المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٢

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث في أدلة الأحكام الشرعية

- ‌المطلب الأول في تعريف الدليل

- ‌المطلب الثاني في هل الدليل شامل للقطعي والظني

- ‌الفصل الأول في الأدلة المتفق عليها إجمالاًَ

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الكتاب

- ‌المطلب الأول في تعريف القرآن

- ‌المطلب الثاني في القراءة الشاذة " غير المتواترة

- ‌المطلب الثالث في وجود المجاز في القرآن

- ‌المطلب الرابع في هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية

- ‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه

- ‌المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي

- ‌المطلب السابع في النسخ

- ‌المبحث الثاني في الدليل الثاني من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: السُّنَّة

- ‌المطلب الأول في تعريف السُّنَّة

- ‌المطلب الثاني في حجية السُّنَّة

- ‌المطلب الثالث في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينهوبين الإنشاء، وأقسامه

- ‌المطلب الرابع في خبر المتواتر

- ‌المطلب الخامس في خبر الواحد

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الإجماع

- ‌المطلب الأول في تعريف الإجماع

- ‌المطلب الثاني في إمكان الإجماع

- ‌المطلب الثالث في العلم بالإجماع والاطلاع عليه

- ‌المطلب الرابع في حجية الإجماع

- ‌المطلب الخامس في شروط الإجماع

- ‌المطلب السادس في أقسام الإجماع

- ‌المطلب السابع في الإجماعات الخاصة

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المتفق علها إجمالاًَ - وهو: القياس

الفصل: ‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه

‌المطلب الخامس في المحكم والمتشابه

ويشتمل على ما يلي:

المسألة الأولى: هل القرآن يشتمل على المحكم والمتشابه؟

المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة.

المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحاً.

المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟

ص: 503

المسألة الأولى: هل القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه؟

اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن القرآن مشتمل لما هو محكم، وما هو متشابه.

وهذا مذهب الجمهور من العلماء.

وهو الصحيح عندي؛ لدليلين:

أولهما: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ

مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .

ثانيهما: الوقوع؛ حيث وقع في القرآن ما هو محكم وعرفنا

معناه، وما هو متشابه لم نعلم معناه.

المذهب الثاني: أن القرآن كله محكم، ولا يوجد فيه متشابه.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، حيث صرح بأن جميع

آيات القرآن محكم، ولا توجد أيُّ آية متشابهة.

جوابه:

نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب قد أحكمت آياته في

نظمها، ووضعها، وفصاحتها، وبلاغتها، وجزالة ألفاظها حتى

بلغ حد الإعجاز، بحيث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثل

آية منه، ونحن لا نبحث في ذلك.

المذهب الثالث: أن القرآن كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

ص: 505

دليل هذا المذهب:

قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) ، حيث إن

هذه الآية دلت على أن الكتاب كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم.

جوابه:

نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب متشابه أي: أن بعضه

يصدق بعضه الآخر، وذلك لتشابه معانيه، فهو غير متناقض.

وهذا لا نبحث فيه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف بين المذاهب لفظي، لأنه اتضح خلال عرض أدلة المذهب

الثاني والثالث أنهم تكلموا وبحثوا في أمور ليس لها صلة فيما نحن

فيه، فهم في الحقيقة لم يخالفوا فيما نحن فيه.

***

المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة:

أولاً: المحكم لغة: المتقن، يقال: " أحكمت الشيء أحكمه

إحكاماً ": إذا أتقنته، فكان في غاية ما يبتغي من الحكمة، ومنه:

" بناء محكم " أي: متقن وثابت يبعد انهدامه.

وهذا هو أقرب المعاني اللغوية لمقصود الأصوليين للمحكم هنا.

وقيل: المحكم هو: الرد والمنع، يقال:" أحكمت " أي:

رددت ومنعت، وسمي الحاكم حاكماً: لمنعه الظالم من الظلم،

وسمي لجام الفرس حكمة؛ لأنه يمنع الفرس من الاضطراب.

ثانيا: المتشابه لغة: الملتبس بغيره، مأخوذ من الشَّبه - بفتح الشين

والباء - والشبيه هو: ما بينه وبين غيره أمر مشترك فيشتبه ويلتبس به.

ص: 506

المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحا:

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن المتشابه هو: ما ورد من صفات اللَّه تعالى في

القرآن مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله وتفسيره،

والتصديق بأنه لا يعلم تأويله إلا اللَّه تعالى كوصفه سبحانه بالاستواء

الوارد في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، واليد

الوارد في قوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، واليدين الوارد في قوله:

(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، والعين الوارد في قوله:(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ،

والوجه الوارد في قوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ، وغير ذلك من

الصفات التي اتفق السلف على إقرارها، وإمرارها على ما هي عليه،

وترك تأويلها كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن

الاستواء الوارد في الآية السابقة -: الاستواء معلوم، والكيف

مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلا يتعرض لهذه

الصفات بتأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تحريف.

أما المحكم فهو ما أمكن معرفة المراد بظاهره، أو بدلالة تكشف

عنه، أو بأي طريق من طرق المعرفة.

ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.

وهو الصحيح عندي، لقوله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .

وجه الدلالة: أن اللَّه ذم المبتغين لتأويل المتشابه ووصفهم بأنهم

ص: 507

يبتغون الفتنة، وسماهم أهل زيغ، ولا يذم إلا على تأويل الصفات

كما أجمع على ذلك السلف رحمهم الله.

فلو كان المقصود بالمتشابه غير ذلك لما ذم اللَّه المبتغين لتأويله.

المذهب الثاني: أن المحكم هو: الذي اتضح معناه للعلماء

وغيرهم من طلاب العلم.

والمتشابه هو: ما علمه العلماء المحققون المدققون، وغمض على

غير العلماء كالآيات التي ظاهرها التعارض.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء كابن عقيل.

ومثَّل أصحاب هذا المذهب ببعض الآيات التي ظاهرها التعارض،

إليك إياها مع الجواب عنها:

1 -

قالوا: إن قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) يعارض

قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .

جوابه:

يجاب عنه: بأن الآية الأولى تحمل على التوحيد بدليل قوله

تعالى بعدها: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، أما الآية الثانية

فإنها تحمل على أعمال وأفعال الجوارح.

2 -

قالوا: إن قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)

يعارض قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .

جوابه:

يجاب عليه بأن المراد بالآية الأولى: لا تكسب شراً ولا إثما،

فاقتصر في هذه الآية على الشر، بخلاف الآية الثانية؛ حيث ذكر

فيها الشر والخير معا، وذكر ما يميز بينهما.

ص: 508

3 -

قالوا: إن قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة)

يعارض قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) .

جوابه:

يجاب عنه بأنه لا تنافي بين الآيتين؛ حيث إن اللَّه تعالى نفى أن

يكلمهم في الآية الأولى كلام التلطف والإكرام، وأثبت سؤالهم في

الآية الثانية سؤال التوبيخ والإهانة.

4 -

قالوا: إن قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)

يعارض قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) .

جوابه:

يجاب عنه بأن المراد بالعدل في الآية الأولى: العدل بين الزوجات

في توفية حقوقهن المادية والزمانية، وهذا ممكن الوقوع وعدمه،

والمراد بالآية الثانية: الميل القلبي، فالزوج الذي له زوجتان فأكثر لا

يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض.

5 -

قالوا: إن قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) يعارض

قوله: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) ،

وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) .

جوابه:

يجاب عنه: بأنهم لا ينطقون بحجة نافعة ومفيدة، ومن نطق بما

لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق،

قال الحسن رحمهم الله: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون.

فهنا قد علم العلماء ما غمض على غيرهم، وفسَّروا ذلك

التعارض لغير العالمين، وذلك بواسطة الأدلة والبراهين، فهؤلاء

ص: 509

يُمدحون، ولا يُذمون؛ لأن فعلهم هذا هو الطريق لمعرفة الأحكام،

وبيان أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد

على أعداء الإسلام القائلين: إن القرآن فيه تناقض.

المذهب الثالث: أن المحكم هو: الواضح الجلي الذي لا يحتاج

إلى غيره لبيانه وتفسيره كالنصوص، والظواهر؛ حيث إن ذلك في

غاية الإحكام والإتقان.

أما المتشابه فهو المجمل الذي لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين

فهو يحتاج - لمعرفة معناه - إلى تأمل، وتفكر، وتدبر، وقرائن

تبينه وتزيل إشكاله.

ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، والقاضي أبو يعلى،

وتلميذه أبو الخطاب، وصحَّحه أبو إسحاق الشيرازي.

دليل هذا المذهب:

استدل هؤلاء بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .

وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - سمى المحكمات أم الكتاب،

وأم الشيء أصله الذي لم يتقدمه غيره كما قال الجوهري، فاقتضى

ذلك أن المحكم ما كان أصلاً بنفسه المستغني عن غيره، فلا يحتاج

إلى بيان.

أما المتشابه فهو ما خالف ذلك وهو: المفتقر إلى بيان، وهو

المجمل ونحوه مما لم يتضح معناه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن المجتهد إذا شرع في تأوبل المجمل وغيره مما لم يتضح معناه،

ص: 510

ورجح - بالأدلة - أن يكون المقصود بذلك اللفظ هو

ذلك المعنى، وذلك الحكم فإنه يمدح، ولا يذم؛ لأن تأويله وفعله

هذا طريق إلى معرفة الأحكام وتوضيحها للناس، وتمييز الحلال من

الحرام لهم، والعلماء قديماً وحديثاً اهتموا ببيان المراد من اللفظ

المجمل، فلو كان من المتشابه لما تعرضوا لذلك؛ لأنهم أعلم الخلق

بالنواهي الشرعية.

المذهب الرابع: أن المحكم: ما عرف معناه وتفسيره، والمتشابه

هو: الذي لم نعلم معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور مثل:

"ألم "، و " ص "، و " المص "، و " ن "، و " حم "، ونحو ذلك

مما لم يكن لأحد إلى علمه إلى سبيل مما استأثر اللَّه بعلمه دون خلقه.

روي ذلك عن جابر بن عبد اللَّه، وبعض التابعين كالشعبي،

وسفيان الثوري، ووصفه القرطبي بأنه أحسن - ما قيل في المتشابه.

جوابه:

يجاب عنه بأن اللَّه تعالى ذم من يتعرض لتأويل المتشابه - وذلك

في آية آل عمران السابقة - ولا يمكن أن يُذم من تعرض لبيان الحروف

المقطعة في أوائل السور، ويتلَمَّس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي

تتخرج عليها، والعلماء قد تعرضوا لذلك، واجتهدوا لبيأن معانيها،

واختلفوا في ذلك على أقوال:

فقيل: إن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسماء اللَّه،

فالكاف من " كاف "، والهاء من " هاد "، والعين من " عليم "،

والصاد من " صادق " من قوله تعالى: (كهيعص) .

وقيل: إنها ذكرت كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج

ص: 511

عنها جميع كلام العرب، تنبيهاً على أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم

وحروفهم.

وقيل: إن اللَّه تعالى أنزل هذه الأحرف مثل: " الم "،

و"كهعص "، و " ص "، وغيرها إبطالا لحساب اليهود، فإنهم

كانوا يحسبون هذه الأحرف حالة نزولها، ويردونها إلى حساب

الجمل، ويقولون: إن منتهى دولة الإسلام كذا، فأنزل اللَّه هذه

الأحرف تخبيطاً للحساب عليهم.

وقيل: إن تلك الحروف اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه

منها.

وقيل: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها، وحذفت بقيتها،

فالألف من " اللَّه "، واللام من " جبريل "، والميم من " محمد

صلى الله عليه وسلم "، وقيل غير ذلك

فلو كانت تلك الحروف المقطعة هي المتشابه، لما حرص العلماء

على بيان المراد منها، وتفسيرها؛ لأن العلماء يخشون اللَّه تعالى

ويخافونه أكثر من غيرهم، فلما تعرضوا لبيان المراد من تلك الحروف

اتضح أنها ليست من المتشابه الذي توعد اللَّه من يتعرض لتأويلها.

المذهب الخامس: المحكم هو: الوعد والوعيد، والحلال

والحرام، والأمر والنهي، والمتشابه هو: القصص والأمثال.

ذهب إلى ذلك بعض العلماء، كما أورده السيوطي في "الإتقان".

دليل هذا المذهب:

أن المحكم: ما استفيد الحكم منه، والوعد والوعيد ونحوه - مما

ذكر - نستفيد الحكم منه، والمتشابه: ما لا يفيد حكما، وهذا حال

القصص والأمثال.

ص: 512

جوابه:

نجيب عنه: بأن مَنْ بيَّن أحكاما شرعية مأخوذة من تلك القصص

والأمثال، فإنه يُمدح، ولا يُذم كمن استدل بقصة يوسف عليه

السلام على مشروعية الجعالة، وذلك من قوله تعالى:(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، وكمن استدل بقصة موسى مع شعيب

عليهما السلام على جواز جعل المنفعة مهراً، وذلك من قوله تعالى:

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) .

وهناك مذاهب أخرى في ذلك قد ذكرتها في كتابي " إتحاف ذوي

البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي؛ لأن كل أصحاب مذهب امتنع عن التعرض

للمتشابه بحسب اصطلاحهم؛ لئلا يكون داخلاً تحت الذم الذي

توعد اللَّه به من تعرض للمتشابه بالتأويل.

***

المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن المتشابه لا يمكن إدراكه، ولا يعلم تأويله إلا

الله تعالى.

ذهب إلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين، وهو مذهب جمهور

العلماء.

وهو الصحيح؛ لقوله تعالى:

ص: 513

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .

وجه الدلالة: أن الوقف الصحيح على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، والواو في قوله:(والراسخون) للابتداء والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا اللَّه تعالى، ولا يعلم غيره ذلك وإن كان من الراسخين في العلم.

الأدلة على ذلك:

لقد دلَّ على أن الوقف الصحيح على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) ما يلي

من الأدلة:

الدليل الأول: لفظ الآية ومعناها دلا على أن الوقف الصحيح

على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، وإليك بيان ذلك:

أما الدليل من لفظ الآية على أن الوقف الصحيح على قوله:

(إِلَّا اللَّهُ) فهو: أن اللَّه تعالى لو أراد عطف الراسخين على لفظ

الجلالة وهو " اللَّه " سبحانه وتعالى لقال: " ويقولون آمنا به " بزيادة

" واو "، حيث إن جملة (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في

العلم) تكون جملة واحدة، ولفظ " يقولون " مستأنفة، فكان لابد

من الواو، ولكنه لم يقل:" ويقولون " -، بل قال:" يقولون "

بدون " واو " مما يدل على أن عبارة (يقولون آمنا به) مرتبطة بما

قبلها، وليس لها إلا أن تكون خبر عن مبتدأ.، وهو (الراسخون)

فينتج من ذلك أن " الواو " في قوله (والراسخون) للابتداء

والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوقف يكون على قوله:

(إِلَّا اللَّهُ) .

ص: 514

أما. الدليل ممت معنى الآية على أن الوقف الصحيح على قوله

تحالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، فمن وجوه هي كما يلي:

الوجه الأول: أن اللَّه - في الآية - قد ذم مبتغي تأويل المتشابه

والمتبعين لذلك؛ حيث إنهم وصفوا بزيغ القلوب، وابتغاء الفتنة،

ولو كان تأويل المتشابه معلوماً للراسخين في العلم: لكان مبتغي

تأويله ممدوحاً غير مذموم، فلما ذم اللَّه تعالى مبتغي التأويل: عرفنا

أن سبب ذلك الذم هو: كونه يزاحم اللَّه فيما استأثر بعلمه، فينتج

من ذلك: أن اللَّه هو المتفرد بعلم المتشابه، لا يشاركه فيه أحد،

وهذا يثبت المطلوب، وهو: أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) .

الوجه الثاني: أن لفظة " أما " تأتي في اللغة لتفصيل الجمل،

فلابد أن يكون في سياقها قسمان، وهذان القسمان إما أن يصرح

بهما، أو يصرح بأحدهما، ويفهم الآخر تقديراً.

مثال الأول: قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) .

ومثال الثاني - وهو ما صرح بأحد القسمين دون الآخر - قوله

تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ، ولم يذكر القسم الثاني لدلالة المذكور عليه، فكأنه

قال: وأما من لم يؤمن ولم يعمل صالحاً فلا يكون من المفلحين.

والآية التي نحن بصددها من هذا القسم؛ حيث قال تعالى:

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، فهذا تمام القسم الأول، وذكْر هذا

القسم يدل دلالة واضحة على أن هناك قسماً آخر يخالفون من ذكروا

في هذا القسم - وهو القسم الثاني للفظة: " أما " تقديرة: وأما

ص: 515

غيرهم فيؤمنون بالتشابه ويقومون بتفويض معناه إلى اللَّه تعالى، دل

على ذلك قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)، فكأنه قال:" وأما الراسخون في العلم فيقولون "، ولو

كان الراسخون في العلم يعلمون ويفهمون تأويل المتشابه لما خالفوا

القسم الأول في ابتغاء التأويل ولكانوا قسماً واحداً.

الخلاصة: أن اللَّه تعالى قسمهم إلى قسمين: قسم اتبع ما تشابه

من الكتاب يبتغون تأويله، فذمهم اللَّه تعالى، وقسم آمنوا بالمتشابه

وفوضوا معرفته إلى اللَّه، وأن ما يعلم تأويل المتشابه إلا هو سبحانه

وتعالى، فهؤلاء مدحهم، وهذا يدل على أن الوقف على قوله:

(إِلَّا اللَّهُ) .

الوجه الثالث: قول الراسخين في العلم: (آمنا به) يدل دلالة

واضحة على أنهم فوضوا علم المتشابه إلى اللَّه تعالى، وسلموا ذلك

إليه سبحانه، وبينوا أن ذلك من علم الغيب الذي استأثر اللَّه بعلمه،

فيدل ذلك على أن الراسخين في العلم لم يدركوا معنى المتشابه،

فمعنى قوله: (آمنا به) أي: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق،

ولم يقل: والراسخون في العلم يقولون: علمنا به.

الوجه الرابع: قول الراسخين في العلم: (كل من عند ربنا)

بعد قولهم: (آمنا به) ؛ حيث إن ذلك يقوي ذلك التفويض،

والتسليم لأمره وإن لم يعلموا معناه.

والمراد من ذلك: أن الراسخين في العلم قالوا: إن المحكم الذي

أدركنا معناه، وفهمنا المراد منه، والمتشابه الذي لم نفهم معناه، ولم

ندرك المراد منه كلاهما من عند اللَّه، فنحن نؤمن بهما معاً، دون أن

ص: 516

نفرق بين ما علمنا وبين ما لم نعلم، إلا أن المحكم نؤمن به عن فهم

وإدراك المراد، أما التشابه فإنا نؤمن به عن تفويض وتسليم.

الدليل الثاني - من الأدلة على أن الوقف الصحيح على قوله:

(إلا الله) - ما روي عن بعض الصحابة من القراءات التي تدل على

أن الوقف الصحيح على قوله: (إلا الله) ؛ حيث روي عن ابن

عباس أنه قرأ: " وما يعلم تأويله إلا اللَّه ويقول الراسخون في العلم

آمنا به "، وروي عن أبي أنه قرأ: " ويقول الراسخون في العلم آمنا

به "، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: " إن تأويله إلا عند الله

والراسخون يقولون ".

وهذه الروايات عن هؤلاء الصحابة إن ثبتت أنها قراءة فهي حُجَّة -

كما قلنا فيما سبق - وإن لم تثبت قراءة فهي خبر، وإن لم يثبت

ذلك فهي تفسير من صحابي فيقبل؛ حيث إن كلامه يقدم - في

الشرع - على من هو دونه؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل،

وحضروا النبي صلى الله عليه وسلم فهم أعلم من غيرهم في ذلك.

المذهب الثاني: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه،

ويدركون معناه.

روي ذلك عن مجاهد والضحاك، وذهب إليه أبو إسحاق

الشيرازي، والمعتزلة، وأبو الحسن الأشعري، والآمدي، والنووي،

وابن الحاجب.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا

الله والراسخون في العلم يقولون) ، حيث قالوا: إن " الواو " في

قوله: (والراسخون) عاطفة، فعلى هذا يكون الراسخون في

العلم يعلمون تأويله؛ إذ لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون

ص: 517

المتشابه لما كان لهم على العامة فضيلة ومزية؛ لأن كلًّا من الراسخين

في العلم والعامة يقولون: (آمنا به) .

جوابه:

نجيب عن ذلك بأن اللَّه تعالى قد جعل للراسخين في العلم فضيلة

ومزية عن طريق علمهم بالآيات المحكمة، وفهمهم لها وبيانها للناس،

وتوضيح ما التبس منها لهم، ولهم أجر على ذلك كما هو معلوم،

ثم إن الراسخين في العلم قد علموا ما ورد عن اللَّه سبحانه وتعالى،

دون الوقوف على كنه ذاته وصفاته، ولم يخرجهم ذلك عن كونهم

من الراسخين في العلم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ وذلك لأن هذا الخلاف راجع إلى

مقصد، ومراد كل من الطرفين، فأصحاب المذهب الأول - وهم

القائلون: إن الراسخين في العلم لا يعلمون المتشابه - أرادوا بذلك:

أنهم لا يعلمون حقيقة المتشابه، وإنما ذلك إلى اللَّه تعالى.

وأصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إنهم يعلمون تأويل

المتشابه - أرادوا بذلك أنهم يعلمون ظاهره، ولا يعلمون حقيقته.

فالاتفاق حاصل على أن الراسخين في العلم لا يعلمون حقيقة

المتشابه؛ لأن علم ذلك قد استأثر اللَّه به.

قال ابن تيمية رحمه الله: " وكلا القولين حق، فمن قال:

لا يعلم تأويله إلا اللَّه فمراده: ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي

لا يعلمها إلا اللَّه، ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون

التأويل فالمراد به: تفسير القرآن الذي بيَّنه الرسول والصحابة ".

ص: 518