الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذين قالوا: نأخذ بالأشد؛ ذهبوا إليه لأنه الأحوط، وهؤلاء خالفوا أدلة أصحاب القول الأول، ثم الاحتياط هو:" الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة، ولا تقصير ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله "(1) .
وعليه فإن الاحتياط هو الترجيح عند الاختلاف، فالمجتهد والمتبع والعامي يسلكون مسلك الترجيح عند الاختلاف لكل واحد منهم بحسبه، فلا يرجح الأيسر، ولا يرجح الأثقل، وإنما يرجح ما جاء به الدليل، فإن لم يتبين الدليل رجعوا جميعا إلى استفتاء النفس والقلب (2) .
[ثانيا الأدلة من السنة]
ثانيا: الأدلة من السنة (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ. ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] » (3) .
(1) الروح لابن القيم ص 346، وانظر إغاثة اللهفان (1 / 162 - 163) .
(2)
الاختلاف وما إليه / لمحمد بازمول ص 103 - 104.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (1 / 465، 435) ، وأخرجه الدارمي في سننه في المقدمة، باب في كراهة أخذ الرأي، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (1 / 13) ، وابن حبان (الإحسان) 1 / 180 - 181 تحت رقم (6 - 7) ، والحاكم في المستدرك (2 / 318) . وأخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (11) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (1 / 13) .
والحديث صححه ابن حبان، والحاكم، وحسن إسناده محقق الإحسان، وصححه لغيره الألباني في ظلال الجنة (1 / 13) .
وتقدم تقرير دلالة وصف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم بأنه الصراط المستقيم، وأنه يقتضي معنى الوسطية والخيرية، التي بين طرفي التفريط والإفراط.
قال ابن تيمية رحمه الله: " أصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسوله، قال الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153](الأنعام: 153)، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]
وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين، حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم وشرعوا دينا لم يأذن به الله، فقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21](الشورى: من الآية 21) ، ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك ". اهـ (1) .
(1) مجموع الفتاوى (10 / 388 -389) .
(2)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (1) .
ووجه الدلالة في هذا الحديث: أن الوسطية هي الخيرية، ومحاسن الأخلاق ومكارمها هي الوسط بين طرفين؛ وكل ما يدعو إليه الدين هو من مكارم الأخلاق التي هي أوساط للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط (2) .
ولا ينازع في أن الغلو خلق ليس من مكارم الأخلاق، فصح أن الدين لم يأت به، لأنه إنما جاء لصالح الأخلاق ومكارمها.
(3)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا. فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدُّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.
(1) أخرجه أحمد (الرسالة 14 / 512 - 513، تحت رقم 8952) ، والبخاري في الأدب المفرد (صحيح الأدب المفرد 118، تحت رقم 207 / 273) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10 / 191 - 192) ، والحاكم (2 / 613) . والحديث صححه الحاكم، ومحققو مسند أحمد، والألباني في صحيح الأدب المفرد، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (45) .
(2)
وقد توسع ابن قيم الجوزية في كتاب الروح / دار الفكر - الأردن / ص 314 إلى آخر الكتاب، في بيان جملة من الفروق بين الأمور، يتبين الناظر فيها حقيقة كون الحق والخير بين طرفين إفراط وتفريط.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (1) .
ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن التشدد في العبادة ليس من سنته؛ فإذا كان التشدد في العبادة ليس من سنته، فمن باب أولى التشدد والمبالغة والغلو في الأمور الأخرى.
قال ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رحمه الله: " قَوْلُهُ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض. والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره.
والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل.
وقوله: " فَلَيْسَ مِنِّي " إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى:" فَلَيْسَ مِنِّي " أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى:" فَلَيْسَ مِنِّي ": ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر.
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث (5063) ، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، حديث رقم (1401) .
وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس، وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل.
قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف: فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين.
قلت: لا يدل ذلك لأحد الفريقين إن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا، فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه، ويرد عليه صريح قوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]
كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط ". اهـ (1) .
(4)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» (2) .
والمتنطعون هم - كما قال شراح الحديث - المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
(1) فتح الباري (9 / 105 - 106) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670) .
والحديث ظاهره خبر عن حال المتنطعين، إلا أنه في معنى النهي عن التنطع وهو دليل على أن التوسط والاعتدال في الأمور هو سبيل النجاة من الهلاك؛ فإنه إذ ذم التنطع وهو المغالاة والمجافاة وتجاوز الحد في الأقوال والأفعال، فقد دل على أن المطلوب هو التوسط، وذلك متصور في الطرفين؛ فمثلا شأن الدنيا من تشدد في طلبه والسعي وراءه دون الآخرة، فقد تنطع في طلبها، وهلك، ومن تشدد في مجافاتها والغلو في تركها والبعد عنها، فقد تنطع، وهلك، والتوسط بينهما هو المطلوب.
(5)
وذكر أن الغلو في التعبد من سمات طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ!
فَقَالَ: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ!
فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ» .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ، وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ (1) .
فهؤلاء غلوا في العبادات - والعبادات الدينية أصولها الصلاة والصيام والقراءة - بلا فقه؛ فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال:«يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ، وأمر بقتلهم، فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة (2) .
(6)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (3) .
[والمُشَادَّةُ بالتشديد: المغالبة، يقال: شَادَّهُ يُشَادُّهُ مُشَادَّةً إذا قَاوَاهُ، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب.
قوله: " فَسَدِّدُوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب من غير إفراط، ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل.
(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، حديث رقم (3610) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (1064) .
(2)
انظر مجموع الفتاوى (10 / 392 - 393) .
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم (39) ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2816) .
قوله: " وَقَارِبُوا " أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.
قوله: " وَأَبْشِرُوا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، لأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم الْمُبَشَّرَ به تعظيما له وتفخيما.
قوله: " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ " أي: استعينوا على مداومة العبادة لإيقاعها في الأوقات المنشطة.
وَالْغَدْوَةُ بالفتح: سير أول النهار، وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة، وطلوع الشمس.
وَالرَّوْحَةُ بالفتح: السير بعد الزوال.
وَالدُّلْجَةُ: بضم أوله وفتحه وإسكان اللام: سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض؛ ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة] (1) .
(1) من فتح الباري (1 / 94 - 95)، وفيه: قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع. وليس المراد منها طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة "اهـ.
والحديث نص في أن الدين يسر، وأن الدين قصد وأخذ بالأمر الوسط، فلا يفرط المرء على نفسه، ولا يفرط.
(7)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» (1) .
والحديث نص في أن الإسلام حنيفية سمحة، والسماحة تتنافى مع الغلو والتشدد فيه.
(8)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (2) .
والحديث يأمر بالتيسير وترك التنفير والتعسير، مما يستلزم ترك الغلو وطلب الوسط، إذ اليسر هو السماحة وترك التشدد، وخير الأمور الوسط. وقد بوب البخاري على الحديث في كتاب الأدب " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يسروا ولا تعسروا» ، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس ".
(1) أخرجه أحمد في المسند (الرسالة 4 / 17، تحت رقم 2107) ، والبخاري في الأدب المفرد (صحيح الأدب المفرد ص 122، تحت رقم 220 / 287) ، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب 1 / 497، تحت رقم 567) ، وعلقه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ". والحديث حسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (1 / 94) ، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الأدب المفرد، وكذا في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (881) ، وكذا محقق المنتخب، وصححه لغيره محققو المسند.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم، حديث رقم (69) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، حديث رقم (1734) .
وقد أخذ العلماء بهذا الأمر، فقعدوا قاعدة فقهية هي من قواعد الفقه الكبرى (1) والتي عليها مدار الفقه الإسلامي، وهي قاعدة:" المشقة تجلب التيسير، ومن فروعها: " الضرورة تبيح المحظورة "، " الرضى بأهون الضررين لدفع أعلاهما إذا لم يكن من أحدهما بد " (2) .
(9)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاِت الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (3) .
(1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 76، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص 157، القواعد الفقهية الخمس الكبرى، والقواعد المندرجة تحتها، من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 233 - 239.
(2)
فتح الباري (10 / 525) . وهذه القاعدة الفرعية معدودة في كتب القواعد الفقهية ضمن فروع قاعدة: لا ضرر ولا ضرار، أو الضرر يزال، ولا تمانع فهي تدخل تحت القاعدتين، فإن من التيسير الرضى بأهون الضررين إذا لم يكن من إحداهما بد، ومن الضرر الذي يزال: دفع الضرر الأعلى بالأدنى، ويدل على ما ذكرت أنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول، حديث رقم (220)، عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر. والله الموفق.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (الرسالة 3 / 351، تحت رقم 1851) ، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، حديث رقم (3057) ، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3029) ، وابن خزيمة (4 / 274، تحت رقم 2867) ، وابن حبان (الإحسان (9 / 183، تحت رقم 3871) ، والحاكم (1 / 466) . والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وصحح إسناده محققو مسند أحمد، ومحقق الإحسان.
الْغُلُوُّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَمُّقِ (1) يقال: غَلَا فِي الشَّيْءِ يَغْلُو غُلُوًّا، وَغَلَا السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً إِذَا جَاوَزَ الْعَادَةَ، وَالسَّهْمُ يَغْلُو غَلْوًا، بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ مَا يُرْمَى.
والحديث نص صريح في النهي عن الغلو في الدين، فمنهاج الدين وسبيله هو السماحة والتيسير وترك التشدد في حدود ما جاء في الشرع.
ومن فوائد الحديث تنبيهه على قضية خطيرة جدا، وهي أن الغلو في الدين من أسباب هلاك الأمم قبلنا، فالقصد القصد.
وتعظيم الأمر والنهي من الدين، ومن التعظيم لهما ترك الغلو فيهما.
قال صاحب منازل السائرين رحمه الله: تعظيم الأمر والنهي: وهو أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشدد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد ".
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي:
أحدها: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال.
والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي.
فالأول تفريط والثاني إفراط.
[ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط.
(1) التعمق هو بالمهملة وبتشديد الميم ثم قاف، ومعناه: التشديد في الأمر حتى يتجاوز الحد فيه. فتح الباري (13 / 278) .
مثال ذلك: أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخيص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصا جافيا، وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط، لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أن لا يترخص ترخصا جافيا.
ومن ذلك أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أولم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أولم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون.
ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف
به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (1) ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس الوضوء متغاليا فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة. أو يتشدد في الورع حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه، ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئا من بلاد الإسلام، وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان.
فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه] (2) .
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، حديث رقم (2380) ، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، حديث رقم (3392) . ولفظ الحديث عند الترمذي:" عَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ". قال أبو عيسى الترمذي: هدا حديث حسن صحيحا هـ.
(2)
ما بين معقوفتين من كلام ابن القيم في كتابه الوابل الصيب ص 22 - 24.
وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
إما إلى تفريط وإضاعة.
وإما إلى إفراط وغلو.
[فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين؛ فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذرا وجدا وتشميرا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له: إن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الأول على التقصير دونه، وأن لا يقربه، ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بأن لا يقربه، ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.
وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط، والله المستعان] (1) .
(1) ما بين معقوفتين من كلام ابن القيم في كتابه الوابل الصيب ص 25.
ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له؛ هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
وقد نهى الله عن الغلو بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77](المائدة: من الآية 77) . والغلو نوعان:
نوع يخرجه عن كونه مطيعا، كمن زاد في الصلاة ركعة أو صام الدهر مع أيام النهي أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا.
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ [هَذَا] الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (1) يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة، فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها.
وقال: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ [فَلْيَقْعُدْ] » (2) رواهما البخاري.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم (39) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشدد في العبادة، حديث رقم (1150) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب ذلك، حديث رقم (784) . ولفظ الحديث عند البخاري: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد.
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» (1) وهم المتعمقون المتشددون.
وفي صحيح البخاري عنه: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (2) .
وفي السنن عنه أنه قال: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضَنَّ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ» (3) أو كما قال.
وقوله: وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ.
(1) أخرجه مسلم في كتاب العلم باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670) ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، حديث رقم (1151) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب ذلك، حديث رقم (785) . ولفظ مسلم:" عن هشام قال: أخبرني أبي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي. قال: عليكم من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ".
(3)
أخرجه أحمد في المسند، (20 / 346، تحت رقم 13052، الرسالة) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو مما وجده عبد الله بخط أبيه في كتابه، وفي سنده عمرو بن حمزة، ضعفه الدارقطني، وللمتن شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره، كما قال محققو المسند، وذكروا من شواهده ما أخرجه البيهقي (3 / 19) من حديث أنس وزاد فيه: " ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع، ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا في سنده مولى عمر بن عبد العزيز لا يعرف، وبنحوه عند القضاعي في مسنده (2 / 184، تحت رقم 1147 (عن جابر بن عبد الله، وفي سنده يحيى بن المتوكل، كذاب، ولفظ حديث أنس عند أحمد في المسند: قال عبد الله وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب، قال أخبرني عمرو بن حمزة، حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.
يريد: أن لا يتأول في الأمر والنهى علة تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه.
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة. وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار، فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر.
ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر؛ فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور.
وفي بعض الآثار القديمة: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟» .
وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له.
وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا، وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده.
وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله، فكم عطلت لله من أمر، وأباحت من نهي، وحرمت من مباح، وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها "اهـ (1) .
(1) مدارج السالكين (2 / 496 - 498) .