الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع في النسخ
النسخ يلحق الكتاب والسُّنَّة معاً، ولكن جعلناه من مباحث القرآن؟
لأنه أخص به بسبب إشكاله وغموضه بالنسبة إليه.
وقد شمل الكلام عن النسخ المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريفه لغة.
المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، أو العكس؟
المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحاً، واختلاف العلماء هل هو
رفع أو بيان؟
المسألة الرابعة: شروط النسخ.
المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص.
المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص.
المسألة السابعة: هل النسخ جائز عقلاً؟
المسألة التامنة: هل النسخ جائز شرعا؟
المسألة التاسعة: حكمة النسخ.
المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة.
المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام التي لا
يتناولها.
المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها وبالعكس
ونسخهما معا؟
المسألة الثالثة عشرة: النسخ قبل التمكن من الفعل.
المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ أو لا؟
المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء من أجزاء العبادة، أو شرط من
شروطها.
المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل.
المسألة السابعة عشرة: النسخ با لأخف، والمساوي، والأثقل.
المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ بعض الأمة فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟
المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن.
المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة.
المسألة الحادية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد.
المسألة الثانية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة.
المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُنَّة بالقرآن.
المسألة الرابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّئة المتواترة.
المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة
بخبر الواحد؟
المسألة السادسة والعشرون: هل يكون الإجماع منسوخا؟
المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟
المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟
المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسحْ حكم
الفرع تبعا لذلك؟
المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخا ومنسوخا؟
المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يفع منسوخا؟
المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع ناسخا؟
المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ.
المسألة الأولى: تعريف النسخ لغة:
النسخ لغة يطلق على إطلاقين هما:
الإطلاق الأول: يطلق ويراد به الإزالة والرفع، ومنه قولهم:
"نسخت الشمس الظل "، أي: أزالته ورفعته، وهذا مثال النسخ
إلى بدل.
ومنه أيضاً قولهم: " نسخت الريح الأثر " أي: رفع الريح آثار
القوم وأزالتها، وهذا مثال النسخ إلى غير بدل.
الإطلاق الثاني: النسخ يطلق ويراد به لغة النقل مع بقاء الأول،
ومنه قولهم: " نسخت الكتاب " أي: نقلت ما فيه، مع بقاء
الأصل.
***
المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل أو العكس؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة
بالاشتراك المعنوي.
ذهب إلى ذلك ابن المنير في " شرح البرهان ".
بيان الاشتراك المعنوي هنا:
أن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب قدراً مشتركاً، وهو:
الرفع؛ حيث إن الرفع في نسخ الظل واضح؛ لأنه زال بضده.
أما الرفع في نسخ الكتاب فهو مقدر؛ حيث إن الكلام المنقول
بالكتابة لم يكن مستفاداً إلا من الأصل، فكان للأصل بالإفادة
خصوصية، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية، وارتفاع
الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع.
وهذا المذهب هو الحق عندي، لسلامته من المجاز، ومن
الاشتراك اللفظي اللذين هما على خلاف الأصل، بيان ذلك:
أن المجاز خلاف الأصل، لأنه يحتاج إلى قرينة عند استعمال
المعنى المجازي تمنع من استعماله في المعنى الحقيقي، بينما الحقيقة لا
تحتاج إليها، لأن الأصل في الكلام الحقيقة.
كذلك الاشتراك اللفظي خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد
الوضع، ولأن الاشتراك اللفظي يحتاج إلى قرينة ترجح أحد معنييه.
فيكون النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة بالاشتراك المعنوي،
لأنه لا يحتاج إلى قرينة، فإذا دار اللفظ بين الاشتراك اللفظي
والاشتراك المعنوي قدم الاشتراك المعنوي، لأنه هو الأصل، لأن
الأصل عدم تعدد الوضع ولعدم احتياجه إلى قرينة، وإذا دار اللفظ
بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة، لأنها هي الأصل، والمجاز
خلاف الاءصل.
المذهب الثاني: أن النسخ يطلق حقيقة على الإزالة، ويطلق على
النقل مجازاً.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم: فخر الدين الرازي،
والبرماوي وغيرهما.
دليل هذا المذهب:
أن النسخ مستعمل في إطلاقين هما: "الإزالة" و " النقل "،
ولا ثالث لهما، فإذا كان إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم:
"نسخت الكتاب " مجازاً؛ لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، بل
نقل مجازاً: لزم أن يكون حقيقة في الإزالة؛ لأنه إذا بطل كونه
حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر.
المذهب الثالث: أن النسخ يطلق عليهما حقيقة بالاشتراك اللفظي.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والقاضي
عبد الوهاب المالكي.
دليل هذا المذهب:
أن النسخ استعمل في الإزالة والنقل، وأطلق عليهما معا في لسان
العرب، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وليس أحدهما بأوْلى من
الآخر.
الجواب عن المذهبين السابقين:
نجيب عنهما: بأن المجاز والاشتراك اللفظى خلاف الأصل - كما
بينا فيما سبق - فلا يقاوم ذلك الاشتراك المعنوي؛ لأنه موافق
للأصل، وقد سبق بيان ذلك.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي؛ لعدم تأثيره في الفروع الفقهية.
***
المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحا، واختلاف العلماء
هل هو رفع أو بيان؟
لقد ذكر العلماء تعريفات للنسخ، ومن أهمها:
التعريف الأول: أنه: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه.
اختار ذلك: القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وأبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والتبريزي.
وهو الحق عندي؛ لكونه جامعاً مانعاً، وإليك بيان وشرح ذلك:
إن هناك حكماً قد ثبت بخطاب شرعي متقدم، فجاء خطاب آخر
من الشارع - فجأة - وهو متأخر عن الأول فرفع ذلك الحكم مثل:
أن اللَّه تعالى حكم بأن عدة المتوفى عنها زوجها حول كامل، وذلك
بخطاب شرعي وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بعد ذلك بزمن
رفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه، وهو قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
فالرفع هو إزالة ذلك الحكم على وجه لولا هذا الرفع لبقي الحكم
ثاشاً مستمراً يعمل به.
فالنسخ - إذن - قطع لدوام الحكم فجأة، لا بيان انتهاء مدته.
وهناك فرق بين قطع دوام الحكم، وبين انتهاء المدة، يتبين ذلك
الفرق إذا فرقنا بين فسخ الإجارة، وانقضاء مدتها، بيان ذلك:
الإجارة هي: عقد على منفعة لسنة كاملة - مثلاً - فإذا رفعت
الإجارة بالفسخ، فإن ذلك يغاير زوالها بانقضاء مدتها؛ لأن فسخ
الإجارة: قطع لدوامها لسبب خفي عن المتعاقدين عند ابتداء العقد.
أما إنقضاء مدة الإجارة فهو ارتفاع حكمها لسبب قد علمه
المتعاقدان عند ابتداء العقد وهو: " انقضاء الأجل "، وهو انتهاء
السنة.
فلو استأجر منزلاً لسنة كاملة، فإن المستأجر والمؤجر يعلمان - عند
ابتداء العقد - أنه عند انتهاء السنة سيرتفع حكم الإجارة، ولو انهدم
المنزل في أثناء السنة فإن للمستأجر الفسخ مع عدم علمه عند ابتداء
العقد بانهدام المنزل.
فكذلك يقاس على ذلك نسخ الحكم، وهو قطع دوام الحكم،
لا بيان انتهائه.
فنسخ الحكم فجأة مثل فسخ الإجارة.
أما انتهاء مدة الحكم فإنه لا يسمى نسخا، كما أن انقضاء مدة
الإجارة لا يسمى فسخا.
ولقد عبرنا بلفظ " الثابت " لبيان أنه يشترط في الحكم الأول أن
يكون ثابتا، لأن ما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه؛ لأنه أصلا لم
تنشغل الذمة به.
ولقد عبرنا بلفظ " الخطاب " ولم نعبر بلفظ " النص "؛ لأن لفظ
" الخطاب " شامل للفظ، والفحوى، والمفهوم؛ لأن النسخ يجوز
بجميع ذلك.
وعبرنا بلفظ " رفع الحكم " ولم نعبر بعبارة: " رفع الأمر والنهي "
وذلك ليتناول الأمر والنهي والخبر، وجميع أنواع الحكم من واجب
ومندوب ومكروه ومباح وحرام، فإن جميع ذلك قد ينسخ.
وقد قيدنا التعريف بالخطاب المتقدم؛ لبيان أنه إذا زال حكم العقل
بإيجاب العبادات ابتداء كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك، فإن هذا
لا يسمى نسخاً؛ لأن الحكم المرفوع - وهو حكم العقل، أو حكم
النفي الأصلي - لم يكن ثابتا بخطاب من الشارع متقدم، بل هو
ثابت بالأصل؛ لأن الأصل براءة الذمة.
وقيدنا التعريف بالخطاب المتأخر للاحتراز من زوال الحكم بدون
خطاب كالموت والجنون؛ لأنه من المعلوم: أن من مات أو جن فإن
التكاليف ترتفع عنه، ولا يسمى ذلك نسخاً؛ لأن رفع الحكم عنهما
لم يكن بخطاب، بل بسبب الموت والجنون.
وقلنا: " بخطاب متأخر عنه " لبيان أنه يشترط: تأخر الخطاب
الثاني - وهو الناسخ - عن الخطاب الأول المثبت للحكم الأول
المنسوخ.
واشتراط التأخر - هنا - لإخراج المخصِّصات المتصلة، كالشرط،
والغاية، والاستثناء.
مثال الشرط قولك: " أنت طالق إن دخلت الدار "، فإن قولك:
" إن دخلت الدار " شرط قد رفع حكم عموم وقوع الطلاق الذي
دلَّ عليه قوله: " أنت طالق "، وهذا لا يسمى نسخا وإن كان رفعا
لحكم بخطاب؛ لأن الخطاب غير متأخر.
ومثال الغاية قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، فإن
مجيء الليل لا يكون نسخاً للصوم؛ لأنه وإن كان رفعاً لحكم
بخطاب إلا أن هذا الخطاب غير متأخر، بل هو متصل، فهو قد
انتهى بانتهاء غاية الحكم وانقضاء وقته.
ومثال الاستثناء قولك: " أنت طالق ثلاثا إلا واحدة "، فإن هذا
الاستثناء قد رفع عموم الطلاق الثلاث حتى ردَّه إلى اثنتين، فهذا
رفع لحكم بخطاب، ولكن لا يسمى نسخاً؛ لأن الخطاب غير
متأخر عنه، بل هو متصل.
الحاصل: أنه يكون الخطاب الرافع ناسخا إذا ورد هذا الرافع بعد
أن ثبت الحكم المراد نسخه واستقر، بحيث يدوم لولا هذا الرافع.
أما إذا اتصل الرافع بالمنسوخ، فإنه يكون بيانا وإتماماً لمعنى
الكلام.
اعتراض على هذا التعريف:
قال كثير من المعتزلة: إن تحديد النسخ بـ " الرفع " لا يصح؟
لأدلة هي كما يلي:
الدليل الأول: قالوا: إن النسخ بمعنى الرفع يدل على البَداء -
وهو: الظهور بعد أن لم يكن - والبَداء محال في حق اللَّه تعالى؟
حيث إننا لو قلنا به في حق اللَّه تعالى فإنه يلزم منه: أن اللَّه لما حكم
بشيء بدا له وظهر له - فيما بعد - أن هذا الحكم خطأ ثم ندم عليه
وهذا محال في حق اللَّه تعالى.
جوابه:
نجيب عنه بثلاثة أجوبة هي كما يلي:
الجواب الأول: أنا نقطع بعدم لزوم البَداء من رفع الحكم،
وذلك لأنا نقطع بكمال علم اللَّه تعالى، والبَداء ينافي كمال العلم؟
لأنه يستلزم الجهل المحض، لأن البَداء - كما قلنا - هو: ظهور
الشيء بعد أن كان خافياً.
الجواب الثاني: نحن لا نقول: إن اللَّه تعالى كان قد خفي عليه
شيء في الأول وظهر في الثاني، وإنما نقول: إنه خاطب بهذا
الخطاب وهو يعلم بأنه سيسقطه عن العباد بعد مدة من الزمان، فهو
سبحانه علم أن مصلحة العباد تقتضي هذا الحكم في هذا الزمان بعينه
وهو مفسدة لهم في زمن ثاني، فلما انتهى الزمن الأول رفع ذلك
الحكم عنهم، وهذا ليس ببداء.
الجواب الثالث: أن اللَّه سبحانه خلق الخلق على صفات مختلفة،
فخلق الإنسان على صفة ثم نقله إلى صفة أخرى؛ حيث إنه خلقه
طفلاً ثم رجلاً ثم شيبة، فإذا كان يفعل ذلك وهو لا يسمى بَداءً،
فإن ما نحن فيه مثله، حيث إنه أنزل علينا حكما فعملنا به مدة، ثم
نقلنا إلى حكم آخر فلا يسمى ذلك بَداء.
الدليل الثاني: قالوا: إن خطاب اللَّه تعالى قديم، والقديم لا
يصح رفعه، لأن الرفع نقل وإزالة وتغيير، وكل ذلك محال على
القديم.
جوابه:
نجيب عنه: بأنه ليس معنى النسخ رفع الخطاب نفسه، بل المراد
بالنسخ: رفع وقطع تعفُق الخطاب بالمكلَّف؛ قياسا على المكلف إذا
طرأ عليه طارئ مثل: أن يصاب بجنون، فإن تعلق الخطاب بهذا
المكلف يزول بسبب هذا الطارئ، ثم إذا زال الجنون وأصبح قادراً
على القيام بما كلف به عاد إليه تعلق الخطاب به، فالخطاب نفسه لم
يتغير، حيث إنه باق على ما هو عليه من حيث ذاته، فالجنون
- مثلاً - سبب من جهة المخاطب بقطع تعلق الخطاب عنه.
فكذلك النسخ سبب من جهة المخاطب بقطع تعلُّق الخطاب بهؤلاء
المكلَّفين.
الدليل الثالث: قالوا: إن تحديد النسخ بالرفع يؤدي إلى تناقض
الله في أحكامه، حيث إنه من جهة إثبات الحكم فإنه قد أمر به وأراد
وجوده وشرعه، ومن جهة رفع الحكم فإنه قد نهى عنه، ولم يرد
وجوده ولا شرعه.
فلزم من ذلك: أن يكون الحكم الواحد مراداً وغير مراد ولا معنى
للتناقض إلا هذا.
جوابه:
نجيب عنه: بأن هذا مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهذا
باطل؛ لأن الأمر - عندنا - يفارق الإرادة بدليل: أن اللَّه - تعالى -
قد أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر
إبليس بالسجود ولم يرده منه؛ لأنه لو أراد ذلك لوقع؛ فإن الله
تعالى فعال لما يريد.
فالله تعالى قد يأمر بالشيء ولا يريد وقوع ووجود المأمور به، فلا
تناقض بين الأمر بالشيء وكونه غير مراد الوقوع والوجود.
الدليل الرابع: قالوا: إن الحكم المنسوخ إنما أثبته اللَّه تعالى لحسنه
وصلاحيته للمكلَّفين فيمتنع رفعه، لأن رفعه - بالنهي عنه - يلزم منه
أن ينقلب الحسن قبيحا، لأنه لولا قبحه وعدم صلاحيته لما رفع.
جوابه:
نجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن هذا مبني على قاعدة وهي: " التحسين والتقبيح
العقليين " وهي باطلة عندنا، لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات،
فالشارع هو اللَّه تعالى، فما أمر به يكون حسنا، وما نهى عنه يكون
قبيحاً.
ثانيهما: أن الشيء قد يكون حسنا في وقت، وقبيحاً في وقت
آخر، فإذا أمر اللَّه تعالى في هذا الوقت بحكم فإنه يكون حسنا وفيه
مصلحة للعباد، وإذا نهى عنه في وقت آخر يكون قبيحاً وفيه مفسدة
على العباد، وهذا ليس فيه انقلاب الحسن إلى القبيح لمن دقق فيه.
التعريف الثاني: أن النسخ: النص الدال على انتهاء أمد الحكم
الشرعي مع التأخير عن مورده.
اختاره: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين، وفخر
الدين الرازي، والقرافي، وجماعة من المعتزلة، ونسب إلى الفقهاء.
شرح التعريف:
إن الحكم المنسوخ مغيا بغاية معينة ينتهي إليها، وله مدة معلومة
محدودة، فإذا جاءت تلك الغاية ينتهي العمل به بذاته، والنسخ
كشف هذا الانتهاء.
فأصحاب هذا التعريف يجعلون النسخ بيانا، أي: أن الخطاب
الثاني بين وكشف أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مراداً من
الخطاب الأول، كما أن التخصيص في الأعيان كذلك.
سبب اختيار هؤلاء لهذا التعريف:
إن هؤلاء اختاروا هذا التعريف وعدلوا عن التعريف الأول لسبب
وهو: أن الحكم راجع إلى كلام اللَّه - تعالى - وهو قديم،
والقديم لا يرفع ولا يزال.
جوابه:
نجيب عنه بأن المرفوع ليس نفس الخطاب، بل إن المرفوع هو
تعلق الخطاب بالمكلف فقط، وقد بيَّنا ذلك فيما سبق.
* ما يمكن الاعتراض به على هذا التعريف:
يعترض على هذا التعريف بما يلي:
الاعتراض الأول: أن هذا التعريف قد جعل النسخ تخصيصا
زمانياً.
أي: أن الخطاب الثاني قد كشف وبيَّن أن الأزمنة بعده لم يكن
ثبوت الحكم فيها مراداً من الخطاب الأول، كما أن التخصيص في
الأعيان كذلك، ومعلوم أن النسخ يختلف عن التخصيص كما سيأتي
بيان ذلك إن شاء اللَّه.
الاعتراض الثاني: أن التعريف غير جامع لأفراد المعرف؛ لأنه لا
يشمل " النسخ قبل التمكن من الفعل والامتثال "؛ لعدم دخول وقته؟
حيث إن عبارة: "
…
الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي "
تشعر بأن الحكم الذي بين أمده قد دخل وقت العمل به، فيكون
الفعل الذي لم يدخل وقت العمل به غير داخل في التعريف.
ومقتضى هذا: أن النسخ قبل التمكن من الفعل غير جائز، وهذا
مخالف للقول الحق، وهو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل
ووقوعه كنسخ أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، ونسخ
الخمسين صلاة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.
بيان نوع الخلاف في هذا:
أصحاب التعريف الأول قالوا: إن النسخ رفع، وأصحاب
التعريف الثاني قالوا: إن النسخ بيان فما نوع هذا الخلاف؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن الخلاف لفظي؛ لاتفاق
الفريقين على أن الحكم الأول له انعدام، وتحقق انعدامه لانعدام
متعلقه، لا لانعدام ذات الحكم.
ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد أن
يكون منافياً للأول؛ وأن وجوده يتحقق عدم الأول.
ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أنه ليس كل الأحكام مؤقتة في
علم اللَّه، وأنه ليس كل الأحكام مؤبدة، فلا يمكن لأحد الفريقين:
أن يجزم بأنها مؤبدة، أو مؤقتة مطلقاً؛ فلا يستطيع أحد أن يقول:
إن الخطاب المطلق في علمه تعالى كان مقيداً بالدوام، أو يقول:
كان ذلك الخطاب مخصصا ببعض الأزمنة.
ثم إن أصحاب التعريف الثاني - وهم القائلون: إن النسخ بيان -
قد جوَّزوا نسخ الحكم المؤقت قبل مجيء وقته - كما سيأتي بيانه -
وهذا لا يمكن إلا إذا كان رفعاً.
فالحكم الشرعي له عمر عند اللَّه تعالى مقدّر، وأجل معين،
والله تعالى يعلم هذا الأجل، فإذا جاء ذلك الأجل أنزل حكما
اَخر، وارتفع الحكم الأول، فالحكم المنسوخ قد مات بأجله، وذلك
بإماتة اللَّه تعالى له، وبيان وظهور الإماتة ليس إلا بهذا الرفع.
فيكون في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي
كان معلوماً عند اللَّه تعالى، إلا أنه أطلقه، فصار ظاهر البقاء في
حق البشر، فكان تبديلاً - في حقنا، بيانا في حق الشارع.
أو تقول - في تعليل كون الخلاف لفظيا -: إن القائلين بأن
النسخ رفع يثبتون معه بيانا، وأن القائلين بأن النسخ بيان يثبتون معه
رفعاً؛ وذلك لأن القائلين بأنه بيان لا ينازعون في أن الحكم المنسوخ
كان قبل النسخ ثابتا، وهو بعد النسخ غير ثابت، وإنما أنكروا رفعا
يناقض الإثبات ويجامعه.
والقائلون بأن النسخ رفع لا ينازعون في أن المكلَّفين كانوا على
ظن بأن الحكم لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم
النسخ، ثم تبيَّن لهم بالنسخ أن اللَّه - تعالى - أراد من الأول نسخه
في الزمان المخصوص؛ لأن الإرادة قديمة ولا بد منها اتفاقا، فالتقى
المذهبان.
***
المسألة الرابعة: شروط النسخ:
لعله قد اتضح لك من شرحنا للتعريف الأول وهو الذي اخترناه
الشروط التي ينبغي أن تتوفر في النسخ، وإليك أهمها:
الشرط الأول: أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بخطاب متقدم.
أما الحكم الثابت بدليل العقل أو البراءة كان يتعارف الناس على
شيء فيفعلونه كاستباحتهم الخمر في أول الإسلام على عادة كانت
لهم فرفع ذلك، فإن ذلك ليس بنسخ؛ لأنه لم يثبت بخطاب متقدم.
الشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ مطلقا لم يُحدد بمدة
معلومة، فيأتي الناسخ فجأةً دون انتظار من المكلَّفين.
الشرط الثالث: أن يكون الناسخ خطابا شرعيا، فإن ارتفع الحكم
بموت المكلَّف، أو جنونه، أو غير ذلك من عوارض الأهلية فليس
هذا بنسخ، وإنما سقط التكليف بسبب ذلك العارض.
الشرط الرابع: أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخر عنه،
فإن كان النص قد اقترن بعضه ببعض كالشرط، والغاية، والاستثناء،
فليس بنسخ؛ حيث يكون تخصيصا.
وهناك شروط مختلف فيها سنذكرها أثناء بحث المسائل التفصيلية
للنسخ.
المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص:
النسخ قد سبق تعريفه وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم،
بخطاب متأخر عنه.
أما التخصيص فهو: " قصر اللفظ مطلقا على بعض مسماه "،
أو تقول: " هو قصر العام على بعض مسمياته "، أو هو: إخراج ما
تناوله الخطاب عنه ".
فإذا دققنا النظر في تعريف النسخ وتعريف التخصيص، فإنا نجد
أنهما يشتركان ويتفقان في أن كل واحد منهما يوجب إخراج بعض ما
تناوله اللفظ لغة، أي: أن كلًّا منهما فيه قصر للحكم على بعض
مشتملاته إلا أن النسخ: قصر للحكم على بعض الأزمان،
والتخصيص: قصر للحكم على بعض أفراده.
***
المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص:
مع اتفاقهما - فيما سبق - إلا أن بينهما فروقا هي كما يلي:
الفرق الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم - وهو
المخصوص - لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
بخلاف النسخ، فإنه يدل على أن ما خرج - وهو المنسوخ - لم
يرد التكليف به، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
الفرق الثاني: أن النسخ يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخراً عن
المنسوخ بخلاف التخصيص، فلا يشترط ذلك فيه: فيجوز أن يكون
المخصِّص مقترنا مع العام كالتخصيص بالصفة، والشرط، والغاية،
والاستثناء، ويجوز أن يكون المخصِّص متأخراً عن العام.
الفرق الثالث: أن التخصيص لا يدخل ولا يرد على الأمر بمأمور
واحد مثل: " أكرم زيداً "؛ لأنه لا يكون إلا من متعدد.
بخلاف النسخ، فإنه يجوز وروده على الأمر بمأمور واحد كما
نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام.
الفرق الرابع: أن التخصيص تبقى معه دلالة اللفظ العام على ما
تحته حقيقة على رأي الجمهور، أو مجازاً على رأي أبي ثور وعيسى
ابن أبان فيما عدا الصورة المخصَّصة، بخلاف النسخ فلا يبقى معه
دلالة اللفظ على ما تحته.
أي: أن العام يبقى حُجَّة فيما بقي بعد التخصيص، فلا يخرج
العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقل الزمان، فإنه يبقى معمولاً
به فيما عدا الصورة المخصوصة.
أما النسخ فإنه يبطل الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في
مستقبل الزمان بالكلية، وذلك عندما يرد النسخ على الأمر بمأمور
واحد.
الفرق الخامس: أنه لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى،
ويجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى.
الفرق السادس: أن التخصيص لا يكون إلا لبعض أفراد العام.
أما النسخ فقد يرفع جميع أفراد العام، وقد يرفع بعض أفراده.
الفرق السابع: أن التخصيص لا يرد إلا على العام.
بخلاف النسخ، فإنه يرد على العام والخاص.
الفرق الثامن: أن التخصيص يجوز بالأدلة النقلية كالكتاب
والسُّنَّة، ويجوز بالأدلة العقلية كالقياس، ويجوز بالقرائن الحالية،
والقرائن المقالية.
بخلاف النسخ، فإنه لا يجوز إلا بالأدلة النقلية كالكتاب والسُّنَّة.
الفرق التاسع: أن العام المقطوع بدليله يجوز أن يُخصص بمقطوع
مثله، ويجوز أن يخصص بمظنون كالقياس، وخبر الواحد ونحوهما
من الأدلة المخصصة.
بخلاف النسخ، فإن الحكم المقطوع بدليله لا ينسخ إلا بقاطع مثله.
***
المسألة السابعة هل النسخ جائز عقلاً؟
النسخ جائز عقلاً للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنا نعلم بصحة تحريك الجسم بعد تسكينه، وتفريقه
بعد جمعه، وإماتته بعد إحيائه.، وليس في الأمر بالشيء بعد النهي
عنه إلا ما في تحريك الجسم بعد تسكينه، وتبييضه بعد تسويده وإذا
كان ذلك كله من جملة الجائز، وجب أن يكون الأمر بالشيء بعد
النهي عنه من جملة الجائز، وهذا هو النسخ.
الدليل الثاني: أنا نعلم اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان، فلا
يمتنع أن يأمر اللَّه - تعالى - بالفعل في زمان لعلمه - سبحانه - أن
العباد لهم مصلحة فيه في هذا الزمن، ثم ينهاهم عنه ويحرمه عليهم
في زمن آخر لعلمه - سبحانه - أن العباد لو عملوا بذلك الفعل في
هذا الزمن الثاني لترتب عليه مفسدة، كما يفعل الطبيب بالمريض؟
حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في
زمن آخر بسبب اختلاف المصلحة.
الدليل الثالث: أنه لا يمتنع عقلاً أن يأمر اللَّه تعالى بالشيء ثم
ينسخه، سواء نسخ قبل الفعل، أو بعده للامتحان والابتلاء، فمن
فعل الشيء قبل نسخه، أو عزم على فعله، أو استعد للامتثال، أو
ظهرت عليه أي علامة تدل على استعداده لامتثال ذلك الأمر قبل أن
ينسخ: فإنه يثاب.
ومن لم يمتثل، ولم تظهر عليه أيُّ علامة للامتثال فإنه يأثم.
الدليل الرابع: أنه إذا جاز أن يطلق الأمر ثم يسقطه بالعجز
والمرض جاز أن يطلق الأمر ويسقطه بخطاب آخر.
الدليل الخامس: أنه إذا جاز أن يخلق اللَّه - تعالى - خلقا على
صفة، ثم بنقله إلى صفة أخرى: مثل أن يخلقه طفلاً، ثم ينقله
إلى الشباب، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى الوت
من غير اختيار للعبد، ولم يكن ذلك قبيحا في شرع ولا عقل،
فوجب أن يجوز - هنا - أن يكلف اللَّه خلقه بعبادة ثم ينقلهم عنها.
المسألة الثامنة: هل النسخ جائز شرعاً؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن النسخ جائز شرعا.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: إجماع الصحابة، فقد أجمعوا على أن شريعة
محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السابقة إما بالكلية، وإما فيما
يخالفها فيه، فالأحكام التي كانت عليهم لا تلزمنا، ولسنا مطالبين
بها إذا لم يرد بها شرعنا.
الدليل الثاني: وقوع النسخ في الشريعة، والوقوع دليل الجواز:
فقد وقع في شريعتنا نسخ بعض الأحكام بعد ثبوتها، ومنها:
1 -
أنه نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها
بالتربص أربعة أشهر وعشراً، قال تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، ثم
قال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
2 -
أنه نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة،
قال اللَّه تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وقال:(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
3 -
أنه نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان.
4 -
أنه نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة، فقال تعالى:(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) نسخ ذلك بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) .
وهناك أمثلة كثيرة ستأتي أثناء كلامنا عن بقية مسائل النسخ.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى بيَّن أنه إذا نسخ آية أورد مكانها آية
أخرى، وكلام اللَّه صدق، فالنسخ جائز.
وسبب نزول الآية يؤيد ذلك: حيث إن سببها هو: أن اليهود
عابوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحوله عن بيت المقدس إلى البيت الحرام،
وقالوا: إن محمداً يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، فأنزل اللَّه تعالى تلك
الآية رداً عليهم، فهذا يدل دلالة واضحة على جواز النسخ؛ لأنها
ردت عليهم في شيء عابوه قد وقع فعلاً.
ما اعترض به على الاستدلال بهذه الآية:
الاعتراض الأول: أن المراد من النسخ - في هذه الآية -:
الإزالة، ونسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ.
جوابه:
يجاب عنه بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، لأنه معلوم أن القرآن كله خير من
غير تفاوت فيه، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح
المحفوظ، وكتابة آية أخرى بدلها: لما تحقق هذا الوصف - وهي
الخيرية بالنسبة لنا - وإنما تتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى
أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن بعض
الأحكام قد يكون أخف من بعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة، أو
أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض الآخر من الأحكام - على
خلاف بين العلماء - فوجب حمل النسخ على أحكام الآيات
الموجودة في المصحف لا على ما ذكره المعترض.
الاعتراض الثاني: أنه ليس المراد من الآية النسخ، وإنما المراد
التخصيص.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا غير صحيح لأمرين:
أولهما: أن لفظ الآية هو: " ما ننسخ "، والنسخ غير التخصيص،
فكل واحد منهما له مفهوم يخالف الآخر كما سبق بيان ذلك.
ثانيهما: أن التخصيص لا يستدعي بدلاً مثله، أو خيراً منه، وإنما
التخصيص بيان للكلام.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) .
وجه الدلالة: أن التبديل عام وشامل للرفع والإثبات، والمرفوع
إما تلاوة، وإما حكم، وكيفما كان فهو نسخ.
المذهب الثاني: أن النسخ ممتنع شرعاً.
نسب هذا المذهب إلى أبي مسلم الأصفهاني - محمد بن بحر
المتوفى عام 422 هـ.
دليل هذا المذهب:
استدل على ذلك بقوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
وجه الاستدلال: أن النسخ باطل؛ لأن فيه إلغاء للحكم
المنسوخ، فلو وقع في القرآن لأتاه الباطل، وفى ذلك تكذيب لخبر
الله تعالى، والكذب محال في خبره.
جوابه:
يجاب عنه بأن الآية لا تدل على أن النسخ ممتنع؛ لأمرين:
أولهما: أن معنى الآية: أنه لم يتقدم على القرآن من كتب اللَّه ما
يبطله، ولا يأتي من بعده من كتب اللَّه ما يبطله، وهذا ليس فيه
معارضة في أنه ينسخ بعضه بعضاً.
ثانيهما: أن النسخ إبطال، وليس بباطل؛ لأن الباطل ضد
الحق، والنسخ حق، فهو إبطال العمل بالحكم المنسوخ.
بيان نوع الخلاف:
ابن دقيق العيد، وابن السمعاني، وابن الحاجب، وتاج الدين
ابن السبكي، وغيرهم ممن تعرضوا لذلك يذكرون أن الخلاف بين
الجمهور وأبي مسلم الأصفهاني لفظي.
والقول الحق عندي التفصيل، وبيانه:
أن العلماء الذين بلغهم مذهب أبي مسلم اختلفوا في مراده على
أقوال:
فقيل: إنه لا ينكر حقيقة النسخ، لكن لا يسميه بهذا الاسم،
بل يسميه تخصيصا زمنيا.
وقيل: إنه ينكره، وهو باطل عنده، وقيل: ينكره في شريعة
واحدة - فقط -، وقيل: ينكره في القرآن خاصة.
والراجح عندي هو الأول - وهو: أنه يسميه تخصيصا زمنيا -
لأمرين:
أولهما: أنه لا يتصور من مسلم إنكار النسخ؛ لأن النسخ من
ضروريات هذه الشريعة؛ إذ هو ثابت وواقع.
ثانيهما: أن أبا مسلم مؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومقر بأن التعبد بشرع من قبله من الأنبياء السابقين إنما هو مغيًّا إلى حين ظهور نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية، ولو لم يقر بذلك لانتفت عنه صفة الإسلام.
وإذا كان يسميه تخصيصا فالخلاف لفظي؛ لأن النسخ تخصيص
في أزمان الخكم، ومعروف أن تخصيص الأزمان كتخصيص
الأشخاص، فمعنى النسخ وحقيقته قد اتقق عليه بين الجمهور وأبي مسلم.
لكن الجمهور يسمونه نسخا، وأبا مسلم يسميه تخصيصا،
فكل منسوخ عنده فيها مغيًّا عنده في علم اللَّه تعالى إلى ورود ناسخه
كالمغيا في اللفظ، فنشأ من هذا تسمية النسخ تخصيصا، والغاية من
المخصصات المعروفة، إذن الخلاف في العبارة والاصطلاح، فيكون
الخلاف لفظياً.
أما على قول من قال: " إن النسخ باطل عنده، وهو ينكره
حقيقة "، أو من قال: " إنه ينكره في شريعة واحدة "، أو من
قال: " ينكره في القرآن خاصة "، فالخلاف يكون معنوياً، إذ يترتب
عليه آثار كثيرة، حيث يلزم منه إنكار كثير من الآيات الناسخة.
تنبيه: بعض الأصوليين ذكروا أن من المنكرين للنسخ بعض فرق
من اليهود، وهي ثلاث فرق هي كما يلي:
الشمعونية - نسبة إلى شمعون بن يعقوب - ينكرون النسخ عقلاً
وشرعاً.
العنانية - نسبة إلى عنان بن داود - ينكرون النسخ سمعا، وجوازه
عقلاً.
العيسوية - نسبة إلى أبي عيسى: إسحاق بن يعقوب الأصفهاني -
يجوزونه عقلاً، وسمعاً، ولكن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم ليست ناسخة لشريعة موسى عليه السلام.
هذه الفرق الثلاثة لهم أدلة على ما ذهبوا إليه، ولقد ذكرت ذلك
بالتفصيل، والأجوبة عن كل دليل من أدلتهم في كتابي: " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت.
ولم أذكر ذلك هنا لأني توصلت أخيراً إلى أن حكاية خلاف
اليهود في كتب أصول الفقه لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه
فيما هو مقرر في الإسلام، وفي اختلاف فرق الإسلام مما يؤثر
خلافهم في عمل المكلف، أما أقوال الكفار فلا يعتد بها في
الإسلام، وموضع حكاية خلاف الكفار، وشبههم والرد عليها هو
أصول الدين.
***
المسألة التاسعة: حكمة النسخ:
عندنا نوعان من النسخ هما:
أولهما: نسخ الإسلام لما سبقه من الأديان.
ثانيهما: نسخ بعض الأحكام ببعض في الإسلام.
أما الأول - وهو: نسخ الإسلام لجميع الشرائع السابقة - فله
حِكَمٌ ومنها:
الحكمة الأولى: أن الأعمال البدنية إذا واظب عليها الخلف عن
السلف صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها،
ومنعهم ذلك الظن من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله
وتمجيده، فإذا غيرت تلك الأعمال إلى أعمال أخرى، وتبين أن
المقصود من تلك الأعمال رعاية أحوال القلب، والأرواح في المعرفة
والمحبة: انقطعت تلك الظنون والأوهام عن الاشتغال بالصور
والظواهر إلى علام السرائر.
الحكمة الثانية: أن الخلق طبعوا على الملالة من الاستمرار على
نوع من أنواع العبادة، فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا
في أدائها.
الحكمة الثالثة: أن النوع الإنساني يتقلب كما يتقلب الطفل في
مراحل مختلفة، ولكل مرحلة حال تناسبها، فالبشر أول عهدهم
في الوجود كانوا كالوليد في السذاجة والجهالة والبساطة، ثم بدأ
التطور شيئاً فشيئاً، وفي أثناء هذا التطور مرَّتْ عليهم أعراض متباينة
ومتفاوتة، فاقتضى ذلك وجود شرائع مختلفة لهم، فلما نضج هذا
العالم واستوى جاء هذا الدين الحنيف خاتما للأديان كلها، ومتممًا
للشرائع، وجامعاً لمصالح العباد والبلاد، فهو بحق دين عام وخالد
إلى قيام الساعة.
أما النوع الثاني - وهو: نسخ بعض الأحكام ببعض في شريعتنا -
فله حِكَم، ومنها:
الحكمة الأولى: تهيئة نفوس الناس إلى تقبل الحكم الأخير، بيان
ذلك:
أن الناس قبل مجيء الإسلام في جاهلية تعمها الفوضى، وعدم
الانضباط بأنظمة وأحكام وقيود، فاقتضت حكمة الشارع ألا ينقلهم
دفعة واحدة إلى ما يستقر عليه التشريع آخر الأمر، بل إن اللَّه تعالى
سلك بهم طريق التدريج في التشريع من الأخف إلى الأشد، من
أجل أن تتهيأ نفوسهم إلى تقبل حكمه النهائي، فيأتي ذلك الحكم
وهم على أتم الاستعداد لتقبله والعمل به؛ إذ لو ألزمهم بالأحكام
النهائية من أول وهلة لأدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام، والقضاء
على الإسلام في مهده.
ومن أمثلة ذلك: تشريع الصلاة، فقد شرعت الصلاة أولاً
ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، ثم شرعت خمسا ركعتين
ركعتين عدا المغرب فقد كانت ثلاثا، ثم أقرت تلك الصلاة في
السفر، وزيد في الحضر، فجعلت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء.
مثال آخر: تحريم الخمر، فإنه سبحانه بيَّن أولاً ما في الخمر من
الإثم والنفع، وإن إثمه أكبر من نفعه، ثم منع - ثانيا - الصلاة في
حالة السكر، ثم حرَّم الخمر في جميع الأوقات.
مثال ثالث: تحريم الربا: فقد بيَّن - أولاً - ما في الصدقة من
الخير بخلاف الربا، فإنه لا يربو عند اللَّه، ثم بيَّن ثانيا: أن الربا
كان سبباً في تحريم بعض الطيبات على اليهود، ثم نهى - ثالثا -
عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة وهو ما كان شائعاً بين أهل الجاهلية،
ثم جاء - رابعاً - التحريم العام الذي لم يختلف فيه.
مثال رابع: عقوبة الزنا جعله الشارع - أولاً - الإيذاء بالقول
للرجال، والحبس في البيوت للنساء، ثم نسخ ذلك إلى الجلد لغير
المحصن، والتغريب والرجم للمحصن.
الحكمة الثانية: استمالة القلوب إلى اعتناق الإسلام كما في مسألة
القبلة.
بيان ذلك: أن الشارع الحكيم لم يشأ أن يفاجئ أهل الكتاب من
اليهود الذين كانوا في المدينة بخلاف ما عهدوه من أنبيائهم من الصلاة
إلى بيت المقدس، فجاء الأمر بالصلاة نحو بيت المقدس؛ لبيان أن
وجهة الرُّسُل واحدة، وأنه لا يخالف الأنبياء السابقين، وما ذلك إلا
لاستمالة قلوبهم إلى هذا الدين، فلما نسخ ذلك وأمر بالتوجه إلى
الكعبة لم يستغرب ذلك أكثرهم.
الحكمة التالثة: الابتداء والامتحان، وهذا في النسخ من الأشد
إلى الأخف، ليظهر المؤمن الحق فيفوز، وليظهر المنافق فيهلك،
وليميز اللَّه الخبيث من الطيب.
ومن أمثلة ذلك: أن اللَّه أمر إبراهيم عليه السلام بذبخ ابنه ثم نسخ ذلك.
مثال آخر: نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها
زوجها بالتربص أربعة أشهر وعشراً.
مثال ثالث: نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي
صلى الله عليه وسلم.
مثال رابع: أنه نسخ ثبات الواحد للعشرة.
***
المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة:
النسخ في الكتاب والسُّنَّة قليل؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن الشريعة الإسلامية مبنية على إرساء القواعد
الكلية والمبادئ العامة في الدين، وحفظ الضروريات، والحاجيات،
والتحسينيات، وكل ذلك لم ينسخ منه شيء، بل أتى بتقوية تلك
القواعد، وتحصينها، فلم يتناول النسخ القواعد الكلية والقواعد
العامة.
الدليل الثاني: أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ
كالخمر والربا، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد
نسخاً لحكم الإباحة الأصلية، وكذلك رفع براءة الذمة بدليل يثبت
حكماً لا يعتبر نسخاً.
الدليل الثالث: أن غالب ما ادعي فيه النسخ وجدته قد تنازع
العلماء فيه؛ لأنه يقبل الاحتمال والتأويل والجمع بين الدليلين على
وجه من كون الثاني بياناً لمجمل، أو تخصيصا لعموم، أو تقييداً
لمطلق.، ونحو ذلك.
الدليل الرابع: أن ثبوت الأحكام على المكلَّف مؤكد، فادعاء
النسخ فيها لا يكون إلا بأمر مؤكد ومحقق؛ لأن ثبوتها أولاً محقق،
فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.
***
المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام
التي لا يتناولها:
بعد تتبع واستقراء الأحكام المنسوخة وجد أن النسخ يتناول الأحكام
الشرعية الجزئية التكليفية الفرعية العملية التي تحتمل كونها مشروعة،
أو غير مشروعة في نفسها في زمن النبوة، أي: أن مصلحتها تتغير
فتكون في وقت نافعة، وفي وقت ضارة ومفسدة على ما يعلمه الله
سبحانه.
وعلى هذا، فإن النسخ لم يتناول - واقعا - الأحكام التالية:
1 -
الأحكام الأصلية المتعلقة بأصول الدين والعقائد كالإيمان بالله
وملائكته، وكتبه، ورسله، والقَدَر خيره وشره، فهذه لا تقبل
التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال.
2 -
الأحكام العامة والقواعد الكلية كالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ولا ضرر ولا ضرار، وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو باطل،
والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فهذه لا يمكن رفعها؛ مصالحها ظاهرة.
3 -
الأحكام التي لا تحتمل عدم المشروعية كأمهات الأخلاق،
والفضائل كالعدل، والصدق، والأمانة، وبر الوالدين، والوفاء
بالعهد، ونحو ذلك، فإن هذه لا تنسخ؛ لأن مصلحة التخلق بها
أمر ظاهر، وحسنها لا يتغير بتغير الأزمان، ولا يختلف الأشخاص
والاءكل م فيها.
4 -
الأحكام التي لا تحتمل المشروعية كأمهات الرذائل: كالكفر،
والكذب، والظلم، والخيانة، والغدر، وعقوق الوالدين، وعدم
الإخلاص، ونحو ذلك، فهذه لا تنسخ؛ لأن قبحها لا يتغير بمرور
الزمن، ولأن المفسدة التي تنال العباد في الأخذ بها ظاهرة.
5 -
الأحكام المؤقتة، فهذه لا يدخلها النسخ؛ لأن التوقيت بيان
انتهاء مدة الحكم كالصيام إلى غروب الشمس.
6 -
الأحكام التي لم يثبت نسخها في عصر الرسالة صراحة، أو
ضمناً، فإن تلك الأحكام مؤبدة لا تحتمل النسخ؛ لأنه لا نسخ إلا
بوحي، ولا وحي إلا بنبي، ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
7 -
الأحكام التي ارتبط بها ما ينافي النسخ كالتأبيد مثل: الجهاد
ماضٍ إلى يوم القيامة، وتحريم زوجاته صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن تأبيد الحكم يقتضي حسنه على الدوام، والنسخ ينافي ذلك، هذا على حسب الواقع.
المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها،
وبالعكس، ونسخهما معا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها، ويجوز
نسخ حكمها دون لفظها، ويجوز نسخهما معاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن العقل لا يمنع من جواز نسخ لفظ الآية دون
حكمها ونسخ حكمها دون لفظها، ونسخهما معاً، وذلك لأن الآية
يتعلق بها أحكام هي كما يلي:
" أن تلاوة لفظ الآية يثاب عليها بالإجماع ".
و" أن كتابة الآية في القرآن حكم من أحكامها ".
و" أن انعقاد الصلاة بتلك الآية يعتبر حكماً من أحكامها ".
وأن ما دلت عليه الآية من وجوب أو تحريم، أو ندب، أو
كراهة، أو إباحة مما يتعلق بالمكلَّف يعتبر - أيضاً - حكماً من
أحكامها.
فإذا ثبت أنه يتعلَّق بالآية أحكام جاز أن يكون إثبات التلاوة
والحكم معاً فيه مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر، وجاز أن
لا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقاً، وجاز أن يكون إثبات
أحدهما مصلحة في وقت دون وقت.
وبناء على ذلك جاز عقلاً رفع الحكم والتلاوة معاً، أو رفع
الحكم دون التلاوة، أو رفع التلاوة دون الحكم، فلا تلازم بينها؟
لأنها كلها أحكام شرعية، وكل حكم قابل للنسخ.
الدليل الثاني: الوقوع فقد وقع نسخ الحكم والتلاوة معاً، ونسخ
الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم، والوقوع دليل
الجواز، وإليك أمثلة على ذلك:
مثال نسخ التلاوة والحكم: ما روي عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن "، فكانت العشر منسوخة الحكم والتلاوة معاً بخمس رضعات.
والمراد من الحديث: أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله حتى
إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنأ متلواً؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى.
مثال نسخ الحبهم وبقاء التلاوة: نسخ حكم آية الاعتداد بالحول
الثابت بقوله تعالى: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بالاعتداد أربعة
أشهر وعشراً الثابت بقوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
مثال آخر - لما سبق -: أن الحكم الذي يعمل به في أول الإسلام
هو أن المكلف الذي يطيق الصيام يجوز له ترك الصيام، وتكون
الفدية واجبة عليه، قال تعالى في ذلك:(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، فقد نسخ ذلك الحكم - مع بقاء تلاوة الآية -
بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) .
مثال نسخ التلاوة وبقاء الحكم: ما رواه عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - أنه فيما أنزل: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة
نكالا من الله والله عزيز حكيم".
فهذا يثبت الرجم، فنسخت هذه الآية وبقي حكمها وهو: الرجم للمحصن.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ لفظ الآية، ويبقى حكمها.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بدليلين هما:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن نسخ لفظ الآية وبقاء ما أفادته من
الأحكام يضيع فائدة إنزال القرآن؛ لأنَّ فائدة إنزاله هي: إفادة
الأحكام، وما دامت الأحكام تستفاد بدونه، فلا فائدة من إنزاله،
فامتنع بقاء الحكم ونسخ لفظ الآية.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك،، لأن فائدة إنزال القرآن ليست
محصورة في إفادة الأحكام، فالفائدة كما تكون في إفادة الأحكام
تكون - أيضاً - للإعجاز، وزيادة الثواب بتلاوته، والإعجاز
والثواب قد حصلا من الآية قبل نسخ تلاوتها.
الدليل الثاني: قالوا فيه: إن فائدة بقاء لفظ الآية هي: تلاوتها
والثواب على ذلك، فرفعها حرمان للعباد من هذا الثواب، والله
سبحانه لا يحرم عباده من شيء فيه مصلحة لهم، فكيف يقال:
يجوز رفعها؟!
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمتنع عقلاً أن يكون مقصود الشارع من إنزال
الآية هو تعريف العباد بالحكم دون تلاوة الآية، فلما نزلت تلك الآية
بلفظ معين وعرف العباد عن طريق ذلك اللفظ الحكم الشرعي المراد
- وهو مثلاً: رجم الزاني المحصن - رفع لفظ الآية وانتهت. مهمته،
وبقي الحكم المستفاد من تلك الآية ليعمل به.
المذهب الثالث: لا يجوز نسخ الحكم، وبقاء التلاوة.
نسب هذا إلى طائفة شاذة من المعتزلة.
دليل هذا المذهب:
لقد استدلوا على ذلك بقولهم: إن بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم
يوهم أن الحكم باق؛ نظراً لبقاء دليله وهي الآية - وفي ذلك إيقاع
المكلَّف في الجهل والحيرة، وهو قبيح من الشارع، والشارع منزه
عن ذلك: فامتنع لذلك بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم الذي أفاده.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الكلام مبني على قاعدة " التحسين والتقبيح
العقليين "، ونحن لا نقول بها.
وعلى فرض أن ذلك الكلام غير مبني على تلك القاعدة فإنا نقول
- في الجواب عنه -: إن الآية إنما تكون دليلاً إذا لم يرفع حكمها،
فيقال: إن تلك الآية دئَت على ذلك الحكم المعمول به، أما إذا رفع
وأزيل حكم تلك الآية فإنها لا تبقى دليلاً على شيء.
أي: أن الآية إنما تدل على الحكم بشرط: عدم نسخ حكمها،
وإذا انتفى هذا الشرط، ونسخ حكمها فلا تسمى دليلاً؛ لأن الدليل
هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والآية
المنسوخ حكمها لا يتوصل بها إلى شيء، إذن لا تسمى دليلاً فيبطل
ما ذكرتم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي لا ثمرة له في الفروع الفقهية؛ لأن عمل المكلَّف
لم يختلف باختلاف تلك المذاهب.
المسألة الثالثة عشرة: هل يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من
فعله وامتثاله؟
إذا ورد الناسخ بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة،
أو بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه بعصها، فإن هذا قد اتفق
العلماء على جواز النسخ؛ لأن شرط الأمر حاصل وهو: التمكن
من الفعل.
أما إن ورد الأمر بفعل الشيء قبل وقته، ثم نسخ قبل دخول
الوقت، أو بعده، ولكن قبل التمكن من فعل ذلك الأمر، فإن
هذا هو المختلف فيه؛ حيث اختلف العلماء في نسخ الأمر بفعل
شيء قبل التمكن من امتثاله على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من فعله، فيجوز
أن يقول الشارع - مثلاً - في رمضان: " حجوا في هذه السنة "،
ثم يقول قبل ابتداء الحج: " لا تحجوا ".
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن النسخ قبل التمكن من الفعل رفع لتكليف قد
ثبت على المكلََّف، فكان نسخا، ولا يترتب على ذلك محال ولا
بَداء، فيجوز أن يأمر اللَّه - تعالى - زيداً بفعل في يوم الأحد -
مثلاً -، ويمنعه منه بمانع عائق له قبل يوم الأحد، فيكون زيد مأموراً
بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع، وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء
المانع: جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ ولا فرق.
الدليل الثاني: أنه لو قال تعالى: " واصلوا الفعل سنة "، ثم
نسخه بعد مضي شهر: جاز ذلك، وإن كان ذلك نسخا قبل وقت
الفعل في بقية السنة.
اعتراض على ذلك:
قال معترض على هذا الدليل: إن نسخه يدل على أنه لم يرد
السنة كلها، وإنما أراد الشهر، فصار ذلك بيانا للمراد بخلاف نسخ
الكل قبل وقت فعله؛ لأنه يكون قد نسخ ما تناوله الأمر وذلك بَداء.
جوابه:
يجاب عنه بأن العبارة: " واصلوا الفعل سنة "، والسنة لا يعبر
بها عن الشهر لا حقيقة ولا مجازاً، بل هي عبارة عن اثني عشر
شهراً، فنسخه قبل ذلك هو النسخ قبل الوقت.
الدليل الثالث: الوقوع، بيان ذلك:
أن اللَّه أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فقال سبحانه:
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) .، ثم نسخ ذلك قبل التمكن من الذبح فقال:(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فقد وقع - هنا - النسخ قبل التمكن من الفعل، والوقوع دليل الجواز.
وهناك وجوه قد دلَّت على أن إبراهيم قد أمر بالذبح هي كما يلي:
الوجه الأول: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، فقال تعالى - حكاية عن ابن إبراهيم -:(يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) .
فإن قول الابن - يدل على أن هناك أمراً بالذبح صدر من اللَّه إلى
إبراهيم؛ لأن معنى قوله: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به،
ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد، وإخراجه إلى الصحراء،
وأخذ آلات الذبح، وترويع الولد، فإن ذلك كله محرم من غير أمر
من اللَّه تعالى، ولا إذن منه سبحانه.
الوجه الثاني: قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) ، فلو
لم يكن الدبح مأموراً به حقيقة لما كان هناك بلاء وامتحان عظيم.
أي: لو كان المأمور به مقدمات الذبح من أخذ الولد إلى
الصحراء، واستصحاب المدية والحبل، ونحو ذلك مما يلزم في
الذبح لما كان هناك بلاء مبين؛ لأنه يسهل على النفس فعل المقدمات
ما دامت النتيجة مأمونة وبعيدة عن الخطر.
الوجه الثالث: قوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فإن
الفداء هو البدل، والذي يصلح أن يكون الفداء بدلاً عنه هو الذبح،
فكان الذبح مأموراً به حقيقة.
وهناك وجهان دلا على أن أمر إبراهيم بالذبح قد نسخ قبل التمكن
من الذبح هما:
الوجه الأول: أنه لو لم ينسخ لذبح إبراهيم ابنه، ولكنه لم
يذبحه، فدل على أنه نسخ الأمر قبل التمكن من فعله.
الوجه الثاني: أنه لو نسخ بعد التمكن من الفعل ولم يفعل:
لكان ذلك تقصيراً من إبراهيم عليه السلام في امتثال ما طلب
منه، والتقصير ليس من شأن الأنبياء عليهم السلام؛ حيث إنه
معروف عنهم المبادرة في امتثال ما أمروا به، ولو كان وجوبه موسعا
عليهم.
* ما اعترض به على الدليل الثالث - وهو الاستدلال بتلك الآية -:
لقد اعترض أصحاب المذهب الثاني - الذي سيأتي - على
الاستدلال بتلك الآية بعدة اعتراضات، إليك إياها مع أجوبتها.
الاعتراض الأول: أن ذلك الأمر ورد في المنام، وما ورد في المنام
لا أصل له، ولا يصلح أن يكون مستنداً، فلا يعتمد عليه، ولا
يثبت به الأمر.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه منام؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه لو كان مناما وخيالا، لا وحيا، لما جاز
لإبراهيم عليه السلام قصد الذبح المحرم، والتل للجبين، ولما سماه
الله - تعالى - بلاء مبينا، ولما احتاج إلى الفداء.
الأمر الثاني: قوله تعالى: (افعل ما تؤمر) فلو لم يؤمر
إبراهيم عليه السلام حقيقة كان ذلك كذباً.
الجواب الثاني: سلمنا أنه منام، لكن ما يراه الأنبياء - عليهم
السلام - في مناماتهم فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي يجب
العمل به، وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام، وقد ثبت أن وحي
نبينا صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر بالمنام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:" أول ما ابتدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من النبوة الرؤيا الصادقة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ".
وعلى هذا: يكون ما ورد في منام إبراهيم عليه السلام من
الأمر بذبح ابنه له أصل ومستند، فيجب العمل به.
الاعتراض الثاني: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم عليه السلام قد أمر
بالذبح حقيقة، بل قد كلف بالعزم على الفعل فقط، لابتلاء صبره،
فيكون القصد من الأمر هو العزم على الفعل، وذلك بلاء عظيم،
والفداء إنما كان عما يتوقعه إبراهيم من الأمر بالذبح، لا عن نفس
وقوع الأمر بالذبح، أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء،
وأخذ المدية، والحبل، والتل للجبين، ونظرا لاستشعار إبراهيم أنه
مأمور بالذبح قال تعالى: (قد صدقت الرؤيا) .
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا فاسد لوجوه:
الوجه الأول: أن إبراهيم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح فقط،
دون فعل الذبح نفسه: لما سماه بلاء مبيناً، ولما احتاج إلى الفداء،
ولما قال الذبيح: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، يؤيد ذلك
قوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا)، أي: إنك عملت في
المقدمات عمل مصدق لرؤيا فعلية.
الوجه الثاني: أن حمل الأمر على العزم على خلاف قوله تعالى:
(إني أرى في المنام أني أذبحك) فصرح - هنا - بالذبح،
ومعروف أن العزم لا يسمى ذبحا، فهذا فيه حمل شيء على غير
محمله.
الوجه الثالث: أن العزم على الفعل لا يجب إذا لم يُعتقد وجوب
المعزوم عليه، فلو لم يكن المعزوم عليه - وهو الذبح - واجباً:
لكان إبراهيم عليه السلام أَوْلى بمعرفة عدم الوجوب من ذلك
المعترض، أي: أنه لو لم يجب على إبراهيم الفعل - وهو الذبح
حقيقة - لم يصح منه العزم على فعله على سبيل الوجوب.
قال تعالى مؤيداً لذلك: (إني أرى في المنام أني أذبحك) ،
فقال تعالى - حكاية عن ابنه -: (افعل ما تؤمر) يعني الذبح الحقيقي.
ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) استسلاما لفعل
الذبح، لا للعزم.
الاعتراض الثالث: أن إبراهيم لم يؤمر بنفس الذبح وحقيقته،
وإنما أمر بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء، وأخذ المدية،
والحبل، والاضطجاع، والتل للجبين، ونحو ذلك من لوازم
الذبح، دون الذبح نفسه.
وسمينا مقدمات الذبح ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم
ذلك الشيء، فتسمى " النائحة " باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء،
وكذلك يُسمى المريض الذي يخاف عليه الهلاك: ميتا، وذلك
لحصول مقدمات الموت.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا فاسد؛ لوجوه:
الوجه الأول: أن الله تعالى قال - حكاية عن ولد إبراهيم -:
(ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، ومعلوم أن مقدمات الذبح لا
تفتقر إلى الصبر؛ لأنه أمر سهل يتلاعب به الصبيان.
الوجه الثاني: أن اللَّه تعالى قال: (إن هذا لهو البلاء المبين) ،
فلو كان المأمور به مقدمات الذبح فقط: لما كان فيه بلاء واختبار
مبين، فلا يعطى هذا التفخيم، والمأمور به سهل، وهو مقدمات
الذبح.
الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه أمر بالذبح نفسه، فقال تعالى:
(يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) ، ولم يرد ذكر المقدمات،
والمقدمات لا تسمى ذبحاً في لغة العرب؛ لأن الذبح لغة هو:
الشق والفتح، وفي الاصطلاح هو: عبارة عن قطع مكان
مخصوص تبطل معه الحياة.
وعلى هذا يكون: حمل الأمر بالذبح على المقدمات حمل بلا
دليل، فثبت: أن المأمور به هو الذبح الحقيقي.
الوجه الرابع: أن اللَّه تعالى قال: (وفديناه بذبح عظيم) ، ولو
كان إبراهيم عليه السلام قد فعل المأمور به من مقدمات الذبح
- كما زعمتم - لما احتاج إلى الفداء، وذلك لأن الفداء لا يكون مع
الامتثال للأمر؛ حيث إنه لا يجمع بين البدل والمبدل.
الوجه الخامس؛ أن زعمكم إن إبراهيم قد أمر بمقدمات الذبح،
دون الذبح نفسه خلاف إجماع السلف - كما قال الباجي في إحكام
الفصول - حيث إن السلف رحمهم الله فسَّروا ما ورد في الآية
بأن إبراهيم قد أمر بنفس الذبح.
وبهذه الوجوه بطل ما زعمتم، وهو: أن المأمور به مقدمات
الذبح.
الاعتراض الرابع: أنا نسلم أن إبراهيم عليه السلام قد أمر
بالذبح الحقيقي، ولكن الشارع قد منعه من إنفاذه وإيقاعه بأن جعل
على عنق ابنه صفيحة من نحاس مانعة من الذبح والقطع، فلم ينسخ
الأمر، ولكن الشارع منع من تنفيذه، وهذا قد جعل التكليف
بالذبح يرتفع وينقطع، لكون إبراهيم أصبح معذوراً؛ لعدم
استطاعته القطع والذبح، والمعذور لا تكليف عليه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن قلب عنق ولد إبراهيم عليه السلام حديداً
لو حصل ووقع لنقل إلينا نقلاً متواتراً، ولاشتهر؛ لكونه من
المعجزات العظيمة، لكنه لم ينقل نقلاً متواتراً، ولا آحاداً، فما
زعمتموه يحتاج إلى دليل.
الجواب الثاني: أنه إن كان هذا الاعتراض صادراً من بعض المعتزلة
فإنه متناقض مع قولهم: " لا يجوز تكليف ما لا يطاق "؛ حيث إن
الله إذا علم أنه سيقلب عنقه حديداً يكون الشارع قد أمر بما يعلم
امتناع وقوعه، وهذا تكليف ما لا يطاق، وتكليف ما لا يطاق لا
يجوز.
كذلك ثبت عند المعتزلة أن الشارع لا يأمر إلا بما فيه مصلحة
للمكلَّف، ولا يجوز عندهم أن يمنع الشارع المكلَّف ما فيه مصلحة،
والكلام الوارد في هذا الاعتراض مناقض لهذه القاعدة عندهم.
الاعتراض الخامس: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم - عليه السلانم - قد أمر
بالذبح، وإنما أخبر أنه سيؤمر في المستقبل يدل على ذلك قوله تعالى
- حكاية عن الابن -: (يا أبت افعل ما تؤمر) ، فلفظ " تؤمر "
هو للاستقبال، فلو كان قد أمر بالماضي لقال:" افعل ما أمرت به "
ولكنه لم يقل ذلك؛ بل عبر بلفظ يدل على الاستقبال.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الله سبحانه قد أمر إبراهيم عليه السلام في
الماضي، وحصل الأمر ثم نسخ قبل التمكن من فعله، فالمراد من
قوله تعالى: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به في السابق،
والتعبير باللفظ الدال على الاستقبال والمراد به الماضي اقد وقع في
الكتاب، وكلام العرب، فمن أمثلة وقوعه في الكتاب قوله تعالى:
(إني أرى سبع بقرات سمان)، والمراد: إني رأيت،
وقوله تعالى: (إني أراني أعصر خمراً)، والمراد: إني رأيت.
ومن أمثلة وقوعه في لسان العرب قول ضمرة بن جابر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها
…
وإذا يحاس الحيس يُدعى جندب
فهنا عبر بالمستقبل وهو لفظ " أدعى "، ولفظ " يدعى "،
والمراد: " إني دعيت "، و " دعي جندب " في الماضي.
وما نحن فيه من ذلك، والمراد: افعل ما أمرت به في السابق،
وحملناه على ذلك؛ لأنه لا يمكن حمله على الاستقبال؛ لأنه لو
كان الشارع قد أراد أنه سيأمر إبراهيم عليه السلام في المستقبل؟
لوجد ذلك الأمر قطعا؛ لئلا يكون خلفا وكذبا في الكلام، والله
منزه عن ذلك؛ حيث إنه صادق لا خلف في خبره سبحانه وتعالى،
فلما لم يوجد الأمر في المستقبل عرفنا أن المراد بقوله: (ما تؤمر) :
ما أمر به في الماضي.
الاعتراض السادس: نُسلِّم أن إبراهيم كان قد أمر بذبح ابنه حقيقة
ونسلم أنه وقع منه الذبح وحصل، ولكن كلما قطع جزءاً من رقبة
ابنه عاد ملتحما، وكلما قطع موضعا التحم الموضع الأول، وهكذا
حتى التأم الجرح كأن لم يكن، ويدل على ذلك قوله تعالى:
(قد صدقت الرؤيا)، والمراد: إنك يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا
فامتثلت ما أمرت به، ولو لم يذبح لما كان مصدقا للرؤيا، وإذا كان
ما أمر به من الذبح قد وقع، ولكنه التحم، فلا نسخ قبل التمكن
من الفعل.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن هذا الاعتراض باطل، لوجوه:
الوجه الأول: أنه لو كان إبراهيم كلما قطع جزءاً التحم - كما
زعمتم - لنقل إلينا نقلاً متواتراً؛ لأنه لا يمكن ترك نقله؛ لكونه من
المعجزات والآيات الباهرة التي لا يمكن تركها، لكن ذلك لم ينقل
متواتراً ولا آحاداً، ولم يسمع به قبل أن يأتي هذا المعترض، فثبت
أنه لا سند له.
واستدلال المعترض بقوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) على ما
زعم غير صحيح؛ وذلك لأن المراد بالتصديق هنا: هو التصديق
بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق يكون في القلب، دون تحقيق الفعل،
فكأن اللَّه تعالى قال: إنك يا إبراهيم لما صدقت وآمنت واعتقدت
وجوبه وعزمت على فعله وعملت في مقدماته عمل مصدق جزيناك
كما نجزي المحسنين الصادقين، فنسخنا عنك فعل الذبح وتحقيقه بذبح
كبش، فالتصديق يختلف عن التحقيق والامتثال والعمل وإيقاع ما أمر
الوجه الثاني: أن قول المعترض هذا يخالف قوله تعالى:
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) ،
فهنا نودي إبراهيم، فلو كان قد ذبح والتحم محل الذبح كما زعم المعترض: لقال: "فلما أنفد الأمر "، أو لقال:" فلما ذبح "، ونحو ذلك من
العبارات التي تدل على أنه امتثل للأمر، ولكن اللَّه سبحانه لم يأت
بشيء من ذلك، بل أتى بتلك الآية مما يدل على أنه نسخ قبل
الفعل.
الوجه الثالث: أن قول المعترض يخالف ظاهر قوله تعالى:
(وفديناه بذبح عظيم) ، فلو كان إبراهيم عليه السلام قد ذبح
حقيقة والتجم محل الذبح لما احتاج إلى الفداء، لأنه لا معنى للفداء
مع تنفيذ الذبح، أي: أن الفداء بدل عن الذبح، فلا يمكن أن
يؤتى بالبدل مع فعل المبدل.
الدليل الرابع - من الأدلة على جواز نسخ الشيء قبل التمكن من
الامتثال - قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما
أحب، وظاهر هذا: جواز النسخ في عموم الأحوال، سواء بعد
التمكن من الفعل أو قبل التمكن.
الدليل الخامس: ما رواه أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في بعث وقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار "، ثم قال حين
أردنا الخروج: " إن النار لا يعذب بها إلا اللَّه وإن وجدتموهما فاقتلوهما ".
الدليل السادس: ما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر قدور من لحم حمر إنسية فقال رجل: أو نغسلها؛ فقال:
" اغسلوها ".
ما سبق هو المذهب الأول، وهو جواز نسخ الشيء قبل التمكن
من الفعل وأدلته.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من فعله وامتثاله.
ذهب إلى ذلك المعتزلة، واختاره أبو بكر الصيرفي، وهو مذهب
بعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، والماتريدي، والدبوسي،
وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة، ونسبه الفخر الرازي إلى
الفقهاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن الأمر بالشيء يدل على حسنه وكونه
مصلحة، والنهي عنه يدل على قبحه وكونه مفسدة، فإذا أمر بالحج
في رمضان - مثلاً - دلَّ ذلك على حسن الحج وكونه مصلحة للعباد،
فإذا نهى عن إيقاع الحج وقال في أول شهر ذي الحجة: "لا تحجوا"
دلَّ ذلك على قبح الحج وكونه مفسدة، والفعل الواحد في حالة
واحدة لا يكون مصلحة مفسدة بالإضافة إلى شخص واحد.
فنتج أن نسخ الشيء قبل التمكن من فعله يفضي إلى أن يكون
الشيء الواحد على وجه واحد مأموراً به ومنهيا عنه، حسنا قبيحا،
مصلحة مفسدة، وهذا هو التناقض.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمتنع أن يكون الأمر بالفعل يدل على حسنه
بشرط: أن لا ينهى عنه، والنهي عنه يدل على قبحه بشرط: أن لا
يؤمر به، فيجوز أن يجعل بقاء حكمه واستمراره شرطا في الأمر
فيقول الشارع: "افعل ما أمرناك به إن لم يأت نهي يزيل أمرنا عنك ".
اعتراض على ذلك:
اعترض بعضهم على هذا الجواب بقوله: إن اللَّه تعالى إذا علم أنه
سينهى عنه، فما معنى أمره بالشرط الذي يعلم انتفاءه قطعة فيما
بعد، أي: ما الفائدة من أمره به وهو عالم بأنه سينسخه؟
جوابه:
يجاب عنه: بأن فائدة ذلك: امتحان وابتلاء المأمور، فإن عزم
على الفعل، واشتغل بالاستعداد لامتثال الأمر فإنه يثاب، أما إن لم
يعزم على الفعل، ولم يشتغل بالاستعداد للامتثال فإنه يعاقب،
وهذا من حكم النسخ التي ذكرناها فيما سبق.
ثم كيف ينكر المعترض ذلك مع أنه يجوز الوعد والوعيد من
العالم بعواقب الأمور بالشرط؟! ، فإن اللَّه تعالى وعد على الطاعة
بالثواب بشرط عدم ما يحبط تلك الطاعة كالردة مثلاً، وتوعَّد
سبحانه على فعل المعصية بالعقاب بشرط خلو تلك المعصية عما
يكفرها من توبة، والله سبحانه عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة،
أو التوبة، ثم شرط ذلك في وعده ووعيده.
إذا ثبت ذلك فلا يستحيل أن يشرط الشارع في أمره ونهيه،
وتكون شرطيته بالنسبة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر، فكأنه قال:
"أثبتك على طاعتك ما لم تحبطها بالردة "، وهو سبحانه عالم بأنه
سيحبط أو لا يحبط، فإذا جاز ذلك بلا خلاف: جاز أن يقول:
"أمرتك بشرط البقاء والقدرة، وبشرط أن لا أنسخ عنك ذلك الأمر".
الدليل الثاني: قالوا فيه: إنه لو جاز أن يرد الأمر بشيء في وقت
ثم يرد النهي عن فعله في ذلك الوقت: للزم من ذلك أن يكون
الشخص الواحد بالفعل الواحد في الوقت الواحد مأمورا منهيا،
وذلك محال على اللَّه تعالى؛ لأنه أمر بالشيء ونهي عنه في وقت واحد.
جوابه:
يجاب عنه: بأن ذلك يكون محالا إذا كان الغرض من الأمر هو:
حصول الفعل، أما إذا كان الغرض والمقصود هو: ابتلاء المأمور
وامتحانه، فيجوز ولا مانع من ذلك؛ فإن السيد قد يقول لعبده:
"اذهب غداً إلى موضع كذا راجلاً حافيا "، وهو لا يريد الفعل،
بل يريد امتحانه ورياضته مع ما علمه بأنه سيرفع عنه غداً ذلك قبل
فعله.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له في الفروع؛ لأن الخلاف
راجع إلى المراد من حكمة التكليف.
فمن قال: إن حكمة التكليف هي: امتثال وإيقاع ما كلف به من
المكلف، وكذلك من حكم التكليف ابتلاء وامتحان المكلف - وهو
قول أصحاب المذهب الأول وهو الصحيح - قال: يجوز نسخ
الشيء قبل التمكن قبل فعله.
وعلى هذا: فالمنسوخ بعد التمكن من الفعل حكمته الامتثال،
وقد حصل.
والمنسوخ قبل التمكن من فعله حكمته الامتحان والابتلاء، وقد
حصل قبل النسخ.
أما من قال: إن حكمة التكليف هي الامتثال والإيقاع فقط - وهو
قول أصحاب المذهب الثاني -: قال: لا يجوز نسخ الشيء قبل
التمكن من فعله؛ حيث لم تحصل الحكمة من التكليف وهي الامتثال.
***
المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ؟
تنقسم الزيادة على النص باعتبار تعلُّقها بالمزيد عليه وعدم ذلك إلى
أربعة أقسام:
القسم الأول: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وليست
من جنسه.
القسم الثاني: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وهي
من جنس المزيد عليه.
القسم الثالث: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الجزء
بالكل.
القسم الرابع: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط
بالمشروط.
والسبب في هذا التقسيم: أن الزيادة على النص إما أن تكون
مستقلة أو غير مستقلة.
والمستقلة إما أن تكون من جنس المزيد عليه أو لا.
وغير المستقلة إما أن تكون جزءاً من المزيد عليه، أو شرطا للمزيد
عليه.
وإليك بيان كل قسم من تلك الأقسام والأمثلة عليه وحكمه.
القسم الأول: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه، ولا تتعلَّق به،
وليست من جنس المزيد عليه.
مثالها: أن يوجب اللَّه تعالى الصلاة ثم يوجب - بعد ذلك -
الصوم، والمزيد عليه وهو الصلاة مستقل تماما عن الزيادة وهي:
الصوم، وهما جنسان مختلفان - كما هو ظاهر -.
حكم هذه الزيادة:
هذه الزيادة ليست نسخا باتفاق العلماء؛ لأن حقيقة النسخ لم
تتحقق هنا؛ حيث قلنا: إن النسخ: رفع الحكم، وهنا لم يرتفع
الحكم وهو - وجوب الصلاة مثلاً - ولم يتبدل ويتغير بالزيادة - وهو
الصوم -.
أي: بقي حكم المزيد عليه - وهو الصلاة - بعد الزيادة كما كان
ثابتاً قبلها.
فهذه الزيادة ليست بنسخ لما تقدمها من العبادات بالإجماع؛ لعدم
التنافي.
القسم الثاني: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلَّق به، وهي
من جنس المزيد عليه.
مثل: زيادة صلاة على الصلوات الخمس.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن تلك الزيادة لم ترفع حكما شرعياً، فلم
توجد حقيقة النسخ، حيث إن المزيد عليه باقِ بعد الزيادة، كما كان
قبل الزيادة مثل: الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا
فرق، فكما أن وجوب الصلاة لم يتغير بزيادة الصوم، فكذلك
الحال بالنسبة لزيادة صلاة على صلاة أخرى ولا فرق.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة تكون نسخا لحكم المزيد عليه.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية العراقيين.
دليل هذا المذهب:
أن حقيقة النسخ وهو: " رفع الحكم " قد وجدت، فكان نسخا.
بيان ذلك:
أن زيادة صلاة على الصلوات الخمس يغيِّر الصلاة الوسطى فيرتفع
وجوبها الستفاد من قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) .
فوسطية الصلاة متوقفة على العدد المفرد - وهو الخمس هنا -
لكي يكون عدد ما قبلها كعدد ما بعدها، فإذا زيدت صلاة سادسة
فإنها ترفع كون الوسطى وسطى وتغيره، فتتبدل الوسطية بالنسبة لها
إلى غيرها فتزيل وترفع الحكم وهو: وجوب المحافظة على الصلاة
الوسطى المستفاد من الأمر بها في الآية السابقة.
إذن: هذه الزيادة رفعت حكما شرعياً، وهذا هو معنى النسخ.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الزيادة المستقلة التي هي من جنس المزيد عليه
مثل الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا فرق.
فلو كانت زيادة صلاة سادسة نسخا للزم أن تكون زيادة العبادة
المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه نسخا؛ لأنها تجعل العبادة
الأخيرة غير أخيرة فتغير صفتها، وتتساوى مع السادسة في هذا
التعبير، فلما لم تجعل هذه نسخا بالإجماع، يلزم أن لا تجعل الزيادة
المستقلة التي من جنس المزيد عليه نسخا.
الجواب الثاني: أن زيادة صلاة سادسة على الخمس - لا تزيل
المحافظة على الوسطى؛ لأن وجوب المحافظة قد تعلق بمسمَّى
الوسطى عند نزول الآية، وهذا المسمى لما صدق: لا تؤثر عليه هذه
الزيادة.
القسم الثالث: الزيادة غير المستقلة التي تتعلق بالمزيد عليه تعلَّق
الجزء بالكل.
أي: أن هذه الزيادة غير مستقلة عن المزيد عليه، فتتعلق به بأن
تكون جزءاً من المزيد عليه.
مثال ذلك: زيادة تغريب عام على جلد مائة في حد الزاني
البكر، حيث أصبح جزءاً من الحد، فأصبح حد الزاني البكر بعد
الزيادة مكونا من جزأين:
أولهما: جلد مائة جلدة، وهو الوارد في نص القرآن الكريم.
ثانيهما: تغريب عام، وهو الوارد في نص السُّنَّة.
مثال آخر: زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة، وذلك في حد
القذف.
بيانه: أن حد القذف هو: ثمانون جلدة - كما هو معلوم، فإذا
زيد - على سبيل الافتراض - عشرون جلدة، فإنه يصبح جزءاً من
الحد، فأصبح حد القذف بعد الزيادة مكونا من جزأين:
أولهما: ثمانون جلدة، وهو الوارد في نص القرآن.
ثانيهما: عشرون جلدة، وهي زيادة مفترضة.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم وتبديله
لم توجد عند تلك الزيادة، بل إن هذه الزيادة تقرير للحكم المزيد
عليه، وتثبيت له، لأن ضم شيء إلى شيء آخر يثبت المضموم إليه
ويُقوره؛ نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل تقوم به،
ولهذا نرى حكم المزيد عليه ثابتا لم يتغير ولم يتبدل ولم يرتفع بعد
إلحاق الزيادة به، فكان ثابتا بعد الزيادة، كما كان ثابتا قبل الزيادة؟
قياسا على الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه بجامع
عدم التغير في كل.
فمثلاً: بعد زيادة " التغريب " وإلحاقه بـ " الجلد مائة " لم تخرج
تلك الزيادة الجلد عن كونه واجبا، بل استمر على هذا الحكم بعد
إلحاق الزيادة - وهي التغريب - به كما كان واجبا قبله، وذلك مثل:
إيجاب الصوم بعد إيجابه للصلاة لم يخرج الصلاة عن كونها فرضاً،
بل ظلت فرضاً بعد الصيام كما كانت قبله، كل ما في الأمر أنه
أضاف إليه زيادة.
كما لو أن إنسانا معه كيس فيه ريالات فأضاف إليها ريالا لا يقال:
إنه رفع وأزال ما في الكيس، بل يقال: أضاف إليه زيادة، كذا لو
كتب كتابا، ثم كتب في حاشيته زيادة معلومات أو تعليقات لا يقال:
نسخ ما في الكتاب ورفعه، بل يقال: إنه أضاف إليه زيادة وهكذا.
فكذلك هنا لم يكن في زيادة التغريب على الجلد مائة رفع ولا
إزالة، فاستعمال لفظ النسخ فيه محال.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ.
ذهب إلى ذلك الحنفية كما صرح بذلك أبو عبد اللَّه الصيمري،
وأبو بكر الرازي، والسرخسي، وعبد العزيز البخاري، والأنصاري.
دليل هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن جلد مائة في حد
الزاني البكر كان هو الحد الكامل، ويجوز الاختصار عليه؛ لقوله
تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ،
فلما جاءت السُّنَّة بزيادة التغريب، وذلك بحديث عبادة بن الصامت:
" البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ": رفعت هذه الزيادة ذلك
الحكم، وهو:" صفة الكمال والاقتصار على جلد مائة "، وأصبح
الحد بعد الزيادة: " الجلد والتغريب "، فتكون صفة الكمال قد
رفعت، والاقتصار على الجلد قد رفع، والرفع هو النسخ.
جوابه:
إن رفع صفة الكمال بالزيادة، ورفع الاقتصار على المائة لم
يتحقق به النسخ، بيان ذلك:
أن صفة الكمال إذا ارتفعت بالزيادة لا يتحقق النسخ؛ لأن صفة
الكمال لا يندرج ضمن أقسام الأحكام الشرعي، فليس مقصوداً،
بل المقصود هو وجوب الحد - الذي هو مائة جلدة - والوجوب لم
يرتفع، بل هو باق على حاله، وهو كل الواجب، فلما زيد
"التغريب " لم يتغير، بل هناك واجب قد أضيف إليه.
يؤيد ذلك: أن الشارع لما أوجب الصلاة فقط كانت هي كل
الواجب على المكلف، فلما أوجب الصوم بعد ذلك: خرجت
الصلاة عن كونها هي كل الواجب، بل صار الواجب الصلاة
والصوم، وليس ذلك بنسخ باتفاق العلماء.
فكذلك هنا يقال: إن جلد مائة هو الواجب الكامل على الزاني
البكر، فلما زيد " التغريب ": خرج " جلد مائة " عن كونه هو كل
الواجب، بل صار الواجب: الجلد والتغريب، فلا يسمى ذلك
نسخاً.
وأيضاً: رفع الاقتصار على مائة جلدة لا يحقق النسخ؛ لان
منطوق النص هو قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لا يدل على هذا الاقتصار، أي: لا يستفاد
الاقتصار من هذا المنطوق؛ وذلك لأن وجوب الشيء لا ينفي وجوب
غيره، فإيجاب الحد - وهو جلد مائة - لا ينفي أن يوجب الشارع
غيره زيادة عليه.
وإنما الاقتصار على الحد المذكور في الآية يستفاد من مفهوم المخالفة
للنص القرآني، والحنفية لا يحتجون بمفهوم المخالفة.
ثم اعلم: أن الاقتصار على الحد المذكور قد فُهِم من النص
القرآني والمفهوم يجوز أن يرفع بخبر الواحد وهو: حديث عبادة بن
الصامت، ورفع المفهوم لا يُسمى نسخا.
القسم الرابع: الزيادة غير المستقلة التي تتعلَّق بالمزيد عليه تعلُّق
الشرط بالشروط.
أي: تكون الزيادة شرطا للمزيد عليه، فإذا فقد المزيد عليه هذه
الزيادة - وهو الشرط - يكون وجوده وعدمه واحداً.
من أمثلة ذلك: زيادة النية في الطهارة؛ حيث إن الشارع أمر
بالطهارة مطلقاً، ثم زيد شرط النية لها.
وأيضاً: زيادة الطهارة في الطواف؛ حيث إن الشارع أمر
بالطواف مطلقا، ثم زيد شرط الطهارة له، وكذا زيادة اشتراط
الطهارة على وجوب الصلاة.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الصحيح، لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم لم توجد
هنا، بيان ذلك:
أن قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) - مثلاً - اقتضى أمرين:
أحدهما: " وجوب الصلاة،.
والثاني: " الإجزاء "، حيث يجوز على هذا اللفظ الصلاة بدون
طهارة.
فلما جاءت الزيادة - وهي اشتراط الطهارة للصلاة - فالوجوب
لم يرتفع بها، بل هو باق على حاله بعد الزيادة وقبلها؛ حيث بقي
الأمر به.
وأما الإجزاء فهو الذي ارتفع بهذه الزيادة؛ حيث أصبحت الصلاة
لا تجزئ إلا بطهارة، فهنا ارتفع الإجزاء فقط، وارتفاع الإجزاء فقط
جعل المرتفع بعض ما تناوله واقتضاه اللفظ الذي هو قوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وهذا يسمى تخصيصا، لا نسخا.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ.
ذهب إلى ذلك: الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي.
دليل هذا المذهب:
استدلوا على ذلك بقولهم: إنه كان حكم المزيد عليه الإجزاء
والصحة بدون تلك الزيادة، فلما جاءت الزيادة ارتفع ذلك الحكم،
فاصبح المزيد عليه لا يجزئ، ولا يصح إلا بتلك الزيادة، والرفع
نسخ.
فمثلاً: كانت الصلاة تجزئ وتصح بدون طهارة، فلما زيد
اشتراط الطهارة: أصبحت الصلاة لا تجزي، ولا تصح لوحدها،
بل لا بد من الطهارة، فرفع إجزاء الصلاة لوحدها، والرفع نسخ.
كذلك: الطهارة كانت تجزئ بدون النية، فلما زيد عليها اشتراط
النية أصبحت الطهارة لا تصح إلا بنية، فأمر الشارع بالطهارة مع
النية، وهذا هو الرفع؛ حيث رفع إجزاء الطهارة لوحدها،
وأصبحت لا تجزئ إلا بنية، والرفع نسخ.
جوابه:
يجاب عنه بأن ما ذكرتموه صحيح لو أن الإجزاء استقر وثبت أولاً،
ثم وردت الزيادة بعده؛ لأن من شرط النسخ: تأخر الناسخ عن
المنسوخ، وهنا لم يتحقق ذلك الشرط؛ لأنه يحتمل أن تكون الزيادة
قد ثبتت وهي مقارنة للفظ المزيد عليه.
وعلى هذا: يكون إدعاؤكم استقرار الإجزاء، ثم ورود الزيادة
بعد ذلك هو دعوى يحتاج إلى دليل، ولا دليل عندكم، فثبت أن
تلك الزيادة ليست بنسخ.
الخلاصة:
يتلخص مما سبق من أقسام الزيادة على النص: أن الجمهور
يقولون: إن الزيادة ليست بنسخ في جميعها.
وأن الحنفية يقولون: إن الزيادة نسخ.
بيان نوع الخلاف في تلك الأقسام:
الخلاف في تلك الأقسام معنوي، قد أثر في إثبات تلك الزيادة
بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، أو القياس.
فبناء على المذهب الثاني - وهو مذهب الحنفية - وهو الذي يرى
أن الزيادة نسخ، فإنه لا تثبت تلك الزيادة بخبر الواحد أو القياس؛ كلًّا منهما لا ينسخ المتواتر كزيادة " تغريب عام "، فهذا خبر
واحد لذلك رده أبو حنيفة؛ لأنه زيادة عما في القرآن؛ لأن القرآن
لا يوجد فيه إلا الجلد، وذلك في قوله تعالى:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، والقرآن متواتر لا ينسخه خبر آحاد.
أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور وهو الذي يرى:
أن الزيادة ليست بنسخ - فإن تلك الزيادة ثابتة عندهم وإن كان ثبوتها
بخبر الواحد، فقبلوها، لذلك زادوا على حد الجلد التغريب.
كذلك لم يئبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية -
وجوب قراءة الفاتحة الئابت بقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
لأنه خبر واحد، فقالوا: إن قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ،
يفيد افتراض مطلق القراءة لما تيسر من أي سورة كانت، فجعل الفاتحة ركنا نسخ لهذا القاطع بخبر الواحد فلا يجوز.
أما على المذهب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن الزيادة
ليست بنسخ - فإنهم قبلوا تلك الزيادة وهي ثابتة عندهم، فلا صلاة
لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
كذلك لم يثبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية
القائلون: إن الزيادة نسخ - اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة
الظهار؛ لأن المثبت لذلك هو القياس على كفارة القتل؛ حيث
اشترط في كفارة القتل في عتق الرقبة الإيمان بقوله تعالى:
(فتحرير رقبة مؤمنة) ، والقياس لا يقوى على نسخ ما في القرآن؛ حيث إن
الثابت في كفارة الظهار في القرآن هو قوله تعالى: (فتحرير رقبة)
بدون اشتراط الإيمان.
أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور - فإنهم قبلوا تلك
الزيادة وهي ثابتة عندهم، وزادوا ذلك الشرط، فاشترطوا: أن
تكون الرقبة مؤمنة؛ لأن الزيادة على النص ليست بنسخ عندهم.
تنبيه: لا بد أن تعلم أن الحنفية قد ردوا أخباراً كثيرة بسبب تمسكهم
بهذا الأصل وهو: " أن الزيادة على النص نسخ "؛ لأنه اقتضى
زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر
الواحد.
المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء العبادة أو شرطها:
أي: نسخ جزء العبادة أو شرط من شروطها هل هو نسخ لجملة
العبادة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن نسخ جزء من أجزاء العبادة أو شرط من
شروطها ليس بنسخ للعبادة كلها.
ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هو: الرفع والإزالة، وهذه
الحقيقة قد تناولت " الجزء "، و " الشرط " المنسوخ فقط،
أما ما عدا. ذلك فلم تتناوله تلك الحقيقة؛ حيث إنه باق على حاله لم يتبدل
ولم يتغير.
الدليل الثاني: الوقوع: فقد وقع أن نسخ الشارع شرط عبادة من
العبادات، ولم تكن تلك العبادة قد نسخت بانكلية مثل: استقبال
بيت المقدس الذي هو شرط لصحة الصلاة، فقد نسخ هذا الشرط،
ولم يكن نسخه نسخاً لحكم الصلاة، بل هي باقية بحالها لم تتغير،
وإنما التغير قد تناول شرطها فقط.
وأيضاً: فقد نسخ عشر رضعات بخمس، ونسخ هذا الجزء
- وهو الخمس - لم يكن نسخاً لكل العشر.
الدليل الثالث: قياس النسخ على التخصيص، فكما أن
التخصيص لا يكون تخصيصاً للجميع، فكذلك نسخ بعض العبادة
لا يكون نسخاً لجميعها.
الدليل الرابع: أن نقص الجزء أو الشرط لم يرفع حكم تلك
العبادة من الوجوب أو الندب أو غيرهما، فلا يكون نسخا؛ وذلك
لأن النسخ هو رفع الحكم الشرعي.
المذهب الثاني: أن نسخ جزء العبادة أو شرطها نسخ للعبادة
جملتها.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، وبعض
المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن نقص جزء من أجزاء
العبادة، أو إلغاء شرط من شروطها يرفع حرمة فعلها بدون ذلك
الجزء أو الشرط، ويبيح الفعل بدونهما، والحرمة حكم شرعي،
فيكون رفعه نسخ؛ لأن حقيقة النسخ قد وجدت.
جوابه:
يجاب عنه: بأن وجوب العبادة بعد نقص الجزء، أو إلغاء الشرط
لم يتغير ولم يرفع، بل إنه عين وجوبها قبل النقص وإلغاء الشرط،
فالحكم الثابت للعبادة حال النسخ هو الوجوب، ولم يرفع، إذن
لم توجد حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم، وإذا لم توجد فلا نسخ.
كمن أخذ ريالاً من كيس فيه عشرة ريالات، فإن الباقي بعد نقص
الريال باق على حاله لم يرفع، ولم يتأثر بشيء.
المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل:
لقد اختلف العلماء في نسخ الحكم، هل يجوز إلى غير بدل أو لا؟
على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من غير أن يأتي ببدل عنه.
وهذا مذهب الجمهور.
وهو الصحيح لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هي: الرفع والإزالة، ورفع
الشيء يتحقق في نفسه، وإن لم يثبت له خلف وبدل، فليس في
حقيقة النسخ تعرض للخلف والبدل.
الدليل الثاني: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم
دون وضع بدل عنه، أي: أن اللَّه تعالى علم أن نسخ هذا الحكم
مصلحة، ولا مصلحة في إثبات بدل له.
الدليل الثالث: أن نسخ الحكم بلا بدل قد وقع، والوقوع دليل
الجواز.
فمن أمثلة ذلك: أن تقديم الصدقة بين يدي المناجاة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم كان واجباً؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ، ثم نسخ ذلك بقوله
تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
…
) .
وكان هذا النسخ بلا بدل.
ومن ذلك أيضاً: أن الشارع نهى عن ادخار لحوم الأضاحي، ثم
نسخ ذلك بلا بدل؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:
"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، أما الآن فكلوا، وتصدقوا، وادخروا".
ومن ذلك أيضاً: أن اللَّه تعالى أوجب على الصائم في أول
الإسلام أن يمسك بعد الفطر في أول الليل، فلو نام قبل الفطر، ثم
استيقظ ليلاً حرم عليه الطعام والشراب، ثم نسخ تحريم الأكل
والشرب في الليالي إلى غير بدل.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل.
ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض أهل الظاهر.
أدلة هذا المذهب:
استدلوا على ذلك بأدلة ومنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه لا ينسخ شيئاً من الأحكام إلا
إذا وضع مكانه بدلاً عنه خيراً منه أو مثله، وخبر اللَّه تعالى صدق،
فالخلف في خبره محال.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنه ليس في الآية ما يدل على أنه لا بد من
البدل، بل إن الآية تدل على أن البدل الثابت خير من المبدل إن ثبت
البدل، فهو كقول السيد لعبده: " لا آخذ منك ثوبا وأعطيك بدله
إلا إذا كان البدل خيراً من الأول "، فهذا اللفظ لا يدل على وجوب
البدل، ولكنه يدل على أن البدل إذا وقع فلا بد أن يكون خيراً.
الجواب الثاني: أن الآية وردت في التلاوة، وليس للحكم فيها ذكر.
أي: أنه يدل على نسخ لفظ الآية؛ لأن الآية حقيقة فيها،
والأصل في الإطلاق الحقيقة، فيكون على ذلك معنى الآية: لا
يوجد هنا نسخ لآية من الآيات القرآنية إلا أتينا بآية أخرى بدلها،
وليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب هو نسخ الأحكام، والآية
لا تفيد ذلك.
الجواب الثالث: أن الآية تصلح أن تكون حُجَّة لنا، بيان ذلك:
أن رفع الحكم إلى غير بدل قد يكون خيراً من المبدل؛ لما في ذلك
من رفع المشقة عن المكلف، ولكونه لو وجد في الوقت الثاني
- الذي نسخ فيه - لكان فيه مفسدة على العباد والبلاد.
الدليل الثاني قالوا فيه: إنما قلنا: إن النسخ لا يكون إلا إلى
بدل؛ لأنه أمر يلزم في كل حكم رفع، وذلك لأن الحكم إذا رفع
عاد الأمر إلى ما كان عليه من حكم العقل، فمثلاً: إذا رفع تحريم
الخمر عاد إلى ما كان عليه قبل التحريم، وهو محرم بحكم العقل.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا غير صحيح، لأن العقل لا مدخل له في
الشرعيات، فليس له أن يحرم أو يبيح، وهذا من كلام المعتزلة بناء
على قاعدتهم: " التحسين والتقبيح العقليين "، ونحن لا نقول بها.
***
المسألة السابعة عشرة: النسخ بالأخف، والمساوي، والأثقل:
نسخ الحكم ببدل هو أخف من المنسوخ قد اتفق على جوازه كنسخ
عدة المتوفى عنها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر أيام.
نسخ الحكم ببدل مثله في التخفيف والتثقيل والتشديد كنسخ
استقبال بيت المقدس بالكعبة، قدْ اتفق على جوازه.
نسخ الحكم ببدل أثقل منه قد اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم
من الأخف إلى الأثقل، وهذه المصلحة هي التدرج والترقي من
الأحكام الخفيفة إلى الأحكام الثقيلة والشديدة: فالناس حديثو عهد
بكفر، فلو نزلت الأحكام الثقيلة في أول الأمر لنفر أكثر من دخل
في الإسلام عنه، ولكن اللَّه عَزَّ وجَكَّ رأى أن المصلحة تقتضي
التدرج بهم في الأحكام؛ لتلافي ذلك: فينزل اللَّه الأحكام الخفيفة
في أول الأمر حتى تتمرن النفوس عليها وتتهيأ لقبول غيرها مما هو
مثلها وأثقل منها كما حصل في ابتداء التكاليف الشرعية كتحريم
الخمر، وتحريم الربا.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث وقع نسخ الحكم. من الأخف إلى
الأثقل، والوقوع دليل الجواز.
فمن أمثلة ذلك: أنه كان في أول الإسلام يجوز تأخير الصلاة في
حالة الخوف إلى وقت آخر أكثر أمنا، ونسخ ذلك إلى وجوب
الإتيان بها في حالة الخوف قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ..) ، ولا شك أن الصلاة حالة الخوف أشد.
مثال آخر: أن اللَّه تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام
مخيراً بينه وبين الفداء بالمال الثابت بقوله تعالى: (وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين) ، ثم نسخ ذلك بتعيين الصيام فقط
بقوله تعالى: (فمن شهد الشهر فليصمه) ، ومعلوم أن تعيين
الصيام أشد.
مثال ثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم أمروا في أول
الإسلام بترك القتال والإعراض عن ذلك، قال تعالى: (فأعرض
عنهم) ، (وأعرض عن المشركين) ، ثم نسخ ذلك بإيجاب
الجهاد في سبيل اللَّه، ومعلوم أن وجوب الجهاد أثقل من عدمه.
الدليل الثالث: أنه إذا جاز أن لا يكلف اللَّه عباده ابتداء، ثم
يكلفهم العبادات الشاقة جاز أن ينتقل من الأخف إلى الأثقل، ولا
فرق بينهما لمن تدبر.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل.
ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية كأبي بكر بن داود، ونسب إلى
كل الظاهرية، ونسب إلى بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل هؤلاء بأدلة، ومنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى نفى إرادة العسر، والعسر هو الأشق
والأثقل، إذن اللَّه لا ينقل العباد من حكم أخف إلى حكم أثقل؛ فيه عسراً عليهم ومشقة، فلو قلنا: إنه ينسخ من الأخف إلى
الأثقل لكان ذلك تكذيباً لخبر الصادق.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن الآية وردت في صورة خاصة؛ حيث وردت
في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، والخاص لا يستدل به
لإثبات قاعدة أصولية تعم كثيراً من الأحكام.
الجواب الثاني: على فرض أنها عامة، فإنا نحملها على ما فيه
اليسر والعسر بالنظر إلى المال، ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق
في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب: أنه يسر، لا عسر.
الجواب الثالث: أنه لو صح أن اللَّه لا يريد العسر لما كلف الخلق
بعبادة فيها مشقة، وهذا لا يقوله أحد.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أنه ليس المراد منه أن يأتي بخير من الآية في نفسها؛ القرآن كله خير، وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا،
ومعروف أن الأصعب والأشق والأثقل ليس خيراً من الأخف
والأسهل، وليس مثلاً له، وعليه: فلا يجوز نسخ الحكم من
الأخف إلى الأثقل.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن ظاهر هذه الآية أنه نسخ التلاوة، وقد يجوز
أن يكون ثوابه أكثر، وقد ورد التفضيل في ثواب القرآن.
الجواب الثاني: أن الخير المذكور في الآية هو ما كان خيراً في
الدين، ولعل الأصعب في العبادات هو الخير في الدين من الأخف؛ ثوابه أكثر، أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها.ْ:" ثوابك على قدر نصبك ".
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله
للأمم قبلهم، فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه: كان تكذيبا لخبره
تعالى وهو محال.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يلزم من وضع الإصر والثقل الذي كان على
من قبلنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا.
الدليل الرابع: أن اللَّه سبحانه أخبر عن نفسه بأنه رؤوف رحيم
بعباده بقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، وغيرها من
الآيات، وخبر اللَّه تعالى صدق لا شك في ذلك، ونسخ الحكم من
الأخف إلى الأثقل ينافي تلك الرحمة والرأفة مما يؤدي إلى أن يكون
خبر اللَّه كذباً، وهذا محال.
جوابه:
يجاب عنه: بأن كون اللَّه تعالى يتصف بالرحمة والرأفة لا يمنع
من نسخ الشيء من الأخف إلى الأثقل؛ قياساً على التكاليف ابتداء،
وقياساً على تسليط الأمراض أو الفقر، وغير ذلك من أنواع المؤذيات،
بيان ذلك:
أن اللَّه تعالى قد كلَّف عباده ابتداء بإقامة العبادات الشاقة الشديدة
- بعد أن لم يكونوا مكفَفين بشيء -، وهو مع ذلك متصف
بالرحمة والرأفة، فإذا جاز ذلك: جاز أن ينقل الحكم من الأخف -
إلى الأثقل، ولا فرق بينهما في المعنى.
وكذلك: اللَّه تعالى قد سلَّط بعض الأمراض والفقر، والهموم
والغموم، وغير ذلك من أثواع العذاب والمؤذيات على بعض
المؤمنين، ومع ذلك فهو رحيم رؤوف بهم، وإنما يصيبهم بما ذكر
ابتلاء وامتحانا لهم، وتكفيراً لذنوب قد اقترفوها في دنياهم، فهو
سبحانه لا يصيب أيَّ عبد من عبيده بأيِّ مصيبة إلا وفيها مصلحة له،
فأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر وفيه أجر، وإن أصابته
ضراء صبر وفيه أجر.
كذلك هنا ينسخ الحكم من الأخف "إلى الأثقل ابتلاء وامتحانا
للمكلَّفين، ولمصالح يعلمها اللَّه تعالى.
الدليل الخامس قالوا فيه: إن النسخ والتخفيف والحط بمعنى
واحد، فلو قال قائل:" خففت عليك ولكن إلى شيء هو أثقل ":
كان تناقضا، فكذلك إذا قال:" نسخت إلى ما هو أثقل ".
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن النسخ ليس بمعنى التخفيف
والحط في اللغة، بل النسخ لغة: هو الرفع والإزالة.
***
المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ بعض الأمَّة، فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يكون نسخا في حق من لم يبلغه، أي:
أن الحكم الأول لم يرتفع في حق من لم يبلغه الناسخ، ولا يلزمه
العمل بالناسخ، فلا يأثم إذا لم يعمل به.
هذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنفية،
والمعتزلة، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وابن
الحاجب، والقاضي أبو يعلى الحنبلي، وغيرهم.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول
الله قد أنزل عليه الليلة، وقدْ أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها،
وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
وجه الاستدلال: أن أهل قباء قد اعتدوا بما مضى من صلاة
الصبح فلم يقضوها، ولو كان النسخ ثبت في حقهم لأمروا
بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء: دلَّ على أن النسخ لم يكن ثبت
في حقهم.
الدليل الثاني: أن الخطاب الناسخ غير لازم للمكلَّف قبل تبليغه
به لا نصاً ولا حكماً.
أما النص فقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) .
وأما الحكم فهو: أن المكلَّف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ
على وجهها قبل بلوغه بالناسخ: لكان آثما عاصيا غير خارج به عن
العهدة، كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه، ولو كان
مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة، ولما كان عاصيا بفعل ما خوطب
المذهب الثاني: أنه يكون نسخا في حق من لم يبلغه.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل هؤلاء بأدلة هي كما يلي:
المدليل الأول: القياس على الوكيل إذا عزله الموكل، بيان ذلك:
لو وكل شخص وكيلاً في بيع سلعة، ثم عزل الموكل ذلك
الوكيل فإنه ينعزل، وإن لم يعلم الوكيل بذلك العزل، فإن باع
سلعة بطل ذلك البيع، ويبطل أي تصرف من الوكيل بعد عزل
الموكل له، وإن لم يعلم الوكيل بذلك، فكذا الناسخ يُبطل العمل
بالمنسوخ وإن لم يعلم المكلف.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه قياس على أصل قد اختلف فيه؛ حيث إنه لم
يتفق على أن الوكيل ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، بل قد
اختلف فيه على رأيين:
الرأي الأول: أنه ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، فلا
تصح جميع تصرفات الوكيل بعد العزل وإن لم يعلم به.
الرأي الثاني: أن الوكيل لا ينعزل إلا بعد علمه فيصح بيعه
وجميع تصرفاته، وكذلك إن مات الموكل ولم يعلم الوكيل.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح القياس.
الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين عزل
الوكيل مع عدم علمه، وثبوت حكم الناسخ على المكلف مع عدم
علم المكلف، وهو: أن أوامر اللَّه - تعالى - ونواهيه مقرونة
بالثواب والعقاب فاعتبر فيها علم المأمور به والمنهي عنه، بخلاف
الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب.
الدليل الثاني: أن الحكم المنسوخ يرفع اتفاقا بعد علم المكلف
بالنسخ، فرفعه إما أن يكون بعلم المكلف، أو يكون بالنسخ.
لا يمكن أن يرفع بعلم المكلف؛ لأن العلم لا دخل له في ثبوت
النسخ.
فلم يبق إلا أن يرفع بالنسخ وهو الصحيح، فثبت - بهذا - أن
النسخ متحقق قبل علم المكلف، فيكون نسخا في حق من لم يبلغه
وهو المطلوب.
جوابه:
يجاب عنه بأن الرفع بالنسخ مشروط بعلم المكلََّف به، وللشروط
لا يتحقق بدون شرطه.
بيان نوع الخلاف:
إنَّ الخلاف لفظي في هذه المسألة، حيث إنه راجع إلى المراد من
ثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الناسخ: فإن أريد بثبوت النسخ
في حق من لم يبلغه الخبر: أنه يجب عليه الأخذ بحكم الناسخ قبل
العمل به فهو إلزام بالمحال وتكليف بما لا يطاق عند الفريقين.
وإن أريد أنه إذا بلغه الناسخ يلزمه تدارك ما مضى فهذا مما لا امتناع فيه.
***
المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن:
نسني القرآن بالقرآن جائز بالإجماع، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها) ، وهو صريح في ذلك.
الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز: فقد وقع
نسخ القرآن بالقرآن كثيراً، من ذلك نسخ عدة المتوفى عنها من سنة
كاملة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، قال تعالى:(مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)، ثم - نسخ ذلك بقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ،
ونسخ الفداء
بالمال عن الصيام، قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين) ، فنسخ ذلك بقوله:(فمن شهد الشهر فليصمه) .
الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة من حيث السند؛ حيث إن كلاً
منهما قطعي الثبوت. -
***
المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة:
هذا جائز بالاتفاق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن ينسخ الحكم الثابت بالتواتر
بمتواتر مثله.
الدليل الثاني: القياس على القرآن، فكما أنه يجوز نسخ القرآن
بالقرآن كذلك يجوز نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة بجامع: أن
كلاً منهما قطعي الثبوت.
الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة؛ حيث إن الناسخ والمنسوخ
يتفقان في أن كلًّا منهما قطعي اكشبوت.
المسألة الحادية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد:
هذا جائز بالاتفاق؛ لدليلين:
الدليل الأول: وقوعه، والوقوع دليل الجواز، من ذلك:
ما رواه بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "،
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في شارب الخمر -: " إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه "
، فأتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة فخلَّى
سبيله.
الدليل الثاني: الاتحاد في الرتبة، حيث إن الناسخ والمنسوخ
يتحدان في أن كلًّا منهما ظني الثبوت.
***
المسألة الثانية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة:
هذا جائز بالاتفاق؛ لأن التواتر يفيد العلم، ويقطع العذر،
والآحاد يفيد الظن، ونسخ الشيء بما هو أقوى وأعلى منه جائز،
ولكنه لم يقع.
المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُّنَّة بالقرآن:
هذا قد اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن مطلقا.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن القرآن والسُّنَّة وحي من اللَّه تعالى، - قال تعالى
في ذلك: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، غير أن
الكتاب متعبد بتلاوته، بخلاف السُّنَّة، ونسخ حكم أحد الوحيين
بالآخر غير ممتنع عقلاً، ولهذا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل
القرآن ناسخا للسُّنَّة لما لزم عنه محال عقلاً، فدلَّ على الجواز
العقلي.
الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز، فلو لم يكن
جائزاً لما وقع، فقد وقع في الشرع أن القرآن نسخ السُّنَّة، من ذلك:
1 -
أنه نسخ تأخير الصلاة حالة الخوف الثابت بالسُّنَّة؛ حيث
روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر الصلاة يوم الخندق: الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي من الليل فصلاها، ثم نسخ ذلك بالقرآن وهو قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة) .
2 -
أنه نسخ الصلاة على المنافقين، فقد روى عمر بن الخطاب:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد اللَّه بن أبي بن سلول المنافق، فعارضه عمر رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخَّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي: " استغفر لهم " لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت " -
قال الراوي: فصلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه،
قال: فعجبت من جرأتي على رسول اللَّه، والله ورسوله أعلم،
قال: فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، فما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللَّه تعالى، فهذا نسخ السُّنَّة بالقرآن.
3 -
أنه نسخ القبْلة إلى بيت المقدس الثابتة بالسُّنَّة بالقرآن؛ حيث
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمَ المدينة صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
ولا يمكن أن يقال: إن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما
بالقرآن، وهو قوله تعالى:(فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ؛ لأن هذه الآية فيها
تخيير بين بيت المقدس وغيره من الجهات، والمنسوخ إنما هو وجوب
التوجه إليه عيناً، وذلك غير معلوم من القرآن.
اعتراض على هذا الدليل:
قال المعترض: لعل هذه الأحكام كانت ثابتة بقرآن نسخ تلاوته،
وبقى حكمه، فيكون نسخ القرآن بالقرآن، أو لعل تلك الأحكام قد
ثبتت بالسُّنَّة، ونسخت بالسُّنَّة، فيكون من قبيل نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة
وهذا متفق عليه.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك؛ لأمرين:
أولهما: أنه لا دليل عند المعترض على أن تلك الصور من باب
نسخ القرآن بالقرآن، أو من باب نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة، ونحن قد
تمسكنا بالأصل، وهو عدم الدليل على ذلك - بعد البحث التام -.
ثانيهما: أنه لو قبل مثل هذه الاحتمالات لاقتضى أن لا يتعين
ناسخ ولا منسوخ؛ حيث إنه سيقال في كل ناسخ: إنه ليس بناسخ
بل غيره، ويقال في كل منسوخ: إنه ليس بمنسوخ بل غيره، وهذا
خلاف الإجماع، بل لما ثبت ناسخ علم تأخره عن منسوخ إلا إذا
قيل: " هذا ناسخ وذلك منسوخ "، وهو خلاف ما قاله العلماء.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن.
نسب هذا إلى الإمام الشافعي رحمه الله.
أدلة هذا المذهب:
استدل أصحاب. هذا المذهب بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
وجه الاستدلال: أن الآية دلَّت على أن السُّنَّة بيان للقرآن،
والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخا للسُّنَّة لكان القرآن
بياناً للسُّنَّة، وسيأتي أن السُّنَّة بيان للقرآن، فيلزم من ذلك أن كل
واحد منهما بيان للآخر، وهذا دور، والدوبى باطل، فامتنع أن
يكون القرآن ناسخاً للسُّنَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الشارع لما جعل السُّنَّة بياناً للقرآن نبَّه بذلك على
أن القرآن أَوْلى أن يكون بيانا للسُّنَّة؛ لأنه أعلى منها، أي: إذا جاز
أن يبين الأعلى بالأدنى، فجواز تبيين الأدنى بالأعلى أوْلى.
الدليل الثاني: قالوا: إنه لو نسخت السُّنَّة بالقرآن للزم تنفير
الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته؛ لإيهامهم أن اللَّه - تعالى - لم يرض السُّنَّة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مناقض لمقصود البعثة، ولقوله تعالى:(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) .
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه لو امتنع نسخ السُّنَّة بالقرآن للإيهام أن اللَّه لم
يرض عن تلك السُّنَّة، وهذا يؤدي إلى تنفير الناس عن طاعة
الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعمتم: لامتنع نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنَّة، وهو خلاف " الإجماع، حيث إنه قد اتفق على جواز نسخ
القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنّة - كما سبق ذكره -.
الجواب الثاني: أن ما قلتموه في دليلكم إنما يصح أن لو كانت
السئُنَّة من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، وليس كذلك، بل إنما السُّنَّة وحي قال تعالى في ذلك:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .
الدليل الثالث لهم قالوا فيه: إن القرآن والسُّنَّة جنسان مختلفان
من الأدلة، فلم يجز نسخ أحدهما بالآخر.
جوابه:
يجاب عنه بأن النسخ في الأصل لم يمتنع لكونهما جنسين، وإنما
امتنع؛ لأن أحدهما فرع للآخر، وأن أحدهما أدنى، فلم يجز نسخ
الأصل بفرعه، ولا نسخ الأعلى بالأدنى، وهذا لم يكن في مسألتنا؟
لأننا لم ننسخ الأعلى بما هو دونه، وإنما ننسخ الأدنى بما هو أعلى
منه، ولا مانع من ذلك.
تئبيه: لقد قلت: إن المذهب الثاني قد نسب إلى الإمام
الشافعي، وقد كثر كلام العلماء حول هذه النسبة، وقد حققت ذلك
في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه
إن شئت.
***
المسألة الر ابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة:
لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها: مذهبان:
المذهب الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً وشرعا.
وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وعامة المتكلمين، وأهل الظاهر،
وهو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه وبعض الحنابلة، وهو - اختيار
أكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة لا يستحيل عقلاً،
فالناسخ - في الحقيقة - هو الله عز وجل، كل ما في الأمر أنه
سبحانه أنزل الناسخ على النبي صلى الله عليه وسلم بوحي غير نظم القرآن، وإذا كان المنسوخ - وهو القرآن - والناسخ - وهي السُّنَّة - من اللَّه تعالى فما المانع من نسخ أحدهما للآخر؟
اعتراض على ذلك:
قال معترض على هذا الدليل: قد ينسخ النبي صلى الله عليه وسلم الآية اجتهاداً منه، فإن هذا ليس من اللَّه تعالى.
جوابه:
يجاب عنه بأن يقال: إن جوز للنبي صلى الله عليه وسلم النسخ بالاجتهاد فهو من عند اللَّه - أيضا -، فالله هو الذي أذن له بالاجتهاد في هذا الأمر، فثبت المطلوب، وهو: أن الكل من اللَّه تعالى.
الدليل الثاني: أن القرآن والسُّنَّة لا فرق بينهما من حيث السند،
فكل واحد منهما متواتر، ولا فرق بينهما من حيث المصدر - كما
قلنا سابقا -.
وإذا كان كل واحد منهما قطعي الثبوت، ومصدره من اللَّه تعالى،
فإن كل واحد منهما يقوى على نسخ الآخر.
الدليل الثالث: أن النسخ تعريف بانقضاء مدة العبادة، وإعلام
سقوط مثل ما كان واجبا بالمنسوخ وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان،
والمعرفة بذلك تقع بالسُّنَّة كما تقع بالقرآن.
الدليل الرابع: الوقوع، فقد وقع في الشريعة نسخ القرآن بالممئُنَّة
المتواترة، والوقوع دليل الجواز، من ذلك:
أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، فنسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"فلا وصية لوارث".
اعتراض على ذلك:
لقد اعترض على ذلك الدليل باعتراضين:
الاعتراض الأول: أن الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخ بقوله
عليه السلام: " لا وصية لوارث "، بل إنها نسخت بآية المواريث، وبيان سهام الوالدلين والأقربين، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:" إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
جوابه:
يجاب عن هذا الاعتراض بأنه يمكن الجمع بين هذا الحديث وآية
المواريث التي هي قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب.
الاعتراض الثاني:
إن الوصية للوالدين الثابتة بالآية لا يمكن أن تنسخ بالحديث وهو:
" لا وصية لوارث "؛ لأن الحديث خبر آحاد، وليس بمتواتر،
وخبر الواحد لا يقوى على نسخ ما ثبت بالقرآن.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الحديث في قوة المتواتر؛ لأن المتواتر نوعان:
متواتر من حيث السند، ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير
نكير، فإن ظهوره يغني الناس عن روايته، والحديث الذي معنا من
النوع الثاني، حيث إن ظهور العمل به من العدول من أئمة الفتوى
بلا منازع، فإنه يجوز النسخ به.
المذهب الثاني: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً، ولا يجوز شرعا.
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وبعض
الحنابلة، واختاره أبو إسحاق الإسفراييني، وأبو منصور البغدادي،
والقلانسي، والحارث المحاسبي.
أدلة هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب على جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة
المتواترة عقلاً بالأدلة الثلاثة الأولى التي استدل بها أصحاب المذهب
الأول.
واستدل أصحاب هذا المذهب على عدم جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة
المتواتر شرعا بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه جعل البدل خيراً من المنسوخ أؤ مثلاً له،
والسُّنَّة ليست خيراً من القرآن ولا مساوية له في الخيرية، فلا تكون
بدلاً عن الكتاب ولا ناسخة له.
وكذلك: أخبر اللَّه تعالى أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه،
وذلك يفيد أنه يأت بما هو من جنسه، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن
لا السُّنَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المراد بالخيرية والمثلية الواردة في الآية: الخيرية
والمثلية في الحكم لا في اللفظ، ولا شك أن الخكم الثابت بالسُّنَّة قد
يكون أنفع للمكلف من الحكم المنسوخ.
ثم اعلم بأن السُّنَّة كالقرآن ولا فرق بينهما، حيث إن كلًّا منهما
من عند اللَّه سبحانه وتعالى، كل ما في الأمر أن القرآن معجز
ومتعبد بتلاوته، والسُنَّة ليست كذلك.
فإذا علمت أن الكل من عند اللَّه، وأن المصدر واحد، وكل
منهما قطعي الثبوت، فإنه ثبت أن الآية ليس فيها ما يدل على أن
السُّنَة لا تنسخ القرآن.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
وجه الدلالة: أن المراد بما نزل هو القرآن، والمراد من الذكر هو
السُّنَة، وقد جعل اللَّه السُّنَّة مبينة لكل القرآن؛ لأن " ما " للعموم،
فلو كانت السُّنَّة ناسخة للقرآن للزم أن تكون رافعة للقرآن، لا مبينة
له؛ لأن النسخ رفع لا بيان، وذلك يخالف ما دلت عليه الآية.
جوابه:
يجاب عنه بأن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم
الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، وما دام النسخ بيانا، وقد جعلت
السثُنَة مبينة للقرآن، فإنه يجوز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة، ولا
مانع من ذلك.
***
المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسّنَّة
المتواترة بخبر الواحد؟
في ذلك تفصيل:
. أما نسخ القرآن والسُنَّة المتواترة بخبر الواحد عقلاً فهو جائز
باتفاق العلماء المعتدّ بأقوالهم، وذلك لأنه لا يمتنع عقلاً أن يأتي
الشارع بخبر الواحد، ويقول: إنه ناسخ للحكم الفلاني الذي ثبت
بالتواتر، فإن اللَّه ينزل ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا يلزم من جوازه
محال.
أما نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد شرعا، فقد اختلف
العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: لا يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد
شرعاً، وهو مذهب الجمهور من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأنه بعد تتبع الأدلة واستقرائها لم نجد فيها أن
متواتراً قد نسخه خبر واحد، وهذا يدل على عدم الوقوع، وماذا كان
الأمر كذلك فإنه يدل على عدم الجواز.
المذهب الثاني: يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد
شرعا.
ذهب إلى ذلك بعض أهل الظاهر كداود، وابن حزم، وبعض
العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع، حيث إنه قد وقع أن القرآن والسُنَّة
المتواترة قد نُسخا بخبر الواحد، بيان ذلك:
أولاً: أنه ثبت: أن رجلاً جاء إلى أهل قباء وهم يصلون العصر
نحو بيت المقدس، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة فانحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قباء
وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد؛ إذ قبلوا كلامه، وتحولوا نحو
المسجد الحرام، وعلى هذا يكون خبر الواحد قد نسخ المتواتر.
جوابه:
يجاب عنه بأن محل النزاع هو وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد
المجرد عن القرائن المفيدة للعلم، أما في هذه القصة فإنه يحتمل أن
يكون قد انضم إليه ما يفيد العلم كقربهم من مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق في ذلك.
ثانيا: قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) ، حيث نسخ
ذلك بخبر الواحد وهو: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ".
جوابه:
يجاب عنه: بأن الحديث مخصص للآية، وليس بناسخ لها؛ النص يقتضي أن يكون كل ما عدا المذكورات حلالا، فأخرج
عنه هذا الحديث بعضه فيكون تخصيصا لا نسخا.
ويمكن أن يكون نسخاً لو أثبت المستدلون: أن الخبر ورد بعد
العمل بمقتضى الآية، فحينئذ يكون نسخا؛ إذ لا يجوز تأخير بيان
المخصص عن وقت العمل.
ثالثا: أنه ثبت بالتواتر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد من الصحابة رضي الله عنهم إلى البلدان والنواحي لتبليغ الأحكام، وتبليغ الناسخ والمنسوخ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك: لما كان قبوله واجباً.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد، كان
ينسخ ما ثبت بخبر الواحد، أما ما لا يجوز فيه فلا، مثل مسألتنا
وهي: نسخ المتواتر بالآحاد، ومن ادعى أن خبر الواحد قد نسخ
متواتراً فعليه الإثبات.
الدليل الثاني: أن خبر الواحد ينسخ المتواتر من القرآن والسُّنَّة؟
قياساً على التخصيص به، بيان ذلك:
أنه كما يجوز تخصيص المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر
الواحد، كذلك يجوز نسخ المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة
بخبر الواحد؛ إذ لا فرق بينهما، والجامع: رفع الضرر المظنون.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن
التخصيص: بيان وجمع بين الدليلين، أما النسخ فهو: إبطال ورفع
وإزالة كما تقدم.
الدليل الثالث: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار
معارضاً لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر؛ قياساً على سائر الأدلة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؟
لوجود الفرق بين المتواتر والَاحاد، فالمتواتر مقطوع في سنده،
والآحاد مظنون في سنده، فهذا الفرق مانع من ترجيح خبر الواحد.
المسألة السادسة والعشرون: هل الإجماع يكون منسوخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الإجماع لا يكون منسوخا.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الصواب؛ لأن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاء زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن ينسخ بنص، أو إجماع،
أو قياس.
أما الأول - وهو كون الإجماع منسوخا بنص - فهو باطل؛ لأن
الناسخ لا بد أن يكون متأخراً عن المنسوخ، ومعلوم أن النص متقدم
على الإجماع.
وقلنا: إن النص متقدم على الإجماع؛ لأن النصوص تتلقى من
النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع لا ينعقد في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد، وإن وافقهم كان قوله هو الحُجَّة؛ لاستقلاله بإفادة الحكم، فإذا ثبت أن النص متقدم على الإجماع، فلا يمكن أن يكون النص ناسخاً للإجماع؛ لأن المتقدم لا ينسخ المتأخر.
أما الثاني - وهو كون الإجماع منسوخا بإجماع آخر - فلا يصح
- أيضا -؛ لأنه يستحيل انعقاده على خلاف إجماع آخر؛ إذ لو
انعقد لكان أحد الإجماعين خطأ؛ لأن الأول إن لم يكن عن دليل
فهو خطأ، وإن كان عن دليل كان الثاني خطأ؛ لوقوعه على خلاف
الدليل.
أما الثالث - وهو كون الإجماع منسوخا بقياس - فهو باطل
- أيضا -؛ لأن القياس لا يكون على خلاف الإجماع؛ لأنه يشترط
في القياس: أن لا يكون مخالفا لنص أو إجماع، فعند مخالفة
الإجماع للقياس: يكون القياس باطلاً فلا يكون حُجَّة، وعليه فلا
يصح أن يكون ناسخا للإجماع.
اعتراض على ذلك:
اعترض معترض قائلاً: إنه يُتصور أن يكون الإجماع منسوخاً،
بيان ذلك:
أنه يمكن أن يكون الإجماع قد انعقد في زمن، ثم بعد ذلك ظهر
للمجمعين خبر كان قد خفي عليهم، ولم يعلموا به أثناء إجماعهم،
هذا الخبر الذي ظفروا به هو أقوى من مستندهم في ذلك الإجماع،
فيكون - على هذا - هذا الخبر ناسخا للإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا باطل؛ لأن المنسوخ يكون هو النص الذي
كان مستند الإجماع، ولا يمكن أن يكون المنسوخ هو الإجماع؛ لأن
الإجماع بطل من أصله بظهور ذلك النص، لا أن الإجماع يكون
مرفوعا بعد استقراره.
المذهب الثاني: أن الإجماع يكون منسوخا.
ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن العلماء المعتد بأقوالهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين: فإن
المكلَّف مخير في العمل بكل واحد من القولين، إذا أجمع علماء
الأُمَّة على هذين القولين؛ إذ لا ثالث لهما، فإذا أجمع العلماء -
بعد ذلك - على أحد القولين: لم يجز العمل بالقول الآخر،
وحينئذ يكون الإجماع الثاني ناسخا لما دلَّ عليه الإجماع الأول من
جواز العمل بكل واحد من القولين، وبذلك يكون الإجماع الثاني
ناسخاً للإجماع الأول، فصح بذلك أن يكون الإجماع منسوخا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن علماء الأُمَّة إنما جوَّزوا للمكلف الأخذ بأي واحد
من القولين بشرط: أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين، فكان
الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط، فإذا وجد الإجماع الثاني فقد
زال شرط الإجماع الأول، فانتفى الإجماع الأول بسبب انتفاء
شرطه، لا لكون الثاني قد نسخه.
***
المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأولي: أن الإجماع لا يكون ناسخا، أي: أن الإجماع
لاينسخ به.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا، أو
إجماعاً، أو قياسا.
أما الأول - وهو كون المنسوخ بالإجماع نصا - فهذا باطل؟
لاستحالة انعقاد الإجماع على خلاف ذلك النص؛ لأن الإجماع
لابد له من مستند فلا يخلو: إما أن يطلع المجمعون على هذا النص
أو لا.
فإن لم يطلعوا عليه: كان إجماعهم باطلاً؛ لوجود ما يخالفه.
وإن اطلعوا عليه وأجمعوا على خلافه:. دلَّ على أن هذا النص
مرجوح، وما استندوا إليه في إجماعهم راجح، فيكون - بذلك -
الناسخ للنص هو النص الذي استندوا إليه، فثبت: أن ذلك من
باب نسخ النص بالنص، لا من باب نسخ النص بالإجماع.
وأما الثاني - وهو كون المنسوخ بالإجماع إجماعا آخر - فهو
باطل؛ لأن الإجماع لا ينعقد على خلاف إجماع آخر - كما سبق
ذكره -.
وأما الثالث - وهو كون المنسوخ بالإجماع قياسا - فهو باطل
- أيضاً - لأن من شرط حجية القياس والعمل به: عدم مخالفته
للإجماع، فإذا انعقد الإجماع على خلاف القياس: زال القياس
لزوال شرطه، وزوال المشروط لزوال الشرط لا يسمى نسخاً.
الدليل الثاني: أن الإجماع إنما يكون حُجَّة بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم،
والنسخ إنما يكون في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
وعلى هذا يستحيل اجتماعهما.
المذهب الثاني: أن الإجماع يكون ناسخ@.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان من الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة قد سقط بإجماع
الصحابة، فهذا يدل على أن الإجماع يكون ناسخا.
جوابه:
يجاب عنه بأن سقوط سهم المؤلفة قلوبهم ليس من باب النسخ،
بل هو من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المقررة، وهي: تحبيب
الإسلام في نفوس حديثي العهد بالإسلام لإعزاز الإسلام، فلما
حصلت العزة للإسلام في عهد الصحابة سقط سهم المؤلفة قلوبهم،
وليس انتهاء الحكم لانتهاء علته نسخا.
الدليل الثاني: كما أن الإجماع مخصص للعام كذلك يصح أن
يكون ناسخا ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه بأنه ليس كل ما يُخصص به ينسخ به، فدليل العقل
يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به، ثم إن قياسكم النسخ على
التخصيص قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن، النسخ رفع
للحكم بالكلية بخلاف التخصيص؛ فإنه قصر للحكم على بعض
أفراده، وبذلك لا يمنع أن يكون الإجماع مخصصا، بخلاف النسخ،
فقد وجد فيه ما يمنع من كون الإجماع ناسخا وهي أدلتنا السابقة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين متفقون على أنه لا
إجماع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نص بعد وفاته، فيحمل كلام أصحاب المذهب الثاني على أن مرادهم: النسخ بالدليل الذي هو
مستند الإجماع، وهذا لا خلاف فيه.
***
المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟
لقد كثر كلام العلماء حول هذه المسألة وكثرت المذاهب فيها،
ولكن الأصح عندي ما ذهب إليه ناصر الدين البيضاوي، والإسنوي
وكثير من العلماء وهو:
أن القياس يُنسخ بقياسٍ أجلى وأظهر وأقوى منه، فمثلاً نص
الشارع على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً، فقسنا عليه السفرجل لعلَّة
جمعت بينهما، وقلنا: لا يجوز بيع السفرجل بالسفرجل متفاضَلاً
قياسا على بيع البر بالبر، ثم نص - أيضاً - على إباحة التفاضل في
الموز، وكان مشتملاً على علَّة أقوى من العِلَّة التي في الأول، فإن
هذا يقتضي إلحالق السفرجلَ بالموز، ويكونَ بيع السفرجل بالسفرجل
جائزاً كالموز، فإن القياس هنا يكون ناسخا للقياس الأول.
وإنما حصرنا ناسخ القياس في قياس أقوى وأجلى منه؛ لأنه لا
ينسخ بنص ولا إجماع، ولا بقياس مساوي، ولا بقياس أخفى وأدنى
منه.
أما كونه لا ينسخ بالنص ولا بالإجماع؛ لأن شرط العمل
بالقياس: ألا يوجد ما يخالفه من نص أو إجماع، فإذا وجد ما
يخالفه من نص أو إجماع، فقد بطل العمل به، أي: زال القياس
بزوال شرطه.
أما كونه لا ينسخ بالقياس المساوي فلأن ذلك يؤدي إلى ترجيح
أحد المتساويين على الآخر بدون مرجح وهو باطل.
أما كونه لا ينسخ بالقياس الأخفى والأدنى منه، فلأن ذلك يؤدي
إلى العمل بالمرجوح وترك العمل بالراجح وهو باطل.
فثبت أن القياس ينسخ بالقياس الأقوى فقط.
وعلى ذلك فالقياس الأقوى والأجلى ناسخ للقياس الأضعف
والأخفى.
فيكون القياس ناسخاً ومنسوخا.
المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسخ
تبعا لذلك حكم الفرع؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه إذا نسخ حكم الأصل في القياس، فإن حكم
الفرع ينسخ تبعاً له مطلقاً، أي: سواء كان القياس قطعياً أو ظنياً،
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن حكم الفرع قد ثبت بالعلَّة التي اعتبرت
لحكم الأصل، فإذا نسخ حكم الأصل فقد زال اعتبار أي عِلَّة لهذا
الحكم، ومتى زال اعتبار العلَّة فقد زال اعتبار الحكم الذي ثبت بها،
وبذلك يكون رفع حكم الأصل مستلزما لرفع حكم الفرع.
فمثلاً: قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان:
"اعتق رقبة"، فإن هذا يفيد أن المجامع في نهار رمضان عليه الكفارة،
وعلَّة ذلك: إفساد اليصوم المحترم - عند بعضهم - فألحق به الأكل
عمَداً في نهار رمضان، نظراً لوجود العِلَّة فيه، فالكفارة في الأكل
في نهار رمضان ثابتة بالقياس؛ بناء على تلك العلَّة، فإذا فرضنا أن
الشارع نسخ هذا الحديث وبنسخه ينسخ الحكمَ الذي اشتمل عليه
وهو: وجوب الكفارة في الجماع في نهار رمضان: فإن حكم الفرع
- وهو وجوب. الكفارة في الأكل - يرتفع تبعاً لذلك؛ لأن العلَّة
وهي: انتهاك حرمة رمضان قد زال اعتبارها بسبب رفع حكم الأصل
الذي استنبطت منه.
المذهب الثاني: أنه إذا نسخ حكم الأصل، فإن حكم الفرع
الثابت بعلته لا يرتفع، أي: لا يرتفع حكم الفرع بارتفاع حكم
الأصل.
ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الفرع تابع لدلالة حكم
الأصل، ولم يتبع حكم الأصل، وعلى هذا: فلا يلزم من انتفاء
حكم الأصل بالنسخ انتفاء دلالته، فلم يحدث شيء إلا انتفاء حكم
الأصل، أما دلالته فباقية كما هي فيبقى معها حكم الفرع.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم بأنه لم يحدث شيء إلا انتفاء حكم
الأصل، بل ثبت انتفاء العلَّة التي استنبطت من حكم الأصل، وهو
ملزوم لانتفاء حكم الأصلَ؛ حيث إن السبب في وجود العِلَّة التي
أوجدت الحكم في الفرع هو وجود حكم الأصل، فلما انتفى حكم
الأصل، انتفت تلك العِلَّة المستنبطة منه، وبانتفائها انتفى ما تعلق بها
وهو: حكم الفرع.
تنبيه: نسب أبو يعلى، وأبو الخطاب، وأبو إسحاق الشيرازي،
وصفي الدين الهندي المذهب الثاني إلى كل الحنفية، ونسبه الآمدي،
وابن قدامة إلى بعض الحنفية، وهذه النسبة فيها تساهل؛ حيث
أنكرها ابن عبد الشكور، والأنصاري، والكمال بن الهمام من
الحنفية.
المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخاً ومنسوخا؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن مفهوم الوافقة يقع ناسخاً ومنسوخاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن مفهوم الموافقة كالنص المنطوق به، فكما
يجوز نسخ النص، والنسخ به، فكذلك يجوز نسخ المفهوم الموافق
والنسخ به ولا فرق، بل قد يكون المفهوم الموافق أقوى من المنطوق
به، فمثلاً قوله تعالى:(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمنطوقه على
تحريم التأفيف، ودل بمفهومه الموافق على تحريم الضرب والشتم
والقتل والسب، أي: إذا حرم مجرد التأفيف فمن باب أوْلى أن
يحرم الضرب والشتم؛ لأنه أشد في الإيذاء.
المذهب الثاني: أن مفهوم الموافقة لا يقع ناسخا ولا منسوخا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المواققة قياس
جلي، وانقياس لا ينسخ ولا يُنسخ به، بيانه:
أن قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمفهومه على تحريم
الضرب والشتم، والقتل للوالدين، فلم ينطق بذلك، ولم يكن
في ذلك صيغة الضرب والشتم والقتل، وإنما المنطوق به التأفيف
فألحق به الضرب والشتم بجامع الأذى في كل، وهذا هو القياس،
والقياس لا يكون ناسخاً ولا منسوخاً.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
- الجواب الأول: أن تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى ثبت
نطقا، لا قياساً، فصح نسخه، ويدل على أنه ثبت نطقا قولهم:
هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه.
الجواب الثاني: أن من سمى هذا قياسا من الشافعية صرَّحوا بأنه
قياس جلي يجري مجرى النطق في الدلالة، ونحن سميناه بمفهوم
الموافقة، أو التنبيه، أو دلالة النص عند الحنفية، وهذا اختلاف في
التسمية لا يضر ما دام أن المعنى متفق عليه.
الجواب الثالث: على فرض أنه قياس، فإن هذا لا يمنع أن يكون
ناسخاً ومنسوخاً؛ لأننا بينا فيما سبق أن القياس يكون ناسخاَ
ومنسوخاً، وذلك في المسألة الثامنة والعشرون.
المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع منسوخاً؟
الحق: أن مفهوم المخالفة يأتي منسوخاً، أي: يجوز نسخ حكم
المسكوت الذي هو مخالف للمذكور مع نسخ الأصل ودونه.
أما نسخ المفهوم المخالف مع أصله فهو واضح، حيث إنه إذا نسخ
الأصل وهو النص ينسخ معه جميع ما يفهم منه.
أما نسخ المفهوم المخالف مع بقاء أصله فمثاله: ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الماء من الماء "،
فقد نسخ مفهومه بما روته عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل "،
وبقي أصله وهو: وجوب الغسل بالإنزال.
***
المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يأتي ناسخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن النص أقوى منه، فمفهوم المخالفة يضعف
عن مقاومة النص.
المذهب الثاني: يكون مفهوم المخالفة ناسخا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كأبي إسحاق الشيرازي.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المخالفة في معنى
النص، فكما أن النص يأتي ناسخاً، فكذلك مفهوم المخالفة ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياس مفهوم المخالفة على النص قياس فاسد؟
لأنه قياس مع الفارق، فالنص دلالته قطعية على المدلول: أما دلالة
مفهوم المخالفة فليست كذلك، لذلك منع الحنفية من الاحتجاج
بمفهوم المخالفة على تفصيل سيأتي، أما الاحتجاج بالنص فلم يمنع
منه أحد.
المذهب الثالث: التفريق بين المفاهيم:
فإن كان مفهوم المخالفة من المفاهيم القوية كمفهوم الصفة،
ومفهوم الشرط ونحوهما، فيجوز أن يكون ناسخاً؛ لأنه قريب من
المنطوق، وإن كان من المفاهيم الضعيفة كمفهوم العدد واللقب
ونحوهما، فلا يجوز أن يكون ناسخا؛ نظراً لضعفه وعجزه عن
مقاومة النص.
جوابه:
يجاب عنه: بأن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا - كما قلنا في
مذهبنا - ولا يمكن أن يكون مفهوم المخالفة قريبا من النص في
الدلالة، وهذا التفريق بين المفاهيم لا دليل عليه.
المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ:
أولاً: لا يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق العقل، ولا عن
طريق القياس، لأمور:
الأول: أن النسخ إما رفع الحكم الشرعي، أو بيان مدة انتهاء
العمل به، وكل واحد منهما لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا
مدخل له فيه.
الثاني: أنه لو كان للعقل طريق إلى معرفة النسخ بدون النقل للزم
أن يكون له طريق إلى معرفة ثبوت الأحكام بدون النقل، وليس
كذلك.
الثالث: أن النسخ لا يكون إلا بتأخر الناسخ عن زمن المنسوخ،
ولا مدخل للعقل ولا القياس في معرفة المتقدم والمتأخر.
ثانياً: يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق النقل المجرد، ويعتبر
لصحة النسخ أن يتأخر ناسخ عن منسوخ وإن لم يتأخر لا يصدق
عليه اسم ناسخ.
ثالثاً: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المتفق عليها.
الطريق الأول: أن يعلم من اللفظ - النطق - تقدم أحد الحكمين
على الآخر، فيكون المتقدم منسوخا، والمتأخر ناسخا.
والمراد بالتقدم: التقدم في التنزيل، لا التقدم في التلاوة، كما
قال الماوردي.
من أمثلة ذلك:
1 -
قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)
هذا اللفظ يفيد أنه نسخ عنهم أن يصابر كل واحد لعشرة إلى أن
يصابر الواحد منهم للاثنين فقط.
2 -
قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) يفيد نسخ الإمساك بعد الفطر.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ".
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا".
5 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب ".
الطريق الثاني: أن يذكر الراوي - صراحة - وقت وتاريخ سماعه
ذلك النص مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: " سمعت عام الفتح كذا "، ونحو ذلك، فيكون المنسوخ هو الذي تقدم على ذلك التأريخ.
ويمثلون لهذا الطريق بما رواه شداد بن أوس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم "، حيث إنه منسوخ بما رواه ابن عباس:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم "، فإن ابن عباس إنما صحبه محرماً في حجة الوداع عام عشر، وفي بعض طرق حديث شداد أن ذلك كان في زمن الفتح، وذلك في سنة ثمان.
الطريق الثالث: أن تجمع الأمة أو الصحابة رضي الله عنهم
على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر، لا أن الإجماع هو
الناسخ.
مثل: نسخ رمضان لصيام يوم عاشوراء، ونسخ الزكاة لسائر
الحقوق المالية، فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم هذا، فدل
عدولهم عنه على نسخه.
الطريق الرابع: أن يخبر الراوي عن الناسخ والنسوخ، ويفهم
من كلامه صراحة مثل: قول بعض الرواة: " رخص لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المتعة ثلاثا، ثم نهانا عنها ".
2 -
ما رواه عليٌّ رضي الله عنه أنه قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة ثم قعد ".
الطريق الخامس: أن يكون راوي أحد الخبرين لم يصحب النبي
صلى الله عليه وسلم إلا في أول الإسلام ثم انقطع، وأن راوي الخبر الآخر أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون نقل الثاني هو الناسخ، وما نقله الأول هو المنسوخ.
مثاله: ما رواه طلق بن عليّ: أن صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من مس الذكر فقال: " هل هو إلا بضعة منك ".
فهذا الخبر يفيد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، فهذا
مخالف لما رواه أبو هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" من مس ذكره فليتوضأ"
حيث إنه يفيد وجوب الوضوء من مس الذكر.
وعلم أن حديث أبي هريرة متأخر عن حديث طلق؛ لأن أبا هريرة
أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة طلق بن علي، وبناء على ذلك: يكون حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق.
رابعا: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المختلف فيها:
الطريق الأول: قول الصحابي: " هذا الخبر منسوخ "، أو
قوله: " كان الحكم كذا ثم نسخ "، أو نحو ذلك هل يثبت به
النسخ؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يثبت النسخ بهذا الطريق.
ذهب إلى ذلك الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن قول الصحابي
هذا يحتمل أن يكون قد صدر عن اجتهاد، فيظن غير الناسخ ناسخا
وأن غير الرافع رافعاً، فلا يمكن أن نترك ما تيقنا من ثبوته وهو خبر
الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل كلام يدخله الاحتمال قد يصدق، وقد لا يصدق.
ثم إن قول الصحابي اختلف في حجيته، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة إجماعاً، فلا نترك الحُجة إجماعاً وقطعا بالمختلف في حجيته؟
حيث إن قول الصحابي لا يسلم على سل حال، بل لا بد من النظر
فيه والتأكد منه، ولهذا لما نقل عن طائفة من الصحابة قولهم:
"نسخ السح بآية الوضوء التي نزلت في المائدة "، لم نسلم ذلك،
بل أجمعنا على أن هذه الآية غير ناسخة لها؛ لأنه ليس في الآية ما
يدل على النسخ.
المذهب الثاني: أنه يثبت النسخ بهذا الطريق.
ذهب إلى ذلك الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أن الصحابي العدل الثقة إذا قال: إن هذا الخبر منسوخ، فإنه لم
يقله إلا عن علم بالتأريخ والتعارض؛ فإن المراد عنده معلوم بمشاهدة
القرائن، فحكمه بالنسخ عن بصيرة، والصحابي غير متهم،
فوجب الرجوع إلى ما قاله وقبوله كما يقبل منه الخبر الذي رواه عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هناك فرقاً بين روايته لخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين دعواه للنسخ، وهو: أننا قبلنا روايته للخبر وعملنا به نظراً
لثبوت عدالته والوثوق به، وكونه قد شاهد التنزيل؛ ولأن الشريعة
تؤخذ عن طريقه، فلو أننا لم نقبل الأخبار التي ينقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت في الشريعة شيء.
أما دعوى النسخ فهو متعلق بالاجتهاد والنظر، وهو في ذلك غير
معصوم، فلو وجب قبول قوله في ذلك لوجب قبول قوله في مسائل
الاجتهاد - كلها - وهذا ليس بصحيح.
الطريق الثاني: كون أحد النصين المتعارضين مثبتا في المصحف
بعد النص الآخر، هل يثبت به النسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المتأخر في الترتيب لا ينسخ المتقدم في الإثبات
في المصحف، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن ترتيب
الآيات في المصحف ليس على ترتيب النزول، بل قد يكون المتقدم
في الترتيب متأخراً في النزول كما في آيتي عدة المتوفى عنها زوجها
فقد قال تعالى في سورة البقرة، الآية الرابعة والثلاثين بعد المائتين:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، وقال في الآية الأربعين بعد المائتين من نفس السورة:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
فإن الآية الناسخة هي الأولى مع تقدمها في
المصحف عن الآية المنسوخة.
المذهب الثاني: أن المتأخر في الترتيب والإثبات في المصحف
ناسخ للمتقدم في ذلك، ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن تأخر النص في ترتيب المصحف دليل على تأخره في النزول،
والمتأخر في النزول ينسخ المتقدم.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا ليس على إطلاقه، بل قد يكون المتقدم في
ترتيب المصحف متقدماً في النزول، والمتأخر في الترتيب متأخراً في
النزول، وقد يكون المتقدم في الترتيب متأخراً في النزول كما مثلنا.
الطريق الثالث: كون أحد النصين المتعارضين موافقا للبراءة
الأصلية والآخر مخالفاً لها، هل يثبت به النسخ؛ لقد اختلف في
ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن هذا الطريق لا يثبت به النسخ.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن جعل أحد النصين
بعينه متقدماً والآخر بعينه متأخراً ليس بأولى من العكس؛ لعدم
وجود المرجح الصحيح، والموافقة والمخالفة للبراءة لا تصلح أن
تكون مرجحاً.
المذهب الثاني: أن هذا الطريق يثبت به النسخ.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن النص الموافق للبراءة متأخر عن النص المخالف لها لكونه مفيداً
فائدة جديدة، وهي رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية بعد نسخ الحكم
الذي شرع بعدها ولو جعل متقدما على النص الآخر لم يكن مفيداً
فائدة جديدة، لأن البراءة الأصلية مستفادة قبله، ومتى جعل الموافق
متأخراً كان ناسخا للنص المتقدم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الموافق للبراءة الأصلية، كما أنه قد يأتي بفائدة
جديدة عند تأخره - وهي: رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية -
كذلك قد يأتي عند تقدمه بفائدة جليلة وهي: أن الشرع جاء موافقاَ
للعقل وغير مخالف له.
الطريق الرابع: كون الراوي لأحد الخبرين المتعارضين أصغر سناَ
من الراوي الآخر، أو متأخراً في الإسلام، هل يثبت بذلك النسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يثبت به النسخ.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لجواز أن يكون الراوي
الأصغر سنا قد روى عمن هو أكبر منه، ولجواز أن يكون الراوي
المتأخر إسلاماً قد روى عمن تقدمه في الإسلام؛ فنظراً إلى هذا
الاحتمال القوي، فإن هذا الطريق لا يثبت به النسخ.
المذهب الثاني: أنه يثبت به النسخ.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الخبر الذي رواه الأصغر، أو المتأخر في الإسلام يكون ناسخاَ
للخبر الآخر، لأن الظاهر أنه متأخر في الزمن عن الخبر الآخر،
والظاهر يرجح على غيره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الظاهر الذي استندتم إليه ليس بأولى من
الاحتمال الذي ذكرنا في دليلنا.