الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وقعة علىّ باى مع السلطان الملك الظاهر برقوق
لمّا كان يوم السبت تاسع عشر ذى القعدة من سنة ثمانمائة أو فى النيل وقدم أيضا البريد بقتل سولى بن دلغادر أمير التّركمان «1» ، فركب السلطان بعد صلاة الظهر يريد المقياس «2» ليخلّقه ويفتح خليج «3» السّدّ على العادة، ومعه جميع الأمراء إلّا الأمير عليّا باى الخازندار، فإنه كان انقطع بداره أياما وتمارض وفى باطن أمره أنه قصد الفتك بالسلطان، فإنّه علم أنه إذا نزل لفتح الخليج يدخل إليه ويعوده كما جرت به عادته مع الأمراء فدبّر علّى باى على السلطان وأخلى إسطبله من الخيل وداره من حريمه، وأعدّ قوما اختارهم من مماليكه، فتهيئوا لذلك فرآهم شخص كان يسكن بأعلى الكبش «4» من المماليك اليلبغاويّة يسمى سودون الأعور، فركب إلى
الملك الظاهر فى أثناء طريقه بعد تخليق المقياس وفتح خليج السدّ وأسرّ إليه أنه شاهد من سكنه مماليك علىّ باى وقد لبسوا آلة الحرب ووقفوا عند بوائك الخيل من إسطبله وستروا البوائك بالأنخاخ «1» ليخفى أمرهم، فقال له: السلطان اكتم ما معك، فلم يبد السلطان ذلك إلا لأكابر أمرائه.
ثم أمر السلطان الأمير أرسطاى رأس نوبة أن يتوجّه إلى دار علىّ باى ويعلمه أن السلطان يدخل إليه لعيادته، فتوجّه أرسطاى عادة وأعلم عليّا باى بذلك، فلمّا بلغ عليّا باى أن السلطان يعوده اطمأن وظنّ أن حيلته تمّت ووقف أرسطاى على باب علىّ باى ينتظر قدوم السلطان، وعند ما بعث السلطان أرسطاى إلى علىّ باى أمر الجاويشية بالسكوت فسكتوا عن الصّياح أمام السلطان.
ثم أبعد السلطان العصائب السلطانية عنه وأيضا السّنجق الذي يحمل على رأس السلطان وتقدّم عنهم حتى صار بينه وبين العصائب مدى بعيدا من خلفه وسار السلطان كآحاد الأمراء وسار حتى وافى الكبش، وهو تجاه دار علىّ باى والناس قد اجتمعوا للفرجة على موكب السلطان، فصاحت امرأة من أعلى الكبش «2» على السلطان لا تدخل، فإنّهم قد لبسوا لقتالك، فحرّك السلطان فرسه وأسرع
فى المشى ومعه الأمراء ومن ورائه المماليك الخاصّكيّة يريد القلعة «1» ، وكان باب علىّ باى مردود الدّرفتين، وضبّته مطرقة ليمنع الناس من الدخول إليه، حتى يأتى السلطان، فلمّا مرّ السلطان ولم يعلم به من ندبه علىّ باى لرؤية «2» السلطان وإعلامه به، حتى جاوزهم السلطان بما دبّره السلطان من المكيدة بتأخير العصائب السلطانية والسّنجق والجاويشيّة وتقدّمه عنهم.
ثم بلغ عليّا باى أن السلطان فاته، فركب وبادر أحد أصحابه يريد فتح الضّبّة فأغلقها، وإلى أن يحضر مفتاح الضّبّة ويفتحونها، فاتهم السلطان وصار بينه وبينهم سدّ عظيم من الجمداريّة والغلمان وغيرهم، فخرج علىّ باى ومن معه من أصحابه لابسين السلاح، وعدّتهم نحو الأربعين فارسا يريدون السلطان، وقد ساق السلطان ومعه الأمراء، حتى دخل باب «3» السلسلة وامتنع به «4» ، فوقف على باى من معه تجاه باب السلسلة، فنزل إليه فى الحال طائفة من المماليك السلطانية لقتاله، فقاتلهم، وثبت لهم ساعة حتى جرح من الفريقين جماعة وقتل من المماليك السلطانية بيسق المصارع.
ثم انهزم علىّ باى وتفرّق عنه أصحابه، وقد ارتجت مصر والقاهرة، وركب يلبغا المجنون الأستادار ومعه مماليك لابسين يريد القلعة، وأرجف الناس بقتل السلطان واشتدّ خوف الرعيّة وتشعّب الذّعر.
ثم لبست المماليك السلطانية السلاح، وأتى السلطان من كان غائبا عنه من الأمراء والخاصكيّة وتحلّقوه.
فعندما طلع يلبغا الأحمدىّ المجنون الأستادار إلى السلطان وثب عليه الخاصكيّة، واتّهموه بموافقة علىّ باى لكونه جاء هو ومماليكه فى أسرع وقت بآلة الحرب، فأخذه اللّكم من الخاصكيّة من كل جهة، ونزعوا ما عليه من السلاح، وألقوه إلى الأرض ليذبحوه، لولا أن السلطان منعهم من ذلك، فلمّا كفّوا عن ذبحه سجنوه «1» بالزّردخاناه السلطانية مقيّدا.
ثم قبض على نكباى شادّ شرابخاناه علىّ باى، وقطّع قطعا بالسيوف، فإنّه أصل هذه الفتنة.
وسبب ركوب علىّ باى على السلطان وخبره أن نكباى هذا كان تعرّض لجارية من جوارى الأمير آقباى الطّرنطائى، وصار بينهما مشاكلة، فبلغ ذلك آقباى، فمسك نكباى المذكور وضربه ضربا مبرّحا ثم أطلقه، فحنق علىّ باى من ذلك، وشكا آقباى للسلطان، فلم يلتفت السلطان إليه، وأعرض عنه، وكان فى زعمه أن السلطان يغضب على أقباى بسبب مملوكه، فغضب علىّ باى من ذلك، ودبّر هذه الحبلة الباردة، فكان فى تدبيره تدميره.
وبات السلطان تلك الليلة بالإسطبل السلطانى، ونهبت العامّة بيت علىّ باى حتى إنهم لم يبقوا به شيئا.
وأما علىّ باى فإنه لما رأى أمره تلاشى ذهب واختفى فى مستوقد حمّام فقبض عليه وحمل إلى السلطان، فقيّده وسجنه بقاعة «2» الفضّة من القلعة.
فلما أصبح النهار وهو نهار الأحد والعشرين من ذى القعدة نزع العسكر السلاح وتفرّقوا، وطلع السلطان إلى القلعة من الإسطبل وأخذ علىّ باى وعصره، فلم يقر على أحد، وأحضر يلبغا المجنون فخلف علىّ باى أنه لم يوافقه ولا علم بشىء من خبره، وحلف يلبغا أنه لم يعلم بما وقع، وأنه كان مع الوزير بمصر.
فلمّا أشيع بركوب علىّ باى لحق بداره، ولبس السلاح ليقاتل عليّا باى، فأفرج عنه السلطان وخلع عليه باستمراره على الأستادارية ونزل إلى داره، فلم يجد بها شيئا، وجميع ما كان فيها نهبته العامّة حتى سلبت جواريه وفرّت امرأته خوند بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين، وأخذوا حتى رخام بيته وأبوابه، وتشعّثت داره وصارت خرابا، والدار هى التى على بركة «1» الناصرى بيت سونجبغا الناصرى الآن.
ثم قدم البريد على السلطان من حلب بأن أولاد ابن بزدغان من التّركمان والأمير عثمان بن طر على «1» المدعو قرايلك «2» تقاتلوا مع القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «3» ، فقتل برهان الدين فى المعركة وقام من بعده ابنه.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشرين ذى القعدة جلس السلطان بدار العدل «4» وعصر عليّا باى المذكور فلم يقر على أحد.
وبينما السلطان فى ذلك إذا بهجّة عظيمة قامت فى الناس، فلبس العسكر ووقفوا تحت القلعة؛ «5» وقد غلقت أبواب القلعة، وأشيع أن يلبغا المجنون، والأمير آقبغا الطّولوتمرى المعروف باللّكّاش أمير مجلس خامرا على السلطان، ولم يكن الأمر كذلك وبلغ اللكاش ذلك، فركب من وقته فطلع إلى القلعة.
وأمّا يلبغا المجنون فإنه كان فى بيت الأمير فرج، فركب فرج المذكور ليعلم السلطان بأنه كان فى داره بالقاهرة حتى يبرأ ممّا رمى به، وطلع فى الحال جميع الأمراء، فأمر السلطان بقلع السلاح ونزول كلّ أحد إلى داره، وسكن الأمر ونودى بالأمان والاطمئنان.
ثم فى ليلة الثلاثاء عذّب على باى أيضا بين يدى السلطان عذابا شديدا، كسرت فيه رجلاه وركبتاه وخسف صدره، فلم يقرّ على أحد، ثم أخذ إلى خارج وخنق، فتنكّرت الأمراء وكثر خوفهم من السلطان، خشية أن يكون علىّ باى ذكر أحدا منهم من حرارة العقوبة، ومن يومئذ فسد أمر السلطان مع مماليكه الجراكسة، ودخل السلطان إلى زوجته خوند الكبرى أرد «1» وكانت تركية الجنس، وكانت تحذره عن اقتناء المماليك الجراكسة وتقول له: اجعل عسكرك أبلق من أربعة أجناس:
تتر وجاركس وروم وتركمان، تستريح أنت وذريّتك، فقال لها: الذي كنت أشرت به علىّ هو الصواب، ولكن هذا كان مقدّرا ونرجو الله تعالى إصلاح الأمر من اليوم.
ثمّ فى يوم الثلاثاء أمر السلطان الأمير يلبغا المجنون أن ينفق على المماليك السلطانية، فأعطى الأعيان منهم خمسمائة درهم، فلم يرضهم ذلك وكثرت الإشاعات الردية والإرجاف بوقوع فتنة وباتوا ليلة الخميس على تخوّف، ولم تفتح الأسواق فى يوم الخميس، فنودى بالأمان والبيع والشراء، ولا يتحدّث أحد فيما لا يعنيه.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير أرسطاى بتقدمة علىّ باى، ووظيفته رأس نوبة النّوب، وأنعم على الأمير تمان تمر الناصرى بإقطاع أرسطاى، والإقطاع: إمرة طبلخاناه.
ثم فى سادس عشرينه نزل الأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تمربغا المنجكى أحد أمراء الألوف، وحاجب ثانى، وقبضا على الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرىّ المعروف بالمجنون الأستادار من داره، وبعثاه فى النّيل إلى ثغردمياط «1» واستقرّ عوضه أستادارا الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر بإمرة خمسين فارسا وأنعم السلطان على الأمير بكتمر جلّق الظاهرى رأس نوبة بتقدمة ألف عوضا عن يلبغا المجنون.
وفى يوم السبت ثالث ذى الحجة خلع السلطان على أميرين باستقرارهما رءوس نوب صغارا وهما: طولو بن على باشا الظاهرى وسودون الظريف الظاهرىّ.
وفى يوم الأحد رابع ذى الحجة سمّر السلطان أربعة نفر من مماليك علىّ باى ثم وسّطوا.
ثم رسم السلطان بإحضار الأمير بكلمش العلائىّ أمير سلاح كان من سجنه بالإسكندرية «2» وتوجّه إلى القدس «3» بطّالا على ما كان للأمير شيخ الصّفوى من المرتّب.
ثمّ استهلّ القرن التاسع: أعنى- سنة إحدى وثمانمائة- والخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد العباسى والسلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق
ابن أنص الجاركسى اليلبغاوىّ والقاضى الشافعىّ تقي الدين عبد الرحمن الزّبيرى والقاضى الحنفى جمال الدين يوسف الملطىّ والقاضى المالكى ناصر الدين أحمد التّنسى «1» والحنبلىّ برهان الدين إبراهيم بن نصر الله، والأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، وأمير سلاح تغرى بردى بن يشبغا الظاهرى (أعنى عن الوالد) وأمير مجلس آقبغا اللكّاش الظاهرى، والأمير آخور نوروز الحافظى الظاهرى، وحاجب الحجاب فارس الظاهرى والدوادار بيبرس ابن أخت الملك الظاهر برقوق ورأس نوبة النّوب أرسطاى.
ونوّاب البلاد صاحب مكة «2» المشرفة الشريف حسن بن عجلان الحسنىّ المكّى وأمير المدينة «3» النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الشريف ثابت بن نعير الحسينىّ،
ونائب الشام الأمير تنبك الحسنى المعروف بتنم الظاهرى، ونائب حلب أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرى، ونائب طرابلس يونس الظاهرى المعروف بيونس بلطا، ونائب حماة آقبغا الجمالى، ونائب صفد شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على ونائب غزّة بيخجا «1» المعروف بطيفور الظاهرى، ونائب الإسكندرية صرغتمش القزوينى وجميع من ذكرنا من النوّاب بالبلاد الشامية وأصحاب الوظائف بالديار المصريه هم مماليك الظاهر برقوق ومشترواته، ما خلا نائب صفد وهو أيضا نشؤه، والأتابك أيتمش وقد اشتراه بعد سلطنته، حسبما تقدم ذكره أنه اشتراه من أولاد معتق أستاذه.
ثم فى يوم سابع عشر المحرم المذكور سمّر السلطان سبعة نفر من المماليك يقال لأحدهم: آقبغا الفيل الظاهرى وآخر من إخوة علىّ باى ظاهرى أيضا والباقى من مماليك علىّ باى وشهّروا بالقاهرة، ثم وسّطوا.
وفيه أيضا تنكّر السلطان على سودون الحمزاوى الخاصّكى الظاهرى وضربه ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة «2» شمائل مدّة، ثم أخرجه منفيّا إلى بلاد الشام لأمر اقتضى ذلك.
وفى هذا الشهر توعّك السلطان وحدث له إسهال مفرط لزم منه الفراش مدّة تزيد على عشرين يوما.
ورسم السلطان بتفرقة مال على الفقراء، ففرّق فيهم، فاجتمع تحت القلعة «3» منهم عالم كثير وازدحموا لأخذ الذهب، فمات فى الزّحام منهم سبعة وخمسون شخصا، ما بين رجل وامرأة وصغير، قاله المقريزى.
وفى يوم ثانى عشره رسم السلطان بجمع أهل الإسطبل «1» السلطانى من الأمير آخورية والسلاخورية ونحوهم، فاجتمعوا ونزل السلطان من القصر إلى مقعده بالإصطبل السلطانى، وهو متوعّك البدن لعرضهم، وعرضهم حتى انقضى العرض، فأمسك جرباش الظاهرى أحد الأمير «2» آخورية الأجناد وقال له بعد ذلك على ماذا تريد قتلى وأنا أستاذك! فلم ينزعج جرباش المذكور وقال: بعد أن أشار بيده الى حياصته: أكون أنا لابس حياصة وهؤلاء أمراء، وأشار لمن حول السلطان من الأمراء من مماليكه، وهم الجميع أقلّ منى وبعدى شريتهم، فأشار السلطان بأخذه، فأخذ وسجن، فكان ذلك آخر العهد به.
ثم عرض السلطان الخيل وفرّق خيل السّباق على الأمراء، كما كانت العادة يوم ذلك.
ثم عرض الجمال البخاتى، كلّ ذلك تشاغل، والمقصود القبض على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى الأمير آخور الكبير، ثم أظهر السلطان أنه تعب واتّكأ على الأمير نوروز ومشى من الإسطبل متكئا عليه، حتى وصل إلى الباب الذي يطلع منه إلى القصر، فأدار السلطان يده على عنق نوروز المذكور، فبادر الخاصّكيّة إليه باللّكم حتى سقط إلى الأرض، ثم قبضوا عليه وحملوه مقيّدا إلى السجن، ودخل السلطان من الباب وطلع إلى القلعة، وكان للأمير نوروز ذنوب كثيرة: منها الممالأة لعلىّ باى، ومعه أيضا الأمير آقبغا اللّكّاش، ثم تخاذل نوروز فى فتح باب السلسلة للسلطان يوم وقعة علىّ باى.
ثمّ بعد ذلك بلغ السلطان أن نوروز المذكور قصد الركوب عليه، فمنعته أصحابه، وأشاروا عليه أن يصير حتى ينتظر ما يصير من أمر السلطان فى مرضه، فإن مات فقد حصل له القصد من غير تعب ولا شنعة، وإن تعافى من مرضه فليفعل عند ذلك ما شاء.
وكان ممن حضر هذه المشورة مملوك من خاصّكية الملك الظاهر، فلم يعجب نوروز ذلك، وقرّر مع أصحابه من الخاصّكية الذين وافقوه أنه إذا كان ليلة نوبتهم فى خدمة القصر ودخلوا مع السلطان فى القصر «1» الصغير المعروف بالخرجة المطلّ على الإسطبل السلطانى يثبون عليه بمن اتفق معهم ويقتلون السلطان على فراشه، ثم يكسرون الثّريّة المعلقة بقناديلها الموقدة يكون ذلك إشارة بينهم وبين نوروز، بعد قتل السلطان، فيركب نوروز عند ذلك ويملك القلعة من غير قتال، فأخذ الخاصّكية يستميلون جماعة أخر من الخاصكية ليكثر جمعهم، وكان من جملة من استمالوه قانى باى الصغير الخاصكىّ وأظنه الذي ولى نيابة الشام فى دولة الملك المؤيّد شيخ، والله أعلم. فأجابهما قانى باى بالسمع والطاعة وحلف لهم على الموافاة، ثم فارقهم ودخل إلى السلطان من فوره وقعد لتكبيسه، فحكى له القصة بتمامها وكمالها، فاحترز الملك الظاهر على نفسه ودبّر على نوروز حتى قبض عليه.
ثم بعد مدة فى يوم السبت رابع صفر خلع السلطان على الأمير آقبغا اللّكّاش الظاهرىّ بنياية الكرك «2» وأخرج من ساعته وأذن له بالإقامة بخانقاه «3» سرياقوس حتى يجهّز أمره، ووكّل به الأمير تنبك الكركى الخاصّكى وهو مسفّره.
ثم فى ليلة الأحد أنزل الأمير نوروز الحافظى من القلعة مقيّدا إلى سجن الإسكندرية ومسفّره الأمير أردبغا الظاهرى أحد أمراء العشرات.
ثم قبض السلطان على قوزى الخاصّكى أحد من كان اتفق مع نوروز وسلّم إلى والى القاهرة.
ثم أنعم السلطان بإفطاع الأمير نوروز الحافظى على تمراز الناصرى، وصار من جملة مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وأنعم على سودون الماردينىّ بإقطاع آقبغا اللّكّاش، وهو تقدمة ألف أيضا، وخلع على الأمير أرغون شاه البيدمرى الظاهرى باستقراره أمير مجلس، عوضا عن آقبغا اللكاش المذكور، وخلع على سودون المعروف بسيّدى سودون قريب الملك الظاهر برقوق باستقراره أمير آخور عوضا عن نوروز الحافظىّ.
وفى ثالث عشرين صفر أيضا أملى بعض المماليك السلطانية إليه بالأطباق على بعض فقهاء الأطباق أسماء جماعة من الأمراء والمماليك، أنهم اتفقوا على إقامة فتنة والقيام على السلطان وكتبها ودخل بها المملوك على السلطان، فلما قرئت الورقة على السلطان، استدعى المذكورين وأخبرهم بما قيل عنهم، فخلفوا أن هذا شىء لم يسمعوه إلا الآن، وحلّوا أوساطهم ورموا سيوفهم، وقالوا يوسّطنا السلطان أو يخبرنا بمن قال هذا عنا، فأحضر السلطان المملوك وسلّمه إليهم وضربوه نحو الألف عصا، حتى أقرّ أنه اختلق هذا الكلام عليهم حنقا من واحد منهم، وسمّى شخصا كان خاصمه «1» قبل ذلك.
ثم أحضر السلطان الفقيه الذي كتب الورقة وضربه بالمقارع وسمر، ثم شفع فيه من القتل وحبس بخزانة شمائل.
ولما وصل الأمير آقبغا اللكاش إلى غزة «2» متوجّها إلى محل كفالته بمدينة الكرك، قبض عليه بها وأحيط على سائر ما كان معه، وحمل إلى قلعة الصّبيبة «3» فسجن بها.
ثم ورد الخبر على السلطان فى صفر المذكور أن السكّة ضربت باسمه بمدينة ماردين «4» ، وخطب له بها وحملت له الدنانير والدراهم وعليها اسم السلطان.
ثم فى شهر ربيع الأول فى رابعه، ورد الخبر على السلطان بموت الأمير أرغون الإبراهيمى الظاهرى نائب حلب، فرسم السلطان أن ينقل الأمير آقبغا الجمالى
الظاهرى المعروف بالأطروش من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، وحمل إليه التقليد والتشريف إينال باى بن قجماس، ورسم أيضا باستقرار يونس بلطا نائب حماة «1» فى نيابة طرابلس عوضا عن آقبغا المذكور، وتوجّه بتقليده وتشريفه الأمير يلبغا الناصرى الظاهرى، ورسم أن يستقر دمرداش المحمدى أتابك حلب فى نيابة حماة، وتوجه بتقليده الأمير شيخ المحمودى «2» الساقى رأس نوبة وهو الذي تسلطن
ثم خلع السلطان على الأمير سودون الظاهرى المعروف بالظريف فى نيابة الكرك.
وفى خامس عشر شهر ربيع الأول أنعم السلطان على الوالد بجميع سرحة البحيرة «3» وداخلها مدينة الإسكندرية.
ثم فى سلخ ربيع الأول المذكور أمسك السلطان الأمير عزّ الدين أزدمر أخا إينال اليوسفى وأمسك معه ناصر الدين محمد بن إينال اليوسفىّ ونفيا إلى الشام.
ثم فى يوم الأربعاء أوّل شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير سراى تمرشلّق الناصرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة بديار مصر باستقراره أتابك العساكر بحلب عوضا عن دمرداش المحمّدى المنتقل إلى نيابة حماة.
ثم فى عشرينه أنعم السلطان على الأمير على بن إينال اليوسفى بخبز أخيه محمد، وأمير علىّ هذا هو أستاذ الملك الظاهر جقمق الآتى ذكره، وبه عرف بالعلائىّ.
وفيه أنعم السلطان على كلّ من سودون من زادة الظاهرى، وتغرى بردى الجلبانى، ومنكلى بغا الناصرى، وبكتمر الظاهرى، وأحمد بن عمر الحسنى بإمرة طبلخاناة بالديار المصرية.
وأنعم أيضا على كلّ من بشباى الظاهرى، وتمربغا من باشاه، وشاهين من إسلام الأفرم الظاهرىّ، وجوبان العثمانى الظاهرى، وجكم من عوض الظاهرى بإمرة عشرة.
ثم فى خامس عشرينه طلع إلى السلطان رجل عجمىّ، وهو جالس للحكم بين الناس وهيئته كهيئة الصوفية، وجلس بجانب السلطان، ومدّ يده إلى لحيته ليقبض عليها وسبّه سبّا قبيحا، فبادر إليه رءوس النّوب وأقاموه، ومرّوا به، وهو مستمرّ فى السبّ، فأمر به السلطان، فسلّم لوالى القاهرة، فأخذه الوالى ونزل به وعاقبه حتى مات تحت العقوبة.
ثم فى يوم الخميس سلخه خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج ابن نقولا الأرمنىّ الأسلمىّ والى قطيا «1» باستقراره وزيرا عوضا عن الوزير بدر الدين محمد بن الطوخى.
وفى رابع جمادى الأولى رسم السلطان بإحضار الأمير يلبغا الأحمدى المجنون من ثغردمياط.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى المذكور رسم السلطان باستدعاء رئيس الأطبّاء فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الداودىّ «2» التّبريزى وخلع عليه باستقراره فى كتابة السّر، بعد موت القاضى بدر الدين محمود الكلستانى، وكان نفيس جدّ فتح الله هذا يهوديّا من أولاد نبىّ الله داود عليه السلام.
وفى رابع عشرينه خلع السلطان على الأمير فرج الحلبى أستدار الذخيرة والأملاك باستقراره فى نيابة الإسكندرية.
ثمّ فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب رسم السلطان بانتقال الأمير جقمق الصّفوى حاجب حجّاب حلب إلى نيابة ملطية «3» بعد عزل دقماق المحمّدىّ الظاهرىّ وجهّز تقليده على يد مقبل الخازندار الظاهرى.
ثمّ فى حادى عشرين شهر رجب المذكور خلع السلطان على الشيخ تقي الدين المقريزى المؤرّخ باستقراره فى الحسبة بالقاهرة، عوضا عن شمس الدين البجاسىّ.
ثم فى خامس عشرينه أعيد قاضى القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوى إلى قضاء الشافعيّة بالديار المصرية، بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيرىّ.
وفى هذه الأيام أعيد أيضا يلبغا المجنون إلى وظيفة الأستدارية، بعد عزل ناصر الدين محمد بن سنقر، واستقر ابن سنقر أستادار الذخيرة والأملاك عوضا عن فرج المنتقل إلى نيابة الإسكندريّة.
ثم كتب السلطان للأمير تنم الحسنىّ نائب الشام بالقبض على الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على نائب صفد وعلى الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى المعروف بقراسقل أتابك دمشق، فورد مرسوم السلطان على تنم وهو بالغور فاستدعى نائب صفد المذكور وقبض عليه، ثم قبض على الأمير جلبان المذكور وبعث بهما إلى قلعة دمشق فسجنا بها.
ورسم السلطان بنقل الأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى من حجوبيّة دمشق إلى نيابة صفد، ونقل الأمير بيخجا الشرفى المعروف بطيفور نائب غزة منها إلى حجوبية دمشق، ونقل ألطنبغا الظاهرىّ نائب الكرك كان إلى نيابة غزة.
ثم فى تاسع شعبان خلع السلطان على كمال الدين عمر بن العديم باستقراره قاضى قضاة حلب بسفارة الوالد.
ثم فى رابع عشرين شهر رمضان كتب السلطان بالإفراج عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ علىّ من محبسه بقلعة «1» دمشق واستقراره أتابك العساكر بها، عوضا عن الأمير جلبان قراسقل.
ثم فى سابع عشرينه أخرج الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى من خزانة شمائل وسلّم للأمير يلبغا المجنون الأستادار.
ثم قدم الخبر على السلطان بموت الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ بسجن الإسكندرية، فابتهج السلطان بموته، ورأى أنه قد تمّ له أمره، فإنه آخر من بقى من اليلبغاويّة الأمراء.
وأصبح من الغد فى يوم الجمعة وهو أوّل شوّال، صلّى صلاة العيد بالميدان على العادة، ثم صلّى الجمعة بجامع القلعة «1» فتفاءل الناس بزوال السلطان، كونه خطب بمصر فى يوم واحد مرّتين.
قلت: وهذه القاعدة غير صحيحة، فإنّ ذلك وقع للملك الظاهر جقمق فى أوّل سنين سلطنته، ثم وقع ذلك فى سلطنة الملك الأشرف إينال.
ثم فى سادس شوّال أخرج ابن الطبلاوىّ علاء الدين منفيّا إلى الكرك ومعه نقيب واحد.
وفى يوم الثلاثاء خامس شوّال من سنة إحدى وثمانمائة، فيه كان ابتداء مرض السلطان الملك الظاهر برقوق وسببه أنّه ركب للعب الكرة بالميدان،
فلما فرغ منه قدم عليه عسل نخل ورد من كختا «1» ، فأكل منه ومن لحم بلشون «2» مشوىّ.
ثم دخل إلى مجلس أنسه وشرب مع ندمائه، فاستحال ذلك خلطا رديئا لزم منه «3» الفراش من ليلته.
ثم أصبح وعليه حمّى شديدة الحرارة، ثم تنوّع مرضه، وأخذ فى الزيادة من اليوم الثالث وليلة الرابع، وهو البحران «4» الأوّل، فأنذر عن السابع إنذارا رديئا لشدّة الحمى وضعف القوّة، حتى أيس منه، وأرجف بموته فى يوم السبت تاسعه، واستمرّ أمره فى الزيادة إلى يوم الأربعاء ثالث عشره، فقوى الإرجاف بموته، وغلّقت الأسواق، فركب الوالى ونادى بالأمان.
فلما أصبح يوم الخميس استدعى السلطان الخليفة المتوكل على الله وقضاة القضاة وسائر الأمراء وجميع أرباب الدولة، فحضر الجميع فى مجلس السلطان، فحدّثهم السلطان فى العهد لأولاده، وابتدأ «5» الخليفة بالحلف للأمير فرج ابن السلطان، وأنه هو السلطان بعد وفاة أبيه.
ثم حلف القضاة والأمراء وجميع أرباب الدولة، وتولى تحليفهم كاتب السرّ فتح الله، فلما تمّ الحلف للأمير فرج، حلفوا أن يكون القائم بعد فرج أخوه عبد العزيز، وبعد عبد العزيز أخوهما إبراهيم.
ثم كتبت وصيّة السلطان، فأوصى لزوجاته وسراريه وخدّامه بمائتى ألف دينار وعشرين ألف دينار، وأن يعمّر له تربة «1» بالصحراء خارج باب النصر «2» تجاه تربة «3»
الأمير يونس الدّوادار بثمانين ألف دينار، ويشترى بما فضل عن «1» عمارة التربة المذكورة عقار ليوقف عليها، وأن يدفن السلطان الملك الظاهر برقوق بها فى لحد تحت أرجل الفقراء: وهم الشيخ علاء الدين السيرامىّ الحنفىّ، والشيخ أمين الدين الخلواتى الحنفىّ، والمعتقد عبد الله الجبرتىّ، والمعتقد طلحة، والشيخ المعتقد أبو بكر البجائىّ، والمجذوب أحمد الزهورىّ، وقرّر أن يكون الأمير الكبير أيتمش هو القائم بعده بتدبير ابنه فرج، وأن يكون «2» وصيّا على تركته ومعه تغرى بردى بن «3» بشبغا أمير السلاح، أعنى عن الوالد، والأمير بيبرس الدوادار ابن أخت السلطان بعدهما، ثم الأمير قطلوبغا الكركىّ أحد أمراء العشرات، ثم الأمير يلبغا السالمىّ أحد أمراء العشرات أيضا، ثم سعد الدين إبراهيم بن غراب، وجعل الخليفة ناظرا على الجميع.
ثم انفضّ المجلس ونظر الأمراء بأسرهم فى خدمة الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ إلى منزله، فوعد الناس أنه يبطل المظالم وأخذ البراطيل على المناصب والولايات.
وأكثر السلطان فى مرضه من الصدقات، فبلغ ما تصدّق به فى هذا المرض أربعة عشرة ألف دينار وتسعمائة دينار وتسعة «4» وتسعين دينارا، وأخذ فى النزع من بعد الظهر إلى أن مات السلطان الملك الظاهر برقوق من ليلته بعد نصف الليل.
وهى ليلة الجمعة خامس عشر شوّال، وقد تجاوز ستّين سنة من العمر، بعد أن حكم على الديار المصرية والممالك الشامية أميرا كبيرا مدبرا وسلطانا إحدى وعشرين سنة وسبعة وخمسين يوما، منها تحكّمه بديار مصر، بعد مسك الأمير الكبير طشتمر العلائىّ الدوادار أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان يسمّى إذ ذاك بالأمير
الكبير نظام الملك، ومنذ تسلطن سلطنته الأولى فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة إلى أن خلع واختفى فى واقعة الناصرى ومنطاش فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يوما، وتسلطن عوضه الملك المنصور حاجّىّ ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين، ودام مخلوعا محبوسا، ثم خارجا بالبلاد الشامية ثمانية أشهر وستة عشر يوما، وأعيد إلى السلطنة ثانيا، فمن يوم أعيد إلى سلطنته ثانية إلى أن مات فى ليلة الجمعة المذكورة تسع سنين وثمانية أشهر، وتسلطن من بعده ابنه الملك الناصر فرج وجلس على تخت الملك حسبما يأتى ذكره فى سلطنته.
ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان الظاهر برقوق- رحمه الله وغسّل وكفّن، وصلّى عليه بالقلعة قاضى القضاة صدر الدين المناوى، وحمل نعشه سائر الأمراء على أعناقهم إلى تربته، فدفن بها- حيث أوصى- على قارعة الطريق، ولم يكن بذلك المكان يوم ذاك حائط، ودفن قبل صلاة الجمعة، ونزل أمام نعشه سائر الأمراء وأرباب الدولة مشاة يصيحون ويصرخون بالبكاء والعويل، وقد امتلأت طرق الصحراء بالجوارىّ والنساء السّبيات «1» الحاسرات منشّرات الشعور من حرم مماليكه وحواشيه، فكان يوما فيه عبرة لمن اعتبر، ولم يعهد قبله أحد من ملوك مصر دفن نهارا غيره، وضربت الخيام على قبره، وقرئ القرآن أياما، ومدّت لهم الأسمطة العامة الهائلة، وتردّدت أكابر الدول فى كل ليلة إلى قبره عدّة أيام وكثر أسف الناس عليه.
قلت: وهو أوّل من ولى السلطنة من الجراكسة بالديار المصرية بعد الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، على خلاف فى بيبرس، وهو القائم بدولة الجراكسة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أوّل ترجمته.
وخلّف من الأولاد ثلاثة ذكور: الملك الناصر فرجا، وأمه أمّ ولد رومية تسمّى:«شيرين» وهى بنت عمّ الوالد، وقيل: أخته، وماتت فى سلطنة ابنها الملك الناصر فرج. وعبد العزيز، وأمّه أمّ ولد أيضا تركيّة الجنس، تسمّى قنق باى، ماتت فى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، وإبراهيم، وأمّه خوند بركة، ماتت فى أواخر دولة الملك الأشرف برسباى.
وخلّف أيضا ثلاث بنات: خوند سارة وأمّها أمّ ولد، تزوّجها الأمير نوروز الحافظىّ، ثم مقبل الرومىّ، وماتت فى سنة ست عشر وثمانمائة بطريق دمشق، رخوند بيرم وأمّها خوند هاجر بنت منكلى بغا الشمسىّ، تزوجها إينال باى بن قجماس، وماتت بالطاعون فى سنة تسع عشرة وثمانمائة وخوند زينب، وأمّها أمّ ولد، تزوجها الملك المؤيّد شيخ، ثم من بعده الأتابك قجق، وماتت فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة.
وخلّف فى الخزانة وغيرها من الذّهب العين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الغلال والقنود «1» والأعسال والسكّر والثياب وأنواع الفرو ما قيمته أيضا ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار.
وخلّف من الخيل نحو ستّة آلاف فرس، ومن الجمال نحو خمسة آلاف جمل، ومن البغال وحمير التراب عدّة كبيرة.
وبلغت عدّة مماليكه المشتروات خمسة آلاف مملوك، وبلغت جوامك «1» مماليكه فى كل شهر نحو أربعمائة ألف درهم فضة، وعليق خيولهم فى الشهر ثلاثة عشر ألف إردب شعير، وعليق خيوله بالإسطبل «2» السلطانى وغيره، وجمال النّفر وأبقار السواقى وحمير التراب فى كل شهر أحد عشر ألف إردب من الشعير والفول.
وكان ملكا جليلا حازما شهما شجاعا مقداما صارما فطنا عارفا بالأمور والوقائع والحروب، ومما يدل على فرط شجاعته وثوبه على الملك وهو من جملة أمراء الطبلخانات، وتملّكه الديار المصرية من تلك الشجعان، وما وقع له مع الناصرىّ ومنطاش عند خلعة من السلطنة كان خذلانا من الله تعالى (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) ، وما وقع له بعد خروجه من حبس الكرك «3» ، فهو من أكبر الأدلة على شجاعته وإقدامه.
وكان- رحمه الله سيوسا عاقلا ثبتا، وعنده شهامة عظيمة ورأى جيّد ومكر شديد وحدس صائب، وكان يتروّى فى الشيء المدّة الطويلة حتى يفعله، ويتأنّى فى أموره، مع طمع كان فيه وشره فى جمع المال، وكان يحب الاستكثار
من المماليك، ويقدّم جنس المماليك الجراكسة على غيره، ثم ندم على ذلك فى أواخر عمره، بعد فتنة علىّ باى.
وكان يحب اقتناء الخيول والجمال، وكان يتصدّى للأحكام بنفسه ويباشر أحكام المملكة برأيه وتدبيره، فيصيب فى غالب أموره، على أنه كان كثير المشورة لأرباب التجارب، يأخذ رأيهم فيما يفعله، ثم يقيس رأيهم على حدسه، فيظهر له ما يفعله.
وكان يحب أهل الخير والصلاح، وله اعتقاد جيّد فى الفقراء والصّلحاء، وكان يقوم للفقهاء والصلحاء إذا دخل عليه أحد منهم، ولم يكن يعهد هذا من ملك كان قبله من ملوك مصر، على أنه صار يعض من الفقهاء فى سلطنته الثانية، من أجل أنهم أفتوا فى قتاله وقتله، لاسيما القاضى ناصر الدين ابن بنت ميلق، فإنه كان كثير الاعتقاد فيه، ومع شدّة حنقه عليهم كان لا يترك إكرامهم.
وكان كثير الصّدقات والمعروف، أوقف ناحية بهتيت «1» على سحابة «2» تسير مع الحج إلى مكة فى كلّ سنة، ومعها جمال تحمل المشاة من الحاج وتصرف لهم ما يحتاجون
إليه من الماء والزاد ذهابا وإيابا، ووقف أيضا أرضا على قبور «1» إخوة يوسف عليه السلام بالقرافة «2» ، وكان يذبح دائما فى طول أيام إمارته وسلطنته فى كلّ يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، يتصدّق بها بعد ما أن تطبخ، ومعها آلاف من أرغفة الخبز النّقى، تفرّق على أهل الجوامع والمساجد والرّبط «3» وأهل السجون، لكل إنسان رطل لحم مطبوخ، وثلاثة أرغفة، وهذا، غير ما كان يفرّق فى الزوايا من اللحم أيضا، فإنه كان يعطى لكل زاوية خمسين رطلا من اللحم الضأن، وعدّة أرغفة فى كل يوم، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم وكان يفرق فى كل سنة فى أهل العلم والصلاح مائتى ألف درهم، الواحد إلى مائة دينار، وكان يفرّق فى فقراء القرافتين «4» لكل فقير من دينار إلى أكثر وأقلّ، ويفرّق فى كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحا على أهل الخير وأرباب الصلاح.
ويبعث فى كل سنة إلى بلاد الحجاز ثلاثة آلاف إردب قمحا، تفرّق فى الحرمين وفرّق فى مدة الغلاء كلّ يوم أربعين إردبا؛ عنها ثمانية آلاف رغيف، فلم يمت فيه أحد من الجوع.
وكان غير هذا كلّه يبعث فى كل قليل بجملة من الذهب تفرّق فى الفقهاء والفقراء، حتى إنه تصدّق مرة بخمسين ألف دينار مصرية على يد خازنداره العبد الصالح الطواشى صندل المنجكى الرومىّ.
وأبطل عدّة مكوس: منها ما كان يؤخذ من أهل شورى «1» وبلطيم «2» من البرلّس «3» ، وكانت شبه الجالية «4» فى كل سنة. قلت: أعيد ذلك فى سلطنة الملك الظاهر جقمق.
وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغردمياط «5» عما تبتاعه الفقراء وغيرهم.
وأبطل مكس معمل الفراريج بال؟؟؟ ريرية «1» وما معها من بلاد الغربية، وأبطل مكس الملح بعينتاب «2» ، ومكس الدقيق بالبيرة «3» ، وأبطل من طرابلس»
ما كان مقرّرا على قضاة البرّ وولاة الأعمال عند قدوم النائب إليها، وهو مبلغ خمسمائة درهم على كلّ منهم، أو بغلة بدل ذلك.
وأبطل ما كان يؤخذ على الدّريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة.
وأبطل ضمان المغانى بمدينة الكرك «1» والشّوبك «2» ، وبمنية «3» ابن خصيب، وأعمال الأشمونين «4» وزفتة «5» ومنية غمر «6» .
وأبطل رمى الأبقار بعد الفراغ من عمل الجسور بأراضى مصر على البطّالين بالوجه البحرىّ.
وأنشأ بالقاهرة مدرسته التى لم يعمر مثلها ببين القصرين، ورتّب لها صوفية بعد العصر كلّ يوم، وجعل بها سبعة دروس لأهل العلم على المذاهب الأربعة أعظمهم بالإيوان القبلىّ الحنفى، ثم درسا للتفسير، ودرسا للحديث، ودرسا للقراءات. وأجرى على الجميع فى كلّ يوم الخبز ولحم الضّأن المطبوخ، وفى الشهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضى والدّور ونحوها.
وعمّر جسرا على نهر الأردن «1» بالغور فى طريق دمشق «2» ، طوله مائة وعشرون ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وجدّد خزائن السلاح بثغر الإسكندرية، وسور
دمنهور «1» ، وعمّر جبال الشرقية بالفيوم «2» ، وزاوية البرزخ بدمياط «3» ، وقناة العرّوب بالقدس، وبنى أيضا بركة بطريق الحجاز، وبركة أخرى برأس وادى بنى سالم
وجدّد عمارة القناة التى تحمل ماء النيل إلى قلعة الجبل، وجدّد عمارة الميدان من تحت القلعة، بعد ما كان خرب، وسقاه وزرع به الفرط، وغرس فيه النخل، وعمر صهريجا ومكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفا، وعمّر أيضا بالقلعة طاحونا، وعمر أيضا سبيلا تجاه باب دار الضيافة تجاه القلعة.
وخطب له على منابر تبريز «1» ، عند ما أخذها قرا محمد التّركمانى، وضربت الدنانير والدراهم فيها باسمه وخطب له على منابر الموصل «2» من العراق، وعلى منابر ماردين «3» بديار بكر، ومنابر سنجار «4» ، وخرب عساكره مدينة دوركى «5» وأرزن «6» كان من أرض الروم.
وكان نائبه بالديار المصرية الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ إلى أن مات سودون المذكور، فلم يستنب الملك الظاهر أحدا بعده.
وكانت نوّابه بدمشق «7» (أعنى الذين تولوا فى أيام سلطنته) : الأمير بيدمر الخوارزمى، وإشقتمر الماردينىّ، وألطنبغا الجوبانىّ غير مرة، وطرنطاى السيفىّ،
ويلبغا الناصرى صاحب الوقعة معه، وبطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ المعروف بتنم، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحلب «1» : يلبغا الناصرىّ غير مرّة، وسودون المظفّرىّ وكمشبغا الحموىّ وقرادمرداش الأحمدىّ وجلبان الكمشبغاوىّ الظاهرىّ قراسقل وتغرى بردى من بشبغا الظاهرىّ (أعنى الوالد) وأرغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ وآقبغا الجمالى الظاهرىّ الأطروش، ومات السلطان وهو على نيابتها.
ونوّابه بطرابلس «2» مأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ وكمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ وأسندمر السيفىّ، وقرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ، وإينال بن خجا على، وإياس الجرجاوى، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ، وأرغون شاه الإبراهيمىّ الظاهرىّ، وآقبغا الجمالىّ الظاهرىّ الأطروش، ويونس بلطا الظاهرىّ، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحماة «3» : صنجق الحسنىّ، وسودون المظفّرىّ وسودون العلائىّ، وسودون العثمانىّ، وناصر الدين محمد بن المهمندار، ومأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ وليها مرّتين، وآقبغا السلطانىّ، ويونس بلطا الظاهرى، ثم دمرداش المحمدى، ومات برقوق وهو على نيابتها.