الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع في حجية الإجماع
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الإجماع حُجَّة.
وهو مذهب جمهور العلماء المعتد بأقوالهم.
وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
وجه الدلالة: أن معنى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم: منازعته، ومخالفة ما جاء به عن ربه، ومعنى سبيل المؤمنين: ما اختاروه لأنفسهم من
قول أو فعل أو اعتقاد، وقد توعد اللَّه بالعقاب على متابعة غير سبيل
المؤمنين، وهذا يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين، وتحريم
مخالفتهم، ولو لم تكن مخالفتهم حراماً لما توعد عليه ولما حسن
الجمع بينه وبين المحرم وهو: مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الوعيد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.
وبذلك يكون سبيل المؤمنين حُجَّة يجب اتباعه والعمل بمقتضاه.
ما وجه إلى هذا الاستدلال من الاعتراضات:
الاعتراض الأول: أن اللَّه تعالى إنما توعد على أمرين لا بد منهما
معاً، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر وهما:
1 -
مشاقة الرسول
2 -
ترك اتباع سبيل المؤمنين، فيلحق الوعيد بالأمرين معاً،
فثبت أنه لا يتعلق الوعيد بأحدهما على الانفراد، وبناء على ذلك:
فلا يلحق الوعيد التارك لاتباع سبيل المؤمنين منفرداً؛ إذن: لا يجب
اتباع الإجماع، لأنه لا وعيد عليه، فيكون الإجماع ليس بحُجَّة.
جوابه:
يجاب عنهْ بأن هناك قاعدة وهي: أن اللَّه تعالى إذا توعد على
شيئين، فإن الوعيد يلحق بكل واحد منهما على انفراد واجتماع،
لكن لا يجوز أن يلحق الوعيد بأحد الشيئين معيناً، والآخر لا يلحق
به الوعيد.
يؤيد ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) ،
فإن اللَّه لما جمع بين هذه الأفعال في الوعيد كان منصرفاً
إلى كل واحد منها، فكذلك في هذه الآية وهي: " ومن يشاقق
الرسول.. " قد جمع اللَّه بين هذين الفعلين، وهما: " المشاقة،
ومتابعة غير سبيل المؤمنين " فينصرف الوعيد إلى كل واحد منهما
بانفراد، فلو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين محرماً بانفراده، فإنه لا
يمكن أن يقرن بما هو محرم وهو: " المشاقة " كسائر المباحات، ألا
ترى أنه لا يجوز الجمع بين المحرم والمباح في باب الوعيد، فلا
يجوز أن يقال: " من زنا وشرب الماء عاقبته "، وذلك لأن الزنا
محرم، وشرب الماء مباح.
الاعتراض الثاني: أن اللَّه تعالى قد توعد على ترك سبيل المؤمنين
فيما صاروا به مؤمنين وهو التوحيد، والتصديق، وفعل الإيمان.
يؤيد ذلك: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) التي أتت بعد تلك الآية المستدل بها، ومعروف
أن الشرك مقابل التوحيد، ويؤيد ذلك: سبب نزول هذه الآية،
حيث إنه قيل: إن الآية نزلت في بشير بن أبيردتى المنافق لما سرق ثم
رمى بذلك لبيد بن سهيل، ولما كشف أمره هرب إلى مكة، ولحق
بالمشركين، فأنزل اللَّه تلك الآيات.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا حمل الآية على صورة واحدة، وهذا تأويل
لا دليل عليه، والتأويل الذي لا دليل عليه باطل.
الاعتراض الثالث: أن التوعد قد لحق جميع - المؤمنين إلى قيام
الساعة، وأهل العصر ليسوا كل المؤمنين، ودليل ذلك: أن لفظ
"المؤمنين " جمعٌ معرف بـ " أل "، فتكون عامة لجميع المؤمنين، وجميع
المؤمنين كل من آمن بالله إلى يوم القيامة، وذلك لا يدل على أن ما
وجد من الإجماع في بعض الأعصار حُجَّة؛ لأمرين:
أولهما: أن المجمعين - في عصر واحد هم بعض المؤمنين.
ثانيهما: أن المخالف في حجية الإجماع من جملة المؤمنين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المقصود بلفظ " المؤمنين " الوارد في الآية هم
أهل العصر الذي حدثت فيه الحادثة - كما قلنا في تعريف الإجماع
السابق - فتحمل لفظة " المؤمنين " على ذلك.
الاعتراض الرابع: أن حجية الإجماع مسألة علمية لا تفيد فيها إلا
الأدلة القطعية، ودلالة الآية ظنية للاحقمالات التي ذكرت، فهي من
قبيل الظاهر، فلا تثبت حجية الإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الآية وإن كانت ظنية الدلالة إلا أنها تثبت حجية
الإجماع، ويكون حُجَّة ظنية كخبر الواحد هذا على قول.
أما على القول بأن الإجماع حُجَّة قطعية فإنا نقول: إن هذه الآية
وإن كانت ظنية فقد احتفت بقرائن صيرتها قطعية، والقرائن هي ما
سيأتي من السُّنَّة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد وصف الأُمَّة بأنهم أُمَّة وسطا،
والوسط: الخيار العدل، دلَّ على ذلك قوله تعالى:
(قال أوسطهم ألم أقل لكم) أي: أعدلهم، فالله عز وجل عدلهم
بقبول شهادتهم، ولما كان قول الشاهد حُجَّة، إذ لا معنى لقبول
شهادته إلا كون قوله حُجَّة يجب العمل بمقتضاه، فيدل هذا على أن
إجماع الأُمَّة يجب العمل بمقتضاه.
وكون الوسط: العدل هو الذي ذكره الجوهري في الصحاح،
وذكره القرطبي في تفسيره.
الاعتراضات التي وجهت إلى الاستدلال بهذا الآية:
الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ أن العدالة تنافي الخطأ في الاجتهاد،
بل إنما تنافي الكبائر، فاحتمال الخطأ في الكبائر باق.
جوابه:
يجاب عنه بأن ما قلتم مسلم بالنسبة لتعديل الأُمَّة بعضها لبعض،
وأما بالنسبة لتعديل اللَّه للأُمَّة فينافي الخطأ مطلقا؛ لأنه لم يعدلهم إلا
لكونهم يصيبون الحق في الواقع مطلقاً لقبول شهادتهم، والشهادة
إنما تقبل لموافقتها الصواب، فلزم أنهم معصومون عن الخطأ.
الاعتراض الثاني: أن الآية قد قيدت عدالة الأُمَّة في يوم القيامة
فقط؛ لأن التعديل من اللَّه للأُمَّة معلل بقبول شهادتها يوم القيامة
على الأكل م السابقة، والعدالة تعتبر وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن من دقق النظر في الآية فإنه يتبين له أن اللَّه قد ميَّز
الأُمَّة الإسلامية على غيرها من الأمم السابقة بهذه الميزة المذكورة فيها،
فلو جعلت عدالتها خاصة بيوم القيامة لما كانت لها ميزة على الأمم
السابقة؛ لأن الأمم جميعها يوم القيامة عدول فلا داعي لذكر هذا
الأمر، يؤيد ذلك قوله:" وجعلناكم " بلفظ الماضي، ولم يقل
سنجعلكم، فتكون العدالة محققة في الدنيا.
الاعتراض الثالث: سلمنا أن العدالة لهم في الدنيا، ولكن
العدالة التي وردت في الآية إنما هي لجميع الأُمَّة، وعلى هذا فلا
خصوصية للمجتهدين منهم، إذن: لا تثبت حجية الإجماع إلا
بانتهاء الأُمَّة، وبانتهائها لا تحتاج إليه، فلا تصلح الآية للاستدلال
بها على حجية الإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بانا بيَّنَّا أن المجتهدين هم الذين يعتبر قولهم فقط،
وبيَّنا أن المقصود اجتهادهم في عصر من العصور، هذا كله سبق.
ونزيد هنا: أن المقصود من حجية قولهم: العمل بمقتضاه،
وليست الآخرة دار عمل، وإلا لقال تعالى:" سنجعلكم " فتعبيره
بالماضي يدل على أن قولهم حُجَّة.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)
وجه الاستدلال: أن اللَّه تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمَّة بأنهم
يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وهذا يقتضي كون
قولهم حقاً وصوابا في جميع الأحوال، والخيرية توجب حقيقة ما
اجتمعوا عليه؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان ضلالاً، فإذا اجتمعوا
على مشروعية شيء يكون ذلك الشيء معروفاً، وإذا اجتمعوا على
عديِم مشروعية شيء يكون ذلك الشيء منكراً، فيكون إجماعهم
حُجة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل
الجزم، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم لا بد أن يكون معصوما
عن الخطأ؛ لأنه لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه
على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بطاعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك
الخطأ، فثبت أن أولي الأمر المذكورين في هذه الآية لا بد وأن يكونوا
معصومين.
وهؤلاء المعصومون اما مجموع الأفة، أو بعضها، ولا ثالث
لهما.
لا يجوز أن يكونوا كل الأُمَّة، لأنا قد بيَّنا أن اللَّه قد أوجب طاعة
أولي الأمر في هذه الآية، وهم أهل الحل والعقد من الأُمَّة وهم
المجتهدون؛ لأن إيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين
على الوصول إليهم والاستفادة منهم؛ لأنه: " لا يكلف اللَّه نفسا إلا
وسعها "، وهذا هو الراجح في المراد من " أولي الأمر ".
الدليل الخامس: من السُّنَّة:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد ".
2 -
قوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتيهم أمر
الله وهم ظاهرون ".
3 -
قوله: " فإن يد اللَّه على الجماعة، وإن الشيطان مع من
فارق الجماعة يركض ".
4 -
قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد اللَّه على الجماعة،
ومن شذ شذ في النار "،
وفي رواية: " إن اللَّه لا يجمع هذه الأُمَّة على ضلالة أبداً، وأن اللَّه مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار "،
وفي رواية: " إن أُمَّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم "،
وفي رواية: " سألت ربي أن لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة فأعطانيها ".
5 -
قوله: " ومن فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ".
6 -
قوله: " إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو
عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا تجتمعوا على ضلالة
…
، إلخ.
إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة، البالغة مبلغ التواتر
المعنوي، لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين لم يدفعها
أحد من أئمة النقل من سلف الأُمَّة وخلفها، بل هي مقبولة من
الجميع -، ومعمول بها، ولم ينكوها أحد، ولم تزل الأُمَّة تحتج بها
في أصول الدين وفروعه.
وجه الاستدلال من تلك الأحاديث على حجية الإجماع من
طريقين:
الطريق الأول: حصول العلم الضروري، فكل واحد من تلك
الأحاديث وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الاحتمال إليه، إلا أنه
حصل لنا بمجموعها علما ضرورياً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الأُمَّة وأخبر أنها معصومة عن الخطأ، كما علمنا بالضرورة شجاعة عليّ، وكرم حاتم، وإذا عصمت الأُمَّة عن الخطأ فيكون إجماعهم
حُجَة؛ لأنه حق.
الطريق الثاني: حصول العلم الاستدلالي، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن تلك الأحاديث الآحادية لم تزل ظاهرة مشهورة
بين الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، وقد تمسكوا بها فيما
بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها، ولم يزالوا على ذلك
حتى وقت النظام وغيره من المخالفين، ويستحيل عادة توافق الأمم
في عصور مختلفة على التسليم لما لم تقم الحُجَّة بصحته مع اختلاف
الطباع وتفاوت الأفهام والهمم والمذاهب والآراء.
فهذا يدل على عدم اختلاف هؤلاء في استدلالهم بتلك الأحاديث
على ثبوت الإجماع، وأنه حُجَّة.
الوجه الثاني: أن الذين احتجوا بتلك الأخبار الآحادية أثبتوا بها
أصلاً مقطوعا به، وهو الإجماع الذي يقدم على النص من الكتاب
والسنَّة، والعادة تحيل أن يسلم لخبر يرفع به النص إلا إذا كان مستنداً
إلى مستند مقطوع به، وهو مجموع تلك الأخبار الآحادية؛ حيث
أفادتنا العلم الضروري بأن الأُمَّة لا تجتمع على خطأ.
الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الاستدلال:
الاعتراض الأول: أنه ربما خالف واحد وردها، ولكنه لم ينقل إلينا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا خلاف العادة؛ لأن الإجماع من أعظم
الأدلة، فلو خالف فيه أحد لاشتهر كما اشتهرت مخالفة الصحابة
في كثير من المسائل الفقهية.
الاعتراض الثاني: يحتمل أنهم أثبتوا الإجماع بغير تلك الأخبار.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الظاهر أن الصحابة والتابعين قد تمسكوا بتلك
الأخبار على إثبات الإجماع، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل.
الاعتراض الثالث: أن هذا إثبات الإجماع بالإجماع؛ لأنكم
استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، والخبر على صحة الإجماع،
وهذا باطل.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل استدللنا على الإجماع بمجموع تلك
الأخبار؛ بناء على أنها تفيد التواتر المعنوي، فيكون استدلالنا
بالمتواتر وهو مقطوع به على إثبات الإجماع.
المذهب الثاني: أن إجماع الصحابة حُجَّة فقط، أما إجماع غيرهم
فليس بحجة.
وهو مذهب كثير من الظاهرية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) .
وجه الدلالة: أن الله قد أثنى على الصحابة في القرآن الكريم،
والثناء يدل على أن أقوالهم معتبرة، لصدقها يقينا، فدل على أن
اجتماعهم حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الآية ليست خاصة بالصحابة، بل هي شاملة لهم
ولغيرهم بدليل قوله: (والذين اتبعوهم) ، فهذا شامل لجميع
المتبعين بإحسان من بعد الصحابة إلى آخر المسلمين، فيلزمهم أن
تكون دالة أيضاً على حجية إجماع غيرهم لاشتراكهم جمبعا في المدح.
ثانيهما: إذا كان الثناء والمدح يدل على أن أقوال الممدوحين
معتبرة، فالله تعالى كما أثنى على الصحابة فقد أثنى على الأُمَّة
الإسلامية بقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) أي:
اختاركم لدينه ونصرته، وقال:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي: عدولاً، وقال:(كنتم خير أُمَّةٍ) ، وغير ذلك من الآيات،
فيدل على أن اللَّه قد أثنى على الأُمَّة - أيضاً - فيلزم أن الإجماع ليس
خاصا بالصحابة، بل هو عام لكل عصر.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه حفظ القرآن بحفظ الصحابة له، ونقلهم
إياه، وإجماعهم عليه، والآية تدل على صدق إجماعهم، فيكون حجة.
جوابه:
يجاب عنه: أن الآية عامة، فإنها كما دلَّت على صدق إجماع
الصحابة دلَّت أيضاً على صدق إجماع من جاء بعد الصحابة، حيث
إن من جاء بعد الصحابة من التابعين، وتابعيهم إلى يومنا هذا قد
حفظوا ذلك القرآن وكتبوه وعملوا به.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم:
" يأتي على الناس زمان فيغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون:
نعم، فيفتح لهم، ثم يغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من
رأى من صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: نعم، فيفتح لهم.. "
كذلك ما روي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن اللَّه اختار أصحابي على العالمين سوي النبيين "،
ونحو ذلك من الأحاديث.
وجه الدلالة: أن الشارع قد أثنى على الصحابة بالعدالة، وأنهم
اختارهم على العالمين، فدل على أنهم قد فضلوا على غيرهم، فدل
على أن إجماعهم حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن غير الصحابة ممن جاء بعدهم قد وردت
الأحاديث بعصمتهم عند الاتفاق وهي الأحاديث التي ذكرناها في
استدلالنا على حجية الإجماع، فلا اختصاص للصحابة - رضي الله
عنهم - بالإجماع.
المذهب الثالث: أن الإجماع ليس بحُجَّة مطلقا.
وهو مذهب بعض الخوارج، وبعض النظامية، وبعض الشيعة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول لهم قالوا فيه: إنه لا دليل على كون الإجماع حُجَّة،
لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، فإذا لم يدل عليه شيء
وجب القطع بنفي كونه حُجَّة؛ لعدم ما يدل عليه.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنه لا دليل عليه، بل دلَّت الأدلة النقلية
على أن الإجماع حُجَّة، وهي التي ذكرناها فيما سبق من الآيات
والأحاديث.
فإن أنكر أحد بعضها، فلا يمكنه أن ينكرها جميعها، ومن أنكرها
جميعا فهو معاند ومكابر، والمعاند لا يعتد بقوله.
ثم إن منكر ذلك جاء بعد تحقق الإجماع والاحتجاج به، فإنكاره
مكابرة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
وجه الدلالة: أن الآية بيَّنت أنه إذا حدث تنازع في حكم حادثة
فإنه يجب أن يؤخد حكمها من الكتاب والسُّنَّة فقط، والإجماع
ليس بكتاب ولا سُنَّة، فلا يصح حُجَّة..
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحكم بالإجماع هو حكم بالكتاب والسُنَّة؛ لأن المجمعين لا بد أن يستندوا في اجتهادهم إلى نص الكتاب والسُنَّة
أو ما فهم منهما.
الجواب الثاني: أنه يجب أن نعمل بما جاء في الكتاب والسُنَّة،
وقد جاءت آيات في الكتاب، وأحاديث في السُنَّة تدل على أن
الإجماع حُجَّة فيجب أن نعمل بها.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وقوله:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) .
وجه الدلالة: أن الآيتين تفيدان أن الكتاب قد ورد فيه حكم كل
شيء، فلا حاجة إلى الإجماع، فالمرجع هو الكتاب والسُّنَّة، أما
الإجماع فنظراً لعدم الحاجة إليه فلا يصلح أن يكون مرجعا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الكتاب قد بين كل شيء ومما بيَّنه أن الإجماع
حُجة، وذلك بالآيات التي ذكرناها ودلَّت على حجية الإجماع،
وكذلك بيَّن أن السُّنَّة حُجَّة بقوله: (وما أتاكم الرسول فخذوه..)
وغيرها، والسُّنَّة بيَّنت أن الإجماع حُجَّة بالأحاديث التي ذكرناها.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -: " إذا عرض عليك قضاء فبِمَ تقضي؟
قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟
قال: بسُنَة رسول اللَّه، قال: فإن لم تجد؟
قال: أجتهد رأيى ولا آلو، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم ".
وجه الدلالة: أن معاذاً ذكر الأدلة المعمول بها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الإجماع معها، فهذا يدل على أنه ليس بدليل، إذ لو كان دليلاً لما تركه مع الحاجة إليه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الإجماع لا يكون دليلاً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فليس فيه تأخير عن وقت الحاجة.
الجواب الثاني: أن الإجماع هو حكم بالكتاب والسُّنَّة ولا يخرج
عنهما؛ لأن مستنده: إما الكتاب، أو السُّنَّة، أو شيء يقاس على
ما ثبت بهما.
الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ".
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يدل على جواز خلو العصر عمن
تقوم الحُجَّة بقوله.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الحديث لا يدل على ما ذكرتم، بل إن ما
دلَّ عليه الحديث هو: أن أهل الإسلام سيكونون هم الأقلين، لا أنه
لا يبقى من تقوم به الحُجَّة.
الدليل السادس: أن الإجماع لا يمكن في ذاته، ولا يمكن العلم
به، ولا يمكن نقله - وقد سبق ذلك -.
جوابه:
يجاب عنه: بانا قد أثبتنا فيما سبق أن الإجماع يمكن في ذاته،
ويمكن العلم به، ويمكن نقله.
الدليل السابع: القياس على الأمم السابقة، فكما أنه لم يعتبر
إجماع الأمم السابقة ولم يكن حُجَّة، فكذلك إجماع هذه الأُمَّة لا
يكون حُجَّة ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إجماعنا قد وردت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على
اعتباره، بخلاف إجماعهم فإنه لم ترد الأدلة على أنه حُجَّة، وهذا
هو الفرق، إذن قياسكم لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق.