إذا كانت عدالة الشيخ الذي روى له الحديث قد ثبتت واستقرت عند ذلك الراوي الذي أرسل هذا الحديث؛ لأنه يبعد أن يظن ذلك الراوي عدم صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يرويه؛ لأن ذلك كذب مسقط لعدالته، وإذا كان الأمر كذلك فيجب قبول ما ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: أن من عادة الراوي العدل أن لا يرسل الحديث إلا

إذا تيقن من ثبوت هذا الحديث، فإذا شك فيه فإنه لا يرسله، بل

يذكر الشيخ الذي حدثه به؛ لتكون العهدة على ذلك الشيخ، وهذه

عادة مستمرة لهم، يؤيد ذلك ما ذكره ابن عبد البر في " التمهيد "

عن إبراهيم النخعي أنه قال: " إذا رويت عن عبد اللَّه - يقصد ابن

مسعود - فقد حدَّثني واحد، وإذا أرسلت فقد حدَّثني جماعة عنه "،

فإذا كانت هذه عادتهم - وهي: أنهم لا يرسلون إلا ما ثبت

عندهم - فيكون الحديث المرسل ثابتاً، والثابت يقبل ويعمل به.

الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .

وجه الدلالة: أن هذه الآية أوجبت على الطائفة إذا رجعت إلى

قومها أن تنذرهم، ولم تفرق الآية في الإنذار بين ما أرسلوه وما

أسندوه، فهذا يدل على قبول الحديث المرسل كما يقبل الحديث

المسند ولا فرق.

الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .

ص: 821

وجه الدلالة: أن الآية أوجبت التبين والتثبت إذا جاء فاسق بنبأ

وخبر، فإن كان غير فاسق - وهو العدل - وجب قبول خبره

مطلقاً، أي: سواء كان مسنداً أو مرسلاً.

المذهب الثاني: أن الحديث المرسل يقبل إذا كان مرسله في

العصور الثلاثة: عصر الصحابة،، وعصر التابعين، وعصر تابعي

التابعين، ولا يقبل في غيرها إلا من أئمة النقل، وهو مذهب بعض

الحنفية كعيسى بن أبان.

دليل هذا المذهب: قوله صلى الله عليه وسلم:

"خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ".

وجه الدلالة: أن صلى الله عليه وسلم قد شهد لأصحاب تلك القرون

بالعدالة، وذلك يوجب صدقهم، فيجب قبول قولهم وخبرهم

مطلقاً، سواء كان مرسلاً أو مسنداً.

وقالوا: إنا نقبل الحديث المرسل من غير تلك العصور بشرط كون

المرسل - بكسر السين - واحداً من أئمة النقل؛ لأن أئمة النقل قد

عرفوا بالبحث والاطلاع على أحوال الرواة، فإذا أرسلوا فذلك

لمعرفة من أرسلوا عنه معرفة توجب حد اطمئنان النفس إلى صدقه،

بخلاف غيرهم، فلا يقبل منهم شيئاً إلا إذا تعين اسمه، فنبحث عنه.

جوابه:

يجاب عنه بأنكم فرقتم بين أئمة النقل وغيرهم، وهذه التفرقة لا

تفيد إذا تحققت في الراوي العدالة والثقة وبقية شروط الراوي

السابقة، أي: أن الراوي إذا توفرت فيه شروط الرواية - وهي

الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - فإنا نقبل خبره سواء

ص: 822

كان مرسلاً أو مسند، وسواء كان من أئمة النقل أو من غيرهم،

وسواء كان من العصور الثلاثة أو لا.

المذهب الثالث: أن الحديث المرسل يقبل من أئمة النقل فقط،

دون غيرهم، وهو اختيار ابن الحاجب.

دليل هذا المذهب: أن إرسال أئمة النقل من النابعين كان مشهوراً

مقبولاً، ولم ينكره أحد كإرسال سعيد بن المسيب، والشعبي،

والنخعي، وغيرهم، فكان إجماعاً على قبول مرسل أئمة النقل.

جوابه:

يجاب غنه: بأنه لا وجه للتفرقة بين أئمة النقل وغيرهم؛ لأن

الراوي إذا كان عدلاً، فإنه يرجح جانب الصدق على جانب الكذب،

وإن لم يكن من أئمة النقل كما قلنا في جواب دليل أصحاب المذهب

الثاني.

المذهب الرابع: أن المرسل يقبل إذا توفر فيه أحد الأمور التالية:

1 -

أن يكون قد أسنده غير مرسله.

2 -

أن يكون قد أرسله آخر يروي عن غير شيوخ الأول.

3 -

أن يعضده قول صحابي.

4 -

أن يعضده قول أكثر العلماء.

5 -

أن يعرف من حمال الذي أرسله أنه لا يرسل عمن فيه جهالة

أو غيرها، وأنه لا يرسل إلا عمن يقبل قوله كمراسيل سعيد بن

المسيب.

فإن انضم إلى الحديث المرسل أحد هذه الأمور قبل، وإلا: فلا.

ص: 823

ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، واختاره بعض

الشافعية كفخر الدين الرازي، وناصر الدين البيضاوي.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن الراوي لا يقبل خبره إلا إذا كان عدلاً، ومن

أرسل عنه الراوي لم نعرف عدالته، فلا موجب لقبول خبره.

وقلنا: إن المرسل عنه غير معروف العدالة، لعدم معرفة اسم

المرسل عنه.

وقلنا: إن المرسل يقبل عند انضمام واحد من تلك الأمور السابقة

إليه، لأن الواحد من تلك الأمور يغلِّب جانب الصدق على جانب

الكذب، وبذلك يقبل.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه إذا لم يذكره أنا نجهل عدالته،

وذلك لأنا بينا - فيما سبق - أن الراوي لو لم تصح وتثبت عنده

عدالة شيخه الذي حذَثه لا يمكن أن يروي عنه فيلزم الناس تحكما

بقول فاسق أو مجهول، وهذا ينافي عدالته، فثبت بهذا أنه لا يروي

إلا عن عدل.

الجواب الثاني: أن رواية الراوي عمن أرسل عنه تعتببر تعديلاً له؛

لأن المرسل لو روى عن غير عدل ولم يبين لنا حاله كان غاشا

ومدلساً على الأمة، وتسقط عدالته بذلك، وما دامت الرواية عنه

تعديلاً له وجب قبول خبره؛ نظراً لتوفر العدالة المقتضية للقبول.

الدليل الثاني: أن شاهدي الفرع إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا

ص: 824

على شاهدي الأصل من غير ذكرهما، كذلك هنا في الخبر لا يمكن

أن نقبل حديثا رواه عدل إلا إذا عين الشيخ المروي عنه، ولا فرق

بينهما، والجامع: أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما.

جوابه:

يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس مع الفارق فلا

يصح؛ حيث توجد فروق بينهما، ومنها:

1 -

أن الشهادة آكد من الرواية - كما سبق بيانه -.

2 -

أن الشهادة تجب باللفظ ولا تقبل بالمعنى، بخلاف الرواية

فتجوز بالمعنى - كما سبق -.

3 -

أن الشهادة يشترط فيها العدد، بخلاف الرواية فلا يشترط

فيها ذلك.

4 -

أنه يشترط في الشهادة الذكورية، أما الرواية فلا.

5 -

أنه يشترط في الشهادة الحرية، بخلاف الرواية.

6 -

أنه في الشهادة لا تسمع شهادة الفرع إلا بعد العجز عن

سماع شهادة الأصل، أما في الرواية فيجوز ذلك.

7 -

أن شهود الفرع لا يشهدون إلا بعد أن يحمِّلهم شهود الأصل

تلك الشهادة، فيقولوا:" اشهدوا على شهادتنا "، بخلاف الرواية،

فإن الراوي يروي الخبر من غير أن يقول له: " ارو عني ذلك ".

وإذا اعترفتم بتلك الفروق بين الشهادة والرواية، فلا يصح قياسكم

الرواية على الشهادة.

المذهب الخامس: أن مرسل غير الصحابي لا يقبل مطلقا.

ص: 825

وهو ما ذهب إليه الظاهرية، ونسبه ابن عبد البر إلى أصحاب

الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد.

أدلة هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بالدليلين السابقين اللذين استدل بهما

أصحاب المذهب الرابع، وقد سبق الجواب عنهما.

وزادوا دليلاً ثالثاً وهو: أنه لو جاز العمل بالحديث المرسل لم

يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم فائدة ولا معنى؛ حيث

إن الناس قد تكلفوا حفظ الأسانيد في باب الأخبار، وضبطها، فلو

لم يكن لذلك فائدة - وهي الاطلاع على عدالة جميع رواة

الحديث -: لما اشتغلوا به، نظراً لتساوي الإسناد والإرسال.

جوابه:

يجاب عنه: بأن ذكر أسماء الرواة له فائدتان، هما:

الأولى: أن المخبر قد يشتبه عليه حال من يخبره، فلا يقدم على

تعديله ولا على تجريحه، فيذكره ليتفحص فيه غيره.

الفائدة الثانية. الاحتياط لنفسه، أي: أن الراوي يذكر من يخبر

عنه؛ لا لأنه شك في عدالته، بل يذكره مع أنه يعدله ليتمكن

السامع من الاطلاع على ذلك الراوي، فقد يكون عدلاً عند من

ذكره، بينما يكون مجروحاً عند غيره، فيذكره الراوي احتياطا.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، لأن أصحاب المذاهب قد

اتفقوا على أن مرسل العدل الثقة مقبول، وعلى أن مرسل غير العدل

غير مقبول.

ص: 826

فلو دققت النظر في أدلة أصحاب المذاهب لوجدت أنهم يعنون

بالمرسل المقبول هو مرسل العدل الثقة، ويكنون بالرسل غير المقبول

هو مرسل من لم تثبت عدالته.

دلطَّ على ذلك كلام المحققين الأصوليين كأبي الوليد الباجي في

"الإحكام "، والجصاص في " أصوله "، وأبي يعلى الحنبلي في

"العدة"، وابن عقيل في " الواضح "، وشيخ الإسلام ابن تيمية في

" المسودة "، والأنصاري في " فواتح الرحموت ".

وهو الحق عندي: فمن قال بقبول الحديث المرسل يحمل على ما

إذا كان المرسل - بكسر السين - من أولئك العلماء العدول الثقات

الماهرين بمعرفة شرائط قبول الرواية، الذين يعرف من حالهم أنهم لا

يرسلون إلا عمن يقبل حديثه.

أما من قال بعدم قبول الحديث المرسل، فيحمل على موضع غلبة

الريبة والشك في المرسِل - بكسر السين -.

يؤيد ذلك: أن من قال بقبول المرسل - بشروط أو بعدم شروط -

تراهم قد امتنعوا من قبول المراسيل إذا لم يكن المرسل من الأئمة

العدول الثقات، وذلك لغلبة الريبة والشك في المرسل.

وأن من قال بعدم قبول المرسل تراهم قد قبلوا مراسيل التابعين

كسعيد بن المسيب، وذلك لانتفاء غلبة الريبة في المرسل.

فيكون الخلاف - بذلك - لم يتوارد على محل واحد، فيكون

لفظيا.

أما ما ذكره بعضهم من أن الخلاف له ثمرة وأثر في بعض الفروع

الفقهية، وذكر عدداً من المسائل الفقهية التي تأثرت بهذا الخلاف،

ص: 827

فهذا غير صحيح؛ لأنك لو دققت النظر لوجدت أن الذي قبل

الحديث المرسل في تلك المسائل لم يقبله لكونه مرسلاً وإنما قبله؛

لأنه غلب على ظنه صدق المرسل، أو لأن عمل الصحابة يوافقه،

أو وافقه حديث آخر مسند، أو أنه لم ينكره أحد ممن يعتد بقوله، أو

غير ذلك من الأدلة.

وأن الذي لم يقبل الحديث المرسل لم يتركه، لكونه مرسلاً،

وإنما تركه؛ لأنه شك في الراوي أو غير ذلك من الأدلة.

***

المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند:

اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يقدم المسند على المرسل.

ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وأكثر المالكية، وكثير من الحنفية.

وهو الحق؛ لأن المسند قد اتفق على قبوله والاحتجاج به، أما

المرسل فقد اختلف فيه، فالمسند له مزية فضل لموضع الاتفاق،

وسكون النفس إليه أكثر من المرسل، ولذلك يقدم المسند.

المذهب الثاني: أنه يقدم المرسل على المسند.

ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض المالكية.

دليل هذا المذهب: أن من أسند فقد أحالك على البحث عن

أحوال الرواة الذين سماهم لك، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع

توفر شروط الراوي فيه، فقد قطع لك بصحة هذا الحديث وكفاك

النظر.

ص: 828

جوابه:

يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ حيث إن المسند تطمئن النفس

إليه، نظراً لاطلاعنا على رواة الحديث وتأكدنا من عدالة كل راوٍ

بأنفسنا، أما المرسل فلم نعلم عدالة الراوي الذي لم يذكر إلا من

خلال الذي روى الحديث لنا، فيكون المسند أقوى.

المذهب الثالث: أنهما سواء في وجوب الاحتجاج.

ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري، والأبهري، وأبو الفرج المالكي.

دليل هذا المذهب:

أن السلف رحمهم الله قد أرسلوا، ووصلوا وأسندوا، ولم

يعب واحد منهم على صاحبه شيئاً من ذلك، وعملوا بالجميع ولم

يفرقوا بين مرسل ومسند.

جوابه:

يجاب عنه: بأنا معكم بأنه يجب العمل بالمرسل والمسند؛ إذ لا

فرق بينهما في العمل، ولكن الخلاف فيما إذا تعارضا أيهما المقدم،

فدليلكم ليس في محل النزاع.

يؤيد ذلك: أن الدليل الظني والدليل القطعي كل واحد يجب

العمل به، ولكن إذا تعارضا، فإنه يقدم القطعي على الظني.

المذهب الرابع: التوقف، أي: إذا تعارض المسند مع المرسل،

فإنا نتوقف ولا نرجح أحدهما على الآخر حتى يأتي دليل آخر يرجح

أحدهما، وهو مذهب بعض العلماء.

ص: 829

دليل هذا المذهب:

أنه لا فرق بينهما في القوة، والعمل، والاحتجاج، فليس

أحدهما بأولى من الآخر.

جوابه:

يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنهما متساويان في القوة، حيث إنا بينا

أن المسند أقوى من المرسل لذلك تسكن النفس إليه، واتفق العلماء

على قبوله، أما المرسل فنظراً لضعف سكون النفس إليه فقد اختلف

العلماء فيه كما سبق.

المسألة الثامنة والعشرون: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامها:

للكلام عنها لا بد من التفصيل الآتي:

أولاً: أفعاله الجبلية:

وهي ما جبل الإنسان عليها وما تشترك فيها نفوس الخلق، وما

فطر اللَّه عليها البشر مما لا يملك الإنسان فيه حرية التصرف كالقيام،

والقعود، وهواجس النفس، وحركة اليد أثناء المشي، ونحو ذلك،

فهذا لا أسوة فيه، ولا يتبع النبي في شيء منه.

ثانيا: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات:

مثل أحواله في مأكله ومشربه، وملبسه، وتوسده يده إذا أراد

النوم، ولبس الأبيض. من الثياب، وطريقة مشيته، وطريقة كلامه،

فهذا يباح منا ومنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقصد به التشريع، ولم نتعبَّد به، ولم تقع تلك الأفعال على سبيل الطاعة.

ص: 830

ثالثا: الأفعال التي لم يتبين أمرها، ولم يوجد دليل على وقوعها

قربة، أو عادة:

كجلوسه صلى الله عليه وسلم للقيام إلى ثالثة من الصلاة الرباعية، والاضطجاع بعد الفجر، ومبيته بذي طوى، ونزوله بالأبطح، فقد اختلف

العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يستحب للأُمَّة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأفعال، ويندب إلى ذلك، ولا يجب.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لعدم وجود الدليل

الذي يدل على الوجوب، فيحمل على أن فعله أرجح من تركه،

وهو الندب.

المذهب الثاني: أنه يجب اتباع الأُمَّة لذلك، إلا ما دلَّ الدليل

على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب الإمام مالك فيما حكي عنه، وهو رواية عن الإمام

أحمد، واختاره بعض الشافعية كأبي العباس ابن سريج، والأصطخري.

دليل هذا المذهب:

أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل تلك الأفعال على أنها واجبة عليه، فيجب علينا الاقتداء به فيها.

جوابه:

يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك لأمرين:

أولهما: أنه لا يوجد دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها وهي واجبة عليه.

ص: 831

ثانيهما: لو سلمنا أنها واجبة عليه فلا يلزم أنها واجبة علينا؛

لعدم الدليل على دخولنا فيه.

المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يقوم دليل يطلب منا الفعل

على الوجه المطلوب.

وهو مذهب ابن فورك، وصحَّحه كثير من العلماء.

دليل هذا المذهب:

أنه لما كان هذا الفعل يحتمل أن يكون للندب، ويحتمل أن يكون

للوجوب، ويحتمل الإباحة، ويحتمل أن يكون من خصائصه: كان

التوقف متعيناً؛ لأن كل واحد منها ليس أَوْلى من الآخر.

جوابه:

يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول وهو كونه للندب هو الراجح؛

لأن الدليل قد قواه وهو: أن فعله أرجح من تركه كما قلنا فيما

سبق، أما الاحتمالات الثلاثة الأخرى فهي احتمالات بعيدة؛ لعدم

وجود أدلة عليها، فيعمل على ما ترجح بالدليل.

رابعاً: أفعاله التي فعلها لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق:

فإن هذا حكمه حكم المبين: فإن كان المبين واجباً فهو واجب،

وإن كان المبيَّن مندوباً: فهو مندوب، وإنما كان كذلك؛ لأن البيان

لا يتعدى رتبة المبين، ومتى تعداه لا يكون بياناً له، ولأن البيان ما

انطبق على المبين كالتفسير ينطبق على المفسر.

خامساً: الفعل الخاص به صلى الله عليه وسلم:

كالزواج بأكثر من أربع، وجواز زواجه بدون مهر، ونحو ذلك،

فهذا خاص به، لا يفعله غيره، ولا يجوز أن نتأسى به في تلك الأفعال.

ص: 832

سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟

إذا فعل صلى الله عليه وسلم فعلاً، وثبت أنه على وجه القربة، ولم يكن بيانا بالمجمل أو غيره، ولا قام الدليل على أنه من خواصه، وعلمنا

صفته من الوجوب أو الندب، أو الإباحة، وذلك بنصه صلى الله عليه وسلم، أو بغير ذلك من الأدلة، فهل نحن متعبدون بهذا الفعل والتأسي به في فعله، سواء كان واجبا، أو مندوبا، أو مباحاً؟

اختلف في ذلك على مذاهب؛ ومن أهمها مذهبان:

المذهب الأول: أنا متعبدون بالتأسي به.

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد كانوا

مجمعين على الرجوع إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم والتأسي بذلك - وهو أن يفعلوا مثل ما فعل - كرِجوعهم إلى تزويجه ليمونة وهو حرام،

وفي تقبيله للحجر الأسود، وجواز تقبيله وهو صائم، ونحو ذلك.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) .

وجه الدلالة: أنه جعل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم من لوازم رجاء اللَّه تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي: عدم الملزوم، وهو:

الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر كما هو واضح.

الدليل الثالث: قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) .

وجه الدلالة: أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة اللَّه الواجبة،

فلو لم تكن المتابعة لازمة: للزم من عدمها عدم المحبة، وذلك حرام.

ص: 833

المذهب الثاني: أنا لسنا متعبدين بالتأسي به مطلقا.

وهو مذهب بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لما كان احتمال

الخصوصية قائماً في كل فعل مجرد، فلا يجوز التأسي به ومتابعته

وأخذ الحكم منه؛ لاحتمال أن يكون مما يجوز له صلى الله عليه وسلم، ويحرم على غيره، فيكون من اقتدى به قد فعل حراماً.

جوابه:

يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن خصائصه التي ثبتت

بأدلة صحيحة قليلة جداً، وقد قدرت بخمس عشرة خاصة، بينما

أكثر الأحكام ثبت الاشتراك فيها كأنواع العبادات، وأركانها،

وشروطها، وأسبابها، وما يستحب فيها من الأفعال والهيئات،

وكذلك الآداب والمعاملات التي ثبت الاشتراك فيها، فهذه تزيد

أضعافاً مضاعفة عما ثبت الاختصاص به، فلا يجوز أن تمنع دلالة

الفعل المجرد في حقنا من أجل الاحتمال الذي لم يرد إلا قليلاً،

وهو كونه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم:

ويتبين ذلك فيما يلي:

أولاً: تعريفه:

تقرير النبي صلى الله عليه وسلم هو: كف النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنكار على ما علم به من قول أو فعل، وستأتي الأمثلة على ذلك.

ص: 834

ثانياً: حجيته:

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن التقرير حُجَّة، وهو قسم من أقسام السُّنَّة

النبوية، وهو مذهب جمهور العلماء.

وهو الحق، لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أن النهي عن المنكر واجب، وتركه معصية،

ويتنزه عنها أهل التقى من الأُمَّة، فمن باب أوْلى أن يتنزه عنها

الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ وهو أول المسلمين

وأتقاهم لله، ولو جاز له ترك إنكار المنكر لجاز ذلك لأُمَّته.

الدليل الثاني: أن اللَّه تعالى أرسل نبيه بشيراً ونذيراً يأمر بالمعروف

وينهى عن المنكر، فلو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع لم

يكن ناهياً عن المنكر.

الدليل الثالث: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - فقد كانوا

يحتجون بتقريره صلى الله عليه وسلم على الجواز، بدون نكير من أحد منهم، ومن أمثلة ذلك:

1 -

قول أبي بن كعب: " الصلاة في ثوب واحد سُنَّة كنا نفعله

على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعاب علينا ".

2 -

أن أنس بن مالك سئل وهو غاد إلى عرفة: كيف كنتم

تصنعون في هذا اليوم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فقال:

" كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ ".

المذهب الثاني: أن التقرير من صلى الله عليه وسلم ليس بحُجَّة في الشرع.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

ص: 835

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه من الجائز أنه سكت؛

لأنه أنكر عليه مرة فلم ينفع فيه الإنكار، وعلم أن إنكاره عليه ثانيا لا

يفيد، فلم يعاود، وأقره عليه كما أقر اليهود على معتقداتهم، وإذا

كان الأمر كذلك فلا يصلح التقرير دليلاً على الجواز.

جوابه: -

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع، فهو

خارج عن الإقرار الذي يحتج به؛ لأن شرطه: أن يكون المقر مسلماً

ملتزماً، واليهود والنصارى ليسوا كذلك، فكيف يترك المسلم الملتزم

المطيع المتتبع يفعل المنكر فلا ينهاه عنه.

الجواب الثاني: على فرض أن الإقرار على مثل هذا جائز في

بعض الأحوال، فإن هذا نادر جداً، والنادر لا حكم له، والحكم

للأعم الأغلب.

ثالثا: أنواع الإقرار:

التقرير على أنواع:

النوع الأول: الإقرار على الأقوال، ومثاله: أن ماعزاً اعترف

بالزنا أمام النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، كل ذلك يرده، فقال له أبو بكر: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهو على قسمين:

الأول: ما يتعلق بالدين وأصوله وفروعه، وما ينبني عليه تشريع،

فتقريره يدل على صحته.

ص: 836

الثاني: ما كان قولاً يتعلق بالدنيا، والأمور المغيبة عنه، فالتقرير

عليه لا يدل على صدق الخبر، وثبوت مدلوله كما في قصة المنافقين.

النوع الثاني: الإقرار على الأفعال، مثاله: إقراره صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على أكل لحم الضب، فهذا النوع يدل على أنه لا حرج في ذلك.

النوج الثالث: الإقرار على الترك، ومثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر أهل مكة بالإتمام، فقال: " يا أهل مكة، أتموا

صلاتكم فإنا قوم سفر "، وأما ما بمِنَى وعرفة ومزدلفة، فلم ينقل

أحد أنه أمرهم بذلك، فقال ابن تيمية: لو كان المكيون قد قاموا

فأتموا الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا لما أهمل الصحابة نقل ذلك

وهذا يدل على أنهم قصروا، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم عليهم، ورجح بهذا: أن للمكيين القصر بالمناسك بعذر النسك.

***

المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة:

السُّنَّة تنقسم إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة هي كما يلي:

أولاً: تنقسم السُّنَّة من حيث حقيقتها إلى ثلاثة أقسام:

1 -

السُّنَّة القولية.

2 -

السُّنَّة الفعلية.

3 -

السُّنَّة التقريرية، وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل.

ثانيا: تنقسم السُّنَّة من حيث السند إلى قسمين:

1 -

المتواتر.

2 -

الآحاد.

والحنفية يجعلون قسما ثالثا بينهما هو: المشهور،

وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل.

ص: 837

ثالثاً: تنقسم السُّنَّة من حيث الصحة وعدم ذلك إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الحديث الصحيح وهو: ما اتصل سنده بنقل

العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله إلى نهاية السند من غير شذوذ ولا

علَّة قادحة.

وهو نوعان:

1 -

الصحيح لذاته، وهو الذي عرفناه فيما سبق.

2 -

الصحيح لغيره، وهو ما صحح لأمر أجنبي عنه؛ إذ لم

يشتمل على صفات القبول على أعلاها كالحسن إذا روي من غير وجه.

حجيته:

اتفق العلماء على الاحتجاج به في الأحكام الشرعية.

القسم الثاني: الحديث الحسن، وهو: ما اتصل سنده بنقل

العدل الضابط ضبطاً غير تام عن مثله إلى منتهى السند من غير شذوذ

ولا عِلَّة قادحة.

وهو نوعان:

1 -

حسن لذاته، وهو ما تقدم.

2 -

حسن لغيره، ْ وهو: ما رواه ضعيف يكون ضعفه بغير كثرة

الخطأ، وبغير اتصافه بالفسق، وأن يروي هذا الحديث راو آخر عن

شيخ هذا الراوي الضعيف.

حجيته:

لقد اتفق العلماء على أن الحسن لذاته يحتج به، ولكنه دون

الصحيح في الرتبة.

ص: 838

وكذلك الحسن لغيره يحتج به بشرط: كثرة طرقه وتعددها.

القسم الثالث: الحديث الضعيف، وهو ما لم توجد فيه شروط

الصحة، ولا شروط الحسن.

حجيته:

لقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث الضعيف.

والحق: أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال

والترغيب والترهيب - ما لم يكن موضوعاً - ولا يحتج به إلا

بشروط هي كما يلي:

الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديداً، فيخرج عن هذا: من

انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.

الشرط الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.

الشرط الثالث: ألا يعتقد - عند العمل به - ثبوته؛ لئلا ينسب

إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، بل يعتقد الاحتياط.

وأما الأحكام كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق،

ونحو ذلك، فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن فقط.

ص: 839