الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتوحاته رحمه الله
ثم سافر الملك الظاهر من مصر إلى البلاد الشامية فى هذه السنة (أعنى سنة أربع وستين) فخرج منها فى يوم السبت مستهلّ شعبان، وجعل نائبه بديار مصر ولده الملك السعيد، وجعل الجيش فى خدمته والوزير بهاء الدين بن حنّا؛ وسار الملك الظاهر حتّى نزل عين جالوت وبعث عسكرا مقدّمه الأمير جمال الدين أيدغدىّ العزيزىّ، ثم عسكرا آخر مقدّمه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى للإغارة على بلاد الساحل، فأغاروا على عكّا وصور وطرابلس وحصن الأكراد وسبوا وغنموا ما لا يحصى؛ ثم نزل الملك الظاهر بنفسه على صفد فى ثامن شهر رمضان، ونصب عليها المجانيق، ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربيّة إلى مستهلّ شوّال شرع فى الزّحف والحصار وأخذ النّقوب من جميع الجهات إلى أن ملكها بكرة يوم الثلاثاء خامس عشر شوّال؛ واستمرّ الزّحف والقتال ونصب السلالم على القلعة وتسلطت عليها النقوب، والسلطان يباشر ذلك بنفسه، حتّى طلب أهل القلعة الأمان على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك، فأجلس السلطان الملك الظاهر الأمير كرمون [أغا «1» ] التّتارىّ فى دست السلطنة، وحضرت رسلهم فاستحلفوه فخلف [لهم «2» كرمون التّتارىّ] وهم يظنونه الملك الظاهر، فإنه كان يشبه الملك الظاهر. وكان فى قلب الملك الظاهر منهم حزازة، ثم شرط عليهم ألّا يأخذوا معهم من أموالهم شيئا. فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شوّال طلعت السناجق على قلعة صفد، ووقف الملك الظاهر بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الخيّالة والرجّالة والفلاحين؛ ودخل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وتسلّمها، واطّلع على أنّهم أخذوا شيئا كثيرا من التّحف
له قيمة، فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تلّ هناك، وكتبت البشائر بهذا النصر إلى مصر والأقطار، وزيّنت الديار المصريّة لذلك. ثم أمر الملك الظاهر بعمارة قلعة صفد وتحصينها ونقل الذخائر إليها والأسلحة، وأزال دولة الكفر، منها، ولله الحمد، وأقطع بلدها لمن رتّبه لحفظها من الأجناد، وجعل مقدّمهم الأمير علاء الدين الكبكى «1» ، وجعل فى نيابة السلطنة بالمدينة الأمير عزّ الدين العلائىّ، وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطّورىّ.
ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق فى تاسع «2» عشر شوّال. ولمّا كان الملك الظاهر نازلا بصفد وصل إليه رسول صاحب صهيون بهديّة جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخيره عن الحضور، فقبل الملك الظاهر الهديّة والعذر. ثمّ وصلت رسل صاحب سيس «3» أيضا بهديّة فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم. ثم وصلت البريديّة «4» من متولّى قوص ببلاد الصّعيد بخبر أنّه استولى على جزيرة سواكن «5» وأنّ صاحبها هرب، وأرسل يطلب من الملك الظاهر الدخول فى الطاعة وإبقاء سواكن عليه، فرسم
له الملك الظاهر بذلك. ثم رحل الملك الظاهر من دمشق يوم السبت ثالث ذى القعدة وأمر العساكر بالتقدّم إلى بلاد سيس للإغارة عليها، وقدّم عليهم الملك المنصور «1» صاحب حماة وتدبير الأمور راجع إلى الأمير آق سنقر الفارقانىّ، فساروا حتّى وصلوا إلى الدّربند «2» الذي يدخلون منه إليها، وكان صاحبها قد بنى عليها أبرجة فيها المقاتلة؛ فلمّا رأوا العسكر تركوها ومضوا فأخذها المسلمون وهدموها، ودخلوا بلاد سيس فنهبوا وأسروا وقتلوا؛ وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم، ودخلوا المدينة يوم السبت ثانى عشر ذى القعدة وأخذوا منها ما لا يحصى كثرة، وعادوا نحو دمشق. فلمّا قاربوها خرج الملك الظاهر لتلقّيهم فى ثانى ذى الحجّة، واجتاز بقارة «3» فى سادسه، فأمر بنهبها وقتل من فيها من الفرنج، فإنّهم كانوا يخيفون «4» السبيل ويستأسرون المسلمين، فأراح الله منهم وجعلت كنيستها جامعا، ورتّب بقارة خطيبا وقاضيا، ونقل إليها الرعية من المسلمين؛ ثم التقى العساكر وخلع عليهم وعاد معهم، فدخل دمشق، والغنائم والأسرى بين يديه، فى يوم الاثنين خامس «5» عشر شهر ذى الحجّة فأقام بها مدّة. ثم خرج منها طالبا الكرك فى مستهلّ المحرّم سنة خمس وستين وستّمائة، وأمر الملك الظاهر بعد خروجه من دمشق بعمارة جسر «6»
بالغور على [نهر «1» ] الشّريعة؛ وكان المتولّى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار «2» وبدر الدين محمد بن رحال وهما من أعيان الأمراء؛ ولمّا تكامل عمارته اضطرب بعض أركانه، فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذّر ذلك لزيادة الماء، فاتّفق وقوف الماء عن جريانه حتّى أمكن إصلاحه؛ فلمّا تمّ إصلاحه عاد الماء إلى حاله؛ قيل إنّه كان وقع فى النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسدّته من غير قصد. وهذا من عجيب الاتّفاق.
ثمّ عاد الملك الظاهر إلى ديار مصر وعند «3» عوده إليها وصل إليه رسل صاحب اليمن الملك المظفر «4» [شمس الدين] يوسف بن عمر ومعهم فيل وحمار وحش أبيض وأسود وخيول وصينى وتحف، وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط له أن يخطب له ببلاده. ثمّ خرج السلطان فى يوم السبت فى ثانى جمادى الآخرة إلى بركة الجب «5» عازما على قصد الشام على حين غفلة، وجعل نائب السلطنة على مصر الأمير بيليك
الخازندار، ورحل فى سابع الشهر، فوردت عليه رسل صاحب يافا فى الطريق فاعتقلهم، وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ليلا وسار فأصبح يافا، وأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها، فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان، فأمّنهم وعوّضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا فى المراكب إلى عكّا؛ وكان أخذ قلعة يافا فى الثانى والعشرين من الشهر المذكور وأمر بهدمها؛ فلمّا فرغ السلطان من هدمها رحل عنها يوم الأربعاء ثانى عشر «1» شهر رجب طالبا للشّقيف «2» ، فنزل عليه يوم الثلاثاء وحاصرها حتّى تسلّمها يوم الأحد تاسع عشرين رجب؛ وكان الملك الظاهر أيضا ملك الباشورة «3» بالسيف فى السادس والعشرين منه؛ ثم رحل الملك الظاهر عنها بعد أن رتّب بها عسكرا فى عاشر شعبان، وبعث أكثر أثقاله إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشنّ عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغوّر أنهارها. ثم رحل «4» إلى حصن الأكراد ونزل بالمرج الذي تحته، فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة، فردّها عليه وطلب منهم دية رجل من أجناده، كانوا قتلوه، مائة ألف دينار فأرضوه. فرحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم
إلى أفامية «1» ثم سار ونزل منزلة أخرى؛ ثم رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب، ونزل أنطاكية فى غرّة شهر رمضان، فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر؛ ورتّب على أبوابها جماعة من الأمراء لئلّا يخرج أحد من الحرافشة بشىء من النهب، ومن يوجد معه شىء يؤخذ منه، فجمع من ذلك ما أمكن جمعه وفرّقه على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم. وحصر من قتل بأنطاكية فكانوا فوق الأربعين ألفا، وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من الحلبيّين، وكتب البشائر بذلك إلى مصر وإلى سائر الأقطار. وأنطاكية: مدينة عظيمة مشهورة، مسافة سورها اثنا عشر ميلا، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفا. ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه الله فيما فتح «2» .
قلت: كم ترك الأوّل للآخر!
ولمّا ملك الملك الظاهر أنطاكية وصل إليه قصّاد من أهل القصير «3» يطلبون تسليمها إليه، فسيّر السلطان الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ بالعساكر إليها فوصلها
ووجد أكثر أهلها قد برح منها، فتسلّمها فى ثالث عشر شهر رمضان؛ وكان قد تسلّم دركوش «1» بواسطة فخر الدين الجناحىّ فى تاسع شهر رمضان وعاد إلى دمشق، فدخلها فى سابع عشرين شهر رمضان، وعيّد السلطان بقلعة دمشق. ثم عاد إلى القاهرة فدخلها آخر نهار الأربعاء حادى عشر ذى الحجّة. وبعد وصوله بمدّة جلس فى الإيوان بقلعة الجبل يوم الخميس تاسع «2» صفر، وأحضر القضاة والشهود والأعيان وأمر بتحليف الأمراء ومقدّمى الحلقة لولده الملك السعيد بركة خان [بولاية «3» عهده وخليفته من بعده] فحلفوا. ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبّهة السلطنة فى القلعة ومشى والده أمامه، وكتب تقليد «4» [له «5» ] وقرئ على الناس بحضور الملك الظاهر وسائر أرباب الدولة.
ثم فى يوم السبت ثانى عشر «6» جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من القاهرة متوجّها إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد، واستناب بالديار المصريّة فى خدمة ولده الأمير بدر الدين بيليك الخازندار. ومن هذا التاريخ علّم الملك السعيد على التواقيع وغيرها: ولمّا «7» صار الملك الظاهر بدمشق وصلت إليه كتب التّتار ورسلهم، والرسل: محبّ الدين دولة خان، وسيف الدين سعيد ترجمان وآخر، ومعهم جماعة من أصحاب سيس، فأنزلهم السلطان بالقلعة وأحضرهم من الغد وأدّوا الرسالة
ومضمونها «1» : أنّ الملك أبغا «2» بن هولاكو لمّا خرج من الشرق ملك جميع البلاد ومن خالفه قتل وأنت (يعنى للملك الظاهر) لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منّا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحا، وأنت مملوك أبعت فى سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض وأولاد ملوكها! فأجابه فى وقته بأنّه فى طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفّرهم إليه بسرعة. ثم فى آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق ونزل خربة «3» اللّصوص فأقام بها أيّاما؛ ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجّه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرّف الفارقانىّ أنّه يغيب أيّاما معلومة، وقرّر معه أنه يحضر الأطبّاء كلّ يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعّك يشكو تغيير مزاجه، ليوهم الناس أنّ الملك الظاهر هو المتوعّك؛ فكان يدخل ما يصفونه «4» إلى الجيمة ليوهم العسكر صحّة ذلك، وسار الملك الظاهر حتّى وصل قلعة الجبل ليلة الخميس حادى عشرين شعبان، فأقام بالقاهرة أربعة أيّام؛ ثم توجّه ليلة الاثنين خامس عشرين الشهر على البريد، فوصل إلى العسكر يوم تاسع عشرين الشهر. وكان غرضه بهذا السّفر كشف أحوال ولده الملك السعيد وغير ذلك. ثم فى يوم الأحد سادس عشر «5» شهر رمضان
تسلّم نوّاب الملك الظاهر قلعة بلاطنس «1» وقلعة كرابيل «2» من عزّ الدين أحمد بن مظفّر الدين عثمان «3» بن منكورس صاحب صهيون «4» ، وعوّضه غيرهما قرية تعرف بالخميلة «5» من أعمال شيزر «6» . ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان توجّه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شنّ الغارة على بلد صور، وأخذ منها شيئا كثيرا. ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق وعيّد «7» بها. ثم خرج منها فى خامس عشرين شوّال يريد الكرك فوصله فى أوائل ذى القعدة. ثم توجّه فى سادسه إلى الحجاز، وصحبته بيليك الخازندار والقاضى صدر الدين سليمان الحنفى وفخر الدين إبراهيم بن لقمان وتاج الدين ابن الأثير ونحو ثلثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة، فوصل المدينة الشريفة فى العشر الأخير من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام، وكان جمّاز «8» قد طرق المدينة وملكها، فلمّا قدم الظاهر هرب؛ فقال الملك الظاهر: لو كان جمّاز يستحقّ القتل ما قتلته! لأنه فى حرم النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ثم تصدّق فى المدينة بصدقات كثيرة، وخرج منها متوجّها إلى مكّة فوصلها فى ثامن ذى الحجّة، فخرج إليه أبو نمىّ وعمّه إدريس صاحبا مكّة، وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات، فوقف بها يوم الجمعة ثم عاد إلى منّى، ثم إلى مكّة وطاف بها طواف الإفاضة، وصعد الكعبة
وغسلها بماء الورد وطيّبها بيده، وأقام يوم الاثنين ثم ركب وتوجّه إلى المدينة الشريفة، فزار بها قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثانيا. ثم توجّه إلى الكرك فوصله فى يوم الخميس تاسع عشرين ذى الحجة فصلّى به الجمعة. ثم توجّه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثانى المحرّم سنة ثمان وستين وستمائة فى السّحر، فحرج الأمير جمال الدين آقوش فصادفه فى سوق الخيل واجتمع به. ثم سار إلى حلب فوصلها فى سادس المحرّم؛ ثم خرج منها فى عاشره وسار «1» إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر، وصحبته الأمير عزّ الدين الأفرم فدخلها يوم الأربعاء رابع «2» صفر، واتّفق ذلك اليوم دخول ركب الحاجّ، وكانت العادة يوم ذاك بدخول الحاج إلى القاهرة بعد عاشر صفر، فأقام الملك الظاهر بالقاهرة أيّاما، وخرج منها فى صفر المذكور إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فصيّد أيّاما وعاد إلى نحو القاهرة فى يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأوّل، وخلع فى هذه السّفرة على الأمراء وفرّق فيهم الخيل والحوائص الذهب والسيوف المحلّاة والذهب والدراهم والقماش وغير ذلك، فلم يقم بالقاهرة إلا مدّة يسيرة، وخرج منها متوجّها إلى الشام فى يوم الاثنين حادى عشرين شهر ربيع الأوّل فى طائفة يسيرة من أمرائه وخواصّه، فوصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء سابع «3» شهر ربيع الآخر، ولقى أصحابه فى الطريق مشقّة شديدة من البرد. ثم خرج عقيب ذلك إلى الساحل «4» وأسر ملك عكّا؛ وقتل وأسر وسبى. ثم
قصد الغارة على المرقب «1» فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه، فرجع إلى حمص فأقام بها نحو عشرين يوما. ثم خرج إلى جهة حصن «2» الأكراد ونزل تحتها، وأقام يركب كلّ يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب، فبلغه أنّ مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت «3» مركبين للمسلمين، فرحل من فوره إلى نحو الديار المصريّة فوصلها ثانى عشر شعبان، فحين دخوله إلى مصر امر بعمارة القناطر التى على بحر أبى المنجّا «4» ، وهى من المبانى العجيبة فى الحسن والإتقان؛ وبينما هو فى ذلك ورد عليه البريد من الشام أنّ الفرنج قاصدون الساحل، والمقدّم عليهم
شارل «1» أخو ريدا «2» فرنس، وربّما كان محطّهم عكّا؛ فتقدّم الملك الظاهر إلى العسكر بالتوجّه إلى الشام. ثم ورد الخبر أيضا بأنّ اثنى عشر مركبا للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركبا للتّجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه، ولم يجسر والى الإسكندرية أن يخرج الشوانى من الصناعة لغيبة رئيسها فى مهمّ استدعاه الملك الظاهر بسببه. ولمّا بلغ الملك الظاهر ذلك بعث أمر بقتل الكلاب فى الإسكندرية وألّا يفتح أحد حانوتا بعد المغرب ولا يوقد نارا فى البلد ليلا، ثم تجهّز بسرعة وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذى القعدة فى البحر. وفى ذى الحجّة أمر السلطان بعمل جسرين: أحدهما من مصر إلى الجزيرة «3» (أعنى الروضة) ، والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليهما. ثم عاد الملك الظاهر من دمياط بسرعة ولم يلق حربا؛ وخرج من مصر إلى عسقلان فى يوم السبت عاشر صفر سنة تسع وستين وستمائة فى جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد، فوصل إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه فى أيّام الملك الصالح، ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهبا مقدار ألفى دينار ففرّقها على من صحبه، وورد عليه الخبر وهو بعسقلان بأنّ عسكر ابن أخى بركة خان المغلىّ كسر عسكر أبغا بن هولاكو، فسرّ الملك الظاهر بذلك سرورا زائدا. وعاد إلى مصر يوم السبت ثامن شهر ربيع الأوّل. وفى هذه السنة انتهى الجسر والقناطر الذي عمل على بحر أبى المنجا، ووقف عليه الملك الظاهر وقفا يعمر منه ما دثر منه على طول السنين. وفى هذه
السنة أيضا بنى الملك الظاهر جامع المنشيّة «1» ، وأقيمت فيه الخطبة يوم «2» الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة تسع وستين وستمائة المذكورة. ثم فى السنة المذكورة أيضا خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة متوجّها إلى نحو حصن الأكراد فى ثانى عشر جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الخميس ثامن شهر رجب، وكان معه فى هذه السّفرة ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين بن حنّا، واستخلف بمصر الأمير شمس الدين اقسنقر الفارقانىّ، وفى الوزارة الصاحب تاج الدين ابن حنّا. ثمّ خرج الملك الظاهر من دمشق فى يوم السبت عاشره وتوجّه بطائفة من العسكر إلى جهة، وولده وبيليك الخازندار بطائفة أخرى إلى جهة، وتواعدوا الاجتماع فى يوم واحد بمكان معيّن ليشنّوا الغارة على جبلة «3» واللّاذقيّة «4» والمرقب»
وعرقة «6» ومرقيّة «7» والقليعات «8» وصافيثا «9» والمجدل وأنطرطوس «10» ، فلمّا اجتمعوا [على] أن يشنّوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل، ثم ساروا ونزلوا حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع «11» عشر شهر رجب من سنة تسع وستين وستمائة؛ وأخذوا فى نصب المجانيق وعمل
الستاير «1» ، ولهذا الحصن ثلاثة أسوار؛ فاشتدّ عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادى عشرين الشهر، وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان، وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة فى يوم الأحد خامس عشره، وكان المحاصر لها الملك السعيد ابن الملك الظاهر ومعه بيليك الخازندار وبيسرى، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبليّة والفلّاحين ثم أطلقوهم. فلمّا رأى أهل القلعة ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان، فأمّنهم الملك الظاهر وتسلّم القلعة يوم الاثنين ثالث «2» عشرين شعبان، وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار، وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجّهوا إلى طرابلس. ثم رحل الملك الظاهر بعد أن رتّب الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم لعمارته، وأقيمت فيه الجمعة، ورتّب نائبا وقاضيا. ولمّا وقع ذلك بعث صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر يطلب المهادنة، وبعث إليه بمفاتيح أنطرطوس فصالحه على نصف ما يتحصّل من غلال بلده، وجعل عندهم نائبا من قبله. ثم صالح صاحب المرقب على المناصفة أيضا، وذلك فى يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان من سنة تسع وستين، وقرّرت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام.
ثم سار الملك الظاهر فى يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان فأشرف على حصن ابن «3» عكّار، وعاد إلى المرج «4» فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور ثانيا فى يوم الاثنين ثانى عشرين شهر رمضان، ونصب المجانيق عليه فى يوم الثلاثاء،
وفى يوم الأحد ثامن «1» عشرينه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقىّ رميا كثيرا فخسف خسفا كبيرا إلى جانب البدنة، ودام ذلك إلى اللّيل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكّنهم من التوجّه إلى طرابلس فأجابهم، فخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر؛ وكتبت البشائر بالفتح والنصر إلى سائر الأقطار. ثم فى يوم السبت رابع شوّال خيّم السلطان الملك الظاهر بعساكر [هـ] على طرابلس فسيّر صاحبها «2» إليه يستعطفه فبعث إليه الملك الظاهر [فارس «3» الدين] الأتابك [و «4» ] سيف الدين [بلبان «5» ] الرومىّ على أن يكون له من أعمال طرابلس نصف بالسويّة، وأن يكون له دار وكالة فيها، وأن يعطى جبلة واللّاذقيّة بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه، وأن يعطى نفقات العساكر من يوم خروجه؛ فلمّا علم الرساله عزم على القتال وحصّن طرابلس، فنصب الملك الظاهر المجانيق؛ ثم تردّدت الرّسل ثانيا وتقرر الصلح أن تكون عرقة وجبلة «6» وأعمالها للبرنس صاحب طرابلس، وأن يكون ساحل «7» أنطرطوس والمرقب وبانياس وبلاد هذه النواحى بينه وبين الدّاويّة «8» ، والتى كانت خاصا لهم، وهى بارين «9» وحمص القديمة تعود خاصا للملك الظاهر، وشرط أن تكون عرقة وأعمالها، وهى ست وخمسون قرية، صديقة من الملك الظاهر عليه، فتوقّف صاحب طرابلس وأنف؛ فلمّا بلغ الملك الظاهر امتناعه صمّم على ما شرط عليه حتى أجابه، وعقد الصلح بينهما مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.
وفى يوم السبت حادى عشر شوّال رحل الملك الظاهر عن مرج صافيثا، وأذن إلى صاحب حماة وصاحب حمص بالعود إلى بلادهم، وسار الظاهر حتى دخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوّال، وعزل القاضى شمس الدين أحمد بن خلّكان عن قضاء دمشق، وكانت مدّة ولايته عشر سنين، وولّى عوضه القاضى عزّ «1» الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ. ثم فى يوم الجمعة رابع «2» عشرين شوّال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصدا القرين «3» ، فنزل عليه يوم الاثنين سابع «4»
عشرين الشهر، ونصب عليه المجانيق، ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة، فقاتلوا قتالا شديدا، وأخذت النّقوب للحصن من كلّ جانب، فطلب من فيه الأمان، فأمّنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذى القعدة، وتسلّم السلطان الحصن بما فيه من السلاح ثمّ هدمه، وكان بناؤه من الحجر الصّلد وبين كلّ حجرين عود حديد ملزوم بالرصاص، فأقاموا فى هدمه اثنى عشر يوما وفى حصاره خمسة عشر يوما.
وفى يوم الاثنين سادس عشرين «5» الشهر نزل الملك الظاهر على كردانة قرية قريبة من عكّا، ولبس العسكر وسار إلى عكّا وأشرف عليها، ثم عاد إلى منزله. ثمّ رحل منها يوم الثلاثاء قاصدا مصر، فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجّة، وكان جملة ما صرفه الملك الظاهر فى هذه السّفرة من حين خروجه من مصر إلى حين عوده إليها ما ينيف على مائة «6» ألف دينار وثمانين ألف دينار عينا. وفى اليوم الثانى من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم: الأمير علم الدين سنجر
الحلبىّ الكبير، الذي كان تسلطن بدمشق فى أوّل سلطنة الملك الظاهر بيبرس، والأمير جمال الدين آقوس المحمّدىّ، والأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبىّ الناصرىّ، والأمير شمس الدين سنقر المسّاح «1» والأمير سيف الدين بيدغان «2» الرّكنى والأمير علم الدين سنجر طرطح وغيرهم، وحبسوا الجميع بقلعة الجبل؛ وسبب ذلك أنّه بلغه أنّهم تآمروا على قبضه لمّا كان بالشّقيف، فأسّرها فى نفسه إلى وقتها. وكان بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أنّ صاحب قبرص خرج منها فى مراكبه إلى عكا، فأراد السلطان اغتنام خلوّها، فجّهز سبعة عشر شينيّا، فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام رئيس الإسكندرية، وشرف [الدين «3» ] علوى بن أبى المجد بن علوى العسقلانى رئيس دمياط، وجمال الدين مكّى بن حسّون مقدّما على الجميع؛ فوصلوا الجزيرة ليلا، فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسى، وألقت بعض الشّوانى على بعض، فتحطّم منها أكثر من أحد عشر شينيّا وأخذ من فيها من الرجال والصنّاع أسراء، وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفس، وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسّون فى الشّوانى السالمة، وعادت إلى مراكزها؛ فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس إلى الغاية.
وفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة أمر الملك الظاهر بإراقة الخمور فى سائر بلاده، وأوعد من يعصرها بالقتل، فأريق على الأجناد والعوامّ منها ما لا تحصى قيمته، وكان ضمان ذلك فى ديار مصر خاصّة ألف دينار فى كلّ يوم، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة. وفى العشر الأخير من ذى الحجّة اهتمّ الملك
الظاهر بإنشاء شوان عوضا عمّا ذهب على قبرص، وانتهى العمل من الشوانى فى يوم الأحد رابع عشر المحرّم سنة سبعين، وركب السلطان إلى الصّناعة «1» لإلقاء الشّوانى فى بحر النيل، وركب السلطان فى شينىّ منها ومعه الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، فلمّا صار الشّينى فى الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر، فنهض بعض رجال الشّينى ورمى بنفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلّصه، وقد كاد يهلك، فخلع عليه الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفى ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة إلى الشام فى نفر يسير من خواصّه وأمرائه ودخل حصن الكرك، وخرج منه وصحب معه نائبه الأمير عزّ الدين أيدمر وسار إلى دمشق، فوصل إليه يوم الجمعة ثانى عشر صفر، فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النّجيبىّ، وولّى مكانه الأمير عزّ الدين أيدمر المعزول عن نيابة الكرك. ثم خرج منها إلى حماة فى سادس عشره ثم عاد منها فى السادس والعشرين.
وفيها أمر ملك التّتار أبغا بن هولاكو عساكره بقصد البلاد الشاميّة، فخرج عسكره فى عدّة عشرة آلاف فارس وعليهم الأمير صمغرا «2» والبرواناه «3» ، فلمّا بلغهم أنّ الملك الظاهر بالشام أرسلوا ألفا وخمسمائة من المغل ليتجسّسوا الأخبار ويغيروا
على أطراف بلاد حلب، وكان مقدّمهم أمال «1» بن بيجونوين «2» ووصلت غارتهم إلى عينتاب «3» ثم إلى قسطون «4» ووقعوا على تركمان نازلين بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم؛ فتقدّم الملك الظاهر بتجفيل البلاد ليحمل التّتار الطمع فيدخلوا فيتمكّن منهم. وبعث إلى مصر بخروج العساكر فخرجت ومقدّمها الأمير بيسرى، فوصلوا إلى السلطان فى خامس «5» الشهر وخرج بهم فى السابع منه، فسبق إلى التّتار خبره، فولّوا على أعقابهم. وكان الظاهر لمّا مرّ بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحب حماة، ونزل الظاهر حلب يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر «6» من سنة سبعين وستمائة وخيّم بلليدان الأخضر، ثم جهّز الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ فى عسكر وأمره أن يمضى إلى بلاد حلب الشماليّة ولا يتعرّض ببلاد صاحب سيس، وجهّز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرىّ فى عسكر وأمره بالتوجّه إلى حرّان. فأمّا الفارقانىّ فإنه سار خلف التّتار إلى مرعش «7» فلم يجد منهم أحدا، تم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيما بها، وقد أمر بإنشاء دار شمالىّ القلعة كانت تعرف بدار الأمير بكتوت، أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب واضاف إليها دارا أخرى، ووكّل بعمارتها الأمير عزّ الدين آقوش الأفرم.
ولمّا عاد الفارقانىّ إلى حلب رحل الملك الظاهر منها نحو الديار المصريّة فى ثامن عشرين شهر ربيع الآخر، ودخل مصر فى الثالث والعشرين من جمادى الأولى.
ولمّا وصل الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجرّدين على قاقون «1» بسبب الفرنج لمّا أغاروا على الساحل ما عدا آقوش الشّمسىّ ثم شفع فيهم فأطلقهم.
وفى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عدّى الملك الظاهر إلى برّ الجيزة فأخبر أن ببوصير «2» السّدر مغارة فيها مطلب، فجمع لها خلقا فحفروا مدى بعيدا، فوجدوا قطاطا ميتة وكلاب صيد وطيورا وغير ذلك من الحيوانات ملفوفا فى عصائب وخرق، فإذا حلّت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء منثورا؛ وأقام الناس ينقلون من ذلك مدّة ولم ينفد ما فيها، فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة.
وفى يوم السبت سابع عشرين جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الظاهر إلى الصّناعة «3» ليرى الشوانى التى عملت وهى أربعون شينيّا فسرّ بها. وعند عوده إلى القلعة ولدت زرافة بقلعة الجبل [وهذا «4» أمر لم يعهد] وأرضع ولدها لبن بقرة.
ثم سافر الملك الظاهر إلى الشام فى شعبان وسار حتى وصل الساحل وخيّم بين قيساريّة وأرسوف، وكان مركّزا بها الفارقانىّ فرحل الفارقانىّ عنها إلى مصر.
ثم إنّ الملك الظاهر شنّ الغارة على عكا، فطلب منه أهلها الصلح وتردّدوا فى ذلك حتى تقرّرت الهدنة بينهم مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام وعشر ساعات، أوّلها ثانى عشرين شهر رمضان سنة سبعين وستمائة.
ثم رحل الملك الظاهر إلى خربة اللّصوص، ثم سار منها إلى دمشق فدخلها فى الثامن من شوّال؛ وبينما هو فى دمشق تردّدت الرسل بينه وبين التّتار وانفصل الأمر من غير اتّفاق. وفى ذى الحجّة توجّه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لينقل حجارة المجانيق إليها «1» ورؤية ما عمّر فيها ففعل «2» ذلك. ثم سار إلى حصن عكّار «3» فأشرف عليها. ثم عاد إلى دمشق فى خامس المحرّم من سنة إحدى وسبعين وستمائة، وفى ثانى عشر المحرّم المذكور أفرج «4» الملك الظاهر عن الأمير أيبك النّجيبى الصغير، وأيدمر الحلّىّ العزيزىّ وكانا محبوسين بالقاهرة. ثم خرج الملك الظاهر من دمشق فى المحرم أيضا عائدا إلى الديار المصريّة وصحبته الأمير بدر الدين بيسرىّ والأمير آقوش الرومىّ وجرمك «5» الناصرىّ، فوصل إليها فى يوم السبت ثالث عشرين المحرّم، فأقام بالقاهرة إلى ليلة الجمعة تاسع عشرينه، خرج من مصر وتوجّه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر، فأقام بدمشق إلى خامس جمادى الأولى اتّصل به أنّ فرقة من التّتار قصدت الرّحبة، فبرز إلى القصير «6» فبلغه أنّهم عادوا من الرّحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيّادين على الجمال ليجوز عليها، ثم سار حتّى وصل إلى الباب من أعمال حلب،
وبعث جماعة من الأجناد والعربان لكشف أخبارهم، وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أنّ طائفة من التّتار مقدار ثلاثة آلاف فارس على شطّ الفرات ممّا يلى الجزيرة، فرحل «1» عن منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شطّ الفرات، وتقدّم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ والأمير بدر الدين بيسرى فى أوّل الناس، ثم تبعهما هو بنفسه وتبعته العساكر، فوقعوا على التّتار فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتى نفس ولم ينج منهم إلّا القليل، وتبعهم بيسزى إلى قريب «2» سروج ثم عاد. وكان على «3» البيرة جماعة كثيرة من عسكر التّتار، وكانوا قد أشرفوا على أخذها، فلمّا بلغهم الخبر رحلوا عن البيرة؛ ودخلها السلطان فى ثانى عشرين الشهر وخلع على نائبها وفرّق فى أهلها مائة ألف درهم، وأنعم عليهم ببعض ما تركه التّتار عندهم لمّا هربوا. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعساكره وعاد إلى دمشق. وفى هذه النّصرة قال العلّامة شهاب «4» الدين أبو الثناء محمود كاتب الإنشاء- رحمه الله قصيدة طنانة؛ أوّلها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار
…
واحكم فطوع مرادك الأقدار
لم يبق للدين الذي أظهرته
…
يا ركنه عند الأعادى ثار
لمّا تراقصت الرءوس وحرّكت
…
من مطربات قسّيك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى
…
هوج الصّبا من نعله «5» آثار
حملتك أمواج الفرات ومن رأى
…
بحرا سواك تقلّه الأنهار
وتقطّعت فرقا ولم يك طودها
…
إذ ذاك إلا جشك الجرّار
رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر
…
منهم على الجيش السعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى
…
والتّرب والآساد والأطيار
هذى منعت وهؤلاء حميتهم
…
وسقيت تلك وعمّ ذا الإيسار
فلأملأنّ الدهر فيك مدائحا
…
تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وهى أطول من ذلك. وقال الشيخ ناصر الدين «1» حسن بن النّقيب الكنانىّ الشاعر- رحمه الله تعالى- قصيدة وكان حاضر الوقعة منها:
ولمّا ترامينا الفرات بخيلنا
…
سكرناه «2» منا بالقوى والقوائم
فأوقفت التيّار عن جريانه
…
إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وقال الموفّق «3» عبد الله بن عمر الأنصارى- رحمه الله وأجاد:
الملك الظاهر سلطاننا
…
نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفى به
…
حرارة القلب من المغل
ثم توجّه الملك الظاهر إلى نحو الديار المصريّة، فخرج ولده الملك السعيد لتلقّيه فى يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به بين القصير «4» والصالحيّة فى يوم الجمعة ثانى «5» عشرينه، فترجلا واعتنقا طويلا؛ ثم ركبا وسارا جميعا إلى القلعة وبين يديهم أسارى التّتار ركّابا على الخيل، ثم فى سابع شهر رجب أفرج الملك الظاهر عن الأمير عز الدين أيبك الدّمياطى من الاعتقال، وكانت مدّة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، ثم خلع الملك الظاهر على أمراء الدولة ومقدّمى الحلقة وأعطى،
كلّ واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثّياب والسيوف، وكان قيمة ما صرفه فيهم فوق ثلثمائة ألف دينار، وفى سادس عشرين شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر الحلبى الغتمى المعزّىّ. وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوّال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضرا إلى القلعة وأحضره بين يديه.
قلت: والشيخ خضر هذا هو صاحب الزاوية «1» بالحسينية بالقرب من جامع الظاهر «2» . انتهى. وأحضر معه جماعة من الفقراء حاققوه على أشياء كثيرة منكرة، وكثر
بينه وبينهم فيها المقالة ورموه بفواحش كثيرة ونسبوه إلى قبائح عظيمة؛ فرسم الملك الظاهر باعتقاله، وكان للشيخ خضر المذكور منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بحيث إنّه كان ينزل عنده فى الجمعة المرّة والمرّتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعته ويستصحبه فى سائر سفراته، ومتى فتح مكانا أفرض له منه أوفر نصيب، فامتدّت يد الشيخ خضر بذلك فى سائر المملكة يفعل ما يختار لا يمنعه أحد من النوّاب، حتّى إنّه دخل إلى كنيسة قمامة «1» ذبح قسّيسها بيده، وانتهب ما كان فيها تلامذته، وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبّر من الأموال «2» ، وعمرها مسجدا وعمل بها سماعا ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الإسكندريّة وهى عظيمة عند النصارى فنهبها وصيّرها مسجدا، وسمّاها المدرسة «3» الخضراء وأنفق فى تعميرها مالا كثيرا
من بيت المال. وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقف عليها وحبس عليها أرضا تجاورها تحتكر للبناء. وبنى لأجله جامع الحسينية.
وفى يوم الاثنين سابع المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بدار «1» العدل وحكّم بين الناس ونظر فى أمور الرعيّة، فأنصف المظلوم وخلّص الحقوق ومال على القوىّ ورفق بالضعيف. وفى العاشر منه هدمت غرفة على باب قصر من قصور الخلفاء الفاطميّين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب بباب «2» البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم بأمر الله منصور المقدّم ذكره، فوجد فى القصر الذي هدم امرأة فى صندوق منقوش عليها كتابة اسم الملك الظاهر «3» بيبرس هذا وصفته، وبقى منها ما لم يمكن قراءته.
وفيها قبض على ملك الكرج «4» وهو أنّه كان قد خرج من بلاده قاصدا زيارة القدس الشريف متنكّرا فى زىّ الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصّه، فسلك بلاد
الروم إلى سيس فركب البحر إلى عكّا، ثم خرج منها إلى بيت المقدس فاطّلع الأمير بدر الدين الخازندار على أمره وهو على يافا، فبعث إليه من قبض عليه، فلمّا حضر بين يديه بعثه مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان؛ وكان السلطان قد توجّه إلى دمشق فوصل إلى دمشق فى رابع عشر جمادى الأولى، فأقبل عليه السلطان وسأله حتى اعترف، فحبسه فى برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرّفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشرين جمادى الآخرة، وقدم القاهرة يوم الخميس «1» سابع شهر رجب من سنة اثنتين وسبعين المذكورة. ثم فى يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر السلطان العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب فى الميدان تحت القلعة، فاستمرّ ذلك كلّ يوم إلى يوم عيد الفطر ختن السلطان الملك الظاهر ولده خضرا ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم، وكان الملك السعيد ابن الملك الظاهر فى يوم الأربعاء سابع «2» عشر شهر رمضان خرج من القاهرة وتوجّه إلى دمشق ومعه شمس الدين آقسنقر الفارقانىّ وأربعون نفرا من خواصّه على خيل البريد، وعاد إلى القاهرة فى يوم الخميس الرابع والعشرين من شوّال.
وفى يوم الأحد سابع صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة ركب الملك الظاهر الهجن وتوجّه إلى الكرك ومعه بيسرى وأتامش السّعدى، وسبب توجّهه أن وقع بالكرك برج فأحبّ أن يكون إصلاحه بحضوره. ثم عاد إلى مصر فدخلها فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل، فأقام بها مدّة يسيرة. ثم توجّه إلى دمشق وأقام به إلى أن أرسل فى رابع «3» عشرين المحرّم سنة أربع وسبعين وستمائة الأمير
بدر الدين بيليك الخازندار على البريد إلى مصر لإحضار الملك السعيد، فعاد به إلى دمشق فى يوم الأربعاء سادس صفر من السنة. وفى الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير «1» وهو بين حارم وأنطاكية، وكان فيه قسّيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرّك به، وكان الملك الظاهر قد أمر التّركمان وبعض العرب بمحاصرته، وبعد أخذه عاد الملك الظاهر إلى مصر فلم تطل مدّته به وعاد إلى دمشق، فدخله يوم ثالث المحرّم من سنة خمس وسبعين، فأقام به مدة يسيرة أيضا، وعاد إلى الديار المصريّة فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع «2» الآخر؛ وأمر بعمل عرس ولده الملك السعيد، واهتمّ فى ذلك إلى يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان «3» الأسود تحت القلعة فى أحسن زىّ، وأقاموا يركبون كلّ يوم كذلك ويتراكضون فى الميدان، والناس تزدحم للفرجة عليهم خمسة أيام، وفى اليوم السادس افترق الجيش فرقتين، وحملت كلّ فرقة على الأخرى وجرى من اللعب والزينة ما لا يوصف، وفى اليوم السابع خلع على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتّاب والأطباء مقدار ألف وثلثمائة خلعة، وأرسل
إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، وفى يوم الخميس مدّ السّماط فى الميدان المذكور فى أربعة خيم، وحضر السّماط من علا ومن دنا، ورسل التتار ورسل الفرنج، وعليهم الخلع أيضا، وجلس السلطان فى صدر الخيمة على تخت من آبنوس وعاج مصفّح بالذهب مسمّر بالفضّة غرم عليه ألف دينار؛ ولمّا انقضى السّماط قدّم الأمراء الهدايا من الخيل والسلاح والتّحف وسائر الملابس، فلم يقبل السلطان من أحد منهم سوى ثوب واحد جبرا له؛ فلمّا كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ فى تجهيز ما يليق بالزّفاف والدخول، ولم يمكّن أحد من نساء الأمراء على الإطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد إلى الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيّى له بأهله، وحملت العروس فدخل عليها. ولمّا بلغ الملك المنصور «1» صاحب حماة ذلك قدم القاهرة مهنّئا للسلطان ومعه هديّة سنيّة، فوصل القاهرة فى ثامن جمادى الآخرة، فركب الملك السعيد لتلقّيه ونزل بالكبش «2» ، وأقام مدّة يسيرة ثم عاد إلى بلده.
ثم خرج الملك الظاهر بعد ذلك من القاهرة فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن استناب الأمير آق سنقر الفارقانىّ الأستادار نائبا عنه فى خدمة ولده الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصريّة لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثانى عشر شوّال قاصدا بلاد الروم فدخل دمشق ثم خرج منها ودخل حلب يوم الأربعاء مستهلّ ذى القعدة، وخرج منها
يوم الخميس إلى حيلان «1» ، فترك بها بعض الثّقل، وأمر الأمير نور الدين «2» علىّ بن جبل مجلىّ نائب حلب أن يتوجّه إلى الساجور «3» ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب ويحفظ معابر الفرات لئلا يعبر منها أحد من التّتار قاصدا الشام، ووصل إلى «4» الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا وأقام عنده، فبلغ نوّاب التّتار ذلك فجهّزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة «5» لكبسهم فحشدوا وتوجّهوا نحوهم. فاتّصل بالأمير علىّ نائب حلب الخبر وكان يقظا، فركب إليهم والتقاهم وكسرهم أقبح كسرة، وأخذ منهم ألفا ومائتى جمل.
وأمّا الملك الظاهر فإنّه ركب من حيلان يوم الجمعة ثالث الشهر، وسار إلى عينتاب، ثم إلى دلوك «6» ، ثم إلى منزلة «7» أخرى ثم إلى كينوك «8» ، ثم إلى كك صو (ومعناه الماء «9» الأزرق باللّغة التركيّة) . ثم رحل «10» عنه إلى أقجادر بند فقطعه فى نصف نهار؛
فلمّا خرجت عساكره وملكت المفاوز، قدّم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة التّتار وعدّتهم ثلاثة آلاف فارس، ومقدّمهم كراى فهزمهم سنقر الأشقر وأسر منهم طائفة، وذلك فى يوم الخميس تاسع ذى القعدة.
ثم ورد الخبر على الملك الظاهر بأنّ عسكر الروم والتّتار مع البرواناه اجتمعوا على نهر جيحان «1» ، فلمّا صعد العسكر الجبل أشرف على صحراء «2» أبلستين فشاهد التّتار قد رتّبوا عساكرهم أحد عشر طلبا فى كلّ طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم خوفا من باطن يكون لهم مع المسلمين، وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا؛ فلمّا تراءى الجمعان حملت ميسرة التّتار حملة واحدة وصدموا سنجق الملك الظاهر، ودخلت طائفة منهم بينهم، وشقّوا الميسرة وساقوا إلى الميمنة؛ فلمّا رأى الملك الظاهر ذلك أردفهم بنفسه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد أتت عليها ميمنة التّتار، فأمر الملك الظاهر جماعة من أصحابه الشّجعان بإردافها، ثم حمل هو بنفسه- رحمه الله فلمّا رأته العساكر حملت نحوه برمّتها حملة رجل واحد، فترجّل التّتار عن خيولهم وقاتلوا قتال الموت فلم يغن عنهم ذلك شيئا، وصبر لهم الملك الظاهر وعسكره وهو يكرّ فى القوم كالأسد الضّارى ويقتحم الأهوال بنفسه ويشجّع أصحابه ويطيّب لهم الموت فى الجهاد إلى أن أنزل الله تعالى نصره عليه، وانكسر التّتار أقبح كسرة وقتلوا وأسروا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال فقصدتهم العساكر الإسلاميّة وأحاطوا بهم، فترجّلوا عن خيولهم وقاتلوا فقتل منهم جماعة كثيرة، وقتل
ممّن قاتلهم من عساكر المسلمين الأمير ضياء الدين [محمود «1» ] بن الخطير، وكان من الشّجعان الفرسان، والأمير شرف «2» الدين قيران العلائىّ، والأمير عزّ الدين أخو المحمّدىّ «3» ، وسيف الدين قفجاق «4» الجاشنكير، والأمير [عز الدين «5» ] أيبك الشّقيفىّ- رحمهم الله تعالى وأسكنهم الجنّة-. وأسر من كبار الروميّين مهذّب «6» الدين ابن معين الدين البرواناه، وابن بنت معين الدين المذكور، والأمير نور «7» الدين جبريل [بن جاجا] ، والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل [بن «8» جاجا] ، والأمير سيف الدين سنقر «9» جاه الزّوباشىّ، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوى (يعنى الصهر) صاحب سيواس «10» ، والأمير كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاوك «11» ، والأمير سيف الدين بن الجاويش «12» ، والأمير شهاب الدين غازى بن على شير التّركمانى،
فوبّخهم السلطان الملك الظاهر من كونهم قاتلوه فى مساعدة التتار الكفرة، ثم سلّمهم لمن احتفظ بهم. وأسر من مقدّمى التّتار على الألوف والمئين بركة «1» صهر أبغا بن هولاكو ملك التّتار، وسرطق، وخيز كدوس «2» وسركده «3» وتماديه «4» . ولمّا أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناه وساق حتّى دخل قيصريّة «5» يوم الأحد ثانى عشر ذى القعدة «6» واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفى، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب فأخبرهم بالكسرة، وقال لهم: إنّ التّتار المنهزمين متى دخلوا قيصريّة فتكوا «7» بمن فيها حنقا على المسلمين، وأشار عليهم بالخروج منها فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى توقات «8» وبينها وبين قيصريّة أربعة أيام. وعملت شعراء الإسلام فى هذه الوقعة عدّة قصائد ومدائح، من ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثناء محمود كاتب الدّرج قصيدته التى أوّلها:
كذا فلتكن فى الله تمضى «9» العزائم
…
وإلّا فلا تجفو الجفون الصّوارم
عزائم حاذتها الرياح فأصبحت
…
مخلّفة تبكى عليها الغمائم
سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت
…
عليه [و «1» ] سوراه الظّبا واللهاذم
بجيش تظلّ الأرض منه كأنّها
…
على سعة الأرجاء فى الضّيق خاتم
كتائب كالبحر الخضمّ جيادها
…
إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللّواء مظفّر
…
له النّصر والتأبيد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزمايه
…
بركن له الفتح المبين دعائم
مليك لأبكار الأقاليم نحوه
…
حنين كذا تهوى الكرام الكرائم
فكم وطئت طوعا وكرها جياده
…
معاقل قرطاها «2» السّها والنعائم
مليك به للدين فى كلّ ساعة
…
بسائر للكفّار منها مآتم
جلاحين أقذى «3» [ناظر] الكفر للهدى
…
ثغورا بكى الشيطان وهى بواسم
إذا رام شيئا لم يعقه لبعدها
…
وشقّتها عنه الإكام الطّواسم
فلو نازع النّسرين أمرا لناله
…
وذا واقع عجزا وذا بعد حائم
ولمّا رمى الروم المنيع بخيله
…
ومن دونه سدّ من الصخر عاصم
يروم عقاب الجوّ قطع عقابه
…
إليه فلا تقوى عليها القوادم
ومنها:
وسالت عليهم «4» أرضهم بمواكب
…
لها النّصر طوع والزمان مسالم
أدارت بهم سورا منيعا مشرّفا
…
بسمر العوالى ما له الدهر هادم
من التّرك أمّا فى المغانى فإنّهم
…
شموس وأما فى الوغى فضراغم
غدا ظاهرا بالظاهر النصر فيهم
…
تبيد الليالى والعدا وهو دائم
فأهووا إلى لئم الأسنّة فى الوغى
…
كأنّهم العشّاق وهى المباسم
وصافحت البيض الصّفاح رقابهم
…
وعانقت السّمر القدود النواعم
فكم حاكم منهم على ألف دارع
…
غدا حاسرا والرمح [فى «1» ] فيه حاكم
وكم ملك منهم رأى وهو موثق
…
خزائن ما يحويه وهى غنائم
ومنها:
فلا زلت منصور اللّواء مؤيّدا
…
على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم
ثم جرّد الملك الظاهر الأمير سنقر الأشقر لإدراك ما فات من التّرك «2» والتوجّه إلى قيصريّة، وكتب معه كتابا بتأمين أهلها وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهريّة. ثم رحل الملك الظاهر بكرة السبت حادى عشر ذى القعدة قاصدا قيصريّة، فمرّ فى طريقه بقرية أهل الكهف «3» ثم إلى قلعة سمندو «4» فنزل إليه واليها مذعنا للطاعة، ثم سار إلى قلعة درندة «5» وقلعة فالو «6» ففعل متولّيها كذلك، ثم نزل بقرية من قرى قيصريّة فبات بها، فلمّا أصبح رتّب عساكره وخرج أهل
قيصريّة بأجمعهم مستبشرين بلقائه، وكانوا لنزوله نصبوا الخيام بوطاة «1» ، فلمّا قرب الظاهر منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب السلطان للجمعة، فدخل قيصريّة ونزل دار السلطنة وجلس على التّخت وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفيّة والقرّاء وجلسوا فى مراتبهم على عادة ملوك السّلجوقيّة، فأقبل عليهم السلطان ومدّ لهم سماطا فأكلوا وانصرفوا، ثمّ حضر الجمعة بالجامع وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التى ضربت له باسمه. وكتب إليه البرواناه يهنّئه بالجلوس على تخت الملك بقيصريّة، فكتب الملك الظاهر إليه بعوده ليولّيه مكانه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوما، وكان مراد البرواناه أن يصل أبغا ويحثّه على المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون «2» بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناه فى ذلك، فكان ذلك سببا لرحيل الملك الظاهر عن قيصريّة مع ما انضاف إلى ذلك من قلق العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان على اليزك «3» عزّ الدين أيبك الشّيخىّ، وكان الملك الظاهر ضربه بسبب سبقه الناس فغضب وهرب إلى التّتار.
وكان أولاد قرمان «4» قد رهنوا أخاهم الصغير علىّ بك بقيصريّة، فأخرجه الملك الظاهر وأنعم عليه، وسأل السلطان فى تواقيع وسناجق له ولإخوته فأعطاه، وتوجّه نحو إخوته بجبل لارندة «5» .
وعاد السلطان وأخذ فى عوده أيضا عدّة بلاد إلى أن وصل مكان المعركة يوم السبت، فرأى القتلى، فسأل عن عدّتهم فأخبر أنّ المغل خاصّة ستة آلاف وسبعمائة وسبعون نفسا؛ ثم رحل حتّى وصل أقجا دربند «1» ، بعث الخزائن والدّهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار ليعبر بها الدّربند، وأقام السلطان فى ساقة العسكر بقيّة اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدّربند.
ثم سار إلى أن وصل دمشق فى سابع المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر «2» الأبلق جوار الميدان الأخضر وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا ملك التّتار إلى مكان الوقعة، فجمع السلطان الأمراء وضرب مشورة، فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وتلقّيه حيث كان، فأمر الملك الظاهر بضرب الدّهليز على القصير، وفى أثناء ذلك وصل رجل من التّركمان وأخبر أنّ أبغا عاد إلى بلاده هاربا خائفا؛ ثمّ وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر صلاح الدين، وهو غير بيسرى الكبير، وأخبر بمثل ما أخبر التركمانىّ، فعند ذلك أمر الملك الظاهر بردّ الدّهليز إلى الشام. وكان عود أبغا من ألطاف الله تعالى بالمسلمين، فإنّ الملك الظاهر فى يوم الجمعة نصف المحرّم من سنة ست وسبعين ابتدأ به مرض الموت.