المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر سلطنة الملك المظفر قطز على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٧

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السابع]

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 648]

- ‌ذكر ولاية الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 649]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 650]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 651]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 652]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 653]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 654]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 655]

- ‌ذكر سلطنة الملك المنصور علىّ بن أيبك التّركمانى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 656]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 657]

- ‌ذكر سلطنة الملك المظفّر قطز على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 658]

- ‌[ذكر قضاة الشافعيّة]

- ‌ذكر القضاة الحنفيّة

- ‌ذكر القضاة المالكيّة

- ‌ذكر قضاة الحنابلة

- ‌فتوحاته رحمه الله

- ‌ذكر مرض الملك الظاهر ووفاته

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 659]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 660]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 661]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 662]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 663]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 664]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 665]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 666]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 667]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 668]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 669]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 670]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 671]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 672]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 673]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 674]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 675]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 676]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 677]

- ‌ذكر سلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 679]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 680]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 681]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 682]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 683]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 684]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 685]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 686]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 687]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 688]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 689]

- ‌استدراكات على بعض تعليقات وردت فى الجزءين الرابع والخامس من هذا الكتاب، لحضرة الأستاذ محمد رمزى بك

- ‌قنطرة عبد العزيز بن مروان

- ‌بستان الخشاب

- ‌أرض الطبّالة

- ‌استدراكات على الجزء السادس من النجوم الزاهرة

الفصل: ‌ذكر سلطنة الملك المظفر قطز على مصر

‌ذكر سلطنة الملك المظفّر قطز على مصر

السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزّى الثالث من ملوك الترك بالديار المصريّة. وقطز (بضم القاف والطاء المهملة وسكون الزاى) ، وهو لفظ مغلىّ. تسلطن بعد خلع ابن أستاذه الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، وذلك بعد أن عظمت الأراجيف بتحريك التّتار نحو البلاد الشاميّة وقطعهم الفرات وهجمهم بالغارات على البلاد الحلبيّة، وكان وصل إليه بسبب ذلك الصاحب كمال الدّين «1» عمر بن العديم رسولا من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب منه النّجدة على قتال التّتار، فأنزله قطز بالكبش «2» وجمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه فى أمر التّتار وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا فى دار السّلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام والقاضى بدر الدين السّنجارىّ قاضى الديار المصرية وغيرهما من العلماء، وجلس الملك المنصور علىّ فى دست السلطنة، وأفاضوا فى الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السّلام، وخلاصة ما قال: إنّه إذا طرق العدوّ بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تاخذوا من الرعيّة ما تستعينون به

ص: 72

على جهادكم، بشرط ألّا يبقى فى بيت المال شىء، وتبيعوا مالكم من الحوائص «1» المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كلّ الجند على مركوبه وسلاحه ويتساووا هم والعامّة. وأمّا أخذ الأموال من العامّة مع بقايا فى أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، وانفضّ المجلس على ذلك، ولم يتكلّم السلطان بكلمة فى المجلس لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنّه؛ فلهج الناس بخلع المنصور وسلطنة قطز حتّى يقوم بهذا الأمر المهمّ، واتّفق ذلك بعد أيّام، وقبض قطز هذا على الملك المنصور علىّ، واحتجّ لكمال الدّين بن العديم وغيره بأنّه صبىّ لا يحسن تدبير الملك، وفى مثل هذا الوقت الصّعب لا بدّ أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه الناس وينتصب للجهاد. وكان الأميران: علم الدين سنجر [الغتمىّ المعظّمىّ «2» ] وسيف الدين بهادر حين جرى هذا الأمر غائبين فى الصيد، فاغتنم قطز لغيبتهما الفرصة، فلمّا حضرا قبض عليهما واعتقلهما، وتسلطن. وركب بشعار الملك، وجلس على كرسىّ السلطنة وتمّ أمره. ولمّا وقع ذلك تقدّم قطز إلى برهان الدين الخضر «3» أن يتوجّه فى جواب رسالة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام صحبة الصاحب كمال الدين ابن العديم، ويعد الملك الناصر بالنّجدة وإنفاذ العساكر إليه؛ فتوجّها ووصلا إلى دمشق وأدّيا الرسالة؛ ولم يزل البرهان بدمشق إلى أن رحل الملك الناصر من دمشق إلى جهة الديار المصريّة جافلا من التّتار.

ص: 73

وكان الناصر لمّا تحقّق بحركة التّتار رحل إلى برزة شمالى دمشق، ونزل بها بعساكره واجتمع إليه أمم عظيمة من العرب والعجم والتّركمان والأتراك والمطوّعة؛ فلم يعجب الناصر حاله لما رأى من تخاذل عسكره، وعلم انّه إذا لاقى التّتار لم يثبت عسكره لهم لكثرتهم ولقوّتهم، فإنّ هولاكو فى خلق لا يحصيهم إلّا الله تعالى من المغل والكرج والعجم وغيرهم، ولم يكن من حين قدومهم على بلاد المسلمين من سنة ستّ عشرة وستمائة إلى هذه السنة يلقاهم عسكر إلّا فلّوه سوى وقائع كانت بينهم وبين جلال الدين «1» بن خوارزم شاه، انتصف جلال الدين فى بعضها، ثمّ كبسوه على باب آمد وبدّدوا جمعه، وأعقب ذلك موت جلال الدين بالقرب من ميّافارقين.

وأمّا أمر هلاكو فإنّه فى جمادى الأولى من هذه السنّة نزل حرّان واستولى عليها وملك بلاد الجزيرة، ثمّ سيّر ولده أشموط «2» بن هولاكو إلى الشام وأمره بقطع الفرات وأخذ البلاد الشاميّة، وسيّره فى جمع كثيف من التّتار فوصل أشموط إلى نهر الجوز «3» وتلّ باشر «4» ، ووصل الخبر إلى حلب من البيرة «5» بذلك. وكان نائب السلطان صلاح الدين يوسف بحلب ابنه الملك المعظّم توران شاه، فجفل الناس بين يدى

ص: 74

التّتار إلى جهة دمشق وعظم الخطب، واجتمع الناس من كلّ فجّ عند الملك الناصر بدمشق، واحترز الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الناصر بحلب غاية الاحتراز. وكذلك جميع نوّاب البلاد الحلبيّة؛ وصارت حلب فى غاية الحصانة بأسوارها المحكمة البناء وكثرة الآلات. فلمّا كان العشر الأخير من ذى الحجّة [سنة «1» سبع وخمسين وستمائة] قصد التّتار حلب ونزلوا على قرية يقال لها سلمية «2» وامتدوا إلى حيلان «3» والحارى «4» ، وسيّروا جماعة من عسكرهم أشرفوا على المدينة. فخرج عسكر حلب ومعهم خلق عظيم من العوام والسّوقة، وأشرفوا على التّتار وهم نازلون على هذه الأماكن، وقد ركبوا جميعهم لانتظار المسلمين، فلمّا تحقّق المسلمون كثرتهم كرّوا راجعين إلى المدينة؛ فرسم الملك المعظّم بعد ذلك ألّا يخرج أحد من المدينة.

ولمّا كان غد هذا اليوم رحلت التّتار من منازلهم طالبين مدينة حلب، واجتمع عسكر المسلمين بالنّواشير وميدان «5» الحصا وأخذوا فى المشورة فيما يعتمدونه، فأشار عليهم الملك المعظّم أنّهم لا يخرجون أصلا لكثرة التّتار ولقوّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافقه جماعة من العسكر وأبوا إلّا الخروج إلى ظاهر البلد لئلّا يطمع العدوّ فيهم؛ فخرج العسكر إلى ظاهر حلب وخرج معهم العوامّ والسّوقة واجتمعوا الجميع بجبل بانقوسا «6» ؛ ووصل جمع التّتار إلى أسفل الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتلوهم؛ فلما رآهم التّتار اندفعوا بين أيديهم مكرا منهم وخديعة،

ص: 75

فتبعهم عسكر حلب ساعة من النهار؛ ثم كرّ التّتار عليهم فولّوا منهزمين إلى جهة البلد والتّتار فى أثرهم. فلما حاذوا جبل بانقوسا وعليه بقيّة عسكر المسلمين والعوامّ اندفعوا كلّهم نحو البلد والتّتار فى أعقابهم، فقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا من الجند والعوامّ.

وممّن استشهد فى ذلك اليوم الأمير علم الدين زريق العزيزىّ- رحمه الله وكان من أعيان الأمراء. ونازل التّتار المدينة فى ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبين أعزاز فتسلّموها بالأمان.

ثم عادوا إلى حلب فى ثانى صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة وحاصروها حتّى استولوا عليها فى تاسع صفر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم. وبلغ الملك الناصر يوسف أخذ حلب فى منتصف صفر، فخرج الناصر من الشام بأمرائه نحو القبلة. وكان رسل التّتار بقرية حرستا «1» فأدخلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صفر. وقرئ بعد صلاة الظهر فرمان (أعنى مرسوما) جاء من عند ملك التّتار يتضمّن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر فى تدبير أمرهم. ثم وصلت التّتار إلى دمشق فى سابع عشر شهر ربيع الأوّل، فلقيهم أعيان البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكسوة «2» وأهلكوا فى ممرّهم جماعة كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا «3» .

وفى السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضى كمال الدين عمر بن بندار «4»

ص: 76

التّفايسىّ بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام إلى الموصل وميّافارقين وغير ذلك، وكان القاضى قبله صدر «1» الدين أحمد بن سنىّ الدولة. وتوجّه الملك الناصر نحو الديار المصريّة ونزل العريش ثم قطيا «2» بعد أن تفرّق عسكره عنه وتوجّه معظم عسكره إلى مصر قبله مع الأثقال. فلمّا وصل الناصر إلى قطيا عاد منها إلى جهة الشام لشىء بلغه عن الملك المظفّر صاحب مصر، ونزل بوادى «3» موسى ثم نزل بركة زيزاء «4» ، فكبسه التّتار بها وهو فى خواصّه وقليل من مماليكه، فاستأمن الناصر من التّتار وتوجّه إليهم، فلمّا وصل إليهم احتفظوا به وبقى معهم فى ذلّ وهوان إلى أن قتل على ما يأتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.

وأمّا التّتار فإنّه بلغت غارتهم إلى غزّة وبلد الخليل «5» عليه السلام فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصّبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشى شيئا كثيرا. كلّ ذلك والسلطان الملك المظفّر قطز سلطان مصر يتهيّأ للقاء التّتار.

ص: 77

فلمّا اجتمعت العساكر الإسلاميّة بالديار المصريّة ألقى الله تعالى فى قلب الملك المظفّر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من النّصرة على التّتار، وأجمعوا على حفظ مصر لا غير لكثرة عددهم واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، وأنّهم ما قصدوا إقليما إلّا فتحوه ولا عسكرا إلّا هزموه، ولم يبق خارج عن حكمهم فى الجانب الشرقىّ إلّا الديار المصريّة والحجاز واليمن، وهرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى الغرب، وهرب جماعة من الناس إلى اليمن والحجاز، والباقون بقوا فى وجل عظيم وخوف شديد يتوقّعون دخول العدوّ وأخذ البلاد؛ وصمّم الملك المظفّر- رحمه الله على لقاء التّتار، وخرج من مصر فى الجحافل»

الشاميّة والمصريّة فى شهر رمضان، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة؛ وكان الأتابك فارس الدين أقطاى المستعرب، الأمور كلّها مفوّضة إليه؛ وسيّر الملك المظفّر قطز إلى صاحب حماة، وهو بالصالحيّة، يقول: له لا تحتفل فى مدّ سماط، بل كلّ واحد من أصحابك يفطر على قطعة لحم فى صولقه «2» . وسافر الملك المظفّر بالعساكر من الصالحيّة ووصل غزّة والقلوب وجلة.

وأما كتبغانوين «3» مقدّم التّتار على عسكر هولاكو لمّا بلغه خروج الملك المظفّر قطز كان بالبقاع؛ فاستدعى الملك الأشرف [موسى «4» ابن المنصور صاحب حمص] وقاضى القضاة محيى «5» الدين واستشارهم فى ذلك، فمنهم من أشار بعدم الملتقى

ص: 78

والاندفاع بين يدى الملك المظفّر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العسكر المصرىّ، ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرّقت الآراء، فاقتضى رأى كتبغانوين الملتقى، وتوجّه من فوره لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشّرك وحزبه، بعد أن جمع كتبغانوين من فى الشام من التّتار وغيرهم، وقصد محاربة المسلمين، وصحبته الملك السعيد [حسن «1» ] ابن الملك العزيز عثمان. ثم رحل الملك المظفّر قطز بعساكره من غزّة ونزل الغور بعين جالوت «2» ، وفيه جموع التّتار فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان، ووقع المصافّ بينهم فى اليوم المذكور، وتقاتلا قتالا شديدا لم ير مثله حتّى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة، فحمل الملك المظفّر- رحمه الله بنفسه فى طائفة من عساكره وأردف الميسرة حتّى تحايوا وتراجعوا، واقتحم الملك المظفّر القتال وباشر ذلك بنفسه وأبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا، وعظم الحرب وثبت كلّ من الفريقين مع كثرة التتار. والمظفّر مع ذلك يشجّع أصحابه ويحسّن إليهم الموت، وهو يكرّ بهم كرّة بعد كرّة حتّى نصر الله الإسلام وأعزّه، وانكسرت التّتار وولّوا الأدبار على أقبح وجه بعد أن قتل معظم أعيانهم وأصيب مقدّم العساكر التّتاريّة كتبغانوين، فإنّه أيضا لمّا عظم الخطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله تعالى وقتل شرّ قتلة. وكان الذي حمل عليه وقتله الأمير جمال الدين آقوش الشّمسىّ- رحمه الله تعالى- وولّوا التّتار الأدبار لا يلوون على شىء، واعتصم منهم طائفة بالتلّ المجاور لمكان الوقعة، فأحدقت بهم العساكر وصابروهم على القتال حتّى أفنوهم قتلا، ونجا من نجا. وتبعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ فى جماعة من الشّجعان إلى أطراف البلاد؛

ص: 79

واستوفى أهل البلاد والضّياع من التّتار آثارهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتّى إنّه لم يسلم منهم إلّا القليل جدّا.

وفى حال الفراغ من المصافّ حضر الملك السعيد [حسن] ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل بين يدى السلطان الملك المظفّر قطز؛ وكان التّتار لمّا ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلا فأطلقوه وأعطوه باياس وقلعة الصّبيبة «1» فانضمّ على التّتار وبقى منهم، وقاتل يوم المصافّ «2» المسلمين قتالا شديدا، فلما أيّد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفّر فحضر الملك السعيد هذا من جملتهم على رغم أنفه، فلم يقبل المظفّر عذره، وأمر بضرب عنقه فضربت فى الحال. ثم كتب الملك المظفّر كتابا إلى أهل دمشق يخبرهم فيه بالفتح وكسر العدوّ المخذول ويعدهم بوصوله إليهم ونشر العدل فيهم، فسرّ عوامّ دمشق وأهلها بذلك سرورا زائدا، وقتلوا فخر الدين محمد بن يوسف بن محمد الكنجىّ «3» فى جامع دمشق، وكان المذكور من أهل العلم، لكنّه كان فيه شرّ، وكان رافضيّا خبيثا وانضم على التّتار. وقتلوا أيضا بدمشق من أعوان التّتار ابن الماسكينى «4» ، وابن النّفيل «5» وغيرهما. وكان النّصارى بدمشق قد شمخوا وتجرّءوا على المسلمين واستطالوا بتردّد التّتار إلى كنائسهم.

وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاءوا من عنده بفرمان يتضمّن الوصيّة بهم والاعتناء بأمرهم، ودخلوا بالفرمان من باب توما «6» وصلبانهم مرتفعة، وهم ينادون بارتفاع دينهم واتّضاع دين المسلمين، ويرشّون الخمر على الناس وفى أبواب المساجد، فحصل

ص: 80

عند «1» المسلمين من ذلك همّ عظيم. فلمّا هرب نوّاب التّتار حين بلغتهم الكسرة أصبح الناس وتوجّهوا إلى دور النّصارى ينهبونها ويأخذون ما استطاعوا منها، وأخربوا كنيسة اليعاقبة «2» وأحرقوا كنيسة مريم «3» حتّى بقيت كوما، وقتلوا منهم جماعة واختفى الباقون. وكانت النصارى فى تلك الأيام ألزموا المسلمين بالقيام فى دكاكينهم للصّليب، ومن لم يقم أخرقوا «4» به وأهانوه، وشقّوا السّوق على هذا الوجه إلى عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم؛ فقام بعضهم على الدّكّان الوسطى من الصف الغربىّ بين القناطر وخطب وفضّل دين النّصارى ووضع من دين الإسلام، وكان ذلك فى ثانى عشرين شهر رمضان. ثم من الغد طلع المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى قلعة دمشق وبها التّتار فأهانوهم التتار، ورفعوا قسّيس النّصارى عليهم، ثم أخرجوهم بالضرب؛ فصار ذلك كلّه فى قلوب المسلمين. انتهى.

ثمّ إنّ أهل دمشق هموا أيضا بنهب اليهود فنهبوا منهم يسيرا، ثم كفّوا عنهم.

ثمّ وصل الملك المظفّر قطز إلى دمشق مؤيّدا منصورا فانجبرت بذلك قلوب الرّعايا وتضاعف شكرهم لله تعالى. والتقاه أهل دمشق بعد أن عفّوا آثار النصارى وخرّبوا كنائسهم جزاء لما كانوا سلفوه من ضرب النواقيس على رءوس المسلمين، ودخولهم بالخمر إلى الجامع. وفى هذا المعنى يقول بعض شعراء دمشق:

ص: 81

هلك الكفر فى الشآم جميعا

واستجدّ الإسلام بعد دحوضه

بالمليك المظفّر الملك الأر

وع سيف الإسلام عند نهوضه

ملك [جاءنا «1» ] بعزم وحزم

فآعتززنا بسمره وبيضه

أوجب الله شكر ذاك علينا

دائما مثل واجبات فروضه

وفى نصرة الملك المظفّر هذا يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة:

غلب التّتار على البلاد فجاءهم

من مصر تركى يجود بنفسه

بالشام أهلكهم وبدّد شملهم

ولكلّ شىء آفة من جنسه

ثم قدم الخبر على السلطان بدمشق فى شوّال بأنّ المنهزمين من رجال التّتار ونسائهم لحقهم الطّلب من الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، فإنّ بيبرس كان تقدّم قبل السلطان إلى دمشق يتتبّع آثار التّتار إلى قرب حلب، فلمّا قرب منهم بيبرس سيّبوا ما كان فى أيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم فتخطّفهم النّاس، وقاسوا من البلاء ما يستحقّونه.

وكان الملك المظّفر قطز قد وعد الأمير بيبرس بحلب وأعمالها، فلمّا انتصر على التّتار انثنى عزمه عن إعطائه حلب، وولّاها لعلاء الدّين [علىّ ابن «2» بدر الدين لؤلؤ] صاحب الموصل، فكان ذلك سبب الوحشة بين بيبرس وبين الملك المظفّر قطز.

على ما يأتى ذكره.

ولمّا قدم الملك المظفّر إلى دمشق أحسن إلى الناس وأجراهم على عوائدهم وقواعدهم إلى آخر أيّام الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وسيّر الملك الأشرف صاحب حمص يطلب منه أمانا على نفسه وبلاده، وكان الأشرف أيضا ممّن انضاف

ص: 82

إلى التّتار فأمّنه وأعطاه بلاده وأقرّه عليها؛ فحضر الأشرف إلى خدمة الملك المظفّر ثم عاد إلى بلده. ثم توجّه الملك المظفّر صاحب حماة إلى حماة على ما كان عليه، وكان حضر مع الملك المظفّر قطز من مصر.

قلت: والملك المظفّر قطز هو أوّل من ملك البلاد الشاميّة واستناب بها من ملوك الترك.

ثمّ إنّ الملك المظفّر قطز رتّب أمور الشام واستناب بدمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير. ثم خرج المظفّر من دمشق عائدا إلى مصر إلى أن وصل إلى القصير «1» ، وبقى بينه وبين الصالحيّة مرحلة واحدة، ورحلت العساكر إلى جهة الصالحيّة وضرب الدهليز السلطانىّ بها وبقى المظفّر مع بعض خواصّه وأمرائه؛ وكان جماعة قد اتّفقوا مع الأمير بيبرس البندقدارىّ على قتل الملك المظفّر: منهم الأمير سيف الدين أنص «2» من مماليك [نجم الدين «3» ] الرومى الصالحى، وعلم الدين صنغلى «4» ، و [سيف «5» الدين بلبان] الهارونىّ وغيرهم؛ كلّ ذلك لكمين كان فى نفس بيبرس، لأجل نيابة حلب. واتّفق عند القصير بعد توجّه العساكر إلى الصالحيّة أن ثارت أرنب فساق الملك المظفّر قطز عليها، وساق هؤلاء المتّفقون على قتله معه، فلمّا أبعدوا ولم يبق معه غيرهم، تقدّم إليه الأمير بيبرس البندقدارىّ وشفع عنده

ص: 83

شفاعة فى إنسان فأجابه، فأهوى بيبرس ليقبّل يده فقبض عليها؛ وحمل أنص «1» عليه، وقد أشغل بيبرس يده، وضربه بالسيف، ثمّ حمل الباقون عليه ورموه عن فرسه، ورشقوه بالنّشّاب فقتلوه، ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتّى وصلوا إلى الدّهليز السلطانىّ بالصالحيّة؛ فنزلوا ودخلوا والأتابك «2» على باب الدّهليز فأخبروه بما فعلوا؛ فقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا، فقال: يا خوند، اجلس على مرتبة السلطان! يأتى بقية ذلك فى أوّل ترجمة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ المذكور. إن شاء الله تعالى.

ولمّا وقع ذلك وبلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير نائب دمشق عزّ عليه قتل الملك المظفّر، ثم دعا الناس لنفسه واستحلفهم وتلقّب بالملك المجاهد.

على ما يأتى ذكره أيضا. أمّا الملك المظفّر قطز فإنّه دفن موضع قتله- رحمه الله تعالى- وكثر أسف الناس وحزنهم عليه. قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخه- رحمه الله تعالى- بعد ما سمّاه ونعته قال:

وكان المظفّر أكبر مماليك الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ، وكان بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء فى جهاد التّتار، فعوّض الله شبابه بالجنّة ورضى عنه. وحكى الشيخ شمس «3» الدين الجزرىّ فى تاريخه

ص: 84

عن أبيه، قال: كان قطز فى رقّ ابن الزعيم «1» بدمشق فى القصّاعين «2» ، فضربه أستاذه فبكى ولم يأكل شيئا يومه، ثم ركب أستاذه للخدمه وأمر الفرّاش أن يترضّاه ويطعمه، قال: فحدّثنى الحاجّ علىّ الفراش قال: فجئته وقلت: ما هذا البكاء من لطشة؟ فقال: إنّما بكائى من لعنة أبى وجدّى وهم خير منه، فقلت: من أبوك؟ واحد كافر! فقال: والله ما أنا إلّا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود «3» ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكّتّه وترضّيته. وتنقّلت به الأحوال إلى أن تملّك مصر، ولمّا تملك أحسن إلى الحاج علىّ الفراش المذكور، وأعطاه خمسمائة دينار وعمل له راتبا. قال الذهبىّ أيضا: ولمّا تسلطن لم يبلغ ريقه ولا تهنّى بالسلطنة حتى امتلأت الشامات المباركة بالتّتار؛ ثم ساق الذهبىّ أمره مع التّتار بنحو ما حكيناه.

وقال الشيخ قطب الدين: حكى عن الملك المظفّر قطز أنّه قتل جواده يوم القتال مع التّتار، ولم يصادف المظفّر أحد من الأوشاقية «4» فبقى راجلا، فرآه بعض الأمراء الشجعان فترجّل له وقدّم له حصانه، فامتنع المظفّر من ركوبه وقال:

ما كنت لأمنع المسلمين الانتفاع بك فى هذا الوقت! ثم تلاحقت الأوشاقيّة إليه.

وقال ابن الجزرىّ فى تاريخه: حدّثنى أبى قال حدّثنى أبو بكر بن الدّريهم الإسعردىّ والزكىّ إبراهيم أستاذ الفارس أقطاى قالا: كنّا عند سيف الدين قطز لمّا تسلطن أستاذه الملك المعزّ أيبك التركمانىّ، فأمرنا قطز بالقعود، ثم أمر المنجّم فضرب الرّمل،

ص: 85

ثم قال له قطز: اضرب لمن يملك بعد أستاذى الملك المعزّ أيبك، ومن يكسر التّتار، فضرب وبقى زمانا يحسب، فقال: يطلع معى خمس حروف بلا نقط. فقال له قطز: لم لا تقول محمود بن ممدود، فقال: يا خوند لا ينفع غير هذا الاسم، فقال:

أنا هو، أنا محمود بن ممدود، وأنا أكسر التّتار وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه، فتعجّبنا من كلامه، وقلنا: إن شاء الله يكون هذا يا خوند، فقال: اكتموا ذلك، وأعضى المنجّم ثلثمائة درهم.

قلت: ونقل الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى تاريخه الذي ذيلّه على مرآة الزمان، فقال فى أمر المنجّم غير هذه الصورة. وسنذكرها فى سياق كلام قطب الدين المذكور. قال (أعنى قطب الدين) : كان المظفّر أخصّ مماليك الملك المعزّ وأقربهم إليه وأوثقهم عنده. وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار.

قال: وكان الملك المظفّر بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير لم يكن يوصف بكرم ولا شحّ بل كان متوسّطا فى ذلك، وذكر حكايته لمّا أن قتل جواده يوم الوقعة بنحو ممّا حكيناه، لكنّه زاد بأن قال: فلام المظفّر بعض خواصّه على عدم ركوبه، وقال: يا خوند- لو صادفك، والعياذ بالله تعالى- بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام! فقال: أما أنا فكنت رحت إلى الجنّة- إن شاء الله تعالى- وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه؛ فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وقتل بعده ابنه الملك المعظّم توران شاه، وقتل الأمير فخر الدين ابن الشيخ مقدّم العساكر يوم ذاك، ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره! (يعنى عن نوبة أخذ الفرنج دمياط) . ثم قال قطب الدين، بعد ما ساق توجّهه إلى دمشق وإصلاح أمرها إلى أن قال: وقتل الملك المظفّر قطز مظلوما بالقرب من القضير وهى المنزلة التى بقرب الصالحية، وبقى ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان فى خدمته

ص: 86

بالقصير، وكان قبره يقصد للزيارة دائما. قال: واجتزت به فى شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة، وترحّمت عليه وزرته. وكان كثير الترحّم عليه والدعاء على من قتله. فلمّا بلغ بيبرس ذلك أمر بنبشه ونقله إلى غير»

ذلك المكان وعفّى أثره، ولم يعفّ خبره- رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيرا- قال: ولم يخلّف ولدا ذكرا، وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.

قلت: فعلى هذا تكون مدّة سلطنة الملك المظفّر قطز سنة إلّا يومنا واحدا، فإنّه تسلطن فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة من سنة سبع وخمسين وستمائة، وقتل فيما نقله الشيخ قطب الدين فى يوم السبت سادس عشر ذى القعدة من سنة ثمان وخمسين وستمائة: انتهى. قال: حكى لى المولى علاء الدين بن غانم فى غرّة شوّال سنة إحدى وتسعين وستّمائة ببعلبكّ، قال: حدّثنى المولى تاج «2» الدين أحمد ابن الأثير- تغمده الله برحمته- ما معناه: أنّ الملك الناصر صلاح الدين يوسف- رحمه الله لمّا كان على برزة فى أواخر سنة سبع وخمسين وصله قصّاد من الديار المصريّة بكتب يخبرونه فيها أنّ قطز تسلطن وملك الديار المصريّة وقبض على ابن أستاذه، قال المولى تاج الدين- رحمه الله: فطلبنى السلطان الملك الناصر قرأت عليه الكتب، وقال لى: خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر «3» الدين القيمرىّ، والأمير جمال «4» الدين بن يغمور أوقف كلّا منهما عليها، قال: فأخذتها

ص: 87

وخرجت فلما بعدت عن الدّهليز لقينى حسام الدين البركة خانى «1» وسلّم علىّ، وقال:

جاءكم بريدىّ أو قصّاد من الديار المصريّة؟ فورّيت وقلت: ما عندى علم بشىء من هذا، قال: قطز تسلطن وتملّك الديار المصريّة ويكسر التّتار؛ قال تاج الدين:

فبقيت متعجّبا من حديثه، وقلت له: إيش هذا القول، ومن أين لك هذا؟

قال: والله هذا قطز خشداشى، كنت أنا وإيّاه عند الهيجاوى «2» من أمراء مصر ونحن صبيان، وكان عليه قمل كثير، فكنت أسرّح رأسه على أنّنى كلّما أخذت منه قملة أخذت منه فلسا أو صفعته، ثم قلت فى غضون ذلك: والله ما أشتهى إلا أنّ الله يرزقنى إمرة خمسين فارسا، فقال لى: طيّب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارسا، فصفعته وقلت: أنت تعطينى إمرة خمسين! قال: نعم فصفّعته، فقال لى: وأ لك علّة! إيش يلزم لك إلّا إمرة خمسين فارسا؟ أنا والله أعطيك، قلت: ويلك «3» ! كيف تعطينى؟ قال: أنا أملك الديار المصريّة، وأكسر التّتار وأعطيك الذي طلبت، قلت: ويلك أنت مجنون! أنت بقملك تملك الديار المصرية؟ قال: نعم، رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال لى: أنت تملك الديار المصريّة وتكسر التّتار، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم حقّ لا شكّ فيه، قال: فسكتّ وكنت أعرف منه الصدق فى حديثه وعدم الكذب. قال تاج الدين:

فلمّا قال لى هذا، قلت له: قد وردت الأخبار بأنّه تسلطن، قال لى: والله وهو يكسر التّتار. قال تاج الدين: فرأيت حسام الدين البركة خانى- الحاكى ذلك- بالديار المصريّة بعد كسر التّتار فسلّم علىّ، وقال: يا مولاى تاج الدين،

ص: 88