المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ما وقع من الحوادث سنة 803] - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٢

[ابن تغري بردي]

الفصل: ‌[ما وقع من الحوادث سنة 803]

وإبعاد غيره عنها، ويدع الدنيا تنقلب ظهرا لبطن، فإنه مع ورود هذا الخبر المزعج بلغ السلطان والأمراء أن الأمير قانى باى العلائى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة يريد إثارة فتنه، فطلبه السلطان وأمره بلبس التشريف بنيابة غزة، فامتنع من لبسه، فأمر السلطان به فقبض عليه وسلم للأمير آقباى الحاجب، فأخذه ونزل إلى داره وأقام عنده إلى آخر النهار، فاجتمع عليه طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه من آقباى الحاجب غصبا، فخاف آقباى وطلع به إلى القلعة، فطلب السلطان الأمراء وتشاوروا على قتله «1» ، فاتفقوا على إبقائه فى إمرته ووظيفته.

[ما وقع من الحوادث سنة 803]

ثم فى خامس عشرين المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة ورد البريد على السلطان من حلب بأخذ تيمور ملطية، ثم وصل من الغد البريد أيضا بوصول أوائل عسكر تيمور لنك إلى مدينة عينتاب، وفى الكتاب: أدركوا المسلمين وإلا هلكوا، فاستدعى السلطان بعد يومين الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة، وعلموا أن تيمور لنك وصلت مقدّمته إلى مرعش وعينتاب، وكان القصد بهذا الجمع أخذ مال التجار إعانة على النفقة فى العساكر، فقال القضاة: أنتم أصحاب الأمر والنهى وليس لكم فيه معارض، وإن كان القصد الفتوى فى ذلك فلا يجوز أخذ مال أحد يخاف على العساكر من الدعاء، فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف من البلاد، نقطعها للأجناد البطّالين، فإن الأجناد «2» قلّت لكثرة الأوقاف، فقال القضاة: وما قدر ذلك؟

ومتى عمدتم على البطّالين فى الحرب، خيف أن يؤخذ الإسلام، وطال الكلام فى ذلك حتى استقر الرأى على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمور لنك، وسار أسنبغا فى خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد، ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء.

ص: 218

هذا وأهل البلاد الشامية فى أمر لا يعلمه إلا الله تعالى، مما داخلهم من الرعب والخوف، وقصد كل واحد أن يرحل من بلده، فمنعه من ذلك حاكم بلده، ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم.

ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدى، وصحبته أيضا كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا «1» ، بعد ما ملك مدينتها، وأنه مستمر على حصارها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب «2» ، ووصل هذا الخبر إلى مصر رابع عشرين صفر المذكور، فوقع الشروع عند ذلك فى حركة سفر السلطان، ثم علق جاليش السفر فى يوم ثالث شهر ربيع الأوّل، وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق فى سابع صفر، فقرأ كتاب السلطان فى الجامع «3» الأموى، وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور، وقدم فى تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء، بأنه قدم فى عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة «4» ، ثم عاد إلى الهند، فبلغه موت الملك الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج «5»

ص: 219

ثم قصد الروم «1» لمّا بلغه قلّة أدب هذا الصبىّ سليمان بن أبى يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه، فتوجه إليه وفعل بسيواس «2» وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم، ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه فى الخطبة، ثم يرجع، وطلب فى الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه، فى دولة الملك الظاهر برقوق، وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين فى ذمتكم، فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه، وأمر بالرسول فوسّط.

وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة؛ فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب، فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر فى ثالث شهر ربيع الأول؛ وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة «3» ظاهر حلب، وقد اجتمع بحلب سائر نوّاب البلاد الشامية، واستحثّ فى خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية، وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمور لنك فى سبعمائة فارس، والتتار فى نحو ثلاثة آلاف فارس، وترامى الجمعان بالنشاب ثم اقتتلوا ساعة، وأخذ شيخ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه، فوسّط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب، وكان الذي اجتمع بها الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها،

ص: 220

ونائب طرابلس شيخ المحمودى المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجّالتها، ونائب حماة دقماق المحمدى بعساكر حماة وعربانها، ونائب صفد ألطنبغا العثمانى بعساكر صفد وعشيرها، ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة، غير أن الكلمة متفرّقة، والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان. انتهى.

وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب، ويأمره بمسك سودون نائب الشام، فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه، فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب، فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام، وقال لدمرداش:

إن الأمير (يعنى تيمور) لم يأت البلاد إلا بمكاتباتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش لمّا سمع منه هذا الكلام، وقام إليه وضربه، ثم أمر به، فضربت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمور لنك ودهائه ومكره ليفرّق بذلك بين العساكر، فعلم الأمراء ذلك، ولم يقع ما قصده، ومن الحليين جماعة يقولون إلى الآن:

إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال. والله أعلم بصحّة ذلك.

ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور، وتهيّأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره، لعلمهم بعدم رأى مدبّرى مملكة مصر من الأمراء، ولصغر سن السلطان، وقد فات الأمر وهم فى قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه، وكان الاليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس، كما فعل الملك الظاهر برقوق- رحمه الله فبما تقدّم ذكره.

ص: 221

وبينما النواب فى إصلاح شأنهم للقتال، نزل تيمور بعساكره على قرية جيلان «1» ، خارج حلب فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل وأحاط بمدينة حلب، وأصبح من الغد فى يوم الجمعة، زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها، فكانت بين أهل حلب وبينه فى هذين اليومين حروب كثيرة، ومناوشات بالنشّاب والنّفوط والمكاحل، وركب اهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشدّ قتال، فلما اشرقت الشمس يوم السبت حادى عشره خرج نوّاب الشام بجميع عساكرها، وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب، وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور، ووقف سيّدى سودون نائب دمشق بمماليكه، وعساكر دمشق فى الميمنة، ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه، وعساكر حلب فى الميسرة، ووقف بقية النواب فى القلب، وقدّموا أمامهم أهل حلب المشاة، فكانت هذه التعبئة من أيشم «2» التعابئ، هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبئة العساكر، وحال وقوف الجميع فى منازلهم زحف تيمور بجيوش قد سدّت الفضاء، وصدم عساكر حلب صدمة هائلة فالتقاه النوّاب وثبتوا لصدمته أوّلا، ثم انكسرت الميسرة، وثبت سودون نائب الشام فى الميمنة، وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالا عظيما، وبرز الأمير عزّ الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفى وولده يشبك بن أزدمر فى عدّة من الفرسان وقد بذلوا نفوسهم فى سبيل الله، وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وظهر عن

ص: 222

أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعلّه يذكر إلى يوم القيامة، ولم يزل أزدمر يقتحم القوم ويكرّ فيهم إلى أن قتل وفقد خبره فإنه لم يقتل إلّا وهو فى قلب العدوّ، وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته، وصار فى رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره، سوى ما فى بدنه.

ثم أخذ وحمل إلى بين يدى تيمور، فلمّا رأى تيمور ما به من الجراح تعجّب من إقدامه وثباته غاية العجب، وأمر بمداواته، فيما قيل؛ ولم تمض غير ساعة حتى ولّت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب، وركب أصحاب تيمور أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور، حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك فى دخولهم إلى أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضا، حتى صارت الرّمم طول قامة، والناس تمشى من فوقها، وقصد نوّاب المماليك الشامية قلعة «1» حلب وطلعوا إليها، فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب.

هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب فى الحال، وأشعلوا فيها النّيران وأخذوا فى الأسر والنهب والقتل، فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع «2» حلب وبقية المساجد، فمال أصحاب تيمور عليهن، وربطوهن بالحبال أسرى، ثم وضعوا السيف فى الأطفال، فقتلوهم بأسرهم، وشرعوا فى تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصار الأبكار تفتضّ من غير تستّر، والمخدّرات يفسق فيهنّ من غير احتشام، بل

ص: 223

يأخذ التّترى الواحدة ويعلوها فى المسجد والجامع بحضرة الجمّ الغفير من أصحابه ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلّة مقدرته، ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب، ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهى مكشوفة العورة.

ثم بذلوا السيف فى عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى، وجافت حلب، واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل، هذا والقلعة فى أشدّ ما يكون من الحصار والقتال، وقد نقبها عسكر تيمور من عدّة أماكن، وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ.

فتشاور النوّاب والأعيان الذين بالقلعة، فأجمعوا على طلب الأمان، فأرسلوا لتيمور بذلك، فطلب تيمور نزول بعض النوّاب إليه، فنزل إليه دمرداش نائب حلب، فخلع عليه، ودفع إليه أمانا وخلعا إلى النوّاب، وأرسل معه عدّة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب، فطلعوا إليها وأخرجوا النوّاب منها بمن معهم من الأمراء والأعيان، وجعلوا كلّ اثنين فى قيد، وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه، فنظر إليهم طويلا وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام.

ثم أخذ يقرّعهم ويوبّخهم ويلوم سودون نائب الشام فى قتله لرسوله، ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كلّ واحد منهم إلى من يحتفظ به.

ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا، وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة، ففرّقها على أمرائه وأخصّائه، واستمرّ النهب والسبى والقتل بحلب فى كل يوم

ص: 224

مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشا، لا يجد الشخص مكانا يمشى عليه إلّا وتحت رجليه رمّة قتيل. وعمل تيمور من رءوس المسلمين منائر «1» عدّة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع فى دور عشرين ذراعا، حسب ما فيها من رءوس بنى آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس، ولمّا بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمرّ بها.

ثم رحل تيمور «2» من حلب «3» بعد أن أقام بها شهرا، وتركها خاوية على عروشها، خالية من سكّانها وأنيسها، قد خربت وتعطّلت من الأذان والصلوات، وأصبحت خرابا يبابا مظلمة بالحريق موحشة قفرا، لا يأويها إلّا البوم والرّخم. وسار تيمور قاصدا جهة دمشق، فمرّ بمدينة حماة، وكان أخذها ابنه ميران «4» شاه.

وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وأحاط بها بعساكره، بعد أن نهب خارج مدينة حماة، وسبى النساء والأطفال، وأسر الرجال، واستمرّت أيدى أصحابه يفعلون فى النساء

ص: 225

والأبكار تلك الأفعال القبيحة، وخرّبوا جميع ما خرج «1» عن سور المدينة. هذا وقد استعدّ أهل حماة للقتال، وركب الناس سور المدينة، وامتنعوا من تسليم المدينة، وباتوا على ذلك، فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور، ففتحوا له بابا من أبواب المدينة، ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان؛ فقدم الناس عليه، وقدّموا له أنواع المطاعم، فقبلها منهم، وعزم أن يقيم رجلا من أصحابه عليها، فقيل له:

إن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيّمه وبات به.

ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير؛ ومع ذلك فإن قلعة «2» حماة لم يتسلّمها، بل كانت امتنعت عليه.

فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرّهما بالمدينة، فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها واقتحم البلد، وأشعل النار بها، وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب، غير أنّه كان رفق بأهل حلب، فإنه كان سأل قضاة حلب لمّا صاروا فى أسره عن قتاله، ومن الشهيد [من العسكرين «3» ] ؟ فأجاب محبّ الدين محمد بن محمد بن الشّحنة الحنفىّ «4» بأن قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقال:«من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو الشهيد» ، فأعجبه ذلك وحادثهم، فطلبوا منه أن يعفو عن

ص: 226

أهل حلب، ولا يقتل أحدا؛ فأمّنهم جميعا وحلف لهم، فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.

وأمّا أهل دمشق، فإنه لمّا قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودى فى الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة، والاستعداد لقتال العدوّ المخذول فأخذوا فى ذلك، فقدم عليهم المنهزمون من حماة، فعظم خوف أهلها وهمّوا بالجلاء، فمنعوا من ذلك، ونودى «من سافر نهب» ، فعاد إليها من كان خرج منها، وحصّنت دمشق، ونصبت المجانيق «1» على قلعة دمشق، ونصبت المكاحل «2» على أسوار المدينة، واستعدّوا للقتال استعدادا جيّدا إلى الغاية.

ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب «3» الغيبة بدمشق ليتسلّموا منه دمشق، فهمّ نائب الغيبة بالفرار، فردّه العامّة ردّا قبيحا، وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها، واستغاث النساء والصّبيان، وخرجت النساء حاسرات لا بعرفن أين يذهبن، حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد.

وقدم الخبر فى أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشاميّة، ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان.

ص: 227

وأمّا أمراء الديار المصريّة فإنه لمّا كان ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيّام، فرقّت الجماكى «1» على المماليك السلطانيّة بسبب السفر.

ثم فى عشرينه نودى على أجناد «2» الحلقة بالقاهرة أن يكونوا فى يوم الأربعاء ثانى عشرينه فى بيت الأمير يسك الشّعبانى الدّوادار «3» للعرض عليه.

ثم فى خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب، وأنه يحاصر قلعتها، فكذّبوا ذلك، وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه، ووقع الشروع فى النفقة، فأخذ كلّ مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم.

ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن فى ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر.

ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقينى وقضاة القضاة والأمير آقباى الحاجب «4» ، ونودى بين أيديهم:«5» «الجهاد فى سبيل الله تعالى لعدوّكم الأكبر تيمورلنك، فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب وقتّل الأطفال على صدور الأمّهات، وأخرب الدّور والجوامع والمساجد، وجعلها إسطبلات للدوابّ، وأنّه قاصدكم، يخرّب

ص: 228

بلادكم، ويقتّل رجالكم؛ فاضطربت القاهرة لذلك، واشتدّ جزع الناس، وكثر بكاؤهم وصراخهم، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فى أعيان الدولة.

واستهلّ شهر ربيع الآخر «1» ، فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الحاجب «2» وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها باتفاق دمرداش، وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق «3» يخلّى بين الناس وبين الخروج من دمشق، فإن الأمر صعب، [وإن النائب لم يمكّن أحدا من السير «4» ] فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالرّيدانيّة بأمرائه وعساكره [والخليفة «5» ] والقضاة، وتعيّن الأمير تمراز الناصرىّ أمير مجلس لنيابة الغيبة بالديار المصريّة، وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض فى عدّة أخر، وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة، وفى تحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسّفر.

ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاى من خجا على رأس نوبة النّوب كان فى نيابة الإسكندريّة «6» بعد موت نائبها فرج الحلبى.

ص: 229

وكان أرسطاى منذ أفرج عنه بطّالا بالإسكندريّة، فوردت عليه الولاية وهو بها، وأخذ الأمير تمراز فى عرض أجناد الحلقة، وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلىّ والبحرىّ لقتال تيمور، كلّ ذلك والسلطان بالرّيدانيّة.

ثم خرج الجاليش فى بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر، وفيه من أكابر الأمراء مقدّمى الألوف: الأتابك بيبرس، والأمير نوروز الحافظى رأس نوبة الأمراء، والامير بكتمر الركنى أمير سلاح، وآقباى حاجب الحجّاب، ويلبغا الناصرى، وإينال باى بن قجماس، وعدّة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.

ثم رحل السلطان ببقيّة الأمراء والعساكر من الرّيّدانيّة يريد جهة الشام لقتال تيمور لنك، وسار حتى نزل بغزّة فى يوم عشرين من الشهر، واستدعى بالوالد وآقبغا

ص: 230

الجمالىّ الأطروش نائب حلب كان من القدس، وأخلع على الوالد باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور، وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى.

وخلع على الأمير آقبغا الجمالى الأطروش باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ المحمودىّ بحكم أسره مع تيمور أيضا، وعلى الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد عوضا عن ألطنبغا العثمانى بحكم أسره، وعلى طولو «1» من على باشاه باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن عمر بن الطحّان، وعلى صدقة بن الطويل باستقراره فى نيابة القدس، وبعث الجميع إلى ممالكهم.

وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء: عندى رأى أقوله، وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان، فقيل له: وما هو؟ فقال: الرأى أن السلطان لا يتحرّك هو ولا عساكره من مدينة غزّة، وأنا أتوجّه إلى دمشق وأحرّض أهلها على القتال، وأحصّنها- وهى بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان، وبها ما يكفى أهلها من الميرة «2» سنين، وقد داخل أهلها أيضا من الخوف ما لا مزيد عليه، فهم يقاتلون قتال الموت- وتيمور لا يقدر على أخذها منّى بسرعة، وهو فى عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق لمكث بهم بمكان واحد مدّة طويلة، فإما أنه يدع دمشق ويتوجّه نحو السلطان إلى غرّة، فيتوغّل فى البلاد ويصير بين عسكرين، وأظنه لا يفعل ذلك، وإمّا أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره

ص: 231

بالبلاد الشامية، وقلّة ما فى طريقه من الميرة لخراب البلاد، ويركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أقفية التّمرية إلى الفرات، فيظفر منهم بالغرض وزيادة»

، فاستصوب ذلك جميع الناس، حتى تيمور عند ما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق، وما بقى إلا أن يرسم بذلك، تكلّم بعض جهّال الأمراء مع بعض فى السرّ ممّن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم، وقال: تقتلوا رفقته وتسلّموه الشام، والله ما قصده إلّا أن يتوجّه إلى دمشق، ويتّفق مع تيمور ويعود يقاتلنا، حتى ياخذ منّا ثأر رفقته، وكان نوروز الحافظى بإزاء الوالد، فلمّا سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد، فأشار إليه بالسّكات والكفّ عن ذلك، وانفضّ المجلس، وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه، وتوجّه إلى دمشق، فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق، وقد جفل أهل دمشق لمّا بلغهم قرب تيمور إلى دمشق فأخذ الوالد فى إصلاح أمر «2» دمشق، فوجد أهلها فى غاية الاستعداد، وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعا، فتأسّف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه ولم يسعه إلّا السّكات.

ثم رحل جاليش السلطان من غزّة فى رابع عشرين شهر ربيع الآخر، ثم رحل السلطان ببقيّة عسكره من غزّة فى سادس عشرينه، وسار الجميع حتى وافوا دمشق.

وكان دخول السلطان دمشق فى يوم الخميس سادس جمادى الأولى، وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته، وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه، فنزل من قلعة دمشق

ص: 232

وخرج بعساكره إلى مخيّمه عند قبة «1» يلبغا ظاهر دمشق، وتهيّأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصّرت المماليك الظاهريّة أرماحهم حتى يتمكّنوا من طعن التّمرية أولا بأوّل لازدرائهم عساكر تيمور.

فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثّلج «2» فى نحو الألف فارس، فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة، بدّدوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة، وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا.

ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمريّة وأخبروا بنزول تيمور على البقاع «3» العزيزى فلتكونوا على حذر، فإن تيمور كثير الحبل والمكر، فاحترز القوم منه غاية الاحتراز.

ص: 233

ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمّن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز «1» وأولاد شهرى اتّفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمريّة، وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس، وأن تيمور بعث عسكرا إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر، وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نيّة المسير إلى طاعة السلطان.

وكان ذلك من مكايد تيمور، ثم قال: وإن صاحب قبرص «2» وصاحب الماغوصة «3» وغيرهم وردت كتبهم بانتظار الإذن لهم فى تجهيز المراكب فى البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان، فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب، وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة.

ثم فى يوم السبت نزّل تيمور بعساكره على قطنا «4» ، فملأت عساكره الأرض كثرة، وركب طائفة منهم لكشف الخبر، فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيّئوا للقتال وصفّت العساكر السلطانيّة، فبرز إليهم التمريّة وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كلّ من العسكرين ساعة، فكانت بينهم وقعة انكسر فيها ميسرة السلطان، وانهزم

ص: 234

العسكر الغزّاوىّ وغيرهم إلى ناحية حوران «1» ، وجرح جماعة، وحمل تيمور بنفسه حملة «2» شديدة ليأخذ فيها دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه.

ونزل كلّ من العسكر بن بمعسكره، وبعث تيمور إلى السلطان فى طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم فى وقعة حلب، فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركى فى قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلّا القتال.

ثم أرسل تيمور رسولا آخر فى طلب الصّلح، وكرّر القول ثانيا، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صدق مقالته، وأن ذلك على حقيقته، فأبى الأمراء ذلك، هذا «3» والقتال مستمرّ بين الفريقين فى كلّ يوم.

فلما كان ثانى عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانيّة جماعة، منهم الأمير سودون الطيّار، وقانى باى العلائى رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكيّة يشبك العثمانى وقمش «4» الحافظى وبرسبغا الدوادار وطرباى فى جماعة أخر، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن فى الوظائف والإقطاعات والتحكّم فى الدولة، وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن، وأخذوا فى الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم.

ص: 235

هذا وتيمور فى غاية الاجتهاد فى أخذ دمشق وفى عمل الحيلة فى ذلك.

ثم أعلم بما الأمراء فيه، فقوى أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعدّ لذلك.

ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجّهوا جميعا إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاچين الچركسى أحد الأجناد البرّانيّة؛ فعظم ذلك على مدبّرى المملكة لعدم رأيهم، وكان ذلك عندهم أهمّ من أمر تيمور، واتّفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة «1» ، وعوده إلى الديار المصرية فى الليل، ولم يعلموا بذلك إلّا جماعة يسيرة، ولم يكن أمر لاچين يستحقّ ذلك، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفى السلطان أمرهم، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.

فلما كان آخر ليلة الجمعة حادى عشرين جمادى الأولى «2» ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة «3» دمّر يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعيّة من المسلمين غنما بلا راع، وجدّوا فى السير ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى مدينة صفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكى وأخذوه معهم «4» ، وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها، وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر- عليهم

ص: 236

من الله ما يستحقّوه- بمدينة غزّة، فكلّموهم فيما فعلوه، فاعتذروا بعذر غير مقبول فى الدنيا والآخرة؛ فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.

وأما بقيّة أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لمّا علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا فى الحال فى إثره طوائف طوائف يريدون اللّحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير، وسلبوهم «1» ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا.

أخبرنى غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا فى الحال، غير أنه لم يعقنا عن اللّحاق به إلا «2» كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق ممارمتها المماليك السلطانيّة ليخفّ ذلك عن خيولهم، فمن كان فرسه ناهضا خرج، وإلّا لحقه أصحاب تيمور وأسروه، فممّن أسروه قاضى القضاة صدر الدين المناوىّ «3» ومات فى الأسر حسبما يأتى ذكره فى الوفيات «4» وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانيّة وغيرهم إلى القاهرة فى أسوإ حال من المشى

ص: 237

والعرى والجوع، فرسم السلطان لكلّ من المماليك السلطانية المذكورين بألف درهم وجامكيّة شهرين.

وأمّا الأمراء فإنهم دخلوا إلى مصر وليس مع كلّ أمير سوى مملوك أو مملوكين، وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق؛ فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لمّا بلغهم توجّه السلطان من دمشق، وأخذ كلّ واحد ينجو بنفسه.

وأما العساكر الّذين خلّفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيّين والحمويّين والحمصيّين وأهل القرى ممّن خرج جافلا من تيمور.

ولمّا أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلّقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادوا بالجهاد، فتهيّأ أهل دمشق للقتال، وزحف عليهم تيمور بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدّ قتال، وردّوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدّة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم فى زيادة فأعيا تيمور أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ فى مخادعتهم، وعمل الحيلة فى أخذ دمشق منهم.

وبينما أهل دمشق فى أشدّ ما يكون من القتال والاجتهاد فى تحصين بلدهم، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد:«الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلا عاقلا حتى يحدّثه الأمير فى ذلك» .

ص: 238

قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزّة فى نيابة دمشق، وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوّة لدفع تيمور عن دمشق، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرّزق، وهى فى الغاية من التحصين، وأنه يتوجّه إليها ويقاتل بها تيمور، فلم يسمع له أحد فى ذلك، فلعمرى لو رأى من لا أعجبه «1» كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدّة بأسهم وهم بغير نائب ولا مدبّر لأمرهم، فكيف ذاك لو كان عندهم متولّى أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير. انتهى.

ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور فى الصلح وقع اختيارهم فى إرسال قاضى القضاة تقى الدّين إبراهيم بن [محمد بن «2» ] مفلح الحنبلى، فأرخى من سور دمشق إلى الأرض، وتوجّه إلى تيمور واجتمع به وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه، وتلطّف معه فى القول، وترفق له فى الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّى وعن أولادى، ولولا حنقى من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولى ما أتيتها، وقد صار سودون المذكور فى قبضتى وفى أسرى، وقد كان الغرض فى مجيئى إلى هنا، ولم يبق لى الآن غرض إلا العود، ولكن لا بدّ من أخذ عادتى من التّقدمة من الطّقزات.

وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحا يخرج إليه [أهلها «3» ] من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدوابّ والملابس والتّحف تسعة؛ يسمّون ذلك طقزات، والطّقز باللّغة التركيّة: تسعة، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا.

ص: 239

فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذّل الناس عن القتال ويثنى على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيما، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله، فمال معه طائفة من الناس، وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلّا قتاله، وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا نهار السّبت وقد غلب رأى ابن مفلح على من خالفه، وعزم على إتمام الصلح، ونادى فى الناس: إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه؛ فكفّ الناس عن القتال.

وفى الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق فى طلب الطقزات المذكورة، فبادر ابن مفلح، واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار، حمل ذلك كلّ أحد بحسب حاله، فشرعوا فى ذلك حتى كمل، وساروا به إلى باب النصر «1» ليخرجوا به إلى تيمور، فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك، وهدّدهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا له:[أنت «2» ] احكم على قلعتك، ونحن نحكم على بلدنا، وتركوا باب النصر وتوجهوا، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور، وتدلّى ابن مفلح من السور أيضا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيّم تيمور، وباتوا به ليلة الأحد، وعادوا بكرة الأحد، وقد استقرّ تيمور بجماعة منهم فى عدّة وظائف: ما بين قضاة القصاة، والوزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، معهم فرمان من تيمور لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمّن أمان أهل دمشق على أنفسهم

ص: 240

وأهليهم خاصّة؛ فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بنى أمية بدمشق، وفتح من أبواب دمشق باب الصغير «1» فقط، وقدم أمير من أمراء تيمور، جلس فيه ليحفظ البلد ممّن يعبر إليها من عساكر تيمور، فمشى ذلك على الشاميّين وفرحوا به، وأكثر ابن مفلح ومن كان توجّه معه من أعيان دمشق الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله، ودعا العامّة لطاعته وموالاته، وحثّهم بأسرهم على جمع المال الّذى تقرّر لتيمور عليهم، وهو ألف ألف دينار، وفرض ذلك على الناس كلّهم، فقاموا به من غير مشقّة لكثرة أموالهم، فلمّا كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه، فلمّا عاينه غضب غضبا شديدا، ولم يرض به، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فأخرجوا من وجهه، ووكّل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار [من الذّهب «2» ] ، إلّا أنّ سعر الذهب عندهم يختلف، وعلى كلّ حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوها ثانيا على الناس [كلّها «3» ] عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر، وألزموا كلّ إنسان من ذكر وأنثى حرّ وعبد بعشرة دراهم، وألزم

ص: 241

مباشر كلّ وقف «1» بحمل مال له جرم، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم، وعوقب كثير منهم بالضّرب «2» ، فغلت الأسعار، وعزّ وجود الأفوات، وبلغ المدّ القمح- وهو أربعة أقداح- إلى أربعين درهما فضّة، وتعطّلت صلاة الجمعة»

من دمشق فلم تقم بها جمعة إلّا مرتين حتى دعى بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولىّ عهده ابن الأمير «4» تيمور لنك، وكان السلطان محمود مع تيمور آلة، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلّا من يكون من ذرّية الملوك. انتهى.

ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور.

ثمّ بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق، كلّ ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمور تحاصره أشدّ حصار، حتى سلّمها بعد تسعة وعشرين يوما، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر، يكفيك أن التمريّة من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب، فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها

ص: 242

ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة، رمى أهل قلعة دمشق نفطا فأحرقوها عن آخرها، فأنشئوا قلعة ثانية أعظم من الأولى «1» وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة.

هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلّا نفر يسير «2» دون الأربعين نفرا، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النّجدة، وطلبوا الأمان، وسلّموها بالأمان.

قلت: لا شلّت يداهم! هؤلاء هم الرجال الشجعان. رحمهم الله تعالى.

ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد بقى عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لى أنكم عجزتم.

وكان تيمور لما اتفق أوّلا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور، فخرج إليه ابن مفلح بأموال اهل مصر جميعها «3» ، فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق، فسارعوا أيضا إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه، فلما

ص: 243

كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما فى البلد من السلاح جليلها وحقيرها، فتتبّعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شىء، فلمّا فرغ ذلك كلّه قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرّقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كلّ أمير فى قسمه وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضّرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوسا، وغمّ «1» الأنف بخرقة فيها تراب ناعم كلّما تنفّس دخل فى أنفه حتى تكاد نفسه تزهق، فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلّى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعا، فكان المعاقب يحسد رفيقه الّذى هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتنى أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا كلّه تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذّب امرأته أو بنته وهى توطأ، وولده وهو يلاط به، يصرخ «2» هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللّواط، وكل ذلك من غير تستّر فى النهار بحضرة الملأ من الناس. ورأى أهل دمشق أنواعا من العذاب لم يسمع بمثلها؛ منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشدّ رأسه بحبل ويلويه «3» حتى يغوص فى رأسه، ومنهم من كان يضع الحبل بكتفى الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان، ومنهم من كان يربط إبهام يدى المعذّب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويذرّ فى منخريه

ص: 244

الرّماد مسحوقا، فيقرّ على «1» ما عنده شيئا بعد شىء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدّقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرّر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقب ميّتا مخافة أن يتماوت. ومنهم من كان يعلّق المعذّب بإبهام يديه فى سقف الدار ويشعل النار تحته، ويطول تعليقه، فربمّا يسقط فيها، فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق، ثم يعلّقه ثانيا.

واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة، فهلك فى هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى.

فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شىء خرجوا إلى تيمور، فسألهم: هل بقى لكم تعلّق فى دمشق؟ فقالوا: لا؛ فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق على أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدّور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهنّ، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين فى الحبال.

ثم طرحوا النار فى المنازل والدّور والمساجد، وكان يوم عاصف الريح، فعمّ الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار فى البلد ثلاثة أيّام بلياليها آخرها يوم الجمعة.

وكان تيمور- لعنه الله- سار من دمشق فى يوم السبت ثالث شهر شعبان «2» بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوما، وقد احترقت كلّها وسقطت سقوف جامع بنى أميّة

ص: 245

من الحريق، وزالت أبوابه وتفطّر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها «1» وحمّاماتها وصارت أطلالا بالية ورسوما خالية، ولم يبق بها [دابة تدبّ «2» ] إلّا أطفال يتجاوز عددهم [آلاف «3» ] فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع.

وأمّا السلطان [الملك الناصر «4» فرج] فإنّه أقام بغزّة ثلاثة أيام، وتوجّه إلى الدّيار المصريّة بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية، فقدم إلى القاهرة فى يوم الاثنين ثانى جمادى الآخرة، وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزّة، فارتجّت القاهرة، وكادت عقول الناس تزهق، وظنّ كلّ أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور، وأنّ تيمور فى أثره، وأخذ كلّ أحد يبيع ما عنده ويستعدّ للهروب من مصر، وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالا.

فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونوّاب البلاد الشامية، ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية، وقيل نحو الخمسمائة.

ثم فى يوم السبت سابع جمادى الآخرة المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة، وتقدمة «5» ألف بالدّيار المصريّة كانت موفّرة فى الديوان السلطانىّ، بعد استعفائه

ص: 246

من نيابة دمشق، وعيّن السلطان لنيابة «1» دمشق آقبغا الجمالى الأطروش، ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة «2» .

ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمىّ الأستادار «3» أن يتحدّث فى جميع ما يتعلّق بالمملكة، وأن يجهّز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور، فشرع يلبغا السالمى المذكور فى تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضى مصر فرائض من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان، وأخباز الأجناد «4» ، وبلاد الأوقاف عن عبرة كلّ ألف دينار خمسمائة درهم فضّة وفرس.

ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهر هما أجرة شهر، حتى إنه كان يقوّم على الإنسان داره التى يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها، وأخذ من الرزق، وهى الأراضى التى يأخذ مغلّها قوم على سبيل البرّ والصدقة عن كل فدّان عشرة دراهم، وكان يوم ذاك أجرة الفدّان من ثلاثين درهما إلى ما دونها.

قلت: أخذ نصف خراجها بدورة دارها، وأخذ من الفدّان القصب أو القلقاس أو النّيلة من القنطار مائة درهم، وهى نحو أربعة دنانير، وجبى من البساتين عن كلّ فدان مائة درهم.

ص: 247

ثم استدعى أمناء «1» الحكم والتجّار وطلب منهم المال على سبيل القرض، وصار يكبس الفنادق والحواصل فى الليل، فمن وجده «2» حاضرا فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد، وهى الذهب والفضّة والفلوس، وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهى الذهب والفضة والفلوس، وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف، ومع ذلك فإن الصّيرفىّ يأخذ عن كل مائة درهم ثلاثة دراهم «3» ، ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيبا أخذ عشرة دراهم؛ قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله، قال: فاشتدّ ما بالناس، وكثر دعاء الناس على السالمىّ.

قلت: وبالجملة فهم أحسن حالا من أهل دمشق، وإن أخذ منهم نصف مالهم، وأيش «4» يعمل السالمىّ! مسكين، وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور. انتهى.

ثمّ خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى وعلى الأمير يشبك الشعبانى، واستقرّا مشيرى الدّولة ومدبّرى أمورها.

ثمّ فى ثالث عشره خلع على القاضى أمين الدين عبد الوهاب بن قاضى القضاة شمس الدين محمد الطرابلسى [قاضى العسكر باستقراره «5» ] قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضى القضاة جمال الدين يوسف الملطى، وعلى القاضى

ص: 248

جمال الدين عبد الله الأقفهسى «1» باستقراره قاضى قضاة المالكيّة بالديار المصرية عوضا عن القاضى نور الدين علىّ بن الجلال بحكم وفاته.

وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلثمائة مملوك بأسوإ حال: من المشى والعرى والجوع.

ثم فى حادى عشرينه حضر إلى القاهرة قاضى القضاة موفّق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلىّ من دمشق بأسوإ حال، وقدم أيضا قاضى قضاة دمشق علاء الدين على بن أبى البقاء الشافعىّ، وحضر كتاب تيمور لنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانيّة يتضمّن طلب أطلمش «2» ، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنوّاب وغيرهم، وقاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعى، ويرحل عن دمشق، فطلب أطلمش من البرج بالقلعة، وأطلق وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير، وعيّن للسفر معه قطلوبغا «3» العلائى، والأمير محمد بن سنقر.

ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخى الأمير آخور رسولا من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر، هذا ويلبغا السالمى يجدّ فى تحصيل الأموال، وأخذ فى عرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم «4» قادرا على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور، وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل، أو تحصيل نصف مغلّه

ص: 249

فى السّنة، وألزم أرباب الغلال المحضّرة للبيع فى المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كلّ إردب درهم [وأن «1» يؤخذ من كلّ مركب من المراكب التى تسير «2» فيها الناس مائة درهم] .

ثم «3» فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب أمر السالمىّ أن تضرب دنانير «4» مازنة الدينار مائة مثقال ومثقال، ومنها ما زنته تسعون مثقالا ومثقال، ثم ما دون ذلك، إلى أن وصل منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.

ثم فى ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبى كمّ باستقراره وزيرا بديار مصر عوضا عن فخر الدين ماجد بن غراب.

ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمّدى نائب حلب تخلّص من تيمور، وجمع جموعا من التركمان، وأخذ حلب وقلعتها»

من التمريّة، وقتل منهم جماعة كبيرة.

ثم خلع السلطان على شاهين الحلبى نائب مقدّم المماليك باستقراره فى تقدمة المماليك السلطانية عوضا عن صواب المعروف بچنكل، واستقرّ الطواشى فيروز من جرجى مقدّم الرّفرف نائب المقدّم.

ص: 250

ثم حضر فى سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستّة آلاف فارس، وحضر من عربان الشرقيّة من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس، ومن العيساويّة وبنى وائل ألف وخمسمائة فارس، فأنفق فيهم يلبغا السالمى الأموال ليتجهّزوا لحرب تيمور.

ثم حضر فى ثامنه قاصد الأمير نعير، وذكر أنه جمع عربانا كثيرة ونزل بهم على تدمر «1» ، وأنّ تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيّفة «2» .

هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمى والعمل فى زواله حتى تمّ لهم ذلك.

فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمى وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولى الوزر قبل تاريخه، وسلّما لسعد الدين إبراهيم بن غراب ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس فى الجبايات.

ص: 251

قلت: فصار حاله كالمثل السائر «أفقرنى فيمن «1» أحبّ ولا استغنى» .

ثم فى ثامن عشره استقرّ سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستادارا عوضا عن السالمى مضافا لما بيده من وظيفتى نظر الجيش والخاصّ.

ثم فى خامس «2» شعبان برز الأمراء المعيّنون للسفر لقتال تيمور بمن عيّن معهم من المماليك السلطانيّة وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة، وهم الّذين كانوا بالقاهرة فى غيبة السلطان بدمشق، وتقدّم الجميع الأمير تمراز الناصرىّ الظاهرىّ أمير مجلس، والأمير آقباى من حسن شاه الظاهرى حاجب الحجّاب، ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخى، والأمير تمان تمر والأمير صوماى الحسنى، وامتنع الأمير جكم من السّفر.

وفى اليوم «3» قدم الأمير شيخ المحمودىّ نائب طرابلس فارّا من أسر تيمور إلى الديار المصرية، وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده، فرسم السلطان بإبطال السفر، ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة.

ثم «4» فى الغد قدم دقماق المحمّدى نائب حماة فارّا أيضا من تيمور.

وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره فى نيابة دمشق ثانيا على كره منه، وكانت شاغرة من يوم قدوم تيمور دمشق.

ص: 252

ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودى باستقراره فى نيابة طرابلس على عادته، وعلى الأمير دقماق المحمّدى باستقراره فى نيابة حماة على عادته.

ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد وعلى الأمير تنكزبغا الحططى بنيابة بعلبكّ.

ثم نودى بالقاهرة ألّا يقيم «1» بها أحد من الأعاجم، وأمهلوا ثلاثة أيّام، وهدّد من تخلّف منهم بالقاهرة، فلم يخرج أحد، وأكثر الناس من الكتابة فى الحيطان:

«من نصرة الإسلام، قتل الأعجام» ، كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة.

وأما البلاد الشاميّة فحصل بها جراد عظيم بعد خروج اللّنك «2» منها، فزادت خرابا على خراب «3» .

قلت: ولنذكر هنا نبذة يسيرة من أخبار تيمور لنك ونسبه وكثرة عساكره وعظم دهائه ومكره؛ ليكون الناظر فى «4» هذا الكتاب على علم من أخباره وأحواله، وإن كان فى ذلك نوع تطويل وخروج عن المقصود، فهو لا يخلو من فائدة.

ص: 253

فنقول: هو تمرلنك وقيل تيمور؛ كلاهما بمعنى واحد، والثانى أفصح. [وهو «1» ] باللغة التركية الحديد «2» بن أيتمش قنلغ بن زلكى بن سنيا بن طارم طربن طغريل بن قليج ابن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا «3» بن التاخان المغولىّ الأصل التركىّ من طائفة جغتاى الطاغية تيمور، كوركان، أعنى باللغة العجمية «4» صهر الملوك «5» .

مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمّى خواجا أيلغار «6» من عمل كشّ «7» أحد مدائن ما وراء النهر، وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد، ويقال:

ص: 254

إنه رؤى يوم «1» ولد كأن شيئا يشبه الخوذة تراءى طائرا فى جوّ السماء، ثم وقع إلى الأرض فى فضاء كبير، فتطاير منه جمر وشرر حتى ملأ الأرض. وقيل: إنه لما خرج من بطن أمّه وجدت كفّاه مملوءتين دما، فوجدوا أنه تسفك على يديه الدماء.

قلت: وكذا وقع.

وقيل: إن والده كان إسكافا. وقيل: بل كان أميرا عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ «2» ، وكان أحد أركان دولته، وإن أمه من ذريّة جنكزخان.

وقيل: كان للسلطان حسين المذكور أربعة وزراء، فكان أبو تيمور أحدهم، وولى تيمور بعد موته مكانه عند السلطان حسين. وأصل تيمور من قبيلة برلاص.

وقيل: إن أوّل ما عرف من حال تيمور أنه كان يتجرّم «3» ، فسرق فى بعض الليالى غنمة «4» وحملها ليهرب بها، فانتبه الراعى وضربه بسهم فأصاب كتفه، ثم ردفه بآخر فلم يصبه، ثم بآخر فأصاب فخذه وعمل فيه الجرح الثانى الذي فى فخذه حتى عرج منه؛ ولهذا سمى تمرلنك، لأن «لنك» باللغة العجميّة أعرج، وأما اسمه الحقيقىّ ف (تمر) بلا «لنك» ، فلما أعرج [تمر «5» ] أضيف إليه «لنك» .

ولما تعافى أخذ فى التجرّم على عادته وقطع الطريق، وصحبه فى تجرّمه جماعة عدّتهم أربعون رجلا.

ص: 255

وكان تيمور لنك يقول لهم فى تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا؛ فيسخر منه بعضهم، ويصدّقه البعض، لما يرونه من شدّة حزمه وشجاعته.

وقيل: إنه تاه فى بعض تجرّماته مدّة أيام إلى أن وقع على خيل السلطان حسين المقدّم ذكره، فأنزله الجشارىّ صاحب مرج الخيل «1» عنده، وعطف عليه وآواه وأتى إليه بما يحتاجه من طعام وشراب. وكان لتيمور معرفة تامّة فى جياد الخيل فأعجب الجشارىّ منه ذلك، فاستمرّ به عنده إلى أن أرسل معه بخيول إلى السلطان حسين وعرّفه به، فأنعم عليه وأعاده إلى الجشارى، فلم يزل عنده حتّى مات، فولّاه السلطان حسين عوضه على جشاره، ولا زال يترقّى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء. وتزوّج بأخت السلطان حسين، وأقام معها مدّة إلى أن وقع بينهما فى بعض الأيّام كلام، فعايرته بما كان عليه من سوء الحال، فقتلها وخرج هاربا، وأظهر العصيان على السلطان حسين، واستفحل أمره، واستولى على ما وراء النهر «2» ، وتزوّج ببنات ملوكها، فعند ذلك لقّب ب «بكوركان» ، وقد تقدم الكلام على اسم كوركان. ولا زال أمره ينمو وأعماله تتّسع إلى أن خافه السلطان حسين، وعزم على قتاله، وبلغه ذلك فخرج هاربا «3» .

ص: 256

ثم قوى أمره بعد سنة ستّين وسبعمائة، فلمّا كثر عسكره بعث إلى ولاة بلخشان «1» وكانا أخوين قد ملكا بعد موت أبيهما يدعوهما إلى طاعته؛ فأجاباه، وكانت المغل قد نهضت من جهة الشرق على السلطان حسين، وكان كبيرهم الخان قمر الدين فتوجّه السلطان حسين إليهم وقاتلهم، فأرسل تيمور يدعوهم إليه، فأجابوه ودخلوا تحت طاعته، فقويت بهم شوكته.

ثم قصده «2» السلطان حسين ثانيا فى عسكر عظيم حتى وصل إلى ضاغلغا «3» ، وهو موضع ضيّق يسير الراكب فيه ساعة، وفى وسطه باب إذا أغلق وأحمى لا يقدر عليه أحد، وحوله جبال عالية، فملك العسكر فم هذا الدّربند من جهة سمرقند، ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر، وفى ظن العسكر أنهم حصروه وضيقوا عليه، فتركهم ومضى فى طريق مجهولة، فسار ليلة فى أو عار مشقة حتى أدركهم فى السحر وقد شرعوا فى تحميل أثقالهم، على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفا منهم، فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم [وتركوها ترعى فى تلك «4» المروج وناموا كأنهم من جملة العسكر فمرت بهم خيولهم] وهم يظنون أنهم منهم قد قصدوا الراحة، فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم، وهم يصيحون وأيديهم تدقهم دقا بالسيوف، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوى أحد على أحد، حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تمر [لنك «5» ] على ما كان معه، ولمّ «6»

ص: 257

من بقى من العسكر عليه، فعظم جمعه، وكثر ماله، واستولى على الممالك «1» ، ولا زال حتى قبض على السلطان حسين بعد أن أمّنه وقتله، فهذا أوّل عظمته.

والثانية واقعته مع تقتمش «2» خان ملك التتار، فإنه لما واقعه بأطراف تركستان «3» قريبا من نهر خجند «4» ، واشتد الحرب بينهما وكثرت القتلى فى عسكر تيمور حتى كادت تفنى، وعزم تيمور على الهزيمة، فإذا هو بالمعتقد السيد الشريف بركة قد أقبل على تيمور، فقال له تيمور وقد جهده البلاء: يا سيّدى جيشى انكسر، فقال له السيد الشريف بركة المذكور: لا تخف، ثم نزل عن فرسه وتناول كفّا من الحصى ثم ركب فرسه ورمى بها فى وجوه جيش تقتمش وصرخ قائلا بأعلى صوته «ياغى قجتى» . يعنى باللّغة التركية العدوّ هرب «5» ، فصرخ بها أيضا تيمور كمقالة الشريف بركة

ص: 258

فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعد ما كانوا ولّوا هاربين «1» ، فكّر بهم تيمور ثانيا فى عسكر تفتمش وما منهم أحد إلا وهو يصرخ «ياغى قجتى» ، فانهزم عند ذلك عسكر تقتمش خان وركبت التمرية أقفيتهم وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر، فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان.

والثالثة واقعته مع شيره «2» على صاحب مازندران «3» وكيلان «4» وبلاد الرىّ «5» والعراق وكسره وقبض عليه وقتله وملك جميع بلاده، ثم قصته مع شاه شجاع صاحب شيراز «6» وتزوّج «7» بنت شاه شجاع لابن تيمور، ومهادنة شاه شجاع له إلى أن مات شاه شجاع، واختلفت أولاده وقوى شاه منصور على اخوته فمشى عليه تيمور هذا، فلقيه شاه منصور فى ألفى فارس لا غير.

ص: 259

وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة، فإنه برز إليه فى ألفى فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف.

وعند ما برز له شاه منصور فر من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين «1» إلى تيمور بأكثر العساكر، فبقى شاه منصور فى أقل من ألف فارس، فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل.

ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره، فركب شاه منصور فى الليل «2» وبيّت التمرية، فقتل منهم نحو العشرة آلاف فارس.

ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس، فأصبح وقاتل بهم من الغد وقصد بهم تيمور حتى أزاله عن موقفه، وهرب تيمور واختفى بين حرمه، فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلّت يداه وقتلت أبطاله، فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى، فعرفه «3» بعض التمرية فقتله، وأتى برأسه إلى تيمور، فقتل تيمور قاتله أسفا عليه. واستولى تيمور أيضا على جميع ممالك العجم بأسرها بعد شاه منصور.

ص: 260

هذا وقد استوعبنا واقعة شاه منصور «1» بأوسع من ذلك فى تاريخنا (المنهل الصافى) .

إذ هو كتاب تراجم.

ثم أخذ تيمور فى الاستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين «2» ، وهرب منه السلطان أحمد بن أويس، وأخرب غالب العراق: مثل بغداد «3» والبصرة «4» والكوفة «5» وأعمالهم، ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر «6» ، وأخرب بها أيضا عدّة بلاد.

ثم قصد البلاد الشاميّة فى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ثم رجع خائفا من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده، فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد، وأن أمر الناس بمدينة دلّى «7» فى اختلاف، وأنه جلس على تخت الملك بدلّى وزير يقال له ملّو

ص: 261

فخالف عليه أخو فيروز شاه، واسمه سارنك خان متولّى مدينة مولتان «1» ، فلمّا سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند فى ذى الحجّة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستّة أشهر، وكان فى عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها.

ثم سار تيمور إلى مدينة دلّى وهى تخت الملك، فخرج لقتاله صاحبها «2» ملّو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة، وقد جعل على كلّ فيل برجا فيه عدّة من المقاتلة، وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات «3» ، وعلّق عليها من الأجراس والقلاقل «4» ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاى، وشدّوا فى خراطيمها عدّة من السيوف المرهفة، وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفّر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها، فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافا من الشوكات الحديد مثلّثة الأطراف، ونثرها فى مجالات الفيلة، وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوّة بالفتائل المغموسة بالدّهن، وقدّمها أمام عسكره، فلمّا تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب، أضرم تيمور فى تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة.

فركضت تلك الأباعر من شدّة حرارة النار، ثم نخسها سوّاقوها من خلف. هذا وقد كمن تيمور كمينا من عسكره.

ص: 262

ثم زحف بعساكره قليلا [قليلا «1» ] وقت السحر. فعندما تناوش القوم للقتال لوى تيمور رأس فرسه راجعا يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ويكفّ عن طريق الفيلة كأنّ خيوله قد جفلت منها، وقصد المواضع التى نثر فيها تلك الشوكات الحديد التى صنعها، فمشت حيلته على الهنود، ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشدّ السّوق حتى داست على تلك الشوكات الحديد، فلما وطئتها نكصت على أعقابها.

ثم التف «2» تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال، وقد عظم لهيبها على ظهورها، وتطاير شررها فى تلك الآفاق، وشنع زعاقها من شدّة النخس فى أدبارها.

فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرّت راجعة على العسكر الهندى، فأحست بخشونة الشوكات التى طرحها تيمور فى طريقها، فبركت وصارت فى الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة، وسالت أنهار من دمائها؛ فخرج عند ذلك الكمين [من عسكر «3» تيمور] من جنبى عسكر الهنود، ثم حطم تيمور بمن معه فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام.

ثم إنهم تضايقوا وتقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف والأطبار «4» ، وصبر كلّ من الفريقين زمانا طويلا، إلى أن كانت الكسرة على الهنود بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم، وانهزم باقيهم بعد أن ملّوا من القتال، فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل [على «5» ] مدينة دلّى وحصرها [مدّة «6» حتى] أخذها [من جوانبها «7» ] بعد مدّة عنوة، واستولى على

ص: 263

تخت ملكها واستصفى ذخائرها «1» ، وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسّبى والقتل والنّهب والتخريب.

وبينما هم فى ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وموت القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم، فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما، وكان أن يطير بموتهما فرحا، فنجز أمره وولّى «2» مسرعا بعد أن استناب بالهند من يثق به من أمرائه، وسار حتى وصل سمرقند، ثم خرج منها عجلا فى أوائل سنة اثنتين وثمانمائة، فنزل خراسان «3» .

ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها ابنه ميران «4» شاه، ثم سار حتى نزل قرا «5» باغ [فى سابع «6» عشر] شهر ربيع الأوّل، فقتل وسبى، ثم رحل منها ونزل تفليس «7» [فى يوم الخميس «8» ثانى] جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج، وأسرف فيها أيضا فى القتل والسبى، ثم قصد بغداد ففرّ منه [صاحبها «9» ] السلطان أحمد بن أويس [فى ثامن «10» عشر شهر رجب] إلى قرا يوسف «11» فعاد تيمور من بغداد وصيّف ببلاد التركمان ثم سار إلى [ماردين فعصى صاحبها عليه الملك الظاهر مجد الدين عيسى، فتركه تيمور ومضى إلى «12» ]

ص: 264

سواس وقد أخذها «1» الأمير سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فحصرها تيمور ثمانية عشر يوما حتى أخذها فى خامس المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة، وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، فحفر لهم سردابا «2» وألقاهم فيه وطمّهم بالتراب بعد ما كان حلف لهم ألّا يريق لهم دما وقال: أنا على يمينى ما أرقت لهم دما، ثم وضع السيف فى أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها.

ثم سار إلى بهسنا «3» فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يوما حتى أخذها، ومضى إلى ملطية فدكّها دكّا، وسار حتى نزل قلعة «4» الروم فلم يقدر عليها «5» ، فتركها وقصد عين «6» تاب، ففرّ منه نائبها الأمير أركماس الظاهرى، وهو غير أركماس الدّوادار فى الدولة الأشرفية.

ثم قصد حلب ووقع له بها وبدمشق ما تقدّم ذكره إلى أن خرج من البلاد الشاميّة.

وكان رحيله عن دمشق فى يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة، واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيا، ثم سار منها حتى نزل على ماردين «7» يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها.

ص: 265

وأوهم أنه يريد سمرقند يورّى بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرا يقال له فرج، وتوجّه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفا لأخذ بغداد.

ثم تبعه بمن بقى معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوة فى يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف فى أهل بغداد.

حدّثنى الأمير أسنباى الزّردكاش الظاهرى برقوق- وكان أسر عند «1» تيمور وحظى عنده، وجعله زرد كاشه «2» عند أخذ بغداد وحصارها- بأشياء مهولة، منها أنه لمّا استولى على بغداد ألزم جميع من معه أن يأتيه كلّ واحد منهم برأسين من رءوس أهل بغداد، فوقع القتل فى أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارا، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، فكانت عدّة من قتل فى هذا اليوم من أهل بغداد تقريبا مائة ألف «3» إنسان. وقال المقريزى: تسعين ألف إنسان، وهذا سوى من قتل فى أيّام الحصار، وسوى من قتل فى يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه فى الدّجلة «4» فغرق، وهو أكثر من ذلك.

قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها، قال: وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مرّ به ويقطع رأسه.

ص: 266

ثم رحل تيمور من «1» بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكّا خرابا، ثم كتب إلى أبى يزيد «2» بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلّا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردّ أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التّتر.

فلمّا تكامل جيشه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبى يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا، ويكون لكم الروم عوضهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه.

وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردّه عن عبور أرض الروم «3» ، فسلك تيمور غير الطريق، ومشى فى أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد ابن عثمان، ونزل بأرض مخصبة «4» وسيعة، فلم يشعر ابن عثمان إلّا وقد نهبت بلاده. فقامت قيامته وكرّ راجعا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغا أوهن قواهم، وكلّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلمّا تدانوا للحرب كان أوّل بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه، فضعف بذلك عسكره، لأنّهم كانوا معظم عسكره، ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائدا إلى مدينة برصا «5» بباقى عسكره، فلم يبق مع أبى يزيد إلا

ص: 267

نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور، وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، واستمرّ القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فكلّت عساكر ابن عثمان، وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلّتهم وكثرة النّمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صرع منهم أكثر أبطالهم، وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيرا قبضا باليد على نحو ميل من مدينة أنقرة «1» ، فى يوم الأربعاء سابع عشرين ذى الحجّة سنة أربع وثمانمائة بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش، فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطىّ وهو تموز بالرومىّ، وصار تيمور يوقف بين يديه فى كل يوم ابن عثمان ويسخر منه وينكيه بالكلام، وجلس تيمور مرّة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلبا مزعجا، فحضر وهو يرسف «2» فى قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه «3» ، ثم [وقف تيمور «4» ] وسقاه من يد جواريه اللّائى «5» أسرهنّ تيمور، ثم أعاده إلى محبسه.

ثم قدم على تيمور إسفنديار «6» أحد ملوك الروم بتقادم جليلة، فقبلها وأكرمه وردّه إلى مملكته [بقسطمونية «7» ] ، هذا وعساكر تيمور تفعل فى بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدّم ذكرها.

ص: 268

وأما أمر سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة برصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة «1» وتلاحق به الناس، وصالح أهل إستانبول «2» ، فبعث تيمور فرقة كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى برصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضا بعساكره.

ثم أفرج تيمور عن محمد وعن أولاد ابن قرمان من حبس أبى يزيد بن عثمان، وخلع عليهما وولّاهما بلادهما، وألزم كلّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضرب السّكّة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش «3» .

ثم شتا فى معاملة «4» منتشا وعمل الحيلة فى قتل التتار الّذين أتوه من عسكر ابن عثمان حتى أفناهم عن آخرهم.

وأما أبو يزيد بن عثمان، فإنه استمر فى أسر تيمور من ذى الحجّة سنة أربع، إلى أن مات بكربته وقيوده، فى أيام من ذى القعدة سنة خمس وثمانمائة، بعد أن حكم ممالك الروم نحو تسع سنين.

وكان من أجلّ الملوك حزما وعزما وشجاعة، رحمه الله تعالى. وهو المعروف بيلدرم بايزيد.

ثم توجّه «5» تيمور من بلاد الروم وقد تعلّقت آماله بأخذ بلاد الصين، فأخذه الله قبل أن يصل، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمره وما وقع له بطريق الصين إلى

ص: 269

أن توفّى [لعنه الله «1» ] ولكن أضربنا عن ذلك خشية الإطالة، وأيضا قد ذكرناه فى ترجمته «2» فى (المنهل الصافى) مستوفاة، فلتنظر هناك «3» .

وكانت وفاة تيمور فى يوم «4» الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة وهو نازل بالقرب من أترار «5» ، وأترار بالقرب من آهنگران، ومعنى آهنگران باللغة العربية الحدّادون «6» .

ولما مات لبسوا عليه المسوخ، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فتسلطن موضع جدّه تيمور فى حياة والده ميران شاه المذكور، فاستولى خليل المذكور على خزائن جدّه وبذل الأموال، وتم أمره. انتهى ما أوردناه من قصة تيمور لنك على سبيل الاختصار.

ولنعد إلى ما نحن بصدده من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق [رحمه الله «7» ] .

ولما كان يوم الأحد أوّل شوّال أفرج السلطان عن الأمير يلبغا السالمى وهو متضعّف بعد ما عصر وأهين إهانة بالغة.

ص: 270

وفى هذه الأيّام كثر احتراز الأمراء بعضهم من بعض، وتحدّث الناس بإثارة فتنة «1» .

ثم فى سابع شوّال المذكور استقرّ الأمير طولو من على باشاه الظاهرى فى نيابة إسكندرية عوضا عن الأمير أرسطاى، واستقر الأمير بشباى «2» من باكى الظاهرى حاجبا ثانيا على خبز «3» سودون الطيّار، إمرة طبلخاناه، واستقر كلّ من سودون الطيار وألطنبغا من سيدى حجّابا بحلب لأمر اقتضى ذلك.

ثم استدعى السلطان الأمراء بقلعة الجبل، وقال لهم: قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية «4» بأمريّات ببلاد الشام من أوّل شهر رمضان، فلم لا يسافروا؟ وكلّ ذلك بتعليم يشبك الدوادار، فقال الأمير نوروز الحافظى ما فى هذا مصلحة، إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى عنده من مماليك أبيه الأعيان؟ ووافق نوروز سودون الماردانى. فقال السلطان: من ردّ مرسومى فهو عدوّى، فسكت الأمراء وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها.

فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من ردّ منشوره، فغضب السلطان وأصبح الجماعة يوم الأحد، وقد اتفقوا مع الأمراء وساروا للأمير نوروز الحافظى

ص: 271

وتحدّثوا معه فى عدم سفرهم، فاعتذر إليهم، وبعثهم لسودون الماردانى رأس نوبة النوب «1» فحدّثوه فى ذلك، وما زالوا به حتى ركب للأمير يشبك الشعبانى الدوادار وحدّثه فى ألّا يسافروا، فأغلظ يشبك فى ردّ الجواب عليه، وهدّدهم بالتوسيط «2» إن امتنعوا من «3» السفر.

ثم أمره أن يطلع إلى السلطان ويسأله فى [ذلك فطلع «4» سودون الماردانىّ إلى السلطان] ، وسأله فى إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد اتفق منهم نحو الألف تحت القلعة، وهم مجتمعون، فبعث السلطان إليهم بعض الخاصكيّة يقول لهم: نحن ما خلّيناكم بلا رزق بل عملناكم أمراء، فما هو إلّا أن نزل إليهم وكلّمهم فى ذلك «5» ، ثاروا عليه وسبّوه ثم ضربوه حتى كاد يهلك، فبينما هم فى ضربه، وإذا بالأمير قطلوبغا الحسنى الكركى والأمير آقباى الكركى الخازندار نزلا من القلعة، فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدّبابيس إلى أن سقط قطلوبغا الكركى، وتكاثر عليه مماليكه وحملوه إلى بيته، ونجا آقباى الكركى الخازندار والتجأ إلى بيت الأمير يشبك الدوادار، وماجت البلد وغلّقت الأسواق، فنودى بعد العصر من اليوم المذكور بطلوع الأمراء والمماليك السلطانيّة فى الغد إلى القلعة، ومن لم يطلع حلّ ماله ودمه للسلطان.

ثم طلع الأمير يشبك، ونوروز الحافظى، وآقباى الكركى الخازندار، وقطلوبغا الكركى إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بالقلعة إلّا نوروزا فإنّه أقام معهم ساعة عند السلطان.

ص: 272

ثم نزل إلى داره وطلع أيضا فى الليل غالب المماليك السلطانية.

وأصبحوا يوم الاثنين تاسع شوال، فطلع جميع الأمراء والمماليك إلا الأمير جكم من عوض، وسودون الطيّار، وقانّى باى العلائى، وقرقماس الأينالى، وجمق وتمربغا المشطوب، فى عدّة من المماليك السلطانية الأعيان، منهم يشبك العثمانى، وقمج وبرسبغا وطرباى وبقية خمسمائة مملوك، والجميع لبسوا السلاح وآلة الحرب ووقفوا تحت القلعة حتى تضحّى النهار. ثم مضوا إلى بركة الحبش «1» ونزلوا عليها.

وأما أهل القلعة، فإن يشبك بعث فى الحال نقيب «2» الجيش إلى الشيخ لاچين الجركسى أحد الأجناد، فقبض عليه وحمله إلى بيت آقباى حاجب الحجّاب، فوكّل به آقباى من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس ليسافر إلى الشام.

ثم قبض على سودون الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاچين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها.

واستمرّ الأمير جكم ورفقته ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعى الأمير يشبك سائر الأمراء، فلما صاروا بالقلعة وكّل بهم من يحفظهم، فاستمرّوا على ذلك حتى مضى جانب من الليل.

ص: 273

ثم نزل الطلب إلى الأمير سودون طاز الأمير آخور «1» الكبير من السلطان ليطلع إلى عند الأمراء، وفى عزمهم أنه إذا طلع قبضوا عليه، فمّ لسودون طاز بعض الخاصكية يسمّى قانى باى، وقال له: فز بنفسك؛ فلم يكذّب سودون طاز الخبر، وأخذ الخيول السلطانية التى بالإسطبل السلطانى، وركب بمماليكه، وسار حتى لحق بالأمير جكم ببركة الحبش، وبلغ السلطان ذلك، فارتجّ القصر السلطانىّ، وقام كلّ أمير ونزل إلى داره ولبس آلة الحرب بمماليكه، ودقّت الكوسات وطلعوا إلى القلعة.

فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل، وبعث إلى الأمير جكم من عوض بأن يتوجّه إلى صفد نائبا بها، فزدّ جكم الجواب «2» «نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، ولو أراد قتلنا ما خالفناه، غير أننا لنا غرماء يدعنا نحن وإيّاهم، ثم بعد ذلك مهما أراد السلطان يفعل فينا، فنحن بين يديه» . فلمّا عاد الرسول بذلك بكى الأمير يشبك الدوادار، وتكلم هو والأمير آقباى الكركى الخازندار وقطلوبغا الكركى مع السلطان، ودار بينهم كلام «3» كثير، حتى بعث السلطان بالأمير نوروز الحافظى والقاضى الشافعى «4» وناصر الدين المعلّم الرمّاح أمير آخور إلى الأمير جكم فى طلب الصلح، فنزلوا إليه وكلّموه فى ذلك، فامتنع جكم من الصلح هو ومن معه وقالوا: لابدّ لنا من غرمائنا، وأخذوا عندهم الأمير نوروز الحافظى، وعاد القاضى «5» الشافعى وناصر الدين الرمّاح بالجواب، فعند ذلك قال السلطان ليشبك: دونك وغرماءك؛ فطلب يشبك المساعدة من السلطان عليهم، فلم يفعل، فنزل يشبك إلى داره وقد اختلّ أمره.

ص: 274

ثم عاد إلى القلعة ليطلع إلى السلطان فلم يمكّن منها، وتخلّى عنه المماليك السلطانية؛ فلم تكن غير «1» ساعة حتى أقبل جكم وسودون طاز ونوروز فى عددهم وأصحابهم.

وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وسودون طاز عن يمينه، وساروا نحو يشبك، فنادى يشبك:«من قاتل معى من المماليك السلطانية فله عشرة آلاف درهم» فأتاه طائفة، وخرج من بيته وصفّ عساكره، فحمل عليه نوروز بمن معه، وصدمه صدمة واحدة كسره فيها؛ فانهزم إلى داره وقاتل بها ساعة، ثم هرب منها، فنهبت داره ودار قطلوبغا الكركىّ.

وكان بيت يشبك دار منجك اليوسفى الملاصقة لمدرسة «2» [السلطان «3» ] حسن وهى الآن على ملك تمربغا الظاهرى الدوادار، ودار قطلوبغا [الكركى «4» ] البيت الذي تجاهه، وقبض على آقباى الكركى الخازندار، فشفع فيه السلطان، فترك فى داره إلى يوم الخميس ثانى عشره، فركب الأمير جكم إليه، وأخذه وطلع به إلى الإسطبل السلطانىّ وقيّده.

ثم قبض على الأمير قطلوبغا الكركى الحسنى من بيت الأمير يلبغا «5» الناصرى وقيّده.

ص: 275

ثم قبض على جركس القاسمى المصارع من عند سودون الجلب، وقيّده وبعث الثلاثة إلى الإسكندرية، والثلاثة أمراء ألوف من أصحاب يشبك، وسافروا إلى الإسكندرية فى ليلة السبت رابع عشر شوّال المذكور من سنة ثلاث وثمانمائة، وكتب جكم بإحضار سودون الفقيه من الإسكندرية.

وسودون الفقيه هذا هو حمو الملك الظاهر ططر، وجدّ الملك الصالح محمد ابن ططر الآتى ذكرهما. وطلب جكم الأمير يشبك الشعبانى الدوادار فلم يقدر عليه إلى ليلة الاثنين سادس عشره دلّ عليه أنه فى تربة «1» بالقرافة، فنزل إليه جكم فلمّا أحيط بيشبك [وهو «2» ] فى التربة المذكورة ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشجّ جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز الحافظى، فقيّد وسيّر من ليلته إلى الإسكندرية فسجن بها.

وفى يوم الاثنين خلع على سعد الدين إبراهيم بن غراب باستمراره [فى وظائفه «3» ] وهو أحد أصحاب يشبك بعد أن اجتهد غاية الاجتهاد فى رضا جكم عليه فلم يقدر.

ص: 276

ثم فى ثامن عشره أخلع السلطان على الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس باستمراره على نيابته، وهى خلعة السفر «1» ، وكان له من يوم قدم من أسر تيمور بالقاهرة فى عمل مصالحه، وكذلك الأمير دقماق نائب صفد خلع عليه خلعة السفر.

وكان دقماق أولا نائب حماة، ثم صار الآن فى نيابة صفد، وأذن لهما بالسفر إلى محلّ كفالتهما «2» .

وفى تاسع عشره خلع السلطان الملك الناصر على الأمير جكم باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن يشبك الشعبانى، بحكم حبسه بالإسكندرية، وعلى سودون من زاده باستقراره خازندارا، عوضا عن آقباى الكركى، وعلى أرغون «3» من يشبغا باستقراره شادّ الشراب «4» خاناه، عوضا عن قطلوبغا الكركى، وأخلع على بيسق الشيخى خلعة إمرة الحاج على العادة، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحجّ بمكّة لعمارة «5» ما بقى من المسجد الحرام.

ثم فى سادس عشرين شوّال أخلع السلطان على الأمير يونس الحافظى باستقراره فى نيابة حماة بعد عزل الأمير عمر بن الهيدبانى «6» ، وفى هذا اليوم أنعم على

ص: 277

الأمير جكم من عوض الدوادار بإقطاع يشبك الشعبانى الدوادار، وعلى سودون الطيّار بإقطاع الأمير جكم، وأنعم بإقطاع آقباى الكركىّ على قانى باى العلائى، وبإقطاع قطلوبغا الكركى على تمربغا من باشاه المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس القاسمى المصارع على سودون من زاده بستّين فارسا.

ثم فى أوّل ذى القعدة ألزم سعد الدين «1» بن غراب بتجهيز نفقة المماليك السلطانية، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، ويلبغا السالمى بمائة ألف دينار، فشرع الجميع فى تجهيزها.

ثم قبض على السالمى وصودر، وعذّب بأنواع العذاب، ثم أفرج عنه بعد مدّة، واستمرّ الحال على أن جكم صار متحدّثا فى المملكة.

ثم فى رابع ذى الحجة اختفى سعد الدين بن غراب «2» ، وأخوه فخر الدين ماجد، ولم يعرف خبرهما. فاستقرّ ناصر الدين محمد بن سنقر فى الأستداريّة، عوضا عن سعد الدين بن غراب، مضافا لما معه من الذخيرة والأملاك.

ثم استعفى سودون من زاده من وظيفة الخازندارية «3» ، وأخلع على الوزير علم الدين أبى كمّ باستقراره فى نظر «4» الخاصّ مضافا على الوزر عوضا عن

ص: 278

؟؟؟ الدين بن غراب، وأخلع على سعد الدين بن أبى الفرج بن بنت الملكى، صاحب ديوان «1» الجيش، واستقرّ فى نظر الجيش «2» عوضا عن ابن غراب.

ثم فى تاسع ذى الحجة ورد كتاب مشايخ تروجة «3» يتضمن قدوم سعد بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطانىّ باستخراج الأموال، ومسيرهم معه إلى الإسكندريّة لإخراج يشبك والأمراء من سجن الإسكندرية، وإحضارهم إلى القاهرة. فأخلع «4» السلطان على رسولهم، وكتب على يده مثالا سلطانيّا بالقبض على ابن غراب ومن معه، وإرسالهم إلى القاهرة. ثم قدم كتاب نائب الإسكندرية بأن سعد الدين ابن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بعلام «5» الخدّام بالزّعر إلى تروجة، فأعطى لكل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرّر معهم قتل النائب، فبلغ ذلك النائب، فلما قدموا إلى الإسكندرية قبض على جماعة منهم وقتل بعضهم وقطع أيدى بعضهم، وضرب علّام الخدّام بالمقارع، وأنه أيضا ظفر بكتاب ابن غراب لبعض تجار الإسكندرية، وفيه أن يجتمع بالنائب ويؤكّد

ص: 279

عليه ألّا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر فى أمر يشبك الدوادار ومن معه من الأمراء، وأن يجعل باله لا يجرى عليه مثل ما جرى على ابن عرّام فى قتله الأمير بركة.

ثم وردت كتب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أمانا، وكتب «1» الأمراء ما خلا الأمير جكم، فإنه كتب إليه كتابا ولم يكتب إليه أمانا، فقدم إلى القاهرة فى حادى عشرينه فى الليل، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار الأمير سودون طاز أمير آخور، فتحدّث له مع سودون طاز وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومى الثلاثاء والأربعاء، حتى استرضى له الأمراء، وأحضره فى يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، وخلع عليه باستقراره فى وظائفه القديمة:

الأستادارية، ونظر الجيش، والخاص.

ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه جكم من الدخول إليه وردّه وما زال يسعى ابن غراب حتى دخل إليه مع الأمير سودون من زادة، وقبّل يده فلم يكلّمه كلمة، وأعرض عنه، فلم يزل حتى أرضاه بعد ذلك، ثم فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة أنفق ابن غراب تتمّة النفقة على المماليك السلطانية.

فأعطى كل واحد ألف درهم، وعند ما نزل من القلعة أدركه عدّة من المماليك السلطانية ورجموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به حتى أجاره.

ص: 280