الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 676]
ذكر ولاية «1» السلطان الملك السعيد محمد ابن الملك الظاهر بيبرس على مصر
هو السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالى محمد المدعو بركة خان ابن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ النّجمىّ، الخامس من ملوك التّرك بمصر. سمّى بركة خان على اسم جدّه لأمّه بركة خان «2» بن دولة خان الخوارزمىّ.
تسلطن الملك السعيد هذا فى حياة والده حسب ما ذكرناه فى ترجمة والده فى يوم الخميس ثالث «3» عشر شوّال سنة اثنتين وستّين وستمائة. وأقام على ذلك سنين، وليس له من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، إلى أن توفّى أبوه الملك الظاهر بيبرس فى يوم الخميس بعد صلاة الظهر التاسع والعشرين من المحرّم من سنة ستّ وسبعين وستمائة بدمشق. اتفق رأى الأمراء [على «4» ] إخفاء موت الظاهر، وكتب الأمير بيليك الخازندار عرّف الملك السعيد هذا بذلك على يد الأمير بدر الدين بكتوت
الجوكندار الحموىّ، وعلى يد الأمير علاء الدين أيدغمش الحكيمىّ «1» الجاشنكير.
فلمّا بلغ الملك السعيد موت والده الملك الظاهر أخفاه أيضا، وخلع عليهما وأعطى كلّ واحد منهما خمسين «2» ألف درهم، على أنّ ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصريّة. وسافرت العساكر من دمشق إلى جهة الديار المصريّة فدخلوها يوم الخميس سادس عشرين صفر من سنة ستّ وسبعين وستمائة، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار؛ ودخلوا مصر وهم يخفون موت الملك الظاهر فى الصورة الظاهرة، وفى صدر الموكب مكان تسيير السلطان تحت العصائب «3» ، محفّة وراءها السّلحدارية «4» والجمداريّة «5» وغيرهم من أرباب الوظائف توهم أنّ السلطان فى المحفّة مريض، هذا مع عمل جدّ فى إظهار ناموس السلطنة والحرمة للمحفّة والتأدّب مع من فيها حتى تمّ لهم ذلك.
قلت: لله درّهم من أمراء وحاشية! ولو كان ذلك فى عصرنا هذا ما قدر الأمراء على إخفاء ذلك من الظهر إلى العصر.
ولمّا وصلوا إلى قلعة الجبل، ترجّل الأمراء والعساكر بين يدى المحفّة، كما كانت العادة فى الطريق فى كل منزلة من حين خروجهم من دمشق إلى أن وصلوا إلى قلعة الجبل من باب السرّ، وعند دخولها إلى القلعة اجتمع الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالملك السعيد هذا، وكان الملك السعيد لم يركب لتلقّيهم، وقبّل الأرض ورمى بعمامته ثم صرخ، وقام العزاء فى جميع القلعة، ولوقتهم جمعوا الأمراء
والمقدّمين والجند وحلّفوهم بالإيوان المجاور لجامع «1» القلعة للملك السعيد، واستثبت له الأمر على هذه الصورة، وخطب له يوم الجمعة [سابع «2» عشرين صفر] بجوامع القاهرة ومصر، وصلّى على والده صلاة الغائب.
ومولد الملك السعيد هذا فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة؛ وقيل: سنة سبع وخمسين بالعشّ «3» من ضواحى مصر، ونشأ بديار مصر تحت كنف والده إلى أن سلطنه فى حياته؛ كما تقدّم ذكره.
وأمّا الأمير بدر الدين بيليك الخازندار فإنّه لم تطل مدّته، ومات فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأوّل. وخلع الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ بنيابة السلطنة عوضا عن بيليك الخازندار المذكور.
وفى سادس عشر شهر ربيع الأوّل [يوم «4» الأربعاء] ركب السلطان الملك السعيد من القلعة تحت العصائب على عادة والده وسار إلى تحت الجبل «5» الأحمر، وهذا أوّل ركوبه بعد قدوم العسكر، ثم عاد وشقّ القاهرة وسرّ الناس به سرورا زائدا، وكان
عمره يومئذ تسع عشرة سنة، وطلع القلعة وأقام إلى يوم الجمعة خامس «1» عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور قبض على الأمير سنقر الأشقر وعلى الأمير بدر الدين بيسرى وحبسهما بقلعة الجبل. ثم فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر قبض الملك السعيد على الأمير آق سنقر الفارقانىّ نائب السلطنة بديار مصر المقدّم ذكره.
ثم فى تاسع عشر الشهر المذكور أفرج الملك السعيد عن الأمير سنقر الأشقر وبيسرى وخلع عليهما وأعادهما إلى مكانتهما.
وفى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت المدرسة «2» التى أنشأها الأمير آق سنقر الفارقانىّ المجاورة للوزيريّة «3» بالقاهرة وجعل شيخها على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه.
وفى يوم الجمعة [رابع عشر «4» جمادى الآخرة] قبض الملك السعيد على خاله الأمير بدر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمىّ وحبسه بقلعة الجبل لأمر
نقمه عليه، ثم أفرج عنه فى ليلة «1» خامس عشرينه، وخلع عليه وأعاده إلى منزلته.
وكان الملك السعيد هذا أمر ببناء مدرسة لدفن أبيه فيها، حسب ما أوصى «2» به والده، فنقل تابوت الملك الظاهر بيبرس فى ليلة الجمعة خامس شهر رجب من قلعة دمشق إلى التربة المذكورة بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة «3» العادليّة، والتربة المذكورة كانت دار الشريف العقيقى «4» فاشتريت وهدمت، وبنى موضع بابها قبّة الدفن وفتح لها شبابيك على الطريق وجعل بقيّة الدار مدرسة على فريقين:
حنفيّة وشافعيّة. وكان دفنه بها فى نصف الليل ولم يحضره سوى الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام، ومن الخواصّ دون العشرة لا غير.
ثم وقع الاهتمام إلى السّفر للبلاد الشامية وتجهّز السلطان والعساكر. فلمّا كان يوم السبت سابع ذى القعدة برز الملك السعيد بالعساكر من قلعة الجبل إلى مسجد
التّبن «1» خارج القاهرة فأقام به إلى يوم السبت حادى عشرينه، انتقل بخواصّه إلى الميدان «2» الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلى منازلهم، وبطلت حركة السفر بعد أن أعاد قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان إلى قضاء دمشق وأعمالها من العريش الى سلمية، وتوجّه ابن خلكان إلى الشام، وطلع الملك السعيد إلى قلعة الجبل وأبطل حركة السفر بالكليّة إلى وقت يريده حسب ما وقع الاتفاق عليه، واستمرّ بالقلعة إلى أن أمر العساكر بالتأهب إلى السفر وتجهّز هو أيضا لأمر اقتضى ذلك.
وخرج من الديار المصريّة فى العشر الأوسط من ذى القعدة من سنة سبع وسبعين وستمائة وخرج من القاهرة بعساكره وأمرائه، وسار حتى وصل إلى الشام فى خامس ذى الحجّة، فخرج أهل دمشق إلى ملتقاه وزيّنوا له البلد وسرّوا بقدومه سرورا زائدا. وعمل عيد النّحر بقلعة دمشق وصلّى العيد بالميدان الأخضر.
وورد عليه الخبر بموت الصاحب بهاء الدين «3» على بن محمد بن سليم بن حنّا بالقاهرة، فقبض السلطان على حفيده الصاحب تاج الدين «4» محمد، وضرب الحوطة على موجوده بسبب موت جدّه الصاحب بهاء الدين المذكور.
ثم أرسل السلطان الملك السعيد إلى برهان «1» الدين الخضر بن الحسن السّنجارىّ باستقراره وزيرا بالديار المصرية ثم خلع السلطان على الصاحب فتح الدين عبد الله [ابن محمد «2» بن أحمد بن خالد بن نصر] بن القيسرانىّ بوزارة دمشق، وبسط يده فى بلاد الشام وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه.
ثم جهّز السلطان العساكر إلى بلاد سيس للنّهب والإغارة «3» ، ومقدّمهم الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ. وأقام الملك السعيد بدمشق فى نفر يسير من الأمراء والخواصّ، فصار فى غيبة العسكر يكثر التردّد الى الربعية «4» من قرى المرج يقيم فيها أيّاما ثمّ يعود. ثم أسقط السلطان ما كان قرّره والده الملك الظاهر على بساتين دمشق فى كلّ سنة، فسرّ الناس بذلك وتضاعفت أدعيتهم له واستمرّ السلطان بدمشق إلى أن وقع الخلف فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين بين المماليك الخاصّكيّة الملازمين لخدمته وبين الأمراء لأمور «5» يطول شرحها.
وعجز الملك السعيد عن تلافى ذلك، وخرج عن طاعته الأمير سيف الدين كوندك «1» الظاهرىّ نائب السلطنة ومقدّم العساكر مغاضبا للسلطان الملك السعيد، وخرج معه نحو أربعمائة مملوك من الظاهريّة: منهم جماعة كثيرة مشهورة بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيّفة «2» فى انتظار العساكر التى ببلاد سيس ففى العشر الأخير من شهر ربيع الأوّل عادت العساكر من بلاد سيس إلى جهة دمشق فنزلوا بمرج عذراء «3» إلى القصير «4» ؛ وكان قد اتّصل بهم سيف الدين كوندك ومن معه واستمالوهم فلم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد فى معنى الخلف الذي حصل بين الطائفتين، وكان كوندك مائلا إلى الأمير بيسرى. ولمّا اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الألفى والأمير بدر الدين بيسرى والأمراء الكبار أوحى إليهم عن السلطان ما غلّت صدورهم، وخوّفهم من الخاصّكيّة وعرّفهم أنّ نيّتهم لهم غير جميلة، وأنّ الملك السعيد موافق على ذلك وأكثر من القول المختلق؛ فوقع الكلام بين الأمراء الكبار وبين السلطان الملك السعيد، وتردّدت الرّسل بينهم، فكان من جملة ما اقترح الأمراء على الملك السعيد إبعاد الخاصّكيّة عنه، وألّا يكون لهم فى الدولة تدبير ولا حديث، بل يكونوا على أخبازهم ووظائفهم مقيمين؛ فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك؛ فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة الشّحورة «5» بأسرهم ولم يعبروا المدينة بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرّسل تتردّد بينهم وبين
الملك السعيد؛ ثم رحلوا ونزلوا بمرج «1» الصّفّر وعند رحيلهم رجع الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام وأكثر عسكر دمشق، وقدموا مدينة دمشق ودخلوا فى طاعة السلطان. وفى يوم رحيلهم من مرج الصّفّر سيّر الملك السعيد والدته بنت بركة خان فى محفّة وفى خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر، وكان من الذين لم يتوجّهوا إلى بلاد سيس ولحقوا العسكر؛ فلمّا سمعوا بوصولها خرج الأمراء الأكابر المقدّمون لملتقاها، وترجّلوا بأجمعهم وقبّلوا الأرض أمام المحفّة، وبسطوا الحرير العتّابى «2» وغيره تحت حوافر بغال المحفّة ومشوا أمام المحفّة حتى نزلت فى المنزلة، فلمّا استقرّت بها تحدّثت معهم فى الصلح والانقياد واجتماع الكلمة، فذكروا ما بلغهم من تغيّر السلطان عليهم، وموافقته الخاصّكيّة على ما يرومونه من إمساكهم وإبعادهم؛ فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم، فاشترطوا شروطا كثيرة التزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها وعرّفته الصورة؛ فمنعه من حوله من الخاصّكيّة من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا: ما القصد إلّا إبعادنا عنك حتّى يتمكنوا منك وينزعوك من الملك، فمال إلى كلامهم وأبى قبول تلك الشروط.
فلمّا بلغ العسكر ذلك رحل من مرج الصّفّر قاصدا الديار المصريّة؛ فخرج السلطان الملك السعيد بنفسه فيمن معه من الخاصّكيّة جريدة، وساق فى طلبهم ليتلافى الأمر إلى أن بلغ رأس «3» الماء، فوجدهم قد عدوه وأبعدوا، فعاد من يومه ودخل قلعة دمشق فى الليل وهى ليلة الخميس سلخ شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وسبعين وستمائة. وأصبح فى يوم الجمعة مستهلّ شهر ربيع الآخر خرج السلطان
الملك السعيد بجميع من تحلّف معه من العساكر المصريّة والشاميّة إلى جهة الديار المصريّة بعد أن صلّى الجمعة بها، وسار بمن معه فى طلب العساكر المقدّم ذكرهم، وجهّز والدته وخزائنه إلى الكرك؛ وسار حتّى وصل إلى بلبيس يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر المذكور، فوجد العسكر قد سبقه إلى القاهرة؛ فأمر بالرحيل من بلبيس؛ فلمّا أخذت العساكر فى الرحيل من بلبيس بعد العصر فارق الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام وصحبته أكثر أمراء دمشق السلطان الملك السعيد، وانضاف إلى المصريّين، وبلغ الملك السعيد ذلك فلم يكترث؛ وركب بمن بقى معه من خواصّه وعساكره وسار بهم حتّى وصل ظاهر القاهرة؛ وكان نائبه بالديار المصريّة الأمير عز الدين أيبك الأفرم، وهو بقلعة الجبل والعساكر محدقة بها، فتقدّم الملك السعيد بمن معه لقتال العساكر، وكان الذي بقى مع السلطان الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من يقاتلونه، ووقع المصافّ بينهم وتقاتلوا فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ من جهة الملك السعيد وشقّ الأطلاب ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل من الفريقين نفر يسير، وملك القلعة وشال علم السلطان، ثم نزل وفتح للملك السعيد طريقا وطلع به إلى القلعة.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه بقى فى المطريّة «1» وحده وصار لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ولمّا طلع السلطان إليها أحاطت العساكر بها وحاصروها وقاتلوا من بها قتالا شديدا
وضايقوها وقطعوا الماء الذي يطلع إليها وزحفوا عليها فجدّوا فى القتال، ورأى الملك السعيد تخلّى من كان معه وتخاذل من بقى معه من الخاصّكيّة، وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه فى العسكر المخامر الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ، وهو حمو الملك السعيد فإنّ الملك السعيد كان تزوّج ابنته قبل ذلك بمدّة «1» ، فجرت المراسلات بينهم وكثر الكلام وتردّدت الرّسل غير مرّة، حتّى استقرّ الحال على أن الملك السعيد يخلع من السلطنة وينصّبون فى السلطنة أخاه بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس، ويقطعون الملك السعيد هذا وأخاه نجم الدين خضرا الكرك والشّوبك وأعمالهما؛ فسيّر الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ والقاضى تاج الدين محمد بن الأثير إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق لنفسه منهم، فحلفوا له على الوفاء بما التزموه من إعطاء الكرك والشّوبك له ولأخيه.
وخرج من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور ونزل إلى دار
العدل «1» التى على باب القلعة، وكانت مركز الأمير قلاوون فى حال المصافّ والقتال، وكان الحصار ثلاثة أيام بيوم القدوم لا غير.
ولمّا حضر الملك السعيد إلى عند قلاوون أحضر أعيان القضاة والأمراء والمفتين وخلعوا الملك السعيد هذا من السلطنة وسلطنوا مكانه «2» أخاه بدر الدين سلامش ولقّبوه بالملك العادل سلامش، وعمره يومئذ سبع سنين وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى الصالحىّ النّجمىّ. واستمرّت بنت قلاوون عند زوجها الملك السعيد المذكور إلى ما سيأتى ذكره.
ثم أخذ قلاوون فى تحليف الأمراء للملك العادل فحلفوا له بأجمعهم على العادة، وضربت السّكّة فى أحد الوجهين: اسم الملك العادل والآخر اسم قلاوون، وخطب لهما أيضا معا على المنابر، واستمرّ الأمر على ذلك؛ وتصرّف قلاوون فى المملكة والخزائن، وعامله الأمراء والجيوش بما يعاملون به السلطان. ثم عمل قلاوون بخلع الملك السعيد محضرا شرعيّا ووضع الأمراء خطوطهم عليه وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتون والقضاة وأعطوا الملك السعيد الكرك وعملها، وأخاه نجم الدين خضرا الشّوبك وعملها. وخرج الملك السعيد من قلعة الجبل إلى بركة «3» الحجّاج متوجّها إلى الكرك فى يوم الاثنين ثامن عشر شهر ربيع الآخر المذكور من سنة ثمان وسبعين (أعنى ثانى يوم من خلعه) ومعه جماعة من العسكر صورة ترسيم، ومقدّمهم الأمير
سيف الدين بيدغان الرّكنى، ثم بدا لهم أن يرجعوا به إلى القلعة فعادوا إليها فى نهار الاثنين لأمر أرادوه وقرّروه معه ثم أمروه بالتوجّه؛ فخرج وسافر ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلها يوم الاثنين خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور، وتسلّم أخوه نجم الدين خضر الشّوبك، وكان الأمير بيدغان ومن معه قد فارقوا الملك السعيد من غزّة ورجعوا إلى الديار المصريّة؛ وأقام الملك السعيد بالكرك وزال ملكه؛ فكانت مدّة حكمه وسلطنته بعد موت أبيه الملك الظاهر بيبرس إلى يوم خلعه سنتين وشهرين «1» وخمسة عشر يوما، واستمرّ بالكرك مع مماليكه وعياله، وقصده الناس والأجناد، فصار ينعم على من يقصده، واستكثر من استخدام المماليك.
ثم رسم الأمير سيف الدين قلاوون بانتقال الملك خضر من الشّوبك إلى عند أخيه الملك السعيد بالكرك، وتسلّم نوّاب قلاوون الشّوبك؛ ودام الملك السعيد على ذلك حتى خلع سلامش من السلطنة وتسلطن قلاوون حسب ما يأتى ذكر ذلك كلّه فى ترجمتهما.
فلمّا تسلطن قلاوون بلغه عن الملك السعيد أنّه استكثر من استخدام المماليك وأنّه ينعم على من يقصده فاستوحش منه، وتأثّر من ذلك. فمرض الملك السعيد بعد ذلك بمدّة يسيرة وتوفّى، رحمه الله تعالى، فى يوم الجمعة حادى عشر ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة بالكرك، ودفن من يومه بأرض «2» مؤتة عند جعفر بن أبى طالب، رضى الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق فى سنة «3» ثمانين وستمائة فدفن إلى جنب والده الملك الظاهر بيبرس بالتّربة التى أنشأها قبالة المدرسة العادليّة «4» السّيفيّة، وألحده
قاضى القضاة عزّ الدين محمد «1» بن الصائغ. وكانت مدة إقامته بالكرك بعد أن خلع من السلطنة ستة أشهر وخمسة وعشرين يوما. ووجد الناس عليه كثيرا وعمل عزاؤه بسائر البلاد، وخرجت الخوندات حاسرات بجواريهنّ يلطمن بالملاهى والدّفوف أياما عديدة، ويسمعن الملك المنصور قلاوون الكلام الخشن وأنواع السبّ وهو لا يتكلّم، فإنّه نسب اليه أنه اغتاله بالسمّ لمّا سمع كثرة استخدامه للمماليك وغيرهم.
قلت: ولا يبعد ذلك عن الملك المنصور قلاوون لكثرة تخوّفه من عظم شوكته وكثرة مماليك والده وحواشيه. وأبغض الناس الملك المنصور قلاوون سنينا كثيرة إلى أن أرضاهم بكثرة الجهاد والفتوحات؛ وأبغض الملك المنصور قلاوون حتى ابنته زوجة الملك السعيد المذكور، فإنّها وجدت على زوجها الملك السعيد وجدا عظيما وتألّمت لفقده؛ ولم تزل باكية عليه حزينة لم تتزوّج بعده إلى أن توفّيت بعد زوجها الملك السعيد بمدّة طويلة فى مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثمانين وستمائة.
وكانت شقيقة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، ودفنت فى تربة «2» معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة.
وصلّى على الملك السعيد بدمشق صلاة الغائب يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجّة. ثم أنعم الملك المنصور بالكرك بعد موته على أخيه خضر ولقّب بالملك المسعود خضر.
وكان الملك السعيد، رحمه الله، سلطانا جليلا كريما سخىّ الكفّ، كثير العدل فى الرعيّة، محسنا للخاصّ والعامّ، لا يردّ سائلا ولا يخيّب آملا، وكان متواضعا بشوشا، حسن الأخلاق ليس فى طبعه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة على الناس، ليّن الكلمة محبّا لفعل الخير، قليل الحجاب على الناس يتصدّى للأحكام بنفسه، وكان لا يميل لسفك الدماء مع قدرته على ذلك، وكان يوم دخوله إلى قلعة الجبل ولد له مولود ذكر من بعض حظاياه فى شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان يحبّ التجمّل ويكثر من الإنعام على الناس ويخلع حتّى فى الأعزية. ولمّا مات خاله الأمير بدر الدين محمد بن بركة خان بن دولة خان، وكان من أعيان الأمراء بالديار المصريّة فى الدولة الظاهريّة، وكان حصل له عند إفضاء الملك لابن أخته الملك السعيد تقدّم كبير ومكانة عالية، وتوجّه معه إلى دمشق فمرض بها إلى أن توفّى ليلة الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل، ودفن بسفح قاسيون بالتّربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف؛ ومقدار عمره خمسون سنة، عمل «1» له
عدّة أعزية وقرئ بالتّربة عدّة ختمات، حضر إحداها ابن أخته الملك السعيد، ومدّ خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات، فأكل من حضر، وخلع الملك السعيد على والدته ومماليكه وخواصّه وهو فى العزاء فلبسوا الخلع وقبّلوا الأرض، وكانت الخلع خارجة عن الحدّ. فهذا أيضا ممّا يدلّ على كرمه ووسع نفسه وكثرة إنعامه حتّى فى الأعزية، رحمه الله تعالى. انتهت ترجمة الملك السعيد.
ويأتى ذكر حوادث سنين سلطنته على عادة هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى من ولاية الملك السعيد محمد بركة خان على مصر، وهى سنة ستّ وسبعين وستمائة.
فيها توفى الشيخ كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل [ «1» بن إبراهيم ابن فارس] الإسكندرى المقرئ، كان عارفا بالقراءات، وانتفع به خلق كثير، وتولّى نظر حبس دمشق، ونظر بيت المال بها مضافا إلى نظر الحبس، وباشر عدّة وظائف دينيّة. ومات فى صفر. وكان رئيسا فاضلا.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله المحمّدىّ الصالحىّ النّجمىّ، كان من أعيان الأمراء ومن أكابرهم، وكان الملك الظاهر بيبرس يخافه، فحبسه مدّة طويلة ثم أفرج عنه فمات فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بتربته «2» بالقرافة الصغرى.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الموصلىّ الظاهرىّ نائب السلطنة بحمص، وكان ولى حمص مدّة ثم عزله الملك الظاهر عنها ونفاه إلى حصن «1» الأكراد، وكان شجاعا مقداما.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الدّمياطىّ الصالحىّ النّجمىّ أحد أكابر الأمراء المقدّمين على الجيوش، كان قديم الهجرة [بينهم «2» ] فى علوّ المنزلة وسموّ المكانة، وكان الملك الظاهر أيضا حبسه مدّة طويلة ثم أطلقه وأعاده إلى مكانته.
ومات بالقاهرة فى شعبان ودفن بتربته التى أنشأها بين القاهرة ومصر فى القبّة «3» المجاورة لحوض السبيل «4» المعروف به.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيدمر بن عبد الله العلائىّ نائب قلعة صفد، حضر بعد موت الملك الظاهر إلى القاهرة ومات بها ودفن بالقرافة الصغرى، وكان ديّنا عفيفا أمينا، وهو أخو الأمير علاء الدين أيدكين الصالحىّ.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بيليك بن عبد الله الظاهرىّ الخازندار نائب السلطنة بالديار المصريّة بل بالممالك كلّها. قد تقدّم من ذكره نبذة جيّدة فى عدّة مواطن، وهو الذي أخفى موت الملك الظاهر حتى قدم به إلى مصر حسب ما تقدّم ذكره، وكانت وفاته بالقاهرة فى سادس شهر ربيع الأوّل بقلعة الجبل ودفن بتربته «1» التى أنشأها بالقرافة الصغرى، وحزن الناس عليه حزنا شديدا حتى شمل مصابه الخاصّ والعامّ، وعمل عزاؤه بالقاهرة ثلاثة أيام، فى الليل بالشّموع وأنواع الملاهى. وصدّع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنّه مات مسموما، وكان عمره خمسا وأربعين سنة، ومحاسنه كثيرة يطول الشرح فى ذكرها.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد خضر بن أبى بكر [محمد «2» ] بن موسى أبو العبّاس المهرانىّ العدوىّ، كان أصله من قرية المحمّديّة من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر بيبرس، وصاحب الزاوية «3» التى بناها له الملك الظاهر بالحسينيّة على الخليج «4» بالقرب من جامع «5» الظاهر. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الظاهر ما يغنى عن الإعادة هاهنا. وكان الشيخ خضر بشّر الملك الظاهر قبل سلطنته بالملك، فلمّا تسلطن صار له فيه العقيدة العظيمة حتّى إنّه كان ينزل إليه فى الجمعة المرّة والمرّتين،
وكان يطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره فى أموره، ويستصحبه فى أسفاره، وفيه يقول الشريف محمد بن «1» رضوان الناسخ.
ما الظاهر السلطان إلا مالك الد
…
نيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس فى
…
وسط السماء بكلّ عين تنظر
لمّا رأينا الخضر يقدم جيشه
…
أبدا علمنا أنّه الإسكندر
وكان الشيخ يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبره، ثم تغيّر الملك الظاهر عليه لأمور بلغته عنه وأحضر السلطان من حاققه، وذكروا عنه من القبائح ما لم يصدر عن مسلم! والله أعلم بصحّة ذلك؛ فآستشار الملك الظاهر الأمراء فى أمره، فمنهم من أشار بقتله، ومنهم من أشار بحبسه، فمال الظاهر إلى قتله ففهم خضر؛ فقال للظاهر: اسمع ما أقول لك، إنّ أجلى قريب من أجلك، وبينى وبينك مدّة أيّام يسيرة، فمن مات منّا لحقه صاحبه عن قريب! فوجم الملك الظاهر وكفّ عن قتله، فحبسه فى مكان لا يسمع له فيه حديث، وكان حبسه فى شوّال سنة إحدى وسبعين وستمائة، وتوفّى يوم الخميس أو فى ليلة الجمعة سادس المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن بزوايته بالحسينيّة. وكان الملك الظاهر بدمشق، فلمّا بلغه موته اضطرب وخاف على نفسه من الموت لما كان قال له الشيخ خضر: إنّ أجله من أجله قريب، فمرض الظاهر بعد أيام يسيرة ومات، فكان بين الشيخ خضر وبين الملك الظاهر دون الشهر. انتهى.
وفيها توفّى شيخ الإسلام محيى الدين أبو زكريّا يحيى بن شرف بن مرى «1» بن الحسن ابن الحسين النّووىّ «2» الفقيه الشافعىّ الحافظ الزاهد صاحب المصنّفات المشهورة.
ولد فى العشر الأوسط من المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ومات ليلة الأربعاء رابع عشرين شهر رجب بقرية نوى.
قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر. وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ؛ إذ هو كتاب تراجم يحسن الإطناب فيه. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك القاهر عبد الملك بن المعظّم [عيسى «3» ] بن العادل [أبى بكر «4» بن أيّوب] فى المحرّم مسموما.
والسلطان الملك الظاهر ركن الدين الصالحىّ بيبرس فى أواخر المحرّم بالقصر «5» الأبلق،