المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ما وقع من الحوادث سنة 808] - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٢

[ابن تغري بردي]

الفصل: ‌[ما وقع من الحوادث سنة 808]

فلم يدركاه، ودخل دمشق وهو فى أسوأ حال، فوجد السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد فرّ من دمشق إلى جهة بلاده فى ليلة الأحد سادس عشر ذى الحجة، وكان قد تأخر بدمشق ولم يتوجه إلى نحو الديار المصرية صحبة الأمراء.

ثم إن شيخا أوقع الحوطة على بيوت الأمراء الذين خامروا عليه وتوجهوا إلى مصر، وأخذ فى إصلاح أمره ولمّ شعثه.

وأما جكم فإنه لما فارق حلب كان «1» بها عدّة من أمرائها، ورفعوا سنجق «2» السلطان بقلعة حلب، فاجتمع إليهم العسكر، فحلف بعضهم لبعض على طاعة السلطان وقدم ابنا شهدى الحاجب ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظى، وامتدت أيدى عرب العجل ابن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئا، كل ذلك قبل قدوم جكم إليها من مصر.

وأما السلطان فإنه رسم فى أواخر ذى الحجة بانتقال الأمير علّان اليحياوى نائب حماة إلى نيابة حلب عوضا عن جكم، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير إينال الخازندار، واستقرّ الأمير دقماق المحمدى فى نيابة حماة عوضا عن علّان المذكور، واستقرّ الأمير بكتمرجلق نائب صفد فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وتوجه بتقليده الأمير جرباش العمرى، واستقر عوضه فى نيابة صفد الأمير بكتمر الركنى رأس نوبة الأمراء درجة إلى أسفل.

[ما وقع من الحوادث سنة 808]

ثم فى ثالث المحرم سنة ثمان وثمانمائة قدم مبشر الحاج وأخبر بأنه كان أشيع بمكة المشرفة قدوم تيمور لنك إليها، فاستعد صاحب مكة لذلك، فلم يصحّ ما أشيع.

ص: 322

ثم قدم رسل الأمير شيخ نائب الشام إلى السلطان بديار مصر، وهم شهاب الدين أحمد بن حجّى أحد خلفاء الحكم بدمشق، والشريف ناصر الدين محمد بن على نقيب الأشراف، والشيخ المعتقد محمد بن قويدار، والأمير يلبغا المنجكى، ومعهم كتبه تتضمن الترقق والاعتذار عما وقع منه، وتسأل استقراره على عادته فى نيابة دمشق، فلم يلتفت السلطان إلى قوله، ومنع رسله من الاجتماع بأحد.

ثم فى رابع عشرين المحرم سار الأمير نوروز الحافظى إلى نيابة دمشق وخرج الأمراء لوداعه، ونزل بالريدانية ومعه متسفرّه «1» الأمير برد بك الخازندار.

ثم وقعت الوحشة بين السلطان وبين الأمير إينال باى بن قجماس الأمير آخور، فقبض السلطان فى يوم الاثنين سادس صفر على الأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة النوب، وعلى الأمير تمر، وعلى الأمير سودون، وهما من إخوة سودون طاز، فاختفى الأمير إينال باى أمير آخور ومعه الأمير سودون الجلب، وأحاط السلطان بدورهم، ثم قيّد الأمراء وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية.

وأما إينال باى فإنه دار على جماعة من الأمراء ليركبوا معه، فلم يؤهّله أحد لذلك، فاختفى إلى يوم الجمعة عاشره، فظهر، وطلع به الأتابك بيبرس إلى القلعة، فكثر الكلام بين الأمراء حتى آل الأمر إلى مسك إينال باى وإرساله إلى ثغر دمياط بطّالا.

ثم فى خامس عشرين صفر فرّق السلطان إقطاعات الأمراء الممسوكين، فأنعم بإقطاع إينال باى على الوالد، وزاده إمرة طلبخاناه، وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب كان، وبإقطاع دمرداش على الأمير أزبك الإبراهيمى.

ص: 323

وجميع هذه الإقطاعات تقادم ألوف، لكن شيئا أحسن من شىء فى كثرة المغلّ.

وأنعم على الأمير بيبرس الصغير الدوادار بتقدمة ألف قبل أن تكمل لحيته، وعلى الأمير بشباى الحاجب بتقدمة ألف، وعلى الأمير علّان بتقدمة ألف، وعلى الأمير قراجا بإمرة عشرين، وأنعم بطبلخانات سودون الجلب على الأمير أيتمش الشعبانى.

ثم أخلع على الأمير جرباش الشيخى رأس نوبة ثانى باستقراره أمير آخورا كبيرا عوضا عن إينال باى.

وأما الأمير شيخ فإنه توجه صحبة الأمير جكم وقرا يوسف لحرب نعير.

ثم اختلفوا، فمضى جكم إلى طرابلس، وتوجه قرا يوسف إلى جهة الشرق عائدا إلى بلاده، وعاد الأمير شيخ من البقاع ونزل سطح المزّة «1» ومعه خواصّه فقط.

ثم توجه إلى الصّبيبة «2» هاربا من نوروز الحافظى، فدخل نوروز إلى دمشق فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين صفر من غير مدافع لضعف الأمير شيخ عن مقاومته وقتاله.

وأما السلطان، فإنه أخلع على الأمير بشباى الحاجب باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن يشبك بن أزدمر، وأخلع على الأمير أرسطاى باستقراره حاجب الحجّاب بعد بشباى.

ص: 324

ثم فى يوم الثلاثاء وقع بالديار المصرية فتنة، وكثر الكلام بين الأمراء إلى أن اتفق جماعة من المماليك الچركسية وسألوا السلطان القبض على الوالد وعلى الأمير دمرداش المحمدى، وعلى الأمير أرغون من بشبغا وجماعة أخر من كون السلطان اختص بهم، وتزوّج بكريمتى على كره من الوالد، وكونه أيضا أعرض عن الچراكسة وأمسك إينال باى، فخافوا أن تقوى شوكة هؤلاء عليهم، واتفقوا واجتمعوا على الأتابك بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، وكثر كلام القوم فى ذلك إلى أن طلب السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فقال له دمرداش:

المصلحة [تقتضى] قتالهم «1» ، وأنا كفء هؤلاء الچراكسة، والسلطان لا يتحرك من مجلسه فنهره الوالد وقال له ما معناه: نقاتل من؟ نقاتل خشداشيّتك «2» ، كلّنا مماليك السلطان ومماليك أبيه مهما شاء السلطان فعل «3» فينا وفيهم.

هذا وقد ظهر الملل على السلطان من كثرة الفتن، ولحظ الوالد منه ذلك، فإنه قال فيما بعد: سمعته يقول فى ذلك اليوم: وددت لو كنت كما كنت ولا أكون سلطانا.

ثم أمر السلطان الوالد أن يختفى حتى ينظر السلطان فى مصلحته، وأمر دمرداش أيضا بذلك، وانفض المجلس من غير إبرام أمر.

ثم أصبح الناس يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الأول من سنة ثمان المذكورة، وقد ظهر الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، والأمير جاركس القاسمى المصارع، والأمير قانى باى العلائى، وكانوا مختفين بالقاهرة من يوم واقعة السعيدية.

ص: 325

وخبر ظهورهم أن الأتابك بيبرس ركب إلى السلطان، وأخبره بمواضع الأمراء المذكورين، ووافقه على مصالحة الچراكسة وإحضار الأمراء من اختفائهم، والإفراج عن إينال باى وغيره، فرضى السلطان بذلك، وتقرر الحال على ذلك، وطلع الأمراء المذكورون من الغد فى يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل المذكور، فأخلع «1» السلطان على الأمير سودون المحمّدى باستقراره أمير آخورا كبيرا عوضا «2» عن جرباش الشيخى، وعوده إلى إقطاعه إمرة طبلخاناة ووظيفنه رأس نوبة.

ثم فى عاشره طلع الأمير يشبك الدوادار والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح والأمير جاركس القاسمى المصارع وجماعة أخر إلى القلعة، وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان، فأخلع عليهم خلع الرضا، ونزل كل واحد إلى داره.

ثم فى خامس عشرة قدم الأمير قطلوبغا الكركى، وإينال حطب، وسودون الحمزاوى، ويلبغا الناصرى، وأسندمر الناصرى، وتمر من سجن الإسكندرية، وهؤلاء الذين كان السلطان نادى لهم بالأمان بعد وقعة السعيدية، فلما طلعوا له قبض عليهم وسجنهم بالإسكندرية وهم رفقة يشبك وشيخ و چكم.

ثم قدم الأمير إينال باى بن قجماس من ثغر دمياط ومعه تمان تمر الناصرى.

ثم قدم الأمير يشبك بن أزدمر أيضا من سجن الإسكندرية.

ثم أمسك السلطان القاضى فتح الدين فتح الله كاتب «3» السرّ، وولّى عوضه سعد الدين إبراهيم بن غراب، وألزم فتح الدين بحمل ألف ألف درهم.

ثم ظهر الأمير دمرداش [نائب حلب «4» ] من اختفائه، فأخلع السلطان عليه نيابة غزّة، فسار فى يوم السبت رابع عشرينه، وخلع السلطان أيضا على يشبك بن

ص: 326

أزدمر بنيابة ملطيّة، فامتنع من ذلك، فأكره حتى لبس الخلعة «1» ، ووكّل به الأمير أرسطاى الحاجب والأمير محمد بن جلبان الحاجب حتى أخرجاه من فوره إلى ظاهر القاهرة.

ثم بعث السلطان إلى الأمير أزبك الإبراهيمى الظاهرى المعروف بخاص خرجى «2» ،- وكان تأخّر عن طلوع الخدمة- بأن يستقرّ فى نيابة طرسوس «3» ، فأبى أن يقبل والتجأ إلى بيت الأمير إينال باى، فاجتمع طائفة من المماليك ومضوا إلى يشبك بن أزدمر، وردّوه فى ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل وقد وصل قريبا من سرياقوس، وضربوا الحاجب المرسّم عليه، وصار العسكر فرقتين، وأظهر المماليك الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد الطلوع إلى السلطان، وجلس الأتابك بيبرس بجماعة من الأمراء فى بيته، وصار السلطان بالقلعة وعنده عدّة أمراء، وتمادى الحال على ذلك يوم الخميس والجمعة والسبت والسقالة بينهم.

فلما كان يوم السبت نزل السلطان من القلعة إلى باب السلسلة، واجتمع عنده بعض الأمراء لإصلاح الأمر، فلم يفد ذلك، وباتوا على ما هم عليه، وأصبحوا يوم الأحد خامس عشرينه وقد كثروا وطلبوا من السلطان الوالد أرغون من بشبغا.

وكان الوالد قد ظهر من يوم أخرج دمرداش إلى نيابة غزة، فلم يستجر أحد يتكلم فى خروجه من القاهرة، واستمر على إمرته، فأبى الملك الناصر أن يرسله إليهم،

ص: 327

فقال الوالد: هذا أمر يطول، ولا بدّ من النزول، فنزل إليهم ومعه أرغون، وكلّم الأمراء فى سبب طلبهم إياه، وخشّن للأتابك بيبرس فى القول، فإنه كان مسفّر الوالد لما ولى نيابة حلب فى أيام الملك الظاهر برقوق، فلم يتكلّم بيبرس ولا غيره بكلمة واحدة، وسكت الجميع.

فلما طال المجلس قال الوالد: ما تتكلموا، فعندها «1» تكلّم شخص من الخاصكية الظاهرية يقال له: قرمش الأعور، وهو الذي قطع رأسه فى دولة الملك الأشرف برسباى من أجل جانى بك الصوفى حسبما يأتى ذكره، وقال قرمش: ياخوند، المقصود أنك تخرج من الديار المصرية حتى تسكن هذه الفتنة، ثم تعود بعد أيام أو يعطيك السلطان ما تختار من البلاد. فقال الوالد: بسم الله حتى أشاور السلطان ثم أسافر، وخرج فلم يجرؤ أحد أن يقبضه ولا يرسّم عليه، وعاد إلى بيته ولم يطلع إلى السلطان.

وكان سكنه بالبيت الذي بباب الرّميلة تجاه مصلّاة المؤمنىّ «2» ، وأقام به يومه وتجهّز وخرج فى الليل فى نحو مائة مملوك من خواصّه، فلم يقف له أحد على خبر، وسار من البرّية إلى القدس الشريف فى دون الخمسة أيام، ولم يجتز بقطيا خوفا من تسليط العربان عليه.

وكان لما خرج من بيت بيبرس أرسل إليه السلطان يعلمه أنه أيضا يريد يختفى ويترك السلطنة، فلهذا جدّ الوالد فى السير لئلا يخرج القوم فى أثره ويقبضون عليه.

ص: 328

فلما كان وقت الظهر من يوم خروج الوالد من مصر وهو يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل فقد السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق من قلعة الجبل ولم يعرف له خبر.

وسبب تركه السلطنة أنه كان فى يوم النوروز جلس السلطان مع جماعة من الأمراء والخاصكية من مماليك أبيه، وشرب معهم حتى سكر، ثم ألقى بنفسه إلى فسقيّة هناك، فألقى الجماعة أنفسهم معه، وقد غلب على السلطان السكر، وصار يسبح معهم فى الماء ويمازحهم، وترك الوقار، فجاء من خلفه الأمير أزبك الإبراهيمى المعروف بخاصّ خرجى، وقيل غيره، وأزبك الأشقر «1» ، وأغمّه فى الماء مرارا وهو يمرق من تحته كأنه يمازحه حتى قبض عليه وغرّقه فى الماء حتى كادت نفسه تزهق، ففطن به بعض مماليك أبيه من الأروام ممن كان معهم أيضا فى الفسقية، وخلّصه منه، وأفحش فى سبّ أزبك المذكور، وأراد قتله، فمنعه السلطان من ذلك، وقال: كان يلعب معى، وأسرّها فى نفسه.

ثم طلع السلطان من الفسقيّة، وذهب كل واحد إلى حال سبيله، فذكر السلطان بعد ذلك للوالد ما وقع له مع أزبك المذكور، وأمره أن يكتم ذلك لوقته، فأخذ الوالد يزوّل عنه ذلك ويهوّنه عليه.

ثم عرّف السلطان جماعة من أكابر أمراء الجراكسة بذلك، فلم يلتفتوا لقوله وقالوا: لم يرد بذلك إلّا مباسطة السلطان، فعند ذلك تحقّق السلطان أنهم يريدون قتله، وكان ذلك بعد خروج الأمراء من السجن وظهور يشبك ورفقته، وقد كثروا وعظم جمعهم، فلم يجد الملك الناصر بدّا من أن يفوز بنفسه ويترك لهم ملك مصر.

ص: 329

ولما أراد النزول من القلعة ليختفى بالقاهرة قام ومعه بكتمر مملوك القاضى سعد الدين بن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهر ابن غراب، ونزلوا من باب السرّ الذي يلى القرافة، وساروا على بركة الحبش «1» ، ونزلوا منها فى مركب، وتركوا الخيل وتغيّبوا نهارهم كلّه فى البحر حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت سعد الدين ابن غراب وهو فيما بين الخليج «2» وبركة الفيل «3» بالقرب من قنطرة طقزدمر «4» ، فلم يجدوه فى داره، فمروا على أقدامهم حتى باتوا فى بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر.

ثم بعثوا لابن غراب بمجيء السلطان إلى عنده، فهيأ له سعد الدين مكانا من داره، وأنزله فيه من غير أن يعلم أحد به.

وأما الأمراء، فإنه لمّا بلغهم ذهاب السلطان الملك الناصر [خرج المذكور «5» ] فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وثمانمائة، بادروا بالطلوع إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التى كانت خالفت السلطان الملك الناصر، وركبوا عليه وقاتلوه أياما، ثم توجهوا إلى الشام وعادوا إلى الديار المصرية وصحبتهم جكم وشيخ وقرا يوسف وواقعوه بالسعيدية «6» ، وكسروه. ثم اختفوا؛ ورأسهم يشبك الشعبانى الدوادار بمن كان معه من الأمراء وقد مر ذكرهم فى عدّة مواضع، والطائفة الأخرى كبيرهم بيبرس الأتابك، وسودون الماردانى الدوادار الكبير، وإينال باى وغيرهم.

فلما طلعوا الجميع إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدى الأمير آخور الكبير من الطلوع إلى القلعة، فصاروا يتضرّعون إليه من نصف النهار إلى بعد

ص: 330

غروب الشمس، حتى مكّنهم من العبور من باب السلسلة، فطلعوا ومعهم الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة، وتكلموا فيمن ينصّبوه سلطانا، حتى اتّفقوا على سلطنة الأمير عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق، فإنه ولى عهد أخيه فى السلطنة حسبما قرّره والده الملك الظاهر برقوق قبل وفاته، فطلبوه من الدّور السلطانية، فمنعته أمه خوند قنّق باى أوّلا، ثم دفعته لهم فأحضروه، وتم أمره، وتسلطن حسبما نذكره فى محلّه من ترجمته، وخلع الملك الناصر فرج من السلطنة وسنّه نحو سبع عشرة سنة تخمينا، فكانت مدّة تحكم الملك الناصر على مصر من يوم مات أبوه الملك الظاهر برقوق إلى يوم خلع ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوما [والله أعلم «1» ] .

«انتهى الجزء الثانى عشر من النجوم الزاهرة، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر، وأوّله: السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق الأولى على مصر» .

النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 1

[الجزء الثالث عشر]

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لأبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى المتوفى فى أخريات سنة أربع وسبعين وثمانمائة هجرية من الكتب القلائل التى جعلت الأحداث فى مصر وما يدور فى فلكها من الأقاليم والأطراف مدار بحثها، إلا أنه ينفرد من بينها بأنه أجمعها وأسلسها لغة، وأبعدها عن الحشو، وأكثرها تنظيما، وأشدها اهتماما بألوان الحضارة المختلفة وتطورها على مدارج التاريخ فى الدولة العربية.

ثم هو يعدّ فى أجزائه من الأوّل إلى الثانى عشر- وهى التى تعالج الحقبة التاريخية من سنة عشرين من الهجرة إلى سنة إحدى وثمانمائة- واسطة بين الكتب والموسوعات التاريخية التى اهتمت بمعالجة الأحداث فى تلك الحقبة، فهو وإن اعتمد عليها فى تأليف مادته فإنه تميز عليها فى كثير من المواطن بأحكامه الصادقة واستنباطاته السليمة. ثم هو فيما بعد ذلك إلى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة يعتبر عمدة فى تاريخ مصر والأطراف إذا ما قورن بغيره من الكتب التى تعرضت لأحداث ما بعد السنة الحادية والثمانمائة من الهجرة.

النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 2

ومن هنا لقى هذا الكتاب اهتماما بالغا من العلماء العرب والمستشرقين ابتداء من سنة 1855 م قشروا منه أجزاء تكاد تشمله كله. ومن قبل أمر السلطان سليم الأول العثمانى بترجمته إلى اللغة التركية. بل ترجم إلى اللغة اللاتينية وغيرها.

وكان لاهتمام القسم الأدبى بدار الكتب بتحقيق أجزاء منه ونشرها فضل كبير فى تيسير الاستفادة به، ولقد بدأ فى نشره سنة 1929 م ثم توقف عن الاستمرار فى نشره بعد أن أخرج الجزء الثانى عشر سنة 1956 م.

ثم أخذت المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر على عاتقها مسئولية تحقيق الأجزاء الأربعة الباقية منه والتى لم يسبق نشرها فى مصروفنا للمنهج الذي نهجه القسم الأدبى.

وأسند تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى العالم الجليل الأستاذ/ حسن عبد الوهاب ولكنه توفى إلى رحمة الله قبل أن يبدأ فى التحقيق، وتعثرت بقية الأجزاء أيضا فى مرحلة التحقيق لأسباب مختلفة.

ولما توليت منصب رئيس مجلس إدارة المؤسسة، وأطل علينا عام الاحتفالات بالعيد الألفى لمدينة القاهرة وجهت اهتمامى إلى دفع الأجزاء الباقية فى مراحل التحقيق والنشر.

فأسندت المؤسسة تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى الأستاذ/ فهيم محمد شلتوت، وطلبت منه أن يفرغ جهده كله لتحقيقه وعمل فهارسه بحيث يكون بداية فى طبع الأجزاء الأربعة الباقية. وقد قام السيد/ المحقق بواجبه فى إخلاص وأمانة وأنجز التحقيق والفهارس على خير وجه.

النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 3

والجزء الثالث عشر هذا يعالج حقبة من تاريخ العالم العربى والأطراف الدائرة فى فلكه، وهى حقبة سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق (801 هـ- 815 هـ) وما تخللها من سلطنة أخيه الملك المنصور عبد العزيز. ثم سلطنة الخليفة المستعين بالله العباس، وقد شهدت فيها مصر وما والاها أحداثا لم تشهد مثلها من قبل.

شهدت فيها غزو تيمورلنك لسوريا (802- 803 هـ) وما كان من عجز السلطان وولاته عن دفع هذا الغزو، ثم ما كان من تلك المذابح التى تميز بها الغزو التترى المغولى والتى لم يسجل مثلها التاريخ بشاعة وقسوة.

وشهدت هذه الحقبة أيضا أسوأ صورة للخلاف والصراع بين سلطان وكبار رجال دولته بحيث فنى كثير منهم تحت عقوبته وبحد سيفه. ومع ذلك استمروا فى صراعه حتى تغلبوا عليه وقتلوه بقلعة دمشق سنة 815 هـ.

وشهدت فيها قيضاصور فن النيل (806- 807 هـ) مما أدى إلى الجدب العظيم الذي شمل البلاد وأصابها بسنة من السنين العجاف التى حلت بالدولة الإسلامية على مدارج التاريخ.

وشهدت هذه الفترة أيضا انتشار الطاعون (808 هـ، 813 هـ) والموتان المنتشر بين السكان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

كما شهدت الغلاء الفاحش والفقر المدقع والجوع الشامل.

وانعكس أثر ذلك كله فى الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية ففسدت الأحوال وتولى الأمور من لا يحسن أداءها، وتوصل كل طالب وظيفة إليها بالرشوة والبذل، ثم تسلط بعد ذلك على رقاب ذوى الحرف والتجار والزراع يفرض عليهم أنواع الضرائب والإتاوات، ولا يكف عن طلبها ولا يعف

النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 4

فى تحصيلها، وابتلى أهل الريف خاصة بكثرة المغارم وتنوّع المظالم، فاختلت أحوالهم، وجلوا عن أوطانهم.

وكما يقول تقي الدين المقريزى «1» : «فاقتضى الحال من أجل ذلك ثورة أهل الريف، وانتشار الزّعّار وقطاع الطريق

وتزايدت غباوة أهل الدولة، وأعرضوا عن مصالح العباد

ثم إن قوما ترقوا فى خدم الأمراء يتولّفون إليهم بما جبوا من الأموال

فأحبوا مزيدا من القربة منهم- ولا وسيلة أقرب إليهم من المال- فتعدوا إلى الأراضى الجارية فى إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا فى مقادير الأجر

وجعلوا الزيادة ديدنهم فى كل عام حتى بلغ الفدان- لهذا العهد- نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث» .

ولقد كان ذلك الخراب الذي نزل بالديار المصرية، وقضى على كثير من المنشآت العمرانية نتيجة للإهمال، ولاستحواز السلطان وبطانته على أوقافها وتوجيه أرياعها إلى مصارف أخرى، وأصبح الحديث عن سنة 806 هـ- فيما تلاها من الأزمان- يعطى صورة لأفدح ما أصيبت به الآثار العمرانية- التى وصلت إلى قمة الفن المعمارى للعصر المملوكى والأيوبى والفاطمى- من الهدم والخراب والاندثار.

وإنى إذ أقدم هذا الجزء الثالث عشر للقارئ فإننى أرجو أن يجد بقية

النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 5

الأجزاء الأربعة من الكتاب بين يديه تباعا بإذن الله، حيث إنه قد تم تحقيقها وأخذت طريقها إلى المطابع.

ولعل نشر هذه الأجزاء من هذا الكتاب يكون بمثابة تحية من الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر للقاهرة فى عام أعيادها الألفية.

والله ولى التوفيق.

شوال سنة 1389 هـ. دكتورة ديسمبر سنة 1969 م. سهير القلماوى

ص: 331