الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى أثناء ذلك ورد الخبر بأن الأمير دقماق نزل على حلب ومعه جماعة من التركمان فيهم الأمير على بك بن دلغادر، وفرّ منه أمراء حلب، فملك دقماق حلب، ورسم السلطان بانتقال الأمير شيخ السليمانى المسرطن نائب صفد إلى نيابة طرابلس، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير أقبردى، ورسم باستقرار الأمير بكتمر جلّق أحد أمراء دمشق فى نيابة صفد «1» عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وخرج الأمير إينال المأمور «2» بقتل الأمراء المسجونين بالبلاد الشامية، وقبل وصول إينال المذكور أفرج الأمير دمرداش نائب طرابلس عن الأمير جكم وعن سودون طاز، وكانا ببعض حصون طرابلس وسار بهما إلى حلب، وهذا أوّل أمر جكم وظهوره بالبلاد الشامية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجة قبض السلطان على الأمير بيبرس الدوادار الثانى، وعلى الأمير جانم من حسن شاه، وعلى الأمير سودون المحمدى تلى، وحملوا إلى سجن الإسكندرية، واستقر الأمير قرقماس أحد أمراء الطبلخانات دوادارا ثانيا عوضا عن بيبرس المذكور.
[ما وقع من الحوادث سنة 807]
ثم فى صفر من سنة سبع وثمانمائة، وقع بين الأمير يشبك الشعبانى وبين الأمير إينال باى بن قجماس الأمير آخور كبير وسبب ذلك: أن الأمير يشبك الشعبانى الدوادار صار هو مدبّر الدولة وبيده جميع أمورها من الولاية والعزل، فصار له بذلك عصبة كبيرة، فأحبوا عصبته عزل إينال باى من الأمير اخورية، لاختصاصه بالسلطان الملك الناصر لقرابته منه ثم لمصاهرته، فإنه كان تزوج بخوند
بيرم بنت الملك الظاهر برقوق، وسكن بالإسطبل السلطانى «1» على عادة الأمير اخورية، فصار السلطان ينزل عنده ويقيم ببيت أخته ويعاقره الشراب، فعظم أمر إينال باى لذلك، فخافه حواشى يشبك، وأحبوا أن يكون چركس القاسمى المصارع عوضه أمير اخورا، واتفقوا مع يشبك على ذلك، فانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم. وتمادى الحال إلى يوم الجمعة، فأمر السلطان لإينال باى أن ينزل للأمراء المذكورين ويصالحهم، فمنع جماعة من المماليك السلطانية إينال باى أن ينزل، واشتد ما بينهم من الشر حتى خاف السلطان عاقبة ذلك، وباتوا مترقبين وقوع الحرب بينهما، وكان السلطان رسم للأمير يشبك أن يتحول من داره قبل تاريخه، فإنها مجاورة لمدرسة السلطان «2» حسن، فامتنع يشبك من ذلك
فساء ظن السلطان به، ثم استدعى السلطان القضاة فى يوم السبت ثانى صفر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس ليصلحوا بين إينال باى وبين يشبك ورفقته، فلم يقع صلح بين الطائفتين، وتسوّر بعض أصحاب يشبك على مدرسة السلطان حسن، فتحقّق السلطان عند ذلك ما كان يظنّه بيشبك، ويحذّره منه إينال باى وغيره، وأخذ كلّ أحد من الطائفتين فى أهبة الحرب، والسلطان من جهة إينال باى، وأصبحوا جميعا يوم الأحد لابسين السلاح، وطلع أعيان الأمراء إلى السلطان، وهم الأتابك بيبرس، والوالد، وبكتمر رأس نوبة الأمراء، وسودون الماردانى أمير مجلس، وآقباى حاجب الحجّاب، وطوخ الخازندار فى آخرين من مقدّمى الألوف والطبلخانات والعشرات والمماليك السلطانيّة.
وكان مع يشبك من أمراء الألوف سبعة «1» ، وهم الأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، ويلبغا الناصرى، وإينال حطب العلائى، وقطلوبغا الكركى، وسودون الحمزاوى رأس نوبة النوب، وطولو، و چركس المصارع، وانضم معهم سعد الدين إبراهيم بن غراب الأستادار، ومحمد بن سنقر البكجرىّ، وناصر الدين محمد بن على ابن كلبك «2» ، فى جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية، وتجهّز يشبك للحرب، وأعدّ بأعلى مدرسة السلطان حسن مدافع النفط والمكاحل والأسهم للرمى على الإسطبل السلطانىّ وعلى من يقف تحته من الرميلة، واجتمع عليه خلائق، ونزل السلطان أيضا من القصر إلى الإسطبل السلطانى، وجلس بالمقعد واجتمع عليه أكابر أمرائه وخاصّكيته، ووقع القتال بين الطائفتين والحصار والرمى بالمدافع من بكرة يوم الأحد إلى ليلة الخميس سابعه، وقد ظهر أصحاب السلطان على البشبكيّة، وحصروهم والقتال مستمرّ بينهم، وأمر يشبك فى إدبار، وحال السلطان فى استظهار، إلى أن
كانت ليلة الخميس المذكورة، فاتفق الأمير يشبك مع أصحابه، وركب نصف الليل، وخرج بمن معه من الأمراء من الرميلة على حميّة، ومرّوا من تحت الطبلخاناه إلى جهة الشام، فلم يتبعهم أحد من السلطانيّة، ونودى بالقاهرة فى آخر الليلة المذكورة بالأمان، ومنع أهل الفساد والزّعر من النّهب، ومرّ يشبك بمن معه من الأمراء والمماليك إلى قطيا، فتلقّاه مشايخ عربان العائذ «1» بالتقادم، وسار إلى العريش وقد بلغ خبره إلى غزّة، فتلقّاه نائب غزّة الأمير خير بك بعساكر غزّة، فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشر صفر «2» ونزل بها.
ثم بعث الأمير طولو إلى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام يعلمه الخبر، وسار طولو يريد دمشق حتى قدم دمشق يوم الأحد ثامن عشره، فخرج الأمير شيخ إليه، وتلقّاه وأعلمه طولو الخبر، فشقّ ذلك عليه، ووعده بالقيام بنصرته ليشبك «3» .
وكان فى ثامن عشر الشهر الخارج «4» قدم الأمير دقماق المحمّدى دمشق فأكرمه الأمير شيخ.
وخبر دقماق وسبب قدومه إلى دمشق، أنه لمّا فرّ من حلب، وجمع التركمان وأخذ حلب، وقدم الأمير دمرداش المحمّدى نائب طرابلس عليه وقد ولى نيابة حلب بعد أن أطلق دمرداش وسودون طاز وجكم، وسار بهما من طرابلس إلى حلب لقتال التركمان، وواقع التركمان بعد أن قتل سودون طاز، فانكسر دمرداش، وملك جكم حلب منه بعد أمور صدرت يطول شرحها، فكتب السلطان إلى دقماق يخيّره فى أىّ بلد يقيم؟ فاختار الشام، فقدمها.
ولما بلغ الأمير شيخ ما وقع ليشبك بعث بالأمير ألطنبغا حاجب الحجّاب بدمشق والأمير شهاب الدين أحمد بن اليغمورىّ، وجماعة أخر من الأعيان إلى الأمير يشبك، ومعهم أربعة أحمال قماش ومال، وكتب شيخ على أيديهم مطالعات للأمير يشبك يرغّبه فى القدوم عليه، وأنه يقوم بنصرته ويوافقه على غرضه.
فلمّا بلغ يشبك ذلك رحل من غزّة فى ليلة الاثنين خامس عشرينه، بعد ما أقام بها ثلاثة عشر يوما، وأخذ ما كان بها من حواصل الأمراء وعدّة خيول، وبعث إليه أهل الكرك «1» والشّوبك «2» بعدّة تقادم، بعد ما كان عرض من معه من المقاتلة فكانوا ألفا وثلاثمائة وخمسة «3» وعشرين فارسا، وتلقّاه بعد مسيره من غزّة بمشايخ بلاد الساحل «4» ، وحمل إليه الأمير بكتمر جلق نائب صفد عدّة تقادم- وقدم عليه ابن بشارة فى عدّة من مشايخ العشير.
ثم جهز إليه الأمير شيخ نائب الشام جماعة لملاقاته طائفة بعد أخرى.
ثم خرج إليه شيخ المذكور من دمشق حتى وافاه، فلمّا تقاربا ترجّل الأمير شيخ عن فرسه، فلمّا عاينه يشبك ترجّل هو وأصحابه وسلّم عليه، ثم سلّم على الأمراء وجلسا قليلا.
ثم ركبا، وسار يشبك المذكور وقد ألبسه شيخ هو وجميع من معه من الأمراء الخلع بالطّرز العريضة، وعدّتهم أحد وثلاثون أميرا من الطبلخانات والعشرات سوى من تقدّم ذكرهم من أمراء الألوف، ودخلوا [دمشق «1» ] يوم الثلاثاء رابع شهر رجب.
ولمّا طال جلوسهم بدمشق سألهم الأمير شيخ عن خبرهم، فأعلموه بما كان وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفى طاعته، لا يخرجون عنها أبدا، غير أنّ إينال باى نقل عنهم للسلطان ما لا يقع منهم، فتغيّر خاطر السلطان عليهم حتى وقع ما وقع وأنهم ما لم ينصفوا منه ويعودوا لما كانوا عليه وإلّا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، حتى قيل إنه بلغت نفقته عليهم نحو مائتى ألف دينار مصريّة. ثم كتب شيخ إلى السلطان يسأله فى أمرهم.
وأمّا أمر السلطان الملك الناصر، فإنّه لما أصبح وقد انهزم يشبك بمن معه إلى جهة الشام، كتب بالإفراج عن الأمير سودون من زاده، وتمربغا المشطوب، وصرق وكتب [إلى الأمير نوروز «2» بالحضور إلى الديار المصرية ليستقرّ على عادته] وكتب للأمير جكم أمانا توجّه به طغاى تمر مقدّم البريديّة.
ثم فى ثامن عشره خلع على عدّة من الأمراء بعدّة وظائف، فأخلع على سودون الماردانى «3» أمير مجلس باستقراره دوادارا عوضا عن يشبك الشعبانى المقدّم ذكره، وعلى الأمير سودون الطّيار الأمير آخور الثانى، واستقرّ أمير مجلس عوضا عن سودون الماردانى «4» ، وعلى آقباى حاجب الحجّاب باستقراره أمير سلاح عوضا
عن تمراز الناصرى، وخلع على أبى كمّ، واستقرّ فى وظيفة نظر الجيش عوضا عن ابن غراب، وعلى ركن الدين عمر بن قايماز، باستقراره أستادارا عوضا عن ابن غراب أيضا.
ثم فى تاسع عشره، قدم سودون من زاده وتمربغا المشطوب وصرق من سجن الإسكندرية «1» وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ونزلوا إلى دورهم.
وفى حادى عشرينه خلع السلطان على الأمير يشبك بن أزدمر باستقراره رأس نوبة النّوب «2» عوضا عن سودون الحمزاوى.
ثم ألزم السلطان مباشرى الأمراء المتوجّهين إلى الشام بمال، فقرّر على موجود الأمير يشبك مائة ألف دينار، وعلى موجود تمراز مائة ألف دينار، وعلى موجود سودون الحمزاوى ثلاثين ألف دينار، وعلى موجود قطلوبغا الكركىّ عشرين ألف دينار، ورسم السلطان أن يكون الدينار بمائة درهم، ثم افتقد السلطان المماليك السلطانية ممن توجه مع الأمير يشبك فكانوا مائتى مملوك.
ثم قدم الخبر على السلطان أنّ الأمير نوروز قدم إلى دمشق من قلعة الصّبيبة، فتلقّاه الأمير شيخ وأكرمه، وضربت البشائر لقدومه بدمشق، فعظم ذلك على السلطان.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب طلب السلطان جمال الدين يوسف البيرى أستادار بجاس وأخلع عليه باستقراره أستادارا عوضا عن ابن قايماز، بعد ما رسم على جمال الدين المذكور فى بيت شادّ الدواوين محمد بن الطبلاوى يوما وليلة، واستمرّ يتحدّث فى استادارية الأتابك بيبرس فإنه كان خدم عنده ليحميه من الوزر والأستادارية، فلم ينهض بيبرس بذلك.
ثم قدم الخبر بأن الأمير شيخا أفرج عن قرا يوسف.
وأما خبر جكم مع دمرداش وكيف ملك منه حلب، وقد قدّمنا ذكر ذلك مجملا من غير تفصيل، فإن جكم لما أطلقه دمرداش وأخذه صحبته إلى حلب، وقاتل معه التركمان ووقع لهما أمور حاصلها أن جكم تخوّف من دمرداش وفرّ منه إلى جهة التركمان، وانضم عليه سودون الجلب بعد مجيئه من بلاد الأفرنج، والأمير حمق نائب الكرك كان وغيره من المخامرين.
ثم وافقه ابن صاحب الباز أمير التركمان بتركمانه، فعاد جكم وقاتل دمرداش، ووقع بينهما أمور وحروب إلى أن ملك جكم طرابلس، وأرسل إليه الأمير شيخ نائب الشام، والأمير يشبك ورفقته يستميلونه ليقدم عليهم دمشق ويوافقهم على قتال المصريين، فأجابهم إلى ذلك، وخرج من طرابلس كأنه يريد التوجه إلى دمشق.
فلما وصل حماة أخذ نائبها الأمير علان بمن انضم عليه وتوجه بهم إلى دمرداش وقاتله حتى هزمه وأخذ منه مدينة حلب، وفرّ دمرداش بجماعة من أمراء حلب إلى بلاد التركمان.
ولما ملك جكم حلب أنعم بموجود دمرداش على علّان نائب حماة، وأقرّه على نيابة حماة على عادته، فصار مع جكم حلب وطرابلس وحماة، وأخذ يسير مع الرعية أحسن سيرة، فأحبه الناس وجرى على ألسنتهم «جكم حكم، وما ظلم» واستمرّ جكم بحلب إلى أن أرسل إليه الأمير شيخ نائب الشام الأمير سودون الحمزاوى، والأمير سودون الظريف، فتوجها إلى جكم على أنه بطرابلس.
ثم أرسل الأمير شيخ الأمير شرف الدين موسى الهيدبانى «1» حاجب دمشق إلى حلب رسولا إلى دمرداش يستدعيه إلى موافقته هو ومن عنده من الأمراء.
وكان قد ورد كتاب دمرداش على شيخ ويشبك أنه معهما «1» ، ومتى دعواه حضر إليهما «2» ؛ فهذا ما كان من أمر جكم، وبقية خبر قدومه يأتى إن شاء الله تعالى فيما بعد.
ثم إن الأمير شيخا نائب الشام عين جماعة من الأمراء ليتوجهوا لأخذ صفد، فخرج الأمير تمراز الناصرىّ أمير سلاح، والأمير چاركس القاسمى المصارع، والأمير سودون الظريف بعد عوده من طرابلس، وساروا بعسكرهم «3» لأخذ صفد من بكتمر جلّق، بحيلة أنهم يسيرون إلى جشار «4» الأمير بكتمر جلق كأنهم يأخذوه فإذا أقبل عليهم «5» بكتمر ليدفعهم عن جشاره قاطعوا عليه وأخذوا مدينة صفد منه، فتيقظ بكتمر لذلك وترك لهم الجشار، فساقوه من غير أن يتحرك بكتمر من المدينة وعادوا إلى دمشق وأخبروا الأمراء بذلك، فاستعد شيخ لأخذ صفد وعمل ثلاثين «6» مدفعا وعدّة مكاحل ومنجنيقين، وجمع الحجّارين والنقّابين وآلات الحصار، وخرج من دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان ومعه جمع كبير من عسكر مصر والشام من جملتهم قرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس [متملك بغداد «7» ] وجماعة من التركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه «8» وعيسى بن الكابولىّ بعشرانه، ونادى شيخ بدمشق قبل خروجه منها: من أراد النهب والكسب فعليه
بمصر «1» ، فاجتمع عليه خلائق، وسار معه مائة جمل تحمل مكاحل ومدافع وآلات الحصار، وولى الأمير ألطنبغا العثمانى نيابة صفد كما كان أولا، وسار شيخ بمن معه من العساكر حتى وافى مدينة صفد، فأرسل شيخ بالأمير علّان إلى بكتمر جلّق يكلّمه فى تسليم مدينة صفد، فلم يذعن إليه بكتمر وأبى إلا قتاله، وقال: ماله عندى إلا السيف؛ فحينئذ ركب شيخ ويشبك بمن معهما وأحاطا بقلعة صفد «2» ، وحصراها من جميع جهاتها، وقد حصنها بكتمر وشحنها بالرجال، وقام يقاتل شيخا أتم «3» قتال فاستمر الحرب بينهم أياما كثيرة خرح فيها من أصحاب شيخ نحو ثلاثمائة رجل، وقتل أزيد من خمسين نفسا.
وبينما هم فى قتال صفد إذ ورد عليهم الخبر بقدوم جكم إلى دمشق، ففرحوا بذلك، ولم يمكنهم العود إلى دمشق إلا عن فيصل من أمر صفد.
وكان خروج جكم من حلب فى حادى عشر شهر رمضان، وسار حتى قدم دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، فإن شيخا كان أرسله إليه قبل خروجه إلى صفد بعد عود سودون الحمزاوى وسودون الظريف من طرابلس، وقبل خروج جكم من حلب سلّم قلعتها إلى الأمير شرف الدين موسى ابن يلدق، وعمل حجّابا وأرباب وظائف، وعزم على أنه يتسلطن ويتلقب بالملك العادل.
ثم بدا له تأخير ذلك، وقدم دمشق لمرافقة شيخ ويشبك ومن معهما، ووصل إلى دمشق ومعه الأمير قانى باى وتغرى بردى القجقارى وجماعة كبيرة، فخرج من بدمشق من أمراء مصر والشام جميعهم إلى لقائه، وأنزل بالميدان، فسلم جكم على الأمراء سلام السلاطين على الأمراء، وأخذ يترفع عليهم ترفعا زائدا أوجب تنكرهم عليه فى الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الانقياد إليه، فأكرموه على رغمهم، وأنزلوه وكلّموه فى القيام معهم، فأجاب، وأمرهم أن يكتبوا ليشبك وشيخ بقدومه إلى دمشق، فكتبوا إلى يشبك وشيخ بذلك، وأخذ جكم فى إظهار شعار السلطنة مع خدمه وأصحابه، فشق على الأمراء ذلك، وما زالوا به بالملاطفة حتى ترك ذلك إلى وقته، وأقام معهم بدمشق إلى ليلة الأحد سابع عشرين شهر رمضان من سنة سبع وثمانمائة المذكورة، فخرج من دمشق وتوجه مخفّا إلى طرابلس ليجمع عساكر طرابلس، وترك ثقله «1» بدمشق، وورد عليه الخبر أن دمرداش لما فر منه ركب البحر وتوجه إلى دمياط.
ثم قدم إلى مصر فى رابع عشرين شهر رمضان المذكور فهدأ سرّجكم بذلك عن أمر حلب.
وأما يشبك وشيخ بمن معهما من الأمراء والعساكر لما طال عليهم القتال على مدينة صفد، وعجزوا عن أخذها، تكلموا فى الصلح مع بكتمر حتى تم لهم ذلك، واصطلحوا وتحالفوا، ونزل إليهم بكتمر جلّق فى يوم الاثنين حادى عشرين شهر رمضان بعد أن كانت مدة القتال بينهم [على صفد «2» ] اثنين وعشرين يوما، وعاد شيخ إلى دمشق وهو مجروح، ويشبك الشعبانى وهو مجروح أيضا، و چاركس المصارع وهو مجروح.
وأما عساكرهم فغالبهم أثخنته الجراح، فعندما أقاموا بدمشق قدم عليهم الأمير جكم من طرابلس بعد أن أرسلوا يستحثونه على سرعة المجىء إليهم غير مرة فخرجوا لتلقّيه وسلّموا عليه، وعادوا به إلى دمشق وهما فى غاية الحنق من جكم، وهو أنه لما وافاهما جكم ترجّل إليه الأمير يشبك عن فرسه إلى الأرض، وسلّم عليه فلم يعبأ به جكم، ولا التفت إليه، لأنه كان غريمه فيما تقدّم ذكره، فشق ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجّله.
ثم عتب شيخ جكم على ما وقع منه فى عدم إنصاف يشبك، ونزل «1» جكم بالميدان وجلس فى صدر المجلس، وجلس يشبك عن يمينه، وشيخ عن يساره، فكاد شيخ ويشبك أن يهلكا فى الباطن، ولم يسعهما إلا الإذعان لتمام أمرهما.
ثم أمرهم جكم ألّا يفعلوا شيئا إلا بمشاورته، فاتفقوا على منع الدعاء للسطان الملك الناصر فرج بمنابر دمشق، فوقع ذلك للخطباء، وذكروا «2» اسم الخليفة فى الخطبة فقط.
وكان الأمير شيخ قبل قدوم جكم إلى دمشق أفرج عن السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد من سجن دمشق، وأنعم عليه بمائة ألف درهم فضة وثلاثمائة فرس.
وأنعم أيضا على قرا يوسف بمائة ألف وثلاثمائة «3» فرس، وأخرج عدة كبيرة من أمراء مصر إلى جهة غزة [بعد أن حمل إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة «4» ] وهم: الأمير تمراز الناصرىّ، وابنه الأمير سودون بقجة «5» ، وسودون الحمزاوى،
ويلبغا الناصرى، وإينال حطب، و چاركس المصارع بعد أن حمل شيخ أيضا إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة، ولم يتأخر بدمشق من أعيان الأمراء إلّا الأمير يشبك الدوادار والأمير شيخ نائب الشام، وأقاما فى انتظار الأمير جكم [حتى قدم عليهما جكم «1» ] حسبما تقدّم ذكره، وبعد قدوم جكم أجمعوا على المسير إلى جهة مصر، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا فى يوم رابع عشر ذى القعدة.
ثم خرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق فى يوم عشرينه «2» وساروا إلى الخربة «3» فافترقوا منها. فتوجه يشبك وقرا يوسف إلى صفد لقتال نائبها بكتمر جلق ثانيا، فإنه بلغهم أنه مستمر على طاعة السلطان. وتوجه شيخ إلى قلعة الصّبيبة وبها ذخائره وحريمه.
فلما بلغ بكتمر جلق مجىء العسكر لقتاله استعد هو أيضا لقتالهم، وقد قوى قلبه، فإنه بلغه أن علّان نائب حماة دخل فى طاعة السلطان وخالف الأمراء، وكذلك شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فإنه دخل فى طاعة السلطان، واستولى على طرابلس واستفحل أمره، وأن الأمير شيخا السليمانى نائب طرابلس بعد أخذ طرابلس قدم عليه البريد بولاية «4» قانى باى على طرابلس، فخرج منها شيخ السليمانى إلى حماة، فأشار عليه علّان نائب حماة أنه لا يسلّم طرابلس لقانى باى حتى يراجع السلطان ويعلمه بما يترتب على عزله من الفساد، فعاد شيخ إلى طرابلس، فبهذه الأخبار ثبت بكتمر جلق على طاعة السلطان وقتال الأمراء.
ولما قارب يشبك، وقرا يوسف صفد أخرج بكتمر كشّافته «1» بين يديه، ونزل جسر يعقوب «2» ، فالتقى كشافته بأصحاب يشبك وقرا يوسف، فاقتتلوا قتالا شديدا ظهر فيه الصفديون «3» ، وأخذوا من الشاميين عشرة أفراس، فعاد يشبك وقرا يوسف إلى طبرية «4» ، ونزلوا بها حتى قدم عليهم الأمير شيخ نائب الشام.
ثم ساروا جميعا إلى غزة، وقد تقدّمهم الأمير جكم ونزل على الرملة «5» .
وأما أمراء الديار المصرية فإن السلطان الملك الناصر لما تحقق اتفاق الأمير شيخ المحمودى نائب الشام مع يشبك ورفقته، وبلغه أخبارهم مفصّلا، استشار الأمراء فى أمرهم فأجمعوا على خروج السلطان لقتالهم، فتجهّز السلطان، وعلّق جاليش السفر فى ثانى ذى القعدة «6» بالطبلخاناة السلطانية على العادة.
ثم أنفق فى رابعه على المماليك السلطانية على كل مملوك خمسة آلاف درهم.
وكان صرف الذهب يوم ذاك مائة درهم المثقال، فصرف لكل واحد منهم تسعة «7» وأربعين مثقالا، واحتاج السلطان فى النفقة المذكورة حتى اقترض من مال أيتام الأمير قلمطاى الدوادار عشرة آلاف مثقال، ورهن عندهم جوهرا، وجعل كسب ذلك ألف دينار ومائتى دينار، وأخذ منهم أيضا نحو ستة عشر ألف مثقال وباعهم بها بلدة من أعمال الجيزة تسمى البراجيل «8» ، وأخذ من [تركة «9» ] التاجر برهان
الدين المحلّى وغيره مالا كثيرا، ووزّع له قاضى القضاة شمس الدين الأخنائى الشافعى خمسمائة ألف درهم على تركات خارجة عن المودع، وكانت نفقة السلطان على خمسة آلاف مملوك.
ثم عزل السلطان الأخنائى عن قضاء «1» الشافعية بقاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينى، وعزل ابن خلدون بقاضى القضاة جمال الدين يوسف البساطىّ المالكى.
ثم قدم الخبر على السلطان بنزول الأمراء على مدينة غزة، وأخذهم الإقامات «2» المجهّزة للعساكر السلطانية.
وكانت غزة قد غلابها الأسعار لقلّة الأمطار، وبلغت الويبة القمح مائة وعشرين درهما، فعند ذلك جد السلطان الملك الناصر فى حركة السفر، والاستعداد للحرب.
وأما أمر الأمراء فإنه خرج جاليشهم من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية فى يوم الأحد ثانى ذى الحجة.
ثم سار من الغد الأمير شيخ ويشبك وجكم ببقية عساكرهم، واستنابوا بغزة الأمير ألطنبغا العثمانى.
ثم قدم الخبر على جناح الطير من بلبيس بنزول الأمراء على قطيا، فكثرت حركات العسكر بالقاهرة، وخرجت مدوّرة «3» السلطان إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، واختبط العسكر واضطرب لسرعة السفر.
ثم ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره فى يوم السبت ثامن ذى الحجة من سنة سبع وثمانمائة، وسار حتى نزل بالريدانية خارج القاهرة، وبات بها، وقد أقام من الأمراء بباب السلسلة بكتمر الركنى رأس نوبة الأمراء وجماعة أخر بالقاهرة.
وبينما السلطان بالريدانية ورد عليه الخبر بنزول الأمراء بالصالحية فى يوم التّروية وأخذوا ما كان بها من الإقامات السلطانية، فرحل السلطان من الريدانية فى يوم الأحد تاسعه، ونزل العكرشة «1» ، ثم سار منها ليلا، وأصبح ببلبيس وضحّى بها، وأقام عليها يومى الاثنين والثلاثاء، ورحل من مدينة بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل على منزلة السعيدية «2» ، فأتاه كتب الأمراء الثلاثة، وهم: جكم، وشيخ، ويشبك بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك وبين إينال باى بن قجماس، وطلبوا منه أن يخرج إينال باى المذكور ودمرداش المحمدى نائب حلب من مصر، وأن يعطى لكلّ من يشبك وجكم وشيخ ومن معهم بمصر والشام ما يليق بهم من النيابات والإقطاعات لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، ولحقن «3» الدماء ويعمر بذلك ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تلفت أرواح كثيرة، وخرّبت بيوت عديدة.
وكانوا أرادوا هذه المكاتبة من الشام، ولكن خشوا أن يظنّ بهم العجز، فإنه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك، ولم يأمر
بكتابة جواب لهم، وكان ذلك مكيدة من الأمراء حتى كبسوا على السلطان فى ليلة الخميس وهم فى نحو ثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركمانى من أصحاب قرا يوسف.
وبينما السلطان على منزلة السعيدية ورد الخبر على الوالد من بعض أصحابه ممن هو صحبة الأمراء، أن الأمراء اتفقوا على تبييت السلطان والكبس عليه فى هذه الليلة، فأعلم الوالد السلطان وحرّضه على الركوب بعساكره من وقته، فمال إليه السلطان، فأخذ الأمير بيغوت وغيره يستبعد ذلك، ولا زالوا بالسلطان حتى فتر عزمه عن الركوب، فعاد الوالد إلى وطاقه «1» ، وأمر جميع مماليكه بالركوب بآلة الحرب.
وبينما هو فى ذلك إذ ثارث غبرة عظيمة وهجّة فى الناس، وقبل أن يسأل السلطان عن الخبر طرقه الأمراء على حين غفلة، فركب السلطان فى الليل بمن معه واقتتل الفريقان قتالا شديدا من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جرح فيه جماعة كثيرة من الطائفتين، وقتل الأمير صرق الظاهرى صبرا بين يدى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام، لأن السلطان كان ولاه عوضه نائب الشام، وانهزم السلطان وركب وسار «2» عائدا على الهجن إلى جهة الديار المصرية، ومعه سودون الطيار وسودون الأشقر، وساقوا إلى أن وصلوا إلى القلعة، وتفرقت العساكر السلطانية وانهزموا وتركوا أثقالهم وخيامهم، وسائر أموالهم غنمها الشاميون، ووقع فى قبضة الأمراء من المصريين الخليفة والقضاة، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب غزة، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية وغيرهم، وقدم المنهزمون من السلطانية إلى القاهرة فى يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجة، ولم يحضر السلطان
ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف وماج الناس، وانتهبت عدة حوانيت حتى قدم السلطان قريب العصر ومعه الأمراء، وقد قاسى من [مرّ «1» ] العطش والتعب مالا يوصف، فسر الناس بقدومه، وطلع إليه الأمراء والعساكر وباتوا تلك الليلة، وأصبح السلطان يتهيأ للقاء الأمراء، وقبض على يلبغا السالمىّ وسلّمه لجمال الدين البيرىّ الأستادار، فعاقبه وصادره، وشرع أمر السلطان كل يوم فى زيادة لعدم قدوم العسكر الشامى إلى القاهرة.
فلما كان آخر نهار الأحد نزلت الأمراء بالريدانية خارج القاهرة.
ثم أصبحوا فى بكرة نهار الاثنين ركبوا وزحفوا على القاهرة، فأغلقت أبواب المدينة وتعطلت الأسواق عن المعايش، ومشوا حتى وصلوا قريبا من دار الضيافة «2» بالقرب من قلعة الجبل، فقاتلهم السلطانية من بكرة نهار الاثنين المذكور إلى بعد الظهر، فلما أذّن الظهر أقبل جماعة كثيرة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين: منهم الأمير يلبغا الناصرى، وآسنباى أمير ميسرة الشام المعروف بالتركمانى، وسودون اليوسفى، وإينال حطب، وجمق، فلما وقع ذلك اختل أمر الأمراء، وعزم جماعة منهم على العود إلى البلاد الشامية فحمل ما خف من أثقاله وعاد، وفعل ذلك جماعة كبيرة بعد أن أفرج شيخ عن الخليفة والقضاة وغيرهم، فتسلّل عند ذلك الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، والأمير جاركس القاسمى المصارع، والأمير قطلوبغا الكركى فى جماعة أخر، واختفوا بالقاهرة وظواهرها.
فلما وقع ذلك ولى الأمير جكم والأمير شيخ والأمير طولو وقرا يوسف فى طائفة يسيرة، وقصدوا البلاد الشأمية، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان.
ثم نادى السلطان بالأمان لكل أحد، فطلع إليه جماعة، فقبض عليهم وقيّدهم وبعث بهم إلى سجن الإسكندرية، وخمدت الفتنة، وانجلت «1» هذه الواقعة عن إتلاف مال كثير من العسكرين، ذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب ما لا يدخل تحت حصر من غير فائدة.
ثم أخذ الملك الناصر فى تمهيد أمور دولته وإصلاح الدولة والمفرد، فقبض على الصاحب تاج الدين بن البقرى، وسلّمه لجمال الدين الأستادار، واستقرّ عوضه فى الوزارة فخر الدين ماجد بن غراب.
وكان أخوه سعد الدين إبراهيم بن غراب مع العسكر الشامى، فلما قدم معهم اختفى بالقاهرة، ثم ترامى على الأمير إينال باى بن قجماس، فجمع بينه وبين السلطان ليلا، ووعده بستين ألف دينار.
وأصبح يوم الأربعاء تاسع عشر ذى الحجة طلع سعد الدين بن غراب إلى القلعة فخلع عليه السلطان وجعله مشيرا.
ثم فى ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى، وكان ممن قدم مع العسكر، باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير شيخ المحمودى، وعلى بكتمر جلّق باستقراره على نيابة صفد، وعلى سلامش حاجب غزّة بنيابة غزّة.
وأما جكم وشيخ فإنهما قدما غزّة فى نحو خمسمائة فارس أكثرهم من التركمان أصحاب قرا يوسف، وقد غنموا شيئا كثيرا، وتفرّقت عساكر شيخ، وتلفت أمواله وخيوله، ومضى إلى دمشق، فخرج إليه الأمير بكتمر جلق والأمير شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فهرب منهما، فتتبّعاه إلى عقبة «2» فيق، فنجا بنفسه