المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب السادس في أقسام الإجماع - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٢

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث في أدلة الأحكام الشرعية

- ‌المطلب الأول في تعريف الدليل

- ‌المطلب الثاني في هل الدليل شامل للقطعي والظني

- ‌الفصل الأول في الأدلة المتفق عليها إجمالاًَ

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الكتاب

- ‌المطلب الأول في تعريف القرآن

- ‌المطلب الثاني في القراءة الشاذة " غير المتواترة

- ‌المطلب الثالث في وجود المجاز في القرآن

- ‌المطلب الرابع في هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية

- ‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه

- ‌المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي

- ‌المطلب السابع في النسخ

- ‌المبحث الثاني في الدليل الثاني من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: السُّنَّة

- ‌المطلب الأول في تعريف السُّنَّة

- ‌المطلب الثاني في حجية السُّنَّة

- ‌المطلب الثالث في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينهوبين الإنشاء، وأقسامه

- ‌المطلب الرابع في خبر المتواتر

- ‌المطلب الخامس في خبر الواحد

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الإجماع

- ‌المطلب الأول في تعريف الإجماع

- ‌المطلب الثاني في إمكان الإجماع

- ‌المطلب الثالث في العلم بالإجماع والاطلاع عليه

- ‌المطلب الرابع في حجية الإجماع

- ‌المطلب الخامس في شروط الإجماع

- ‌المطلب السادس في أقسام الإجماع

- ‌المطلب السابع في الإجماعات الخاصة

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المتفق علها إجمالاًَ - وهو: القياس

الفصل: ‌المطلب السادس في أقسام الإجماع

‌المطلب السادس في أقسام الإجماع

ينقسم الإجماع إلى قسمين:

القسم الأول: الإجماع القطعي.

القسم الثاني: الإجماع الظني.

ص: 915

القسم الأول الإجماع القطعي

وهو: أن يتوفر فيه ما يلي:

أولاً: أن تتوفر جميع شروط الإجماع السابقة - على التفصيل

المذكور -.

ثانيا: أن يصرح كل واحد من المجتهدين بحكم المسألة، أو أن

يصرح بعضهم، ويعمل البعض الآخر على وفق هذا القول المصرح

ثالثا: أن ينقل هذا القول وهذا التصريح إلينا نقلاً متواتراً.

إذا توفرت هذه الأمور، فإن الإجماع يكون حُجَّة قاطعة.

ص: 917

القسم الثاني

الإجماع الظني

وهو: ما اختل فيه أحد الأمور الثلاثة السابقة في القسم الأول،

ويشتمل الكلام عن هذا القسم على مسائل كثيرة، منها المسألة الثامنة

عشرة - من مسائل شروط الإجماع - وهي: " هل يشترط نقل

الإجماع بالتواِتر؟ " فإذا نقل الإجماع الصريح بالآحاد صار إجماعاً

ظنياً، وقد بينت ذلك في موضعه، ومما يدخل في ذلك ما يلي من

المسائل:

المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون، على قولين،

فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما،

فهل يكون ذلك إجماعاً؟

المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟

المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز لمن

بعدهم إحداث قول ثالث؟

المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا تأويلاً، ولم

يصرحوا بشيء فهل لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟

المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين فهل لمن

بعدهم التفريق بينهما؟

المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق علماء

الأمَّة على عدم العلم به؟

ص: 919

المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً، وسكت الباقون

سكوتا لا يفهم منه الرضا ولا السخط فهل يعتبر

هذا إجماعا وحجة؟ " الإجماع السكوتي ".

المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة

فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل؟

ص: 920

المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون على

قولين، فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما، فهل

يكون ذلك إجماعا؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يكون إجماعاً، وبناء على ذلك فإنه تحرم

مخالفته، مثل مسألة " بيع أم الولد "، فإن الصحابة اختلفوا فيها

على قولين - الجواز وعدم الجواز - ثم اتفقوا على قول واحد وهو:

عدم الجواز، فإن هذا يكون إجماعا تحرم مخالفته ويجب العمل به.

وهو مذهب أكثر الحنفية، والمعتزلة، وأكثر المالكية، وبعض

الشافعية كأبي بكر القفال، وأبي إسحاق الشيرازي، وبعض الحنابلة

كأبي الخطاب.

وهو الحق عندي؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن النصوص الدالة على حجية الإجماع - السابقة

الذكر - تدل على حجية أيِّ إجماع من مجتهدي العصر سواء سبقه

اختلاف في العصر الذي سبقه، أو لم يسبقه شيء، فاتفاق علماء

العصر المتأخر على أحد قولي علماء العصر المتقدم يعتبر سبيل المؤمنين

فيجب اتباعه.

الدليل الثاني: أن إجماع التابعين أو علماء العصر المتأخر، هو:

اتفاق من أهل العصر على حكم فقهي معين، فلم يجز خلافه،

كما لو اختلفوا - أنفسهم - في حكم معين في عصرهم، ثم اتفقوا

عليه في عصرهم، فهو اتفاق عقيب اختلاف، فيقطع الاتفاق

الاختلاف، فيكون إجماعا.

ص: 921

المذهب الثاني: أنه لا يكون إجماعاً، أي: أن اتفاق التابعين

على أحد قولي الصحابة لا يعتبر إجماعاً، ولا تحرم مخالفته، بل

يجوز الأخذ بما اتفق عليه التابعون، ويجوز الأخذ بالقول الآخر

للصحابة.

وهو مذهب بعض الشافعية كإمام الحرمين، والغزالي،

والآمدي، والصيرفي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ) .

وجه الدلالة: أن اللَّه أوجب الرد إلى اللَّه تعالى عند التنازع.

فلو جوزنا انعقاد الإجماع الثاني: للزم الرد إلى الإجماع، وهو

خلاف مقتضى الآية.

جوابه:

إن وجوب الرد إلى اللَّه تعالى مشروط بوجود التنازع، فإذا حصل

الإجماع زال وجوب الرد إلى اللَّه لزوال شرطه وهو: التنازع، ثم

إن الرد إلى الإجماع هو رد إلى اللَّه تعالى؛ لأن المجمعين اتفقوا

على هذا الحكم أو ذاك استناداً إلى كتاب اللَّه أو سُنَّة رسوله، أو

المفهوم منهما.

الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:

"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".

وجه الدلالة: هذا الحديث دلَّ على أن كل واحد من الفريقين

حجة، فلو أخذنا بأحد القولين دون الآخر لزم الترجيح من غير

مرجح.

ص: 922

جوابه:

إن الخطاب الوارد في الحديث موجه إلى العوام الذين في

عصرهم، ولا خلاف في جواز تقليدهم إياهم، وإنما النزاع في أن

قول بعضهم هل يكون مانعاً من انعقاد الإجماع بعدهم، بخلاف ما

قالوه؛ وما ذكرتموه في دليلكم لا يدل على ذلك.

الدليل الثالث: أن اختلاف الصحابة على القولين هو إجماع على

جواز الأخذ بأي قول كان، فلو انعقد الإجماع على أحد القولين

فإنه يلزم من ذلك رفع الإجماع الأول.

جوابه:

لا نسلم أن اختلافهم على قولين هو إجماع على جواز الأخذ بأي

قول كان؛ لأن كلًّا من الفريقين لا يجوز الأخذ إلا بقولهم فقط،

دون قول الفريق الآخر.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي له أثره وهو واضح، فلو اتفق التابعون أو

المتأخرون على أحد قولي الصحابة أو المتقدمين، فإنه على المذهب

الأول يكون إجماعا يأثم من خالفه، أما على المذهب الثاني فلا

يكون إجماعا، فلا يأثم من خالفه؛ حيث يعتبر ترجيح لأحد

القولين فقط.

***

المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز اتفاق علماء العصر على حكم معين بعد

اختلافهم في ذلك الحكم.

ص: 923

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأنه واقع، والوقوع

دليل الجواز:

فقد أجمعت الأُمَّة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد

الخلاف فيها.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز اتفاق علماء العصر على حكم بعد

اختلافهم فيه.

وهو مذهب أبي بكر الصيرفي وبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن اختلاف الأُمَّة في الحكم إجماع منهم على جواز الأخذ بأي

قول كان إذا أدَّى إليه اجتهاد مجتهد، فلو جاز الإجماع بعده امتنع

الأخذ بغير ما أجمعوا عليه فيلزم منه: رفع ما أجمعوا عليه أولاً،

وهو باطل.

جوابه:

إن الإجماع الأول كان مشروطا بعدم الاتفاق على واحد، فلما

اتفقوا زال شرط الإجماع الأول، فزال الإجماع الأول بزوال

شرطه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف كما هو واضح معنوي؛ حيث إنه لو اتفق العلماء بعد

اختلافهم، فإنه يكون إجماعا تحرم مخالفته هذا بناء على المذهب

الأول، أما على المذهب الثاني فإنه لا يكون إجماعاً، ولا ينطبق

عليه شروط الإجماع، فتجوز مخالفته.

ص: 924

المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز

لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ أو تقول: إذا اختلف مجتهدو

أهل عصر في حكم مسألة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم

أحداث قول ثالث؟

اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن القول الثالث إن لزم منه رفع ما اتفقا عليه،

فلا يجوز.

وإن لم يلزم منه ذلك، فإنه يجوز إحداثه ويُعمل به.

مثال الأول: " الجد مع الأخ في الإرث "

اختلف في ذلك على قولين: " قيل المال للجد "، و " قيل المال للجد والأخ يتقاسمانه "

فالقول بحرمان الجد قول ثالث خارق للإجماع فلا يجوز القول به.

مثال الثاني: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة - وهي: الجذام،

والجنون، والبرص، والرتق، والعنَّة - اختلف في ذلك على قولين:

" قيل: يفسخ بجميعها "، و "قيل: لا يفسخ بشيء منها "،

فالقول الثالث وهو: إنه يفسخ بالبعض دون البعض لا يرفع ما اتفق

الفريقان عليه؛ لأنه يوافق في كل صورة قولاً، فيجوز ذلك.

وهذا مذهب الإمام فخر الدين الرازي، والآمدي، وابن

الحاجب، والبيضاوي، وروي عن الإمام الشافعي، وهو اختيار

القرافي، وتاج الدين ابن السبكي.

وهو الحق عندي؛ لأن القول الثالث المحدث إذا كان رافعا لما

اتفق عليه الأولون يكون إحداثه مخالفا للإجماع؛ لأن اختلاف

الأولين يتضمن الإجماع على أن ما سواهما باطل، فمخالفة ذلك لا

تجوز، ولذلك منعنا من إحداثه.

ص: 925

أما إذا لم يكن ذلك القول الثالث المحدث رافعا لما اتفق عليه

الأولون، فلا يكون إحداثه مخالفا للإجماع، فلا مانع منه،

ويجوز؛ لأن المسألة تكون اجتهادية؛ فالمحذور وهو مخالفة الإجماع

لم يقع.

المذهب الثاني: أن إحداث قول ثالث لا يجوز مطلقا.

وهو مذهب كثير من العلماء.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن اختلافهم على القولين اتفاق منهم على عدم

القول الثالث، فلم يجز إحداثه، وإلا لزم مخالفة الإجماع.

جوابه:

إن القول الثالث المحدث إن لم يرفع القولين، فلا يلزم منه

مخالفة الإجماع، وإذا لم يخالف ما اتفق عليه، فلا مانع منه،

كما قلنا فيما سبق.

الدليل الثاني: لو جاز إحداث القول الثالث: للزم تخطئة

الفريقين القائلين للقولين، وهم كل الأُمَّة، فيلزم من ذلك تخطئة

كل الأُمَّة، وهو غير جائز.

جوابه:

إن الممتنع تخطئة كل الأُمَّة فيما اتفقوا عليه على قول واحد، أما

ما اختلفوا فيه فغير ممتنع، ونحن لما فصَّلنا في مذهبنا لم نخرج عن

القولين السابقين، لذلك لا يعتبر القول الثالث المحدث تخطئة مطلقا.

المذهب الثالث: أن إحداث قول ثالث يجوز مطلقا.

وهو مذهب بعض الظاهريهّ، وبعض الشيعة.

ص: 926

دليل هذا المذهب:

أن اختلاف الأولين في الحكم دليل على أن المسألة اجتهادية،

والمسألة الاجتهادية لا يمنع النظر فيها، حيث لم يوجد فيها إجماع

من السابقين، والقول الثالث حدث عن اجتهاد فيجوز.

جوابه:

إن الذي منعنا من ذلك هو: قول يلزم منه إبطال ما اتفقوا عليه

من القولين كما في مسألة: " الجد والأخ "، وما اتفقوا عليه ليس

من صور الخلاف، فلا يجوز فيه الاجتهاد، فتسويغ المختلفين

للاجتهاد في المسألة مقيد بأن لا يخرج الاجتهاد عن دائرة القولين

المتفق عليهما؛ لأن ما خرج عنهما باطل.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، وهو ظاهر من الأمثلة السابقة: فمن أحدث

قولاً ثالثاً، فإنه على المذهب الأول يجوز الأخذ به بشرط: أن لا

يلزم منه رفع القولين، فإن لزم منه رفع القولين، فلا يجوز الأخذ

به والعمل به.

أما على المذهب الثاني: فإنه لا يجوز أخذ القول الثالث والعمل

به مطلقاً، سواء رفع القولين أم لا.

أما على المذهب الثالث: فإنه يجوز أخذ القول الثالث والعمل به

مطلقا، سواء كان رافعا للقولين أم لا.

* * *

ص: 927

المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا

تأويلاً ولم يصرحوا بشيء، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل

أو تأويل آخر؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر

بشرط: أن لا يلزم من هذا الدليل أو التأويل القدح فيما أجمعوا

عليه.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين:

الدليل الأول: القياس على الاستدلال على مسألة لم يسبق أن

استدل عليها، بيانه: أنه كما أنه يجوز الاستدلال على مسألة لم

يسبق أن استدل عليها أو أُولت، كذلك هنا يجوز إحداث دليل أو

تأويل آخر، والجامع: أنه لا يلزم من هذا الاستدلال قدح في

إجماع قد سبق.

الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إنه ما زال علماء كل عصر

يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته، ولم

ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعاً.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر

مطلقاً.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) .

ص: 928

وجه الدلالة: أن لفظ " المعروف " عرف بـ " أل " المستغرفة للجنس،

أي: يأمرون بكل معروف، ولو كان الدليل أو التأويل الثاني معروفا

لأمروا به، وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفا، فكان منكراً.

جوابه:

إن الآية مشتركة؛ حيث إن قوله: (وتنهون عن المنكر) يقتضي

كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق، ولو كان

الدليل أو التأويل الثاني منكراً لنهوا عنه، ولم ينهوا عنه، فلا يكون

منكراً.

الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:

" لا تجتمع أمتي على الخطأ ".

وجه الدلالة: أن علماء الأُمَّة إذا ذهبوا عن الدليل والتأويل

الثاني، فلا يكون ذهابهم عنه خطأ، ولو كان دليلاً أو تأويلاً

صحيحا لكان الذهاب خطأ، وهو محال.

جوابه:

إن ذهاب علماء الأُمَّة عن الدليل أو التأويل الثاني مع صحته، إنما

يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم الأول.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا لفظي؛ لأن اتفاق علماء الأُمَّة على الحكم يُسمى

إجماعا عند أصحاب المذهبين، لكن أصحاب المذهب الأول استندوا

على دليل واحد، أما أصحاب المذهب الثاني فقد جعلوا الإجماع

هذا مستنداً إلى دليلين، أو تأويلين.

ص: 929

المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين، فهل

لمن بعدهم التفريق بينهما؟

اختلفت في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: التفصيل.

إن كان علماء العصر قد نصوا على عدم الفرق بين المسألتين فهنا لا

تجوز مخالفتهم، لأنهم أجمعوا على عدم الفرق، فالقائل بالفرق

مخالف لذلك الإجماع، وهو حرام.

أما إن كان علماء العصر لم ينصوا على عدم الفرق، فلا يخلو

من حالتين:

الأولى: إن علمنا اتحاد المسألتين في الجامع كتوريث العمة

والخالة؛ حيث إن العلماء اتفقوا على أنه لا فرق بينهما في التوريث

وعدمه بجامع كونهما من ذوي الأرحام: ففي هذه الحالة لا يجوز

الفصل والتفريق بينهما؛ لأنه يلزم من التفريق بينهما رفع مجمع

عليه.

الثانية: إن لم نعلم اتحاد المسألتين في الجامع، فإنه يجوز الفصل

بينهما؛ لأنه لايلزم من ذلك رفع شيء مجمع عليه.

ولو لم يجز - لمن بعدهم الفصل بين المسألتين في هذه الحالة -

لوجب على من وافق مجتهدأ في حكم الدليل: أن يوافقه في جميع

الأحكام، وهو باطل بالاتفاق؛ حيث إن من وافق الإمام أحمد،

أو الشافعي - مثلاً - في مسألة لا تجب عليه موافقته في جميع

المسائل.

وهذا المذهب هو اختيار كثير من العلماء منهم: أبو الوليد

ص: 930

الباجي، والباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، والإمام فخر الدين

الرازي، وأبو الحسين البصري، وأبو الخطاب، وكثير من الحنابلة.

وهذا هو الحق عندي؛ لما سبق من الدليل والتعليل.

المذهب الثاني: لا يجوز التفريق بينهما مطلقاً.

وهو مذهب القاضي عبد الجبار، وبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن الأوَّلين اتفقوا على اتحادهما في الحكم، فلو قلنا بجواز

التفريق بينهما: لزم مخالفة الإجماع، وهذا باطل.

جوابه:

إن عنيتم بقولكم: " اتحادهما ": أن العلماء نصُّوا على ذلك

الاتحاد، فنحن معكم في أنه لا تجوز المخالفة في تلك الحالة.

وإن عنيتم: أن فتواهم وافق في المسألتين من غير تعرض لشيء

آخر: فلا نسلم أن لا تجوز مخالفتهم، وهو محل النزاع.

المذهب الثالث: أنه يجوز التفريق بينهما مطلقا.

وهو مذهب أبي الطيب الطبري وبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن الإمام الثوري وهو سفيان بن سعيد بن مسروق، قال:

الجماع ناسيا يفطر، والأكل ناسياً لا يفطر، مع أن علماء الأُمَّة

الذين قبله لم يفصلوا بينهما؛ لأنه قد جمعتهما طريقة واحدة.

جوابه:

إن هذا موافق لما قلناه - فيما سبق - في مذهبنا الأول، وهو

ص: 931

التفصيل، لأن الأُمَّة - هنا - لم ينصوا على عدم الفرق بين المسألتين

ولم تتحد المسألتان بجامع معين، فجاز للثوري الفصل بينهما.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي؛ لأنه بناء على المذهب الثاني يعتبر عدم

التفريق بين المسألتين إجماعاً لا تجوز مخالفته، فلا يجوز التفريق

بينهما.

أما على المذهب الثالث: فإن عدم التفريق بين المسألتين لا يعتبر

إجماعاً وعليه فيجوز التفريق، ويقبل الاجتهاد كغيره من المسائل

الاجتهادية.

أما على المذهب الأول: ففيه التفصيل الذي قلناه.

المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق

علماء الأمة على عدم العلم به؟

فيه تفصيل:

أولاً: إن كان عمل علماء الأمَّة موافق لمقتضى ذلك الخبر أو

الدليل، ففيه مذهبان:

المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، وهو مذهب بعض العلماء.

وهو الصحيح " لأن علماء الأُمَّة غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر

لهم، ولم يبلغهم، فاتفاقهم واشتراكهم في عدم العلم لا يكون

خطأ، لأن عدم العلم ليس من فعلهم، وذلك كعدم حكمهم في

واقعة لم يحكموا فيها بشيء، فجاز لغيرهم أن يسعى في طلب ذلك

الدليل أو الخبر ليعلم.

ص: 932

المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك، وهو لبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن علماء الأُمَّة لو اشتركوا في عدم العلم به: لكان ذلك سبيلاً

لهم، ولوجب على غيرهم اتباعه وعدم تحصيل العلم به؛ لقوله

تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) .

جوابه:

إن عدم العلم لا يكون سبيلاً للمؤمنين؛ لأن السبيل: الذي

يختاره الإنسان من قول أو فعل، وعدم علمهم لم يختاروه، فلا

يكون سبيلاً لهم.

بيان نوع الخلاف:

يفهم من الخلاف هنا أنه لفظي؛ لأن العمل لا يختلف سواء علم

بالدليل أو الخبر، أو لم يعلم بهما.

ثانياً: أما إن كان عمل علماء الأُمَّة على خلاف الخبر أو الدليل،

فهذا محال بالاتفاق؛ لأنه يلزم منه إجماع الأُمَّة على الخطأ، - وهذا

مخالف للأدلة النقلية السابقة الذكر.

المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً وسكت

الباقون، أو أعلن بعض المجتهدين قولاً وسكت بقية أهل العصر

من المجتهدين سكوتا لا يستدل منه على رضا ولا على سخط،

فهل هذا يعتبر إجماعاً أو لا؟ " الإجماع السكوتي ":

لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها ثلاثة:

المذهب الأول: أنه يعتبر إجماعا وحُجَّة.

ص: 933

ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: أنه لو اشترط لانعقاد الإجماع أن ينص كل واحد

منهم على رأيه بصراحة لأدى ذلك إلى عدم انعقاد الإجماع أبداً؛

لأنه يتعذر اجتماع أهل كل عصر على قول يسمع منهم، والمتعذر

معفو عنه؛ ل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ،

والمعتاد في كل عصر أن يتولى كبار العلماء إبداء الرأي، ويُسلِّم

الباقون لهم، فثبت بذلك: أن سكوت الباقين دليل على أنهم

موافقون على قول من أعلن رأيه في المسألة، فكان إجماعاً وحُجَّة.

الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إن المجتهدين من التابعين إذا

حدثت حادثة بينهم، ولم يجدوا حكماً لها في نص، ووجدوا قولا

فيها لصحابي، وعلموا أن هذا القول قد انتشر، وسكت بقية

الصحابة عن الإنكار، فإن التابعين لا يجوزون العدول عن ذلك

القول، بل يعملون به؛ بناء على أنه قول قد أجمع عليه.

الدليل الثالث: قياس المسائل الاجتهادية على المسائل الاعتقادية،

بيان ذلك:

أنه قد ثبت أن العلماء قد أجمعوا على أن السكوت معتبر في

المسائل الاعتقادية، أي: سكوت الساكت في العقيدة يدل على

رضاه؛ لأنه لا يحل السكوت فيها على باطل، فيقاس عليها المسائل

الاجتهادية، والجامع: أن الحق واحد، فلا يحل له السكوت في

الأمور الاجتهادية إذا كان عنده بخلاف ما أعلن؛ لأن الساكت - عن

الحق شيطان أخرس؛ لأن الحكم لو كان عنده بخلافه: لكان

سكوته تركاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بخلاف ما

شهد اللَّه به لهذه الأمَّة من أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،

ص: 934

فلو تصور منهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأدَّى ذلك إلى

الخلف في كلامه سبحانه وتعالى، وهو محال، فوجب أن نحمل

سكوت الساكت على أنه موافق لما أعلنه ذلك المجتهد، وهو الذي

تدل عليه عدالته.

المذهب الثاني: أن ذلك ليس بإجماع ولا حُجَّة.

وهو مذهب داود الظاهري، وابنه محمد، وابن حزم،

والمرتضى، وينسب إلى القاضي الباقلاني وعزاه للشافعي، وممن

نسبه إلى الإمام الشافعي أيضاً كثير من الشافعية كالآمدي، وفخر

الدين الرازي، وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي،

واختاره الغزالي في " المستصفى "، والرازي في " المحصول "،

والبيضاوي في " المنهاج "، وغيرهم.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن مذهب المجتهد يعلم بقوله الصريح الذي لا

يتطرق إليه أي احتمال، أما سكوت الساكت فإنه يحتمل أنه سكت

لكونه راضيا بالحكم الذي أعلنه ذلك المجتهد.

ويحتمل أنه سكت، لأنه لم يجتهد في المسألة الحادثة، بل تركها.

ويحتمل أنه اجتهد فيها، ولكنه سكت؛ لأنه لم يتوصل إلى

حكم معين فيها.

ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم معين مخالف لرأي

المجتهد المعلن، ولكنه لم يظهره، تقية ومخافة.

ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد

المعلن، ولكنه سكت لعارض طرأ عليه لم يظهره لنا.

ص: 935

ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد

المعلن، ولكنه سكت، لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب.

ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد

المعلن، ولكنه سكت، لأنه يرى أن قول ذلك المجتهد جائزاً، وإن

لم يكن هو موافقاً عليه، بل كان يعتقد خطأه.

وإذا كان السكوت يحتمل هذه الاحتمالات، فلا يدل السكوت

على الرضا لا قطعاً، ولا ظاهراً، وهو معنى قول الإمام الشافعي

رحمه الله: " لا ينسب لساكت قول "، وإذا كان الأمر كذلك

فلا يكون سوتهم مع انتشار قول المجتهد المعلن له إجماعاً ولا حُجَّة.

جوابه:

إنه إذا سكت المجتهد بعد أن يعلن المجتهد الآخر رأيه مدة يستطيع

من خلالها التفكر في المسألة، فإن سكوته يدل على رضاه بذلك

الرأي المعلن، فيكون إجماعاً وحُجَّة.

أما الاحتمالات التي ذكرتموها فلا نسلمها، وإليك بيان ذلك:

أما الاحتمال الأول - وهو أنه سكت لعدم اجتهاده في المسألة -

فلا يقبل ولا يجوز؛ لأمرين:

أولهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة خلاف عادة العلماء

عند نزول الحوادث.

ثانيهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة يؤدي إلى خلو العصر

من حُجَّة اللَّه - تعالى -، لأنا إذا جوزنا أن يكون المجتهد المعلن

لرأيه قد أخطأ، والمجتهد الساكت لم يجتهد فقد خلا العصر من

حُجَّة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:

" لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يرد عليّ ".

ص: 936

أما الاحتمال الثاني - وهو: أنه اجتهد، ولكن لم يتوصل فيها

إلى حكم -.

فهذا بعيد؛ لأمرين هما:

الأمر الأول: أنه يبعد عدم وصول المجتهد إلى حكم معين في

تلك الحادثة مع توفر الدواعي للاجتهاد، وظهور الدلائل.

الأمر الثاني: أن احتمال عدم وصول المجتهد إلى حكم معين

يؤدي إلى خلو العصر عن القائم بحُجَة اللَّه تعالى؛ لأنا إذا فرضنا

أن يكون المجتهد المعلن لمذهبه قد أخطأ فيه، والجتهد الساكت لم

يصلِ إلى حكم معين فيها، فإنه يخلو العصر عن قائم لله تعالى

بحجته.

أما الاحتمال الثالث - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم

يظهره تقية - فهو بعيد؛ لأمرين:

الأمر الأول: أنه عرف من عادة المجتهدين الذين يفعلون مثل ذلك

أن يظهر قوله ورأيه عند ثقاته وخاصته، ثم بعد مدة قصيرة ينتشر

القول ويعرف.

الأمر الثاني: أنه إذا سكت حتى ينقرض العصر، فإما أن يموت

من يتقيه، أو يموت هو قبل من يتقيه.

فإن مات من يتقيه قبل الساكت، فيجب - حينئذ - على الساكت

أن يظهر قوله ورأيه، كما قال ابن عباس - حين توفي عمر -: إن

المال لا يعول "، فقيل له: لِمَ لم تقل ذلك في زمن عمر؛ فقال:

"هبته ".

وإن مات الساكت قبل من يتقيه فينعقد الإجماع.

ص: 937

أما الاحتمال الرابع - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم

يظهره لعارض - فهو بعيد - أيضاً -؛ لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا خلاف الظاهر من عادة العلماء وأهل الحق.

الأمر الثاني: أن سكوت المجتهد من أجل عارض غير معروف:

يؤدي إلى خلو العصر عن قائم لله تعالى بحجته؛ لأن هذا المجتهد

إذا سكت، وذاك المجتهد المعلن لرأيه قد أخطأ في رأيه، فإنه يخلو

العصر من حُجَّة.

أما الاحتمال الخامس - وهو: أنه سكت؛ لاعتقاده أن كل

مجتهد مصيب -.

والاحتمال السادس - وهو: أنه سكت؛ لأنه لا يرى الإنكار في

المجتهدات - فهما بعيدان - أيضا -؛ لأمرين:

الأمر الأول: أن من عادة من يعتقد أن كل مجتهد مصيب يأخذ

بمذهب، ويخالف غيره فيه، ويناظر غيره، ويبين أن مذهبه هو

الصحيح بخلاف مذهب غيره.

الأمر الثاني: أن هذا لم يقع ولم يوجد في عصر الصحابة، ولم

ينقل إلينا أن واحداً من الصحابة سكت عن الإنكار لهذين الفرضين،

حيث إن الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من

العلماء الذين سلكوا طريق النصح، وتركوا الغش كانوا ينكر

بعضهم على بعض، ويتناظرون، ويتجادلون لتحقيق الحق، وإبطال

الباطل كمناظرتهم في مسألة " الجد والإخوة " حتى أن ابن عباس

رضي الله عنه قال: " ألا يتقي اللَّه زيد يجعل ابن الابن ابنا،

ولا يجعل أب الأب أبا "، وقال معاذ لعمر - حين عزم على جلد

الحامل -: " إن جعل اللَّه لك على ظهرها سبيلاً، فما جعل الله

ص: 938

لك على ما في بطنها سبيلاً "، ومناقشاتهم في مسألة: " العول "،

و" التحريم "، و " دية الجنين "، وغيرها لا تخفى على أحد، فكل

هذا يدل دلالة واضحة على أن المجتهد لا يسكت عن شيء هو يعلم

خلافه، بل. يبين رأيه فيها دون إلزام.

فإذا كانت تلك الاحتمالات للسكوت بعيدة: فإن احتمال: أنه

سكت لموافقته ورضاه للقول المعلن هو الأقرب للصواب، فيكون

ذلك إجماعا، وإذا كان إجماعاً فهو حُجَّة.

الدليل الثاني: أنه لما قال ذو اليدين للنبي صلى الله عليه وسلم: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه؟

فنظر رسول اللَّه إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عن الجميع - وقال:

" أحقٌّ ما يقوله ذو اليدين؟ ".

وجه الدلالة: أن السكوت لو كان دليلاً على الموافقة لاكتفى به

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولما طلب من أبي بكر وعمر بيان ذلك بالنطق من غير حاجة، فدل ذلك على أن السكوت لا يدل على رضا الساكت، فلا يكون إجماعاً ولا حُجَّة.

جوابه:

إن أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة إنما سكتوا اكتفاء منهم

بكلام ذي اليدين؛ نظراً لكونهم مثله في عدم علمهم أيهما الذي

وقع أهو قصر الصلاة، أو النسيان؛، فلما نفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:" كل ذلك لم يكن "، وطلب منهما الجواب: كان لهم الكلام.

المذهب الثالث: أنه حُجَّة، وليس بإجماع.

وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، وصححه الصيرفي، واختاره

الآمدي، وهو أحد القولين عن الإمام الشافعي.

-

ص: 939

دليل هذا المذهب:

أن سكوت الباقين يدل دلالة ظاهرة على الموافقة فيكون قول ذلك

المجتهد المعلن مع سكوت الباقي من المجتهدين عن الإنكار - مع

قدرتهم على ذلك - حُجَّة يجب العمل به كخبر الواحد والقياس.

وإنما لم نقل إنه إجماع، لأن سكوت الباقي من المجتهدين يحتمل

تلك الاحتمالات الستة السابقة الذكر فأثرت على وصوله إلى درجة

الإجماع.

جوابه:

إن هناك قاعدة وهي: " أن كل احتمال لا يُعضد بدليل صحيح

فلا يُعتبر "، والاحتمالات الستة السابقة الذكر قد بينا بُعْدَها، وعدم

صحتها، فثبت من إبطالها: أن سكوتهم يدل على رضاهم بالقول

الذي أعلنه ذلك المجتهد - لا سيَّما وأنه لا مانع من إعلان

مخالفتهم - وإذا كان الأمر كذلك فيكون ذلك إجماعاً وحُجَّة.

تنبيه: هناك مذهب رابع وهو: التفصيل بين الفتوى والحكم:

فإن كان السكوت إثر فتوى مجتهد - فقط -: فهو إجماع؛ لعدم

سلطته، وإن كان السكوت إثر حكم حاكم فليس بإجماع.

وهناك مذهب خامس وهو: عكس الرابع.

وهناك مذهب سادس، وهو: التفصيل بين ما يفوت استدراكه،

وبين ما لا يفوت: فإن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو

استباحة فرج: كان سكوت الساكتين إجماعا، وإن وقع في غير

ذلك: كان سكوتهم حُجَّة فقط.

ص: 940

الجواب عن ذلك:

إن هذا التفريق لا دليل عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به "

وذلك لما قلناه فيما سبق.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في كثير من الفروع الفقهية،

حيث إنه لو أعلن مجتهد رأيه في مسألة معينة، ثم سكت بقية

المجتهدين - بدون عذر - ومضى وقت يمكنهم فيه النظر في المسألة،

فإن هذا يدل على أنهم موافقون على ذلك الرأي المعلن، فيكون

إجماعاً تحرم مخالفته، ولا يجوز الاجتهاد في تلك المسألة بعد

ذلك، حيث إن ذلك الرأي يكون ملزماً للجميع، هذا بناء على

المذهب الأول.

أما على المذهب الثاني، فتجوز مخالفة ذلك الرأي المعلن؛ لأنه

اجتهاد فرد أو جماعة لم يجمع عليه، ويجوز الاجتهاد في تلك

المسألة، لأنه رأي غير ملزم لأحد من المجتهدين.

أما على المذهب الثالث فهو حُجَّة يُقدَّم على غيره من الأدلة إذا

عارضه، ولكنه غير ملزم، فإن وجد دليل أقوى منه: قدم عليه؛

قياساً على الاحتجاج بخبر الواحد والقياس.

المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في

مسألة، فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب

القائل بالأقل؛ وهي " الأخذ بأقل ما قيل ":

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

ص: 941

المذهب الأول: أنه لا يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب

القائل بالأقل، أي: الأخذ بأقل ما قيل ليس متمسكا بالإجماع.

مثل اختلاف العلماء في دية الكتابي على ثلاثة أقوال هي:

1 -

" أن ديته مثل دية المسلم ".

2 -

أن ديته نصف دية المسلم.

3 -

أن ديته ثلث دية المسلم، وهو مذهب الإمام الشافعي.

فظن بعض الفقهاء أن الإمام الشافعي قال ذلك متمسكا في ذلك

بإجماع الأقوال الثلاثة عليه.

وهذا ليس بصحيح، أي: لا يصح أن يتمسك في إثبات أقل ما

قيل بالإجماع.

هذا ما ذهب إليه الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن أقل ما قيل -

وهو: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم - قد اشتمل على أمرين:

أولهما: إثبات الثلث، وثانيهما: نفي الزيادة.

أما الأول - وهو إثبات الثلث - فهو مجمع عليه.

وأما الثاني - وهو نفي الزيادة - فهو مختلف فيه؛ حيث إن

أصحاب القولين: الأول والثاني قد زادوا دية الكتابي على الثلث،

وأصحاب القول الثالث لم يزيدوا عن الثلث، فهنا وقع الخلاف،

وبناء على هذا لا يكون الآخذ بأقل ما قيل قد تمسك بالإجماع، وإنما

متمسك بدليل آخر غير الإجماع، قال بعض العلماء: إنه

الاستصحاب والبراءة الأصلية.

المذهب الثاني: أنه يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب

القائل بالأقل، أي: أن الآخذ بأقل ما قيل متمسك بالإجماع.

ص: 942

وهو اختيار بعض الفقهاء.

دليل ذلك:

إن دية الكتابي إما مثل دية المسلم، أو نصفه، أو ثلثه بالإجماع،

والكامل والنصف مشتمل على الئلث، فالقول بالثلث ثابت بالإجماع.

جوابه:

أنا معكم أن الثلث مجمع عليه، ولكن نفي الزيادة على الثلث لم

يكن مجمعا عليه، فالمجموع - من إثبات الثلث، ونفي الزيادة -

لم يكن مجمعا عليه فلا تصح دعوى الإجماع.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث إن التمسك بأقل ما قيل قد انبنى عليه

خلاف في بعض الفروع الفقهية ومنها دية الكتابي، جيث إن الإمام

الشافعي لما قال: إن دية الكتابي: ثلث دية المسلم قد تمسك بالأخذ

بأقل ما قيل، وهو المجمع عليه بين الأقوال الثلاثة السابقة الذكر في

دية الكتابي.

وكذلك فعل في دية المجوسي.

ص: 943