الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الرابع دلالات النصوص المذكورة وما شابهها]
المبحث الرابع
دلالات النصوص المذكورة، وما شابهها بإمعان النظر في النصوص التي سقناها آنفا، من الكتاب والسنة، وما لم نذكرها مما في معناها، نستنبط منها جملة من الدلالات - غير التي سبقت الإشارة إليها في ثنايا عرض النصوص - منها ما يلي:
1 -
إن اليسر والسماحة وانتفاء الحرج من أكبر مقاصد الشريعة، كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم:
فقد قال الإمام العز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -: " التيسير ورفع الحرج أصل عظيم في الدين، وركن من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله سبحانه وتعالى به، فلم يحملنا إصرا ولا كلفنا في مشقة أمرا (1) .
ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: " رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري البتة. . ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة، ولم يشرع فيه رخصة، تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات "(2) .
ويقول العلامة ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: " استقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين "(3) .
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام، ص 128.
(2)
الموافقات 1 / 352.
(3)
مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 270.
وقد أجمعت علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المعتادة في التكاليف الشرعية ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وهي منزهة عنه (1) .
ومن هنا فقد وجدنا الفقهاء - رحمهم الله تعالى - كثيري الاعتماد على هذا الأصل في استنباط الأحكام وتعليلها وترجيح بعضها على بعض، حتى قال الإمام إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى -:" إِذَا تَخَالَجَكَ أَمْرَانِ، فَظُنَّ أَنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَيْسَرُهُمَا "(2) .
وقد استنبط الفقهاء من هذا الأصل القاعدة الفقهية الكبرى: " المشقة تجلب التيسير "(3) وما يندرج تحتها من القواعد الفقهية.
2 -
إن اليسر والسماحة من خصائص الشريعة الإسلامية: وذلك:
أولا - لأن الله سبحانه وتعالى أراد للشريعة الإسلامية أن تكون شريعة عامة للناس كافة في جميع أنحاء المعمورة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فاقتضى ذلك أن يجعل الله فيها من اليسر والسماحة والتخفيف ما يلائم اختلاف الناس وطبائعهم، في مختلف الأزمان، وتباين البقاع، حتى يكون تنفيذها بين الأمة سهلا ميسورا، ولا يتأتى ذلك إلا إذا انتفى عنها التشديد والإعنات (4) .
(1) انظر: الموافقات 2 / 132.
(2)
كتاب الآثار: محمد بن الحسن الشيباني، ص 196.
(3)
انظر: الأشباه والنظائر: السيوطي، ص 76.
(4)
انظر: المرجع السابق، والعبادة في الإسلام: د / يوسف القرضاوي، ص 188.
ثانيا - لأنها شريعة الفطرة، وفي فطرة الإنسان حب اليسر والرفق والسماحة، والنفور من الشدة والإعنات، فإن طبيعة البشر العادية تنفر من التشديد ولا تحتمله، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه بعضهم لم يصبر عليه عامتهم، والشريعة إنما خاطبت الناس جميعا. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الإسلام، وتقبل الناس له على مر العصور.
ثالثا - ولأن هذه الأمة أمة وسط في جميع المجالات، منها مجال شرعها الحنيف؛ لأن السماحة في الشريعة تعني سهولة التكليف والمعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهذا راجع إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، والوسطية مما تميزت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، كما قال جل شأنه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الآية (1) .
وعلى ذلك، فإن من نعمة الله تعالى على هذه الأمة أن جعل دينها وشريعتها حنيفية سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، لا إصر فيها ولا الأغلال التي كانت على الأمم السالفة، كما وصف بذلك نبيها صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157](2) .
(1) سورة البقرة: الآية 143. وانظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 268 - 269؛ العبادة في الإسلام: د / يوسف القرضاوي، ص 188؛ والصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، له أيضا، ص 24؛ و29.
(2)
سورة الأعراف: الآية 157.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: " أي أنه جاء بالتيسير والسماحة. . وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم. . " إلخ (1) .
وقال القرطبي - رحمه الله تعالى -: " ولم يكن في دين محمد صلى الله عليه وسلم الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية، كما كان في دين عيسى عليه السلام، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج، خفيفة على الآدمي "(2) .
3 -
إن اليسر والسماحة ورفع الحرج تشمل جميع أعمال المكلف، الدينية منها والدنيوية، ما لم يخالف حكما شرعيا. فليس للمسلم أن يشدد على نفسه بما لا يحتمله من العبادة، ولا أن يضيق على نفسه في أمور الدنيا بزعم التقرب إلى الله تعالى بذلك، فليس التضييق على النفس في الحلال من القربة إلى الله تعالى والزهد؛ لأن وجهة الإسلام العامة هي التيسير، فمن يبغي الشدة والتعنت إنما يعاند روح الإسلام (3) .
4 -
إن الأمر بالتيسير والسماحة يعم جميع المكلفين، كل فيما يخصه:
(1) تفسير القرآن العظيم 2 / 265.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 10 / 56 - 57.
(3)
انظر: الموافقات 1 / 341؛ العبادة في الإسلام، ص 188.
فنرى - مثلا - أن الأئمة مأمورون بتخفيف الصلاة، مراعاة لظروف وأحوال من وراءهم من المأمومين.
والمعلمون والمربون مطالبون بالتيسير والرفق بالمتعلمين، فينبغي أن يرفقوا بهم ويأخذوهم باللين واللطف لا بالشدة والعنف الذي ينفرهم من الحق، ويستأنس لذلك بما حكاه الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام وهو في مقام التعلم من الخضر عليه السلام {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] (1) .
وكذلك الدعاة ينبغي لهم أن يتحلوا بالرفق واللين والسماحة حتى تعطي دعوتهم ثمارها المرجوة كما أمر الله سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44](2) وكما قال عز من قائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125](3) .
كما يجب على الأمراء والولاة والعمال، وكل من تولى شيئا من أمور المسلمين أن ييسر على من تحت أيديهم ويرفق بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(1) سورة الكهف: الآية 73.
(2)
سورة طه: الآية 43 - 44.
(3)
سورة النحل: الآية 125.
«اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (1) .
والمفتون كذلك ليس لهم أن يفتوا بما فيه حرج وشدة على المستفتي، ما دام يجد له مخرجا شرعيا صحيحا. وهكذا باقي فئات المجتمع.
5 -
إن الأمر بالتيسير والنهي عن التعمق والتشديد معلل بأمور (2) منها:
(أ) الخوف من الانقطاع عن العبادة وبغض العبادة، وكراهة التكليف. وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
قال ابن المنير - رحمه الله تعالى - في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع " (3) .
وقد بوب ابن حبان - رحمه الله تعالى - على قوله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» : " باب ذكر العلة التي من أجلها أمر بالأمر بإتيان الطاعات على الرفق ".
(1) أخرجه مسلم في: 33 - كتاب الإمارة، 5 - باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3 / 1458 (1827) .
(2)
انظر: الموافقات 2 / 136 فما بعدها، ومقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام، ص:336.
(3)
فتح الباري 1 / 117؛ وانظر أيضا الصحوة الإسلامية بين التطرف والجمود، ص 30.
(ب) الخوف من التقصير عند مزاحمة الحقوق والواجبات والوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، فإنه ربما أوغل في رعاية جانب على حساب جانب آخر فغفل عنه، كما تدل عليه قصة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنهما.
وكما هو مقرر عند الأصوليين أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فمن انتفت في حقه هذه العلل فله ذلك، كما نقل عن حال بعض السلف من هذه الأمة ممن يسر الله تعالى لهم طاعته، وسهل عليهم تحمل المشاق في طاعته وعبادته، كما نبه عليه الإمام الشاطبي، رحمه الله تعالى (1) .
6 -
وأخيرا يجب التنبيه هنا على أنه ليس المراد بيسر الدين وسماحة الشريعة ترك العمل، أو تتبع مواطن الرخص، بعيدا عن الغاية الحقيقية من خالص الخضوع والطاعة لله وحده، والأخذ بالأسهل من الأمور تبعا للهوى، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الانسلاخ من الأحكام والتهاون في مسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات المالية وغيرها بدعوى يسر الدين وسماحته وعدم الحرج فيه (2) بل المراد تجنب المشقة غير المعتادة بعدم التشديد في العبادات بنية التورع، وتحاشي التعمق في المسائل بزعم الطلب للأحوط وترك الشبهات، والله تعالى أعلم.
(1) انظر: الموافقات 2 / 140 - 141.
(2)
انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ضوابطه وتطبيقاته: الدكتور / صالح بن عبد الله بن حميد، ص 14.
هذا ما تيسرت لي كتابته في هذا الموضوع وهو غيض من فيض، مما يؤكد أن اليسر والتخفيف ورفع الحرج والمشقة من أبرز سمات هذا الدين الحنيف وشريعته السمحة، أسأل الله العلي العظيم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.