الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون على مصر
السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالى وأبو الفتح «1» قلاوون بن عبد الله الألفىّ التركىّ الصالحىّ النّجمىّ السابع من ملوك الترك بالديار المصرية، والرابع ممن مسّه الرّقّ.
ملك الديار المصرية بعد خلع الملك السعيد وصار مدبّر مملكة الملك العادل بدر الدين سلامش إلى أن خلع سلامش وتسلطن الملك المنصور قلاوون هذا من بعده فى حادى «2» عشرين، وقيل عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، وجلس على سرير الملك بأبّهة السلطنة وشعار الملك وتمّ أمره. ولمّا استقل بالمملكة أمسك جماعة كثيرة من المماليك والأمراء الظاهريّة وغيرهم، واستعمل مماليكه على البلاد والقلاع، فلم يبلع ريقه حتّى خرج عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائب دمشق، فإنّه لمّا وصل إليه البريد إلى دمشق بسلطنة المنصور قلاوون فى يوم الأحد سادس «3» عشرى رجب، وعلى يده نسخة يمين التّحليف للأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الناس، فأحضروا إلى دار «4» السعادة بدمشق وحلفوا إلّا الأمير سنقر الأشقر نائب الشام، فإنّه لم يحلف ولا رضى بما جرى من خلع سلامش وسلطنة قلاوون،
فلم يلتفت أهل دمشق إلى كلامه. وخطب بجامع دمشق للملك المنصور قلاوون وجوامع الشام بأسرها خلا مواضع يسيرة توقّفوا، ثم خطبوا بعد ذلك.
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه فى شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السّنجارىّ «1» عن الوزارة بالديار المصريّة، وأمره بلزوم مدرسة «2» أخيه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارىّ بالقرافة الصغرى، واستقرّ مكانه فى الوزاره الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصريّة، وتولّى عوضه صحابة الديوان القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين [عبد «3» الله] بن عبد الظاهر، وهو أوّل كاتب سرّ كان فى الدولة التّركية وغيرها، وإنما كانت هذه الوظيفة فى ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرّف فى الديوان، وتحت يده جماعة من الكتاب الموقّعين، وفيهم رجل كبير كنائب كاتب السّر الآن، سمّى فى الآخر صاحب ديوان الإنشاء. ومن الناس من قال: إنّ هذه الوظيفة قديمة. واستدلّ بقول صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتب للنبىّ، صلى الله عليه وسلم، ومن بعده.
وردّ على من قال ذلك جماعة أخر، وقالوا: ليس فى ذكر من كتب للنبىّ، صلى الله عليه وسلم، وغيره من الخلفاء دلاله على وظيفة كتابة السّر، وإنّما هو دليل لكلّ كاتب كتب لملك أو سلطان أو غيرهما كائنا من كان، فكلّ كاتب كتب عند رجل يقول: هو أنا ذاك الكاتب، وإذا الأمر احتمل واحتمل سقط الاحتجاج به. ومن قال: إنّ هذه الوظيفة ما أحدثها إلّا الملك المنصور قلاوون فهو الأصح، ونبيّن ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أواخر هذه الترجمة، وتذكر من ذكره
صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب من عهد النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا على سبيل الاختصار. انتهى. وقد خرجنا عن المقصود.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه فى يوم الجمعة رابع عشرى «1» ذى القعدة من السنة ركب من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجّالة وهو راكب وحده وقصد القلعة من الباب الذي يلى المدينة فهجمها بمن كان معه، وطلعها وجلس بها من ساعته وحلّف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن وتلقب «بالملك الكامل» ، ونادت المنادية فى المدينة بسلطنته واستقلاله بالممالك الشاميّة، وفى بكرة يوم السبت خامس عشرين ذى القعدة طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد وأكابره وأعيانه إلى مسجد أبى الدّرداء، رضى الله عنه، بقلعة دمشق وحلّفهم وحلّف بقيّة الناس على طاعته؛ ثم وجّه العساكر فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه إلى بلاد غزّة لحفظ البلاد ومغلّها ودفع من يأتى إليها من الديار المصريّة. وخرجت سنة ثمان وسبعين وليس للملك المنصور قلاوون حكم إلّا على الديار المصرية وأعمالها فقط.
ولمّا استهلت سنة تسع وسبعين والملك المنصور سلطان مصر، والملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر سلطان دمشق وما والاها، وصاحب الكرك الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، وصاحب حماة والمعرّة الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين محمود الأيّوبىّ؛ والعراق والجزيرة والموصل وإربل وأذربيجان وديابكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التّتار والروم؛ وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن عمر [بن علىّ بن»
رسول] ، وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ الحسنىّ، وصاحب المدينة الشريفة،
على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، الأمير عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ؛ ذكرنا هؤلاء تنبيها للناظر فى الحوادث الآتية، ليكون فيما يأتى على بصيرة. انتهى.
ثم إنّ السلطان الملك المنصور قلاوون فى أوّل سنة تسع وسبعين وستّمائة المذكورة جهّز عسكرا لغزّة، فلمّا قاربوها لقيهم عسكر الملك الكامل سنقر الأشقر وقاتلوهم حتّى نزحوهم عنها، وانكسر العسكر المصرىّ وقصد الرّمل واطمأنّ الشاميّون بغزّة ونزلوا بها ساعة من النهار، وكانوا فى قلّة، فكرّ عليهم عساكر الديار المصريّة ثانيا وكبسوهم ونالوا منهم منالا كبيرا، ورجع عسكر الشام منهزما إلى مدينة الرّملة «1» .
وأمّا الملك الكامل سنقر الأشقر فإنّه قدم عليه بدمشق الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنّا ملك العرب بالبلاد الشرقيّة والشماليّة؛ ودخل على الكامل وهو على السّماط فقام له الكامل، فقبّل عيسى الأرض وجلس عن يمينه فوق من حضر.
ثم وصل إلى الملك الكامل أيضا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ بن بريد «2» ملك العرب بالبلاد الحجازيّة فأكرمه الملك الكامل غاية الإكرام.
وأمّا الملك المنصور لما بلغه ما وقع لعسكره بغزّة جهّز عسكرا آخر كثيفا إلى دمشق لقتال الملك الكامل سنقر الأشقر، ومقدّمهم الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، وخرجوا من مصر وساروا إلى جهة الشام، فصار عسكر دمشق الذي بالرّملة كلّما تقدّم العسكر المصرىّ منزلة تأخّر هو منزلة إلى أن وصل أوائلهم إلى دمشق فى أوائل صفر. وفى يوم الأربعاء ثانى عشر صفر المذكور خرج الملك الكامل من دمشق بنفسه بجميع من عنده من العساكر، وضرب دهليزه بالجسورة «3» وخيّم هناك
بجميع الجيش، واستخدم المماليك وأنفق الأموال، وجمع خلقا عظيما وحضر عنده عرب الأميرين: ابن مهنّا وابن حجّىّ ونجدة حلب ونجدة حماة، مقدّمهما الملك الأفضل نور الدين علىّ أخو صاحب حماة؛ ورجّالة كثيرة من جبال بعلبكّ، ورتّب العساكر والأطلاب بنفسه وصفّ العساكر ميمنة وميسرة ووقف هو تحت عصائبه؛ وسار العسكر المصرى أيضا بترتيب هائل وعساكر كثيرة، والأطلاب أيضا مرتّبة، والتقى الجيشان فى يوم الأحد [سادس «1» عشر صفر] وقت طلوع الشمس فى المكان المذكور وتقاتلا أشدّ قتال، وثبت كلّ من الطائفتين ثباتا لم يسمع بمثله إلّا نادرا لا سيّما الملك الكامل سنقر الأشقر، فإنّه ثبت وقائل بنفسه قتالا شديدا، واستمرّ المصافّ بين الطائفتين إلى الرابعة من النهار ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جدّا، وأمّا الجراح فكثيرة. فلمّا كانت الساعة الرابعة من النهار خامر أكثر عسكر دمشق على الملك الكامل سنقر الأشقر وغدروا به وانضافوا إلى العسكر المصرىّ، وكان «2» لما وقع العين على العين قبل أن يلتحم القتال انهزم عساكر حماة وتخاذل عسكر الشام على الكامل، فمنهم: من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنهم من دخل دمشق راجعا، ومنهم من ذهب إلى طريق بعلبكّ، فلم يلتفت الملك الكامل لمن ذهب منه من العساكر وقاتل، فلمّا انهزم عنه من ذكرنا فى حال القتال ضعف أمره ومع هذا استمرّ يقاتل بنفسه ومماليكه إلى أن رأى الأمير عيسى بن مهنّا الهزيمة على الملك الكامل أخذه ومضى به إلى الرّحبة «3» ، وأنزله عنده ونصب له بيوت الشّعر.
وأمّا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ فإنّه دخل إلى دمشق بالأمان، ودخل وطاعة الملك المنصور قلاوون.
وأمّا عساكر الشام فإنهم اجتمعوا على القصب من عمل حمص، ثم عاد أكثر الأمراء إلى جهة دمشق وطلبوا الأمان من مقدّم العساكر المصرية الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ.
وأمّا العساكر المصرية فإنّهم ساقوا من وقتهم إلى مدينة دمشق وأحاطوا بها، ونزلوا بخيامهم ولم يتعرّضوا للزحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار، وفتح من المدينة باب الفرج ودخل منه إلى دمشق بعض مقدّمى الجيش؛ ثم طلب من بالقلعة الأمان فأمّنهم سنجر الحلبى، ففتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة وتسلّموها بالأمان وأفرجوا عن جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم، كان اعتقلهم سنقر الأشقر، منهم: الأمير ركن الدين «1» بيبرس العجمىّ المعروف بالجالق، والجالق: اسم للفرس الحادّ المزاج باللغة التركية، والأمير حسام الدين لاچين «2» المنصورىّ، والقاضى تقىّ الدين توبة «3» التّكريتىّ وغيرهم.
وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ بالنصر إلى الملك المنصور قلاوون فسرّ المنصور بذلك، ودقّت البشائر لذلك أياما بالديار المصرية وزيّنت القاهرة ومصر.
وأما سنجر الحلبىّ فإنه لما ملك دمشق وقلعتها جهز فى الحال قطعة جيّدة من الجيش المصرىّ تقارب ثلاثة آلاف فارس فى طلب سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند. ثم حضر جواب الملك المنصور قلاوون بسرعة يتضمّن: بأننا قد عفونا عن جميع الناس الخاصّ والعام أرباب السيوف والأقلام، وأمّنّاهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم؛ وحضر التشريف للأمير حسام الدين لاچين المنصورى
السّلحدار بنيابة دمشق، فلبس الخلعة وقبّل الأرض؛ ثم أردف الأمير سنجر الحلبىّ العسكر الذي كان توجّه لقتال سنقر الأشقر بعسكر آخر، مقدّمه الأمير عزّ الدين الأفرم، فلحق بمن كان توجّه قبله وسار الجميع فى طلب سنقر الأشقر. فلّما بلغ سنقر ذلك رحل عن عيسى بن مهنّا وتوجّه فى البريّة إلى الحصون التى كانت بقيت فى يد نوّابه، فتحصّن هو ومن معه بها فى أواخر الشهر المذكور وهى: صهيون، كان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضا، وبلاطنس وحصن برزيه وحصن عكّار «1» وجبلة واللّاذقيّة وغيرها؛ ثم عادت العساكر إلى دمشق وتردّدت الرسل بينهم وبين سنقر الأشقر.
وبينما هم فى ذلك وردت الأخبار فى أوائل جمادى الآخرة أنّ التّتار قصدوا البلاد الشاميّة، فخرج من كان بدمشق من العساكر الشاميّة والمصريّة، ومقدّمهم الأمير ركن الدين اياجى «2» ، ولحقهم العساكر الذين كانوا فى طلب سنقر الأشقر، ونزل الجميع بظاهر حماة؛ وكانوا كاتبوا الملك المنصور قلاوون بمجيء التّتار. فجهّز إليهم فى الحال عسكرا عليه الأمير بدر الدين بكتاش النّجمىّ، فلحق بهم الأمير بكتاش «3» المذكور بمن معه من العسكر المصرىّ، واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا كشّافة فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة إلى بلاد التّتار. هذا وقد جفل غالب من بالبلاد الشاميّة وخرجوا عن دورهم ومنازلهم ولم يبق هناك إلّا من عجز عن الحركة. وكان سبب حركة التّتار أنّهم لمّا سمعوا اختلاف الكلمة، وظنّوا أنّ
سنقر الأشقر بمن معه يتّفق معهم على قتال الملك المنصور قلاوون. فأرسل أمراء العساكر المصريّة إلى سنقر الأشقر يقولون له: هذا العدوّ قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا! وما ينبغى هلاك الإسلام، والمصلحة أنّنا نجتمع على دفعه؛ فامتثل سنقر ذلك وأنزل عسكره من صهيون وأمر رفيقه الحاج أزدمر أن يفعل كذلك من شيزر، وخيّمت كلّ طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، غير أنهم اتّفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدوّ المخذول عن الشام؛ واستمرّوا على ذلك إلى يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الآخرة. وصل طائفة كبيرة من عساكر التّتار إلى حلب ودخلوها من غير مانع يمنعهم عنها، وأحرقوا الجوامع والمساجد والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء، وأفسدوا إفسادا كبيرا على عادة أفعالهم القبيحة، وأقاموا بها يومين على هذه الصورة؛ ثم رحلوا عنها فى يوم الأحد ثالث عشرينه راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدّمتهم الغنائم التى كسبوها وكان شيئا كثيرا. وكان سبب رجوعهم لمّا بلغهم اتّفاق الطائفتين على قتالهم؛ وقيل فى رجوعهم وجه آخر، وهو أن بعض من كان استتر بحلب يئس عن نفسه «1» من الحياة؛ فطلع منارة الجامع وكبّر بأعلى صوته على التّتار، وقال: جاء النّصر من عند الله وأشار بمنديل كان معه إلى ظاهر البلد، وأوهم أنّه أشار به إلى عسكر المسلمين، وجعل يقول فى خلال ذلك: اقبضوهم من البيوت مثل النّساء! فتوهّم التّتار من ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم وسلم الذي فعل ذلك.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّ جماعة من الأمراء والأعيان الذين كانوا معه فرّوا إلى العسكر المصرىّ ودخلوا تحت طاعة الملك المنصور قلاوون.
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه لما طال عليه أمر سنقر الأشقر وأمر التّتار جمع أعيان مملكته فى هذا الشهر بقلعة الجبل، وجعل ولده الأمير علاء «1» الدين عليّا ولىّ عهده، ولقبه «الملك الصالح» ، وخطب له على المنابر. ثم تجهّز السلطان وخرج من الديار المصريّة بعساكره، وسار حتى وصل إلى غزّة بلغه رجوع العدو المخذول، فأقام بالرّملة وتوقّف عن التوجّه إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك، وقصد تخفيف الوطأة عن البلاد وأهلها. ثم رحل يوم الخميس عاشر شعبان راجعا من الرّملة إلى الديار المصريّة، فدخلها وأقام بها أقلّ من أربعة أشهر. ثم بدا له التوجّه إلى الشام ثانيا، فتجهّز وتجهّزت عساكره وخرج بهم من مصر فى يوم الأحد مستهلّ ذى الحجّة قاصدا الشام، وترك ولده الملك الصالح عليّا يباشر الأمور عنه بالديار المصريّة.
وسار الملك المنصور قلاوون حتى وصل إلى الرّوحاء من عمل الساحل، ونزل عليها فى يوم الثلاثاء سابع عشر ذى الحجّة، وأقام قبالة عكّا، فراسلته الفرنج من عكّا فى تجديد الهدنة، فإنّها كانت انقضت مدّتها، وأقام بهذه المنزلة حتى استهلّت سنة ثمانين وستّمائة رحل عنها يوم الخميس عاشر المحرّم. ونزل اللّجّون «2» ، وحضر رسل الفرنج بها بحضرة الأمراء، وسمعوا رسالة الفرنج، فآستشارهم السلطان فحصل الاتّفاق على الهدنة، وحلف لهم الملك المنصور على الصورة التى وقع الاتّفاق عليها، وانبرم الصلح وانعقدت الهدنة فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم. ثم قبض الملك المنصور على الأمير كوندك «3» الظاهرىّ وعلى جماعة من الأمراء الظاهريّة لمصلحة اقتضاها الحال، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين بلبان الهارونىّ ومعه
جماعة وقصدوا صهيون إلى عند سنقر الأشقر، وركبت الخيل فى طلبهم فلم يدركوهم، ثم هرب الأمير أيتمش السّعدىّ أيضا ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة «1» اللّصوص.
ثم سار الملك المنصور إلى دمشق فدخلها فى يوم السبت تاسع عشره، وأقام بدمشق الى أن قدم عليه فى صفر الملك المنصور محمد صاحب حماة، فخرج الملك المنصور قلاوون لتلقّيه وأكرمه. ثم تردّدت الرسل بين السلطان الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الأشقر فى تقرير قواعد الصلح. فلمّا كان يوم الأحد رابع شهر ربيع الأوّل من سنة ثمانين وستمائة وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ «2» ومعه خازندار سنقر الأشقر فى معنى الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور قلاوون يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية فى دمشق بانتظام الصلح واجتماع الكلمة، فرجع رسل سنقر الأشقر ومعهم الأمير فخر «3» الدين اياز المقرئ ليحضر يمين سنقر الأشقر، فحلفه وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثانى عشره، فضربت البشائر بالقلعة وسرّ الناس بذلك غاية السرور. وصورة ما انتظم الصلح عليه أنّ سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر ويسلّمها إلى نوّاب الملك المنصور قلاوون، وعوّضه قلاوون عنها فامية وكفر طاب وأنطاكية والسّويديّة «4» وبكاس ودركوش بأعمالها كلّها وعدّة ضياع معروفة، وأن يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقرّ بيده عند الصلح، وهو صهيون وبلاطنس وحصن برزة وجبلة واللّاذقيّة
بستمائة فارس، وأنه يسلّم الأمر إلى الملك المنصور قلاوون؛ وخوطب سنقر الأشقر فى مكاتباته «بالمقرّ العالى المولوى السّيّدىّ العالمىّ العادلىّ الشمسىّ» ولم يصرح فى مخاطباته بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك فى مكاتباته من الملك المنصور قلاوون إلى الجناب العالى الأميرى الشمسىّ. انتهى.
وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه مجىء التّتار إلى البلاد الشامية وهو بدمشق، فتهيّأ لقتالهم وأرسل يطلب العساكر المصرية، وبعد قليل حضرت عساكر مصر إلى دمشق واجتمعت العساكر عند السلطان، ولم يتأخر أحد من التّركمان والعربان وسائر الطوائف. ووصل الخبر بوصول التّتار إلى أطراف بلاد حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا الغلال والحواصل والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم؛ ثم ورد الخبر بوصول منكوتمر بن هولاكو ملك التّتار إلى عينتاب وما جاورها فى يوم الأحد سادس عشرين جمادى [الاخرة «1» ] فخرج الملك المنصور قلاوون بعساكره فى يوم الأحد المذكور وخيّم بالمرج، ووصل التتار الى بغراس، فقدّم الملك المنصور عسكره أمامه، ثم سافر هو بنفسه فى سلخ جمادى الآخرة المذكور، وسار حتى نزل السلطان بعساكره على حمص فى يوم الأحد ثالث «2» عشرين شهر رجب، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن معه من الأمراء والعساكر، وكذلك الأمير أيتمش السّعدىّ الذي كان هرب من عند السلطان لما قبض على الأمراء الظاهريّة؛ فامتثل سنقر الأشقر أمر السلطان بالسمع والطاعة وركب من وقته بجماعته، وحضر إلى عند الملك المنصور قلاوون، واستحلفه لأيتمش السّعدىّ يمينا ثانية ليزداد طمأنينة، ثم أحضره وتكامل حضورهم
عند السلطان، وعامل السلطان سنقر الأشقر بالاحترام التامّ والخدمة البالغة والإقامات العظيمة والرّواتب الجليلة. وشرعت التّتار تتقدّم قليلا قليلا بخلاف عادتهم، فلمّا وصلوا حماة أفسدوا بنواحيها، وشعّثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحب حماة وجوسقه وما به من الأبنية. واستمرّ عسكر السلطان بظاهر حمص على حاله إلى أن وصلت التّتار إليه فى يوم الخميس رابع عشر شعبان، فركب الملك المنصور بعساكره وصافف العدوّ، والتقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان عدد التّتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على مقدار النّصف من ذلك أو أقلّ، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وعظم القتال بين الفريقين وثبت كلّ منهم.
قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: «وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها فى هذه الأزمان ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى فيما بين مشهد خالد بن الوليد، رضى الله عنه، إلى الرّستن «1» والعاصى، واضطربت ميمنة المسلمين، وحملت التّتار على ميسرة المسلمين فكسروها وانهزم من كان بها، وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون، رحمه الله تعالى، فى جمع قليل بالقلب ثباتا عظيما، ووصل جماعة كثيرة من التّتار خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق جماعة من التّتار بحمص، وهى مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم فيمن وجدوه من العوامّ والسّوقة والغلمان والرّجّالة المجاهدين بظاهرها، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الإسلام على خطّة صعبة! ثم إنّ أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم: مثل سنقر الأشقر المقدّم ذكره، وبدر الدين بيسرى،
وعلم الدين سنجر الدّويدارىّ، وعلاء الدين طيبرس الوزيرى، وبدر الدين بيليك أمير سلاح، وسيف الدين أيتمش السّعدىّ، وحسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير حسام الدين طرنطاى «1» وأمثالهم لمّا رأوا ثبات السلطان ردّوا على التّتار وحملوا عليهم حملات حتّى كسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدّم التّتار، وجاءهم الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا فى عربه «2» عرضا فتّمت هزيمتهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتّفق أنّ ميسرة المسلمين كانت انكسرت كما ذكرنا، والميمنة ساقت على العدوّ ولم يبق مع السلطان إلّا النّفر اليسير، والأمير حسام الدّين طرنطاى قدّامه بالسناجق، فعادت الميمنة الذين كسروا ميسرة المسلمين فى خلق عظيم ومرّوا به، وهو فى ذلك النّفر تحت السناجق (يعنى الملك المنصور قلاوون) والكوسات تضرب. قال: ولقد مررت به فى ذلك الوقت وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا «3» دون ذلك، فلمّا مرّوا به (يعنى ميمنة التّتار التى كانت كسرت ميسرة المسلمين) ثبت لهم ثباتا عظيما، ثم ساق عليهم بنفسه فانهزموا أمامه لا يلوون على شىء، وكان ذلك تمام النّصر؛ وكان انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب، وافترقوا فرقتين: فرقة أخذت جهة سلمية والبرّيّة، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات.
ولمّا انقضى الحرب فى ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته، وأصبح بكرة يوم الجمعة سادس عشر رجب «4» جهّز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرىّ، وكان لمّا لاحت الكسرة على المسلمين
نهب لهم من الأقمشة والأمتعة والخزائن والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كلّه أخذته الحرافشة «1» من المسلمين مثل الغلمان وغيرهم. وكتبت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد، وحصل للناس السرور الذي لا مزيد عليه، وعملت «2» القلاع وزيّنت المدن» .
وأمّا أهل دمشق فإنّه كان ورد عليهم الخبر أوّلا بكسرة المسلمين، ووصل إليهم جماعة ممّن كان انهزم؛ فلمّا بلغهم النصر كان سرورهم أضعاف سرور غيرهم.
وكان أهل البلاد الشامية من يوم خرج السلطان من عندهم إلى ملتقى التّتار وهم يدعون الله تعالى فى كلّ يوم ويبتهلون إليه، وخرج أهل البلاد بالنساء والأطفال إلى الصّحارى والجوامع والمساجد، وأكثروا من الابتهال إلى الله، عز وجل، فى تلك الأيام لا يفترون عن ذلك حتى ورد عليهم هذا النصر العظيم ولله الحمد، وطابت قلوب الناس، وردّ من كان نزح عن بلاده وأوطانه واطمأنّ كلّ أحد وتضاعف شكر الناس لذلك. وقتل فى هذه الوقعة من التّتار ما لا يحصى كثرة؛ وكان من استشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل؛ وممّن قتل الأمير الحاج أزدمر، وسيف الدين بلبان الرّومىّ، وشهاب الدين توتل «3» الشّهرزورىّ، [وناصر «4» الدين بن جمال الدين الكاملىّ] ، و [عزّ الدين بن النّصرة] من «5» بيت الأتابك صاحب الموصل وكان أحد الشّجعان المفرطين فى الشجاعة، رحمهم الله تعالى أجمعين.
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التى بحمص ليبعد عن الجيف، ثم توجّه عائدا إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة الثانى والعشرين من شعبان قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه، فدخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التّتار وبأيديهم رماح عليها رءوس القتلى من التّتار، فكان يوما مشهودا. ودخل السلطان الشام وفى خدمته جماعة من الأعيان، منهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن وتلقّب بالملك الكامل، وأيتمش السعدىّ، و [الأمير علم الدين «1» سنجر] الدّويدارىّ، وبلبان الهارونىّ؛ ثم قدم بعد ذلك [الأمير «2» بدر الدين] الأيدمرىّ بمن معه من العسكر عائدا من تتبّع التّتار بعد ما أنكى فيهم نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها، وسيّر أكثر من معه يتبعونهم، فهلك من التّتار خلق كثير غرقوا بالفرات عند عبورهم. وعند ما عدوه نزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جمعا كثيرا، وتفرّق جمع التّتار وأخذت أموالهم.
وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شهر رمضان خرج منه عائدا إلى الديار المصريّة، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، وسار حتى دخل الديار المصريّة يوم ثانى عشرين الشهر بعد أن احتفل أهل مصر لملاقاته، وزيّنت الديار المصرية زينة لم ير مثلها من مدّة سنين، وعملت «3» بها القلاع، وشقّ القاهرة فى مروره إلى قلعة الجبل حتى طلع إليها؛ فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة، وتضاعف سرور الناس بسلامته وبنصر المسلمين على العدوّ المخذول.
ثمّ إنّ السلطان عقيب دخوله إلى مصر قبض على الأمير ركن الدين اياجى الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدّم الشّهرزوريّة بقلعة الجبل. واستمرّ السلطان
بمصر إلى خامس ذى القعدة من السنة قبض على الأمير أيتمش السّعدىّ بقلعة الجبل وحبسه بها، ثم أرسل إلى نائب دمشق بالقبض على الأمير بلبان الهارونىّ بدمشق فقبض عليه.
وفى هذه السنة (أعنى سنة ثمانين وستمائة) تربت جزيرة «1» كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق «2»
واللّوق «1» ، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المكس «2» وساحل
باب «1» البحر، والرّملة «2» [و] بين جزيرة الفيل «3» وهو المار تحت منية السّيرج، وانسدّ هذا البحر ونشف بالكلّية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشى، ولم يعهد
فيما تقدّم، وحصل لأهل القاهرة مشقّة من نقل الماء الحلو لبعد البحر، فأراد السلطان حفره فنهوه عن ذلك، وقالوا له: هذا ينشف إلى الأبد، فتأسّف السلطان وغيره على ذلك.
قلت: وكذا وقع، ونحن الآن لا نعرف أين كان جريان البحر المذكور إلّا بالحدس، لإنشاء الأملاك والبساتين والعمائر والحارات فى محلّ مجرى البحر المذكور، فسبحان القادر على كلّ شىء!
ثم فى أوّل سنة إحدى وثمانين وستمائة ورد الخبر على السلطان أنّه تسلطن فى مملكة التّتار مكان أبغا بن هولاكو أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو، وهو مسلم حسن الإسلام وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، وأنّه وصلت أوامره إلى بغداد تتضمّن إظهار شعائر الإسلام وإقامة مناره، وأنّه أعلى كلمة الدين، وبنى الجوامع والمساجد والأوقاف ورتّب القضاة، وأنه انقاد إلى الأحكام الشرعية، وأنّه ألزم أهل الذّمّة بلبس الغيار «1» ، وضرب الجزية عليهم، ويقال إنّ إسلامه كان فى حياة والده هولاكو، فسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما. وبعد مدّة قبض السلطان على
الأمير بدر الدين بيسرى، وعلى علاء الدين كشتغدى الشّمسىّ واعتقلهما بقلعة الجبل، وذلك فى يوم الأحد مستهلّ صفر من السنة. واستمرّ السلطان على ذلك إلى يوم الأربعاء «1» ثانى عشرين شعبان طافوا بكسوة البيت العتيق التى عملت برسم الكعبة، عظّمها الله تعالى، بمصر والقاهرة على العادة، ولعبت مماليك السلطان الملك المنصور قلاوون أمام الكسوة بالرّماح والسلاح.
قلت: وأظنّ هذا هو أوّل ابتداء سوق المحمل المعهود الآن، فإنّنا لم نقف فيما مضى على شىء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى، ولهذا غلب على ظنّى من يوم ذاك بدأ السوق المعهود الآن، ولم يكن إذ ذاك على هيئة يومنا هذا، وإنّما ازداد بحسب اجتهاد المعلّمين، كما وقع ذلك فى غيره من الفنون والملاعيب والعلوم، فإن مبدأ كلّ أمر ليس كنهايته، وإنّما شرع كلّ معلّم فى اقتراح نوع من أنواع السّوق إلى أن انتهى إلى ما نحن عليه الآن، ولا سبيل إلى غير ذلك.
يعرف ما قلته من له إلمام بالفنون والعلوم إذا كان له ذوق وعقل. وعلى هذه الصيغة أيضا اللعب بالرمح فإنّ مماليك قلاوون هم أيضا أحدثوه، وإن كانت الأوائل كانت تلعبه، فليس كان لعبهم على هذه الطريقة؛ وأنا أضرب لك مثلا لمصداق قولى فى هذا الفنّ، وهو أنّ مماليك الملك الظاهر برقوق كان أكثرهم قد حاز من هذا الفنّ طرفا جيّدا، وصار فيهم من يضرب بلعبه المثل، وهم جماعة كثيرة يطول الشرح فى ذكرهم، ومع هذا أحدث معلّمو زماننا هذا أشياء لم يعهدوها أولئك من تغيير القبض على الرمح فى مواطن كثيرة فى اللّعب، حتى إنّ لعب زماننا هذا يكاد أنّه يخالف لعب أولئك فى غالب قبوضاتهم وحركاتهم. وهذا أكبر شاهد لى على ما نقلته من أمر المحمل، وتعداد فنونه، وكثرة ميادينه، واختلاف
أسمائها لتغيير لعب الرمح فى هذه المدّة اليسيرة من صفة إلى أخرى، فكيف وهذا الذي ذكرناه من ابتداء السوق من سنة إحدى وثمانين وستمائة! فمن باب أولى تكون زيادات أنواع سوق المحمل أحقّ بهذا لطول السنين، ولكثرة من باشره من المعلّمين الأستاذين، ولتغير الدّول، ولمحبّة الملوك وتعظيمهم لهذا الفن، ولإنفاق سوق من كان حاذقا فى هذا الفن. وقد صنّفت أنا ثمانية ميادين كلّ واحد يخالف الآخر فى نوعه لم أسبق إلى مثلها قديما ولا حديثا، لكنّنى لم أظهرها لكساد هذا الفنّ وغيره فى زماننا هذا، ولعدم الإنصاف فيه وكثرة حسّاده ممّن يدّعى فيه المعرفة وهو أجنبىّ عنها، لا يعرف اسم نوع من أندابه «1» على جليّته بل يدّعيه جهلا، ويقوى على دعواه بالشّوكة والعصبيّة. ولله درّ القائل:
أيّها المدّعى سليمى كفاحا
…
لست منها ولا قلامة ظفر
إنّما أنت من سليمى كواو
…
ألحقت فى الهجاء ظلما بعمرو
وشاهدى أيضا قول العلّامة جار «2» الله محمود الزّمخشرىّ وأجاد، رحمه الله تعالى:
وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا
…
على «3» أنّهم لا يعلمون وأعلم
ومذ أفلح الجهّال أيقنت «4» أنّنى
…
أنا الميم والأيام أفلح أعلم
قلت: وتفسير الأفلح هو مشقوق الشّفة العليا، والأعلم مشقوق الشّفة السّفلى، وفائدة ذلك أن مشقوق الشفتين العليا والسّفلى لا يقدر أن يتلفّظ بالميم ولا ينطق بها. فانظر إلى حسن هذا التخيّل والغوص على المعانى.
وما أحسن قول الإمام العلّامة القاضى «1» الفاضل عبد الرحيم وزير السلطان صلاح الدّين، وهو:
ما ضرّ جهل الجاهلي
…
ن ولا انتفعت أنا بحذقى
وزيادة فى الحذق فه
…
ى زيادة فى نقص رزقى
وقول الشّريف «2» الرّضى فى المعنى:
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه
…
ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك من دهرى على حنق
…
فزاد ما بك فى غيظى على الزمن
وفى المعنى:
كم فاضل فاضل أعيت مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الألباب حائرة
…
وصيّر العالم النّحرير زنديقا
قلت: ويعجبنى المقالة السادسة عشرة من كتاب «أطباق الذهب» للعلّامة شرف الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «3» ، وهى:
«طبع الكريم لا يحتمل حمة «4» الضّيم، وهواء الصيف لا يقبل غمّة الغيم؛ والنّبيل يرضى النّبال والحسام، ويأبى أن يسام «5» ؛ ولأن يقتل صبرا، ويودع قبرا؛ أحبّ إليه من أن يصيبه نشّاب الجفاء، من جفير «6» الأكفاء؛ يهوى المنيّة، ولا يرضى الدّنيّة؛ يستقبل السيف، ولا يقبل الحيف؛ إن سيم أخذته الهزّة، وإن ضيم أخذته
العزّة؛ إن عاشرته سال عذبا، وإن عاسرته سلّ عضبا «1» ؛ إن شاربته تخمّر، وإن حاربته تنمّر؛ يرى العزّ مغنما، والذّل مغرما، وكان كأنف اللّيث لا يشتمّ مرغما!.
فيا هذا كن فى الدنيا مىّ الأنف منيع الجناب، أبىّ النفس طرير «2» النّاب؛ ولا تصحب الدنيا صحبة بعال «3» ، ولا تنظر إلى أبنائها إلّا من عال؛ ولا تخفض جناحك لبنيها، ولا تضعضع ركنك لبانيها؛ ولا تمدّن عينيك إلى زخارفها، ولا تبسط يدك إلى مخارفها؛ وكن من الأكياس، واتل على اللّئام سورة الناس «4» ، ولا تصعّر خدّك للناس» . انتهى.
قلت: وقد خرجنا عن المقصود غير أنّنا وجدنا المقال فقلنا. ولنعد إلى ما نحن فيه من ترجمة الملك المنصور قلاوون.
ودام السلطان الملك المنصور بديار مصر إلى سنة ثلاث وثمانين وستمائة، توفّى صاحب حماة الملك المنصور محمد الأيّوبىّ، فأنعم السلطان الملك المنصور على ولده بسلطنة حماة، وولّاه مكان والده المنصور. ثم تجهّز السلطان فى السنة المذكورة وخرج من الديار المصريّة بعسكره متوجّها إلى الشام فى أواخر جمادى الأولى، وسار حتى دخل دمشق فى ثانى عشر جمادى الآخرة، وأقام بدمشق إلى أن عاد إلى جهة الديار المصريّة فى الثّلث الأخير من ليلة السبت ثالث عشرين شعبان، وسار حتى دخل مصر فى النصف من شهر رمضان، وأقام بديار مصر إلى أوّل سنة أربع وثمانين وستمائة تجهّز وخرج منها بعساكره إلى جهة الشام، وسافر حتى دخل دمشق يوم السبت ثانى عشرين المحرّم من السنة المذكورة، وعرض العسكر الشامى عدّة أيّام، وخرجوا جميعا قاصدين المرقب فى يوم الاثنين ثانى صفر. وكان
قد بقى فى يد سنقر الأشقر قطعة من البلاد، منها: بلاطنس وصهيون وبرزيه وغير ذلك، وكان عمل السلطان فى الباطن انتزاع ما يمكن انتزاعه من يد سنقر الأشقر المذكور وإفساد نوّابه. فاتّفق الحال بين نوّاب السلطان وبين نوّاب سنقر الأشقر على تسليم بلاطنس فسلّمت فى أوّل صفر. ووافى السلطان البشرى بتسليمها وهو على عيون القصب فى توجّهه إلى حصار المرقب فسرّ بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب؛ وكان فى نفس السلطان من أهل المرقب لما فعلوا مع عسكره ما فعلوا فى السنين الماضية، فنازل السلطان حصن المرقب فى يوم الأربعاء عاشر صفر، وشرع العسكر فى عمل الستائر والمجانيق. فلمّا انتهت الستائر التى للمجانيق حملتها المقاتلة لباب الحصن، فسقطت السّتارة إلى بركة كبيرة كان عليها جماعة من أصحاب الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ، منهم شمس الدين سنقر أستاداره وعدّة من مماليكه فاستشهدوا جميعهم، رحمهم الله تعالى.
ثمّ فى يوم الأحد «1» رابع عشره، حضر رسل الفرنج من عند ملكهم الإسبتار، وسألوا السلطان الصّلح والأمان لأهل المرقب على نفوسهم وأموالهم ويسلّمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وكملّ نصب المجانيق ورمى بها وشعّث الحصن وهدم معظم أبراجه واستمرّ الحال إلى سادس عشر شهر ربيع الأوّل، زحف السلطان على الحصن فأذعن من فيه بالتسليم؛ وحصلت المراسلة فى معنى ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأوّل المذكور سلّم، ورفعت عليه الأعلام الإسلاميّة ونزل من به بالأمان على أرواحهم فركبوا، وجهّز معهم من أوصلهم إلى أنطرطوس. [و «2» ] بالقرب من هذا الحصن [مرقيّة «3» ] وهى بلدة صغيرة على البحر، وكان
صاحبها قد بنى فى البحر برجا «1» عظيما لا يرام ولا تصله النّشّاب ولا حجر المنجنيق وحصّنه؛ واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان بطلب مراضيه، فآقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيرا من الجبيليّين «2» الذين كانوا مع صاحب جبيل «3» فأحضر من بقى منهم فى قيد الحياة واعتذر عن هدم البرج بأنّه ليس له، ولا هو تحت حكمه؛ فلم يقبل السلطان اعتذاره وصمّم على طلبه منه، فقيل: إنّه اشتراه من صاحبه
بعدّة قرى وذهب كثير، ودفعه إلى السلطان، فأمر بهدمه فهدم واستراح الناس منه. وحصل الاستيلاء فى هذه الغزوة على المرقب وأعماله ومرقيّة. والمرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة وهو كبير جدا، ولم يفتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح، فأبقاه السلطان الملك المنصور بعد أن أشير عليه بهدمه، ورمّم شعثه واستناب فيه بعض أمرائه ورتّب أحواله. وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار.
ولمّا كان السلطان الملك المنصور على حصار المرقب جاءته البشرى بولادة ولده «الملك الناصر محمد بن قلاوون» ، فمولد الملك الناصر محمد هذه السنة، فيحفظ إلى ما يأتى ذكره فى ترجمته، إن شاء الله تعالى، فإنّه أعظم ملوك الترك بلا مدافعة.
ولمّا فتح السلطان الملك المنصور المرقب عملت الشعراء فى ذلك عدّة قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثّناء محمود، وهى قصيدة طنّانة أوّلها:
الله أكبر هذا النّصر والظّفر
…
هذا هو الفتح لا ما تزعم السّير
هذا الذي كانت «1» الآمال إن طمحت
…
إلى الكواكب ترجوه وتنتظر
فانهض وسر واملك الدّنيا فقد نحلت
…
شوقا منابرها وارتاحت السّرر
كم رام قبلك هذا الحصن من ملك
…
فطال عنه وما فى باعه قصر
وكيف تمنحه الأيّام مملكة
…
كانت لدولتك الغرّاء تدّخر
وكيف يسمو إليها من تأخّر عن
…
إسعاده «2» منجداك القدر والقدر
غرّ العدا منك حلم تحته همم
…
لأشقر البرق من تحجيلها غرر
لها وإن أشبهت لطف النّسيم سرى
…
معنى العواصف لا تبقى ولا تذر
أوردتها المرقب العالى وليس سوى
…
ماء المجرّة فى أرجائها نهر
كأنّه وكأنّ الجوّ يكنفه
…
وهم تمثّله فى طيّها الفكر
يختال كالغادة العذراء قد نظمت
…
منه مكان اللآلى الأنجم الزّهر
له الهلال سوار والسّها شنف
…
والقلب «1» قلب ومسودّ الدّجى طرر
تعلو الرياح إليه كى تحيط به «2»
…
[خبرا] وتدنو وما فى ضمنها خبر
ويومض البرق يهفو نحوه ليرى
…
أدنى رباه ويأتى وهو معتذر
وليس يروى بماء السّحب مصعدة
…
إليه من فيه إلّا وهو منحدر
ومنها:
وأضرمت حوله نار لها لهب
…
من السّيوف ومن نبل الوغى شرر
ومنها:
كأنّها ومجانيق الفرنج لها
…
فرائس الأسد فى أظفارها الظّفر
وكم شكا الحصن ما يلقى فما اكترثت
…
يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وللنقوب دبيب فى مفاصله
…
تثير سقما ولا يبدو له أثر
أضحى به مثل صبّ لا تبين به
…
نار الهوى وهى «3» فى الأحشاء تستعر
ومنها:
ركبت فى جندك الأولى إليه ضحا
…
والنصر يتلوك منه جندك الأخر
قد زال تجلى قواه عن قواعده
…
وخرّ أعلاه نحو الأرض يبتدر
وساخ وانكشفت أقباؤه وبدا
…
لديك من مضمرات النصر ما ستروا
فمال يهوى إليهم كلّ ليث وغى
…
له من البيض ناب والقنا ظفر
ومنها بعد أبيات كثيرة براعة المقطع:
إن لم يوفّ الورى بالشكر ما فتحت
…
يداك فالله والأملاك قد شكروا
ثم سار الملك المنصور قلاوون من المرقب إلى دمشق وأقام بها أياما، ثم خرج منها عائدا إلى نحو الديار المصريّة فى بكرة الاثنين ثانى عشر جمادى الأولى؛ فدخل الديار المصريّة فى أوائل شهر رجب.
ولمّا دخل القاهرة وأقام بها أخذ فى عمل أخذ الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ حتى أخذت، وورد عليه الخبر بأخذها فى ليلة الجمعة سابع صفر [سنة «1» خمس وثمانين وستمائة] ودقّت البشائر بالديار المصريّة ثلاثة أيام.
ثمّ فى سنة ستّ وثمانين وستمائة جهّز السلطان طائفة من العسكر بالديار المصريّة صحبة الأمير حسام الدين طرنطاى إلى الشام لحصار صهيون وبرزيه وانتزاعهما من يد سنقر الأشقر، فسار حسام الدين المذكور بمن معه حتى وصل دمشق فى أثناء المحرّم، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاچين نائب الشام، وتوجّه الجميع إلى صهيون بالمجانيق فوصلوها وشرعوا فى حصارها؛ وكان سنقر الأشقر قد استعدّ لهم وجمع إلى القلعة خلقا كثيرا؛ فحاصروه أيّاما، ثم بعد ذلك توجّه الأمير حسام الدين إلى برزيه وحصرها واستولى عليها، وهى ممّا يضرب المثل بحصانتها. ولمّا فتحها وجد فيها خيولا لسنقر الأشقر. ولمّا فتحت برزيه لانت عريكة سنقر الأشقر،
وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها، فأجابه طرنطاى إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهرا واحدا، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وحضر بنفسه وأولاده وأثقاله وأتباعه إلى دمشق. ثم توجّه إلى الديار المصريّة صحبة طرنطاى المذكور ووفّى له بجميع ما حلف عليه؛ ولم يزل يذبّ عنه أيام حياته أشدّ ذبّ. وأعطى السلطان لسنقر الأشقر بالديار المصريّة خبز مائة فارس، وبقى وافر الحرمة إلى آخر أيام الملك المنصور قلاوون. وانتظمت صهيون وبرزيه فى سلك الممالك المنصورية.
ثم خرج الملك المنصور من الديار المصرية قاصدا الشام فى يوم سابع عشرين شهر رجب سنة ستّ وثمانين وسار حتى وصل غزّة أقام بتلّ العجول «1» أياما إلى شوّال، ثم رجع إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين ثالث عشرين شوّال، ولم يعلم أحد ما كان غرضه فى هذه السّفرة. وفى شوّال هذا سلطن الملك المنصور ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليلا وجعله مكان أخيه الملك الصالح علاء الدين علىّ بعد موته، ودقّت البشائر لذلك سبعة أيام بالديار المصرية وغيرها، وحلف الناس له والعساكر، وخطب له بولاية العهد.
ثمّ فى سنة ثمان وثمانين وستّمائة فتحت طرابلس، وهو أنّ صاحب طرابلس كان وقع بينه وبين سير تلميه «2» الفرنجىّ، وكان من أصحاب صاحب
الحصن «1» الذي أخربه صاحب طرابلس رضاء للملك المنصور قلاوون حسب ما تقدّم ذكره.
فحصلت بينه وبين صاحب طرابلس وحشة بسبب ذلك، واتّفق موت صاحب الحصن، وسأل سير تلميه من السلطان الملك المنصور المساعدة، وأن يتقدّم للأمير «2» بلبان الطّبّاخى السّلحدار أن يساعده على تملّك طرابلس، على أن تكون مناصفة، وبذل فى ذلك بذولا كثيرة، فسوعد إلى أن تمّ له مراده، ورأى أنّ الذي بذله للسلطان لا يوافقه الفرنج عليه، فشرع فى باب التّسويف والمغالطة ومدافعة الأوقات؛ فلمّا علم السلطان باطن أمره عزم على قتاله قبل استحكام أمره، فتجهّز وخرج من الديار المصريّة بعساكره لحصار طرابلس، وسار حتّى وصل دمشق وأقام بها، ثم تهيّأ وخرج منها، ونازل طرابلس فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل، ونصب عليها المجانيق وضايقها مضايقة شديدة إلى أن ملكها بالسيف فى الرابعة من نهار الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، وشمل القتل والأسر لسائر من كان بها، وغرق منهم فى الماء جماعة كثيرة، ونهب من الأموال والذخائر والمتاجر وغير ذلك ما لا يوصف، ثم أحرقت وخرّب سورها، وكان من أعظم الأسوار وأمنعها. ثم تسلّم حصن أنفة «3» وكان أيضا لصاحب طرابلس
فأمر السلطان بتخريبه، ثم تسلّم السلطان البترون وجميع ما هناك من الحصون.
وكان لطرابلس مدّة طويلة بأيدى الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن.
قلت: وكان فتح طرابلس الأوّل فى زمن معاوية بن أبى سفيان، رضى الله عنه، وتنّقلت فى أيدى الملوك، وعظمت فى زمن بنى عمّار قضاة طرابلس وحكّامها. فلمّا كان فى آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج فى الشام واستولوا على البلاد فامتنعت عليهم طرابلس مدّة حتّى ملكوها بعد أمور فى سنة ثلاث وخمسمائة، واستمرّت فى أيديهم إلى أن فتحها الملك المنصور قلاوون فى هذه السنة.
وقال شرف الدين محمد بن موسى المقدسىّ الكاتب فى «السّيرة المنصوريّة» :
إن طرابلس كانت عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومى، وكان فتحها على يد سفيان بن مجيب «1» الأزدىّ، بعثه لحصارها معاوية بن أبى سفيان فى خلافة عثمان بن عفّان، رضى الله عنه، انتهى كلام شرف الدين باختصار.
قلت: وأما طرابلس القديمة كانت من أحسن المدن وأطيبها، ثمّ بعد ذلك اتخذوا مكانا على ميل من البلدة وبنوه مدينة صغيرة بلا سور، فجاء مكانا ردىء الهوى والمزاج من الوخم. انتهى.
ولمّا فتحت طرابلس كتبت الشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم، ودقّت البشائر والتهانى وزيّنت المدن وعملت القلاع فى الشوارع وسرّ الناس بهذا النصر غاية السّرور. وأنشأ فى هذا المعنى القاضى تاج الدين ابن الأثير كتابا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرّفه بهذا الفتح العظيم وبالبشارة به. وأوّله:
[بسم «1» الله الرحمن الرحيم أعزّ الله] نصر المقام العالىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الشمسىّ. ثم استطرد وحكى أمر الفتح وغيره إلى أن قال فأحسن فيما قال: وكانت الخلفاء والملوك فى ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكبّ على مجلس أنسه؛ يرى السلامة غنيمة، وإذا عنّ له وصف الحرب لم يسأل [منها «2» إلا] عن طرق الهزيمة؛ قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع [من «3» ملكه كما يقال با] لسكة والخطبة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب؛ لا يبالون «4» بما سلبوا، وهم كما قيل:
إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا
…
أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا
إلى أن أوجد الله من نصر دينه، وأذلّ الكفر وشياطينه «5» . انتهى.
قلت: والكتاب هذا خلاصته والذي أعجبنى منه.
وعمل الشعراء فى هذا الفتح عدّة قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثّناء محمود كاتب الدّرج المقدّم ذكره يمدح الملك المنصور قلاوون ويذكر فتحه طرابلس، والقصيدة أولها:
علينا لمن أولاك نعمته الشكر
…
لأنّك للإسلام يا سيفه ذخر
ومنّا لك الإخلاص فى صالح الدّعا
…
إلى من له فى أمر نصرتك الأمر
ولله فى إعلاء ملكك فى الورى
…
مراد وفى التأييد يوم الوغى سرّ
ألا هكذا يا وارث الملك فليكن
…
جهاد العدا لا ما توالى به الدّهر
ومنها:
نهضت إلى عليا طرابلس التى
…
أقلّ عناها أنّ خندقها البحر
والقصيدة «1» طويلة كلّها على هذا المنوال، أضربت عنها خوف الإطالة. انتهى.
ثم عاد الملك المنصور إلى الديار المصريّة فى جمادى الآخرة من السنة، واستمرّ بالقاهرة إلى أوّل سنة تسع وثمانين وستمائة، جهّز الأمير حسام الدين طرنطاى كافل الممالك الشاميّة إلى بلاد الصّعيد، ومعه عسكر جيّد من الأمراء والجند، فسكّن تلك النواحى وأباد المفسدين وأخذ خلقا عظيما من أعيانهم رهائن، وأخذ جميع أسلحتهم وخيولهم، وكان معظم سلاحهم السيوف والحجف «2» والرماح، وأحضروا إلى السلطان من ذلك عدّة أحمال، ففرّق السلطان من الخيول والسلاح فيمن أراد من الأمراء والجند وأودع الرهائن الحبوس.
وفى هذه السنة أيضا عاد الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم من غزو بلاد السودان بمغانم كثيرة ورقيق كثير من النساء والرجال وفيل صغير.
ثم فى هذه السنة أيضا رسم السلطان ألّا يستخدم أحد من الأمراء وغيرهم فى دواوينهم أحدا من النصارى واليهود وحرّض على ذلك، فامتثل ذلك الأمراء جميعهم.
وفى هذه السنة عزم السلطان الملك المنصور على الحجّ فبلغه خبر فرنج عكّا، ففتر عزمه وتهيّأ للخروج إلى البلاد الشاميّة، ورأى أن يقدّم غزوهم والانتقام على الحجّ؛ وأخذ فى تجهيز العساكر والبعوث، وضرب دهليزه خارج القاهرة، وباب الدهليز إلى
جهة عكّا. وخرج من القاهرة إلى مخيّمه وهو متوعّك لأيام خلت من شوّال، ولا زال متمرّضا بمخيّمه عند مسجد «1» التبن خارج القاهرة إلى أن توفّى به فى يوم السبت سادس ذى القعدة من سنة تسع وثمانين وستمائة، وحمل إلى القلعة ليلة الأحد.
وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل الذي كان عهد له بالسلطنة قبل تاريخه حسب ما ذكرناه. وكثر أسف الناس عليه.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى «تاريخ الإسلام» بعد ما سماه ولقّبه قال: اشترى بألف دينار، ولهذا كان فى حال إمرته يسمّى بالألفىّ، وكان من أحسن الناس صورة فى صباه، وأبهاهم وأهيبهم فى رجوليّته، كان تامّ الشكل مستدير اللّحية قد وخطه الشّيب، على وجهه هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار، رأيته مرات آخرها منصرفه من فتح طرابلس. وكان من أبناء الستين. ثم قال: وحدّثنى أبى أنه كان معجم اللسان لا يكاد يفصح بالعربية، وذلك لأنه أتى به من بلاد التّرك وهو كبير. ثم قال بعد كلام آخر:
وعمل بالقاهرة ببين القصرين تربة عظيمة ومدرسة كبيرة، قال: وبيمارستانا للمرضى «2» .
قلت: ومن عمارته البيمارستان المذكور وعظم أوقافه تعرّف همّته، ونذكر عمارة البيمارستان إن شاء الله تعالى بعد ذلك. انتهى.
وقال غيره: وكان يعرف أيضا قلاوون الآقسنقرىّ الكاملىّ الصالحىّ النّجمىّ، لأن الأمير آق سنقر الكاملى كان اشتراه من تاجره بألف دينار، ثم مات الأمير آق سنقر المذكور بعد مدّة يسيرة، فارتجع هو وخشداشيته إلى الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى سنة سبع وأربعين وستمائة، وهى السنة التى مات فيها الملك الصالح أيّوب، وهذا القول هو الصحيح فى أصل مشتراه.
قلت: ولمّا طلع الملك المنصور قلاوون إلى قلعة الجبل ميّتا، أخذوا فى تجهيزه وغسله وتكفينه إلى أن تمّ أمره، وحملوه وأنزلوه إلى تربته ببين القصرين فدفن بها. وكانت مدّة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر، رحمه الله تعالى، وكان سلطانا كريما حليما شجاعا مقداما عادلا عفيفا عن سفك الدماء مائلا إلى فعل الخير والأمر بالمعرف، وله مآثر كثيرة:
منها البيمارستان الذي أنشأه ببين القصرين، وتمّم عمارته فى مدة يسيرة، وكان مشدّ عمارته الأمير علم الدين «1» سنجر الشّجاعىّ المنصورى وزير الديار المصرية ومشدّ
دواوينها، ثمّ ولى نيابة دمشق ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قلائل، ولمّا كمل عمارة الجميع امتدحه معين الدين «1» بن تولوا بقصيدة أوّلها:
أنشأت مدرسة ومارستانا
…
لتصحّح الأديان والأبدانا
قلت: وهذا البيمارستان وأوقافه وما شرطه فيه لم يسبقه إلى ذلك أحد قديما ولا حديثا شرقا ولا غربا. وجدّد عمارة قلعة حلب وقلعة كركر «2» وغير موضع.
وأمّا غزواته فقد ذكرناها فى وقتها. وجمع من المماليك خلقا عظيما لم يجمعهم أحد قبله، فبلغت عدّتهم اثنى عشر ألفا، وصار منهم الأمراء الكبار والنوّاب، ومنهم من تسلطن من بعده على ما يأتى ذكره. وتسلطن أيضا من ذريّته سلاطين كثيرة آخرهم الملك المنصور حاجّىّ الذي خلعه الملك الظاهر برقوق. وأعظم من هذا أنّه من تسلطن من بعده من يوم مات إلى يومنا هذا، إمّا من ذريته، وإمّا من مماليكه أو مماليك مماليك أولاده وذريّته، لأنّ يلبغا مملوك السلطان حسن، وحسن ابن محمد بن قلاوون، وبرقوق مملوك يلبغا، والسلاطين بأجمعهم مماليك برقوق وأولاده. انتهى. وكان من محاسن الملك المنصور قلاوون أنّه لا يميل إلى جنس بعينه بل كان ميله لمن يتخيّل فيه النّجابة كائنا من كان.
قلت: ولهذا طالت مدّة مماليكه وذرّيته باختلاف أجناس مماليكه، وكانت حرمته عظيمة على مماليكه لا يستطيع الواحد منهم أن ينهر غلامه ولا خادمه خوفا
منه، ولا يتجاهر أحد منهم بفاحشة، ولا يتزوّج إلا إن زوّجه هو بعض جواريه؛ هذا مع كثرة عددهم.
قلت رحمه الله تعالى: لو لم يكن من محاسنه إلّا تربية مماليكه وكفّ شرّهم عن الناس لكفاه ذلك عند الله تعالى، فإنّه كان بهم منفعة للمسلمين، ومضرّة للمشركين وقيامهم فى الغزوات معروف، وشرّهم عن الرعيّة مكفوف؛ بخلاف زماننا هذا، فإنّه مع قلّتهم وضعف بنيتهم وعدم شجاعتهم، شرّهم فى الرّعية معروف، ونفعهم عن الناس مكفوف؛ هذا مع عدم التجاريد والتقاء الخوارج وقلّة الغزوات، فإنّه لم يقع فى هذا القرن، وهو القرن التاسع، لقاء مع خارجىّ غير وقعة تيمور، وافتضحوا منه غاية الفضيحة، وسلّموا البلاد والعباد وتسحّب أكثرهم من غير قتال.
وأمّا الغزوات فأعظم ما وقع فى هذا القرن «1» فتح قبرس «2» ، وكان النصر فيها من الله سبحانه وتعالى، انكسر صاحبها وأخذ من جماعة يسيرة، تلقّاهم بعض
عساكره. خذلان من الله تعالى! وقع ذلك كلّه قبل وصول غالب عسكر المسلمين.
وأمّا غير ذلك من الغزوات فسفر فى البحر ذهابا وإيابا، فكيف لو كان هؤلاء أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب عند ما غزا الساحل، وغاب عن الديار المصريّة نحو العشر سنين، لا يفارق فيها الخيم والتّشتّت عن الأوطان واتّصال الغزوة بالغزوة! أو لو كانوا أيّام الملك الكامل محمد لمّا قاتل الفرنج على دمياط نحو الثلاث سنين لم يدخل فيها مصر إلى أن فتح الله عليه، أو لو كانوا أيّام الملك الظاهر بيبرس وهو يتجرّد ويغزو فى السنة الواحدة المرّة والمرّتين والثلاث وهلمّ جرّا! إلى أيّام الملك الأشرف شعبان بن حسين لمّا أخذت الإسكندرية. وهذا شىء معروف لا يشاحّ فيه أحد. وأعجب من هذا كلّه أنّ أولئك كانوا على حظّ وافر من الأدب والحشمة والتواضع مع الأكابر، وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن هو دونهم، وهؤلاء است فى الماء وأنف فى السماء، لا يهتدى أحدهم لمسك لجام الفرس، وإن تكلّم تكلّم بنفس؛ ليس لهم صناعة، إلّا نهب البضاعة؛ يتقوّون على الضعيف، ويشرهون حتّى فى الرّغيف؛ جهادهم الإخراق بالرئيس، وغزوهم فى التّبن والدريس؛ وحظّهم منقام، ولا مروءة لهم والسلام. انتهى.
قال ابن كثير فى حقّ الملك المنصور قلاوون المذكور: اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيّوب من الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب بألف دينار، فلذلك سمّى بالألفىّ.
قلت: وهذا بخلاف ما نقله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنّما هو الأمير آق سنقر الكاملىّ، والأرجح عندى ما قاله الصّفدىّ فى أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنما هو الأمير آق سنقر من وجوه عديدة.
قال ابن كثير أيضا: وكان الملك المنصور قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك من الأمراء والجراكسة وجعلهم بالقلعة، وسمّاهم «البرجيّة» ، وأقام نوّابه فى البلدان من مماليكه، وهم الذين غيروا ملابس الدولة الماضية.
قال الصلاح الصّفدىّ: ولبسوا أحسن الملابس، لأنّ فى الدولة الماضية الصلاحيّة كان الجميع يلبسون كلّوتات «1» صفر مضرّبة بكلبندات «2» بغير شاشات «3» ،
وشعورهم مضفورة ديابيق «1» فى أكياس حرير ملوّنة، وكان فى خواصرهم موضع الحوائص «2» بنود ملوّنة أو بعلبكّية، وأكمام أقبيتهم «3» ضيّقة على زى ملابس الفرنج، وأخفافهم برغالى «4» أو سقامين «5» ومن فوق قماشهم كمرات «6» بحلق وإبزيم «7» ، وصوالقهم «8» كبار يسع كلّ صولق نصف ويبة أو أكثر، ومنديلهم كبير طوله ثلاث أذرع، فأبطل المنصور ذلك كلّه بأحسن منه، وكانت الخلع للأمراء المقدّمين المروزىّ،
فخصّص الملك المنصور من الأمراء بلبس الطّرد وحش «1» أربعة من خشداشيته، وهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن ولقّب بالملك الكامل والبيسرى والأيدمرىّ والأفرم. وباقى الأمراء والخاصّكيّة والبرّانيّة تلبس المروزىّ والطبلخانات بالملّون، والعشرات بالعتّابى «2» .
قلت: وهذا أيضا بخلاف زماننا فإنّه لبس فيه أوباش الناس الخلع السّنيّة، وأعجب من هذا أنّه لمّا لبس هؤلاء الخلع السّنيّة زالت تلك الأبّهة والحشمة عن الخلع المذكورة وصارت كمن دونها من الخلع فى أعين الناس لمعرفتهم بمقام اللابس. انتهى.
قلت: والآن نذكر ما وعدنا بذكره فى أوائل ترجمة الملك المنصور قلاوون من أمر كتّاب السّرّ، لأنّه هو الذي أحدث هذه الوظيفة وسمّى صاحبها بكاتب السّرّ على ما نبيّنه من أقوال كثيرة:
منها أنّه لمّا كان أيّام الملك الظاهر بيبرس كان الدّوادار يوم ذاك بلبان بن عبد الله الرومى. قال الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ: كان من أعيان الأمراء (يعنى عن بلبان المذكور) ومن نجبائهم، وكان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه ويحمّله أسراره إلى القصّاد. ولم يؤمّره إلا الملك السعيد ابن الملك الظاهر بيبرس.
واستشهد بمصافّ حمص سنة ثمانين وستمائة، وكان يباشر وظيفة الدّواداريّة ولم يكن معه كاتب سرّ، فاتّفق أنّه قال يوما لمحيى الدين بن عبد الظاهر: اكتب إلى فلان مرسوما أن يطلق له من الخزانة العالية بدمشق عشرة آلاف درهم، نصفها عشرون ألفا، فكتب المرسوم كما قال له وجهّزه إلى دمشق، فأنكروه وأعادوه إلى السلطان، وقالوا: ما نعلم! هل هذا المرسوم بعشرين نصفها عشرة أو بعشرة نصفها خمسة؟ فطلب السلطان محيى الدين وأنكر عليه ذلك، فقال: يا خوند، هكذا قال لى الأمير سيف الدين بلبان الدّوادار؛ فقال السلطان: ينبغى أن يكون للملك كاتب سرّ يتلقّى المرسوم منه شفاها. وكان الملك المنصور قلاوون حاضرا من جملة الأمراء فسمع هذا الكلام. وخرج الملك الظاهر عقيب ذلك إلى نوبة أبلستين، فلمّا توفّى الملك الظاهر وملك الملك المنصور قلاوون اتّخذ كاتب سرّ. انتهى.
كلام الصّفدىّ باختصار.
قلت: وفى هذه الحكاية دلالة على أن وظيفة كتابة السرّ لم تكن قبل ذلك أبدا، لقوله: ينبغى للملك أن يكون له كاتب سرّ يتلقّى المرسوم منه شفاها. وأيضا تحقيق ما قلناه: أنّ وظيفة كتابة السرّ لم تكن قديما، وإنّما كانت الملوك لا يتلقّى الأمور عنهم إلّا الوزراء.
قضية فخر الدين بن لقمان مع القاضى فتح الدين محمد بن عبد الظاهر فى الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون، وهو أنه لمّا توزّر فخر الدين بن لقمان قال له الملك المنصور:
من يكون عوضك فى الإنشاء؟ قال: فتح الدين بن عبد الظاهر، فولّى فتح الدين وتمكّن عند السلطان وحظى عنده؛ وفتح الدين هذا هو الذي قلنا عنه فى أوّل الكتاب إنه أوّل كاتب سرّ كان، وظهر اسم هذه الوظيفة من ثمّ. انتهى. وحظى فتح الدين
عند السلطان إلى الغاية. فلمّا كان بعض الأيام دخل فخر الدين بن لقمان على السلطان فأعطاه السلطان كتابا يقرؤه، فلمّا دخل فتح الدين أخذ السلطان الكتاب منه وأعطاه لفتح الدين، وقال لفخر الدين: تأخّر! فعظم ذلك على فخر الدين بن لقمان.
قلت: ولولا أنّ هذه الواقعة خرق العادة ما غضب ابن لقمان من ذلك، لأنّ العادة كانت يوم ذاك لا يقرأ أحد على السلطان كتابا بحضرة الوزير. انتهى.
ومنها واقعة القاضى فتح الدين المذكور مع شمس «1» الدين ابن السّلعوس لمّا ولى الوزارة للملك الأشرف خليل بن قلاوون، فإنّه قال لفتح الدين: اعرض علىّ كلّ ما تكتبه عن السلطان كما هى العادة، فقال فتح الدين: لا سبيل إلى ذلك، فلما بلغ الملك الأشرف هذا الخبر من الوزير المذكور، قال: صدق فتح الدين، فغضب من ذلك الوزير ابن السّلعوس.
قلت: وعندى دليل آخر أقوى من جميع ما ذكرته، أنّه لم أقف على ترجمة رجل فى الإسلام شرقا ولا غربا نعت بكاتب السرّ قبل فتح الدين هذا، وفى هذا كفاية. وما ذكره صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتبوا للنبىّ صلى الله عليه وسلم ومن بعده ليس فى ذلك دليل على أنّهم كتّاب السّرّ؛ بل ذلك دليل لكلّ كاتب كتب عن مخدومه كائنا من كان. ونحن أيضا نذكر الذين ذكرهم صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب، ونذكر أيضا من ألحقناه بهم من كتّاب السّرّ إلى يومنا هذا، ليعلم بذلك صدق مقالتى بذكرهم وألقابهم وزمانهم. انتهى. قال: اعلم أنّ كتّاب النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، كانوا نيّفا على ستة وثلاثين كاتبا، لكن المشهور منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية بن أبى سفيان ومروان بن الحكم.
قلت: وفى مروان خلاف، لأنّ الحافظ أبا عبد الله الذهبىّ قال فى ترجمة مروان بن الحكم: له رؤية إن شاء الله، ولم يعدّه من الصحابة، فكيف يكون من الكتّاب! وأيضا حذف جماعة من كبار الصحابة كتّاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأثبت مروان هذا، وفى صحبته خلاف. ولولا خشية الإطالة لذكرنا من ذكره الحافظ العلامة مغلطاى «1» ممّن كتب للنبىّ صلى الله عليه وسلم ليعلم بذلك غلط من عدّ مروان من الكتّاب. انتهى. قال: ولمّا توفّى النّبيّ، صلى الله عليه وسلم وصارت الخلافة إلى أبى بكر كتب عنه عمر بن الخطّاب وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم. فلمّا استخلف عمر كتب عنه عثمان وعلىّ ومعاوية وعبد «2» الله بن خلف الخزاعىّ، وكان زيد بن ثابت «3» وزيد بن أرقم «4» يكتبان على بيت المال. فلمّا استخلف عثمان كتب عنه مروان بن الحكم. فلمّا استخلف علىّ كتب عنه عبد الله بن رافع مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسعيد بن نمران «5» . فلمّا استخلف الحسن كتب عنه كتّاب أبيه. فلمّا بايعوا معاوية كتب عنه عبد الله بن أوس، وكتب عبد الله المذكور عن ابنه يزيد أيضا، وابن أبيه معاوية بن يزيد. فلمّا خلع معاوية ابن يزيد نفسه وتولّى مروان بن الحكم كتب عنه سفيان «6» الأحول وقيل عبيد الله بن أوس.
فلمّا استخلف عبد الملك بن مروان كتب عنه روح بن زنباع الجذامىّ. فلما استخلف الوليد كتب عنه قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحّاك ابن زمل «7» . فلما استخلف سليمان كتب عنه يزيد بن المهلّب، ثم عبد العزيز بن
الحارث. فلما استخلف الإمام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه كتب عنه رجاء بن حيوة الكندىّ، ثم ابن أبى رقيّة «1» ؛ فلما استخلف يزيد بن عبد الملك كتب عنه سعيد بن الوليد الأبرش، ثم محمد بن عبد الله بن حارثة الأنصارىّ.
فلما استخلف هشام بن عبد الملك أبقاهما على عادتهما، واستكتب معهما سالما مولاه. فلما استخلف الوليد بن يزيد كتب عنه العباس بن مسلم. فلما استخلف يزيد بن الوليد كتب عنه ثابت بن سليمان. فلما استخلف «2» إبراهيم بن الوليد كتب عنه أيضا ثابت على عادته. فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد بن مروان كتب عنه عبد الحميد بن يحيى مولى بنى عامر إلى حين انقراض الدول الأمويّة. ثم صارت الخلافة لبنى العباس فاتخذوا كتّابهم وزراء، وكان أوّل خلفاء بنى العباس أبو العباس عبد الله ابن محمد السفّاح فاتخذ أبا سلمة [حفص بن سليمان «3» ] الخلّال، وهو أوّل وزير وزر فى الإسلام؛ ثم استوزر معه [خالد «4» بن] برمك وسليمان بن مخلد والربيع بن يونس، فتراكمت عليهم الأشغال، واتّسعت عليهم الأمور، فأفردوا للمكاتبات ديوانا، وكانوا يعبّرون عنه تارة بصاحب ديوان الرسائل، وتارة بصاحب ديوان المكاتبات، وتفرّقت دواوين الإنشاء فى الأقطار، فكان بكلّ مملكة ديوان إنشاء؛ وكانت الديار المصريّة من حين الفتح الإسلامى وإلى الدولة الطّولونية إمارة، ولم يكن لديوان الإنشاء فيها كبير أمر. فلما استولى أحمد بن طولون عظمت مملكتها وقوى أمرها فكتب عنه أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود. وكتب لولده خمارويه إسحاق بن نصر
العبادىّ. وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى حين انقراض الدولة الإخشيدية.
ثم كانت الدولة الفاطمية فعظم ديوان الإنشاء بها، ووقع الاعتناء به واختيار بلغاء الكتّاب ما بين مسلم وذمّىّ، فكتب للعزير بن المعزّ فى الدولة الفاطمية أبو المنصور بن جورس «1» النّصرانىّ، ثم كتب لابنه الحاكم ومات فى أيامه، وكتب للحاكم بعده القاضى أبو الطاهر النهركىّ «2» . ثم تولى الظاهر بن الحاكم فكتب عنه أبو الطاهر المذكور. ثم تولى المستنصر فكتب عنه القاضى ولى الدين «3» بن خيران، وولىّ الدولة موسى بن الحسن بعد «4» انتقاله إلى الوزارة، وأبو «5» سعيد العميدىّ.
ثم تولى الآمر والحافظ فكتب عنهما الشيخ أبو الحسن علىّ بن أبى أسامة الحلبىّ إلى أن توفّى فى أيام الحافظ، فكتب بعده ولده أبو المكارم إلى أن توفّى، ومعه»
الشيخ أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علىّ بن سليمان بن منجب «7» المعروف بابن الصّيرفىّ، والقاضى كافى الكفاة محمود ابن القاضى الموفّق أسعد بن قادوس، وابن أبى الدّم اليهودىّ، ثم كتب بعد أبى المكارم «8» القاضى الموفّق بن الخلّال «9» بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد آخر خلفائهم، وبه تخرّج القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ.
ثم أشرك العاضد مع الموفّق بن الخلّال فى ديوان الإنشاء القاضى جلال الدين محمودا
الأنصارىّ. ثم كتب القاضى الفاضل بين يدى الموفّق بن الخلّال فى وزارة صلاح الدين يوسف بن أيّوب. ثم كانت الدولة الأيّوبية، فكتب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القاضى الفاضل المذكور، ثم أضيفت اليه الوزارة. ثم كتب بعد الناصر لابنه العزيز ولأخيه العادل أبى بكر، ثم مات العادل والفاضل.
قلت: هنا مجازقة لم يكتب القاضى الفاضل للعادل وكان بينهما مشاحنة، ومات الفاضل قبل وصول العادل إلى مصر، وقيل وقت دخول العادل من باب النصر إلى القاهرة كانت جنازة القاضى الفاضل خارجة. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى هذا الكتاب «1» ، وإنما كتب الفاضل للعزيز عثمان ولولده الملك المنصور محمد، فالتبس المنصور على الناقل بالعادل. انتهى.
قال: ثم تولّى الكامل بن العادل فكتب له أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدّرج إلى أن توفّى، فكتب له بعده الشيخ أمين الدين عبد المحسن [بن حمود «2» ] الحلبى مدّة قليلة؛ ثم كتب للصالح نجم الدين أيّوب، ثم ولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير، ثم صرف وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردىّ، فبقى إلى انقراض الدولة الأيّوبية. فلما كانت الدولة التركية كتب للمعز أيبك الصاحب فخر الدين المذكور، ثم بعده للمظفر قطز، ثم للظاهر بيبرس، ثم للمنصور قلاوون، ثم نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة، وولى ديوان الإنشاء مكانه القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر فكتب عنه بقية أيامه؛ ثم كتب لابنه الأشرف خليل إلى أن توفّى، فولّى مكانه القاضى تاج الدين [أحمد «3» ] بن الأثير فكتب إلى أن
توفّى؛ فكتب بعده القاضى شرف الدين عبد الوهاب «1» بن فضل الله فكتب بقية أيام الأشرف. فلما تولّى أخوه الناصر محمد كتب عنه القاضى شرف الدين المذكور فى سلطنته الأولى ثم فى أيام العادل كتبغا ثم أيام المنصور لاچين ثم فى أيام سلطنة الناصر محمد الثانية؛ ثم نقله إلى كتابة السّرّ بدمشق عوضا عن أخيه القاضى محيى الدين «2» ، وتولى مكانه بمصر القاضى علاء الدين [بن تاج الدين «3» ] بن الأثير فبقى حتى مرض بالفالج فاستدعى الملك الناصر محيى الدين بن فضل الله من دمشق وولده شهاب الدين [أحمد «4» ] وولّاهما «5» ديوان الإنشاء بمصر. ثم ولّى بعدهما القاضى شمس الدين «6» ابن الشهاب محمود فبقى إلى عود السلطان من الحجّ فأعاد القاضى محيى الدين وولده القاضى شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بمصر فبقيا مدّة. ثم تغيّر السلطان على القاضى شهاب الدين وصرفه عن المباشرة، وأقام أخاه القاضى علاء الدين «7» وكلاهما معين لوالده لكبر سنّه، ثم سأل القاضى محيى الدين السلطان فى العود إلى دمشق فأعاده وصحبته ولده شهاب الدين؛ واستمرّ ولده القاضى علاء الدين بالديار المصريّة فباشر بقيّة أيام الناصر، ثم أيّام ولده الملك المنصور «8» ، ثم أيام الأشرف كجك، ثم أيام الناصر أحمد إلى أن خلع نفسه وتوجّه إلى الكرك توجه معه القاضى علاء الدين؛ فلمّا تولّى الملك الصالح إسماعيل السلطنة
بمصر بعد أخيه الناصر أحمد قرّر القاضى بدر الدين محمد «1» ابن القاضى محيى الدين بن فضل الله عوضا عن أخيه علاء الدين.
قلت: لم يل بدر الدين محمد بعد أخيه علاء الدين الوظيفة استقلالا وإنّما ناب عنه إلى حين حضوره. انتهى.
قال: ثم أعيد علاء الدين أيّام الصالح إسماعيل وأيام الكامل شعبان، ثم أيام المظفّر حاجّى ثم أيّام الناصر حسن فى سلطنته الأولى، ثم فى أيّام الصالح صالح، ثم فى أيّام الناصر حسن فى سلطنته الثانية، ثم أيام المنصور محمد ابن المظفر حاجّى، ثم فى أيّام الأشرف شعبان «2» وتوفّى فى أيّامه.
قلت: وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بعد أن باشر كتابة السر نيّفا وثلاثين سنة لأحد عشر سلطانا.
قال: ثم ولى الوظيفة بعده ولده بدر الدين «3» محمد ابن القاضى علاء الدين، فباشر بقيّة أيام الأشرف شعبان، ثم ولده المنصور علىّ، ثم أخيه الملك الصالح حاجّى بن شعبان إلى أن خلع بالظاهر برقوق، فاستقرّ برقوق بالقاضى أوحد الدين عبد الواحد ابن إسماعيل التّركمانىّ «4» إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى ذى الحجة سنة ستّ وثمانين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد بدر الدين فباشر حتى خلع الظاهر برقوق بالمنصور حاجّىّ، فاستمر بدر الدين إلى أن عاد برقوق إلى سلطنته الثانية، صرفه بالقاضى علاء الدين على بن عيسى الكركى، ثم صرف الكركىّ.
قلت: ومات معزولا فى شهر ربيع الأوّل فى سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد القاضى بدر الدين من بعد عزل القاضى علاء الدين فاستمرّ بدر الدين إلى أن عاد برقوق فتوفّى بدمشق.
قلت: ووفاته فى شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة.
قال: وولى بعده القاضى بدر الدين محمود الكلستانىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
قال: فتولى بعده القاضى فتح الدين فتح الله [التّبريزىّ «1» ] فباشر بقية أيام الظاهر، ومدّة من أيام الناصر إلى أن صرفه الناصر فرج بالقاضى سعد «2» الدين بن غراب مدّة يسيرة، ثم صرف ابن غراب وأعيد القاضى فتح الله ثانيا، فباشر إلى أن صرف بالقاضى فخر الدين بن المزوّق «3» ، فباشر مدة يسيرة، ثم صرف وأعيد فتح الله فباشر إلى أن صرفه الملك المؤيّد شيخ وقبض عليه وصادره.
قلت: ومات تحت العقوبة خنقا فى ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة وثمانمائة، وهو فتح الله بن مستعصم بن نفيس التّبريزى الحنفى الداوودى، يأتى ذكره هو وغيره من كتّاب السّرّ فى محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
قال: وتولّى بعده القاضى ناصر «1» الدين محمد البارزىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن شوّال سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ومولده بحماة فى يوم الاثنين رابع شوّال سنة تسع «2» وستين وسبعمائة. وتولى بعده ولده القاضى كمال الدين «3» محمد بن البارزى، فباشر إلى أن صرفه الملك الظاهر ططر وولّى علم الدين داود [بن عبد «4» الرحمن] بن الكويز، فباشر إلى أن توفّى سنة ست وعشرين وثمانمائة فى دولة الملك الأشرف برسباى. وولّى بعده جمال الدين يوسف «5» بن الصّفىّ الكركىّ فباشر قليلا إلى أن صرف بقاضى القضاة شمس «6» الدين محمد الهروىّ، ودام الكركىّ بعد ذلك وباشر عدّة وظائف بالبلاد الشامية إلى أن توفّى فى حدود سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وباشر الهروى إلى أن عزل بقاضى القضاة نجم الدين عمر ابن حجّى، فباشر ابن حجّى إلى أن عزل وتوجّه إلى دمشق على قضائها، ودام إلى أن قتل بها فى ذى القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة، وولّى بعده القاضى بدر الدين محمد [ابن محمد «7» بن أحمد] بن مزهر، واستمرّ إلى أن مات فى ليلة الأحد سابع عشرين جمادى الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة. وولى بعده ابنه جلال الدين؛ وقيل بدر الدين «8» محمد مدّة يسيرة. وصرف بالشريف شهاب الدين أحمد [بن علىّ «9» بن إبراهيم ابن عدنان] الحسينى الدمشقى، فباشر مدة يسيرة وتوفّى بالطاعون فى سنة ثلاث وثلاثين،
وولى بعده أخوه نحو الجمعة بغير خلعة وتوفّى بالطاعون أيضا. وولى بعدهما شهاب الدين أحمد [بن صالح بن»
أحمد بن عمر المعروف با] بن السّفاح الحلبى فباشر إلى أن مات فى سنة خمس وثلاثين. وولى بعده الوزير كريم «2» الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ مضافا للوزارة، فباشر أشهرا وصرف؛ وأعيد القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ فى يوم السبت العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين، فباشر إلى أن صرف يوم الخميس سابع شهر رجب سنة تسع وثلاثين؛ وولى مكانه الشيخ محبّ الدين محمد ابن الأشقر فباشر إلى أن صرف، وولى صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، فباشر إلى أن توفّى بالطاعون فى سنة إحدى وأربعين، وولى مكانه والده الصاحب بدر الدين حسن فباشر إلى أن صرف، وأعيد القاضى كمال الدين بن البارزىّ فى يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، وهى ولايته الثالثة؛ فباشر إلى أن توفّى بكرة يوم الأحد سادس عشرين صفر سنة ستّ وخمسين وثمانمائة. ولم يخلّف بعده مثله، وولى بعده القاضى محب الدين محمد بن الأشقر المقدّم ذكره، وباشر إلى أن صرفه الملك الأشرف إينال بالقاضى محب الدين محمد بن الشّحنة الحلبىّ، فباشر ابن الشّحنة أشهرا ثم صرف، وأعيد القاضى محب الدين محمد بن الأشقر وهى ولايته الثالثة. انتهى.
قلت: وغالب من ذكرناه من هؤلاء الكتّاب قد تقدّم ذكر أكثرهم، ويأتى ذكر باقيهم فى محلّهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وقد استطردنا من ترجمة الملك المنصور إلى غيرها، ولكن لا بأس بالتطويل فى تحصيل الفوائد. انتهى.