الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية]
[أولا الأدلة من القرآن العظيم]
أدلة الوسطية
من القرآن العظيم والسنة النبوية الأدلة على وسطية أمة الإسلام فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، كثيرة من القرآن العظيم، والسنة النبوية، أذكر منها الأدلة التالية:
أولا: الأدلة من القرآن العظيم (1) قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]
ووجه دلالة الآية: أنه سبحانه وصف الصراط المستقيم بأنه غير صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود أهل الغلو في الدين، وغير صراط النصارى، وهم أهل الغلو في الرهبانية والتعبد، حتى خرجوا عن حدود الشرع، ليس فقط في العبادة بل حتى في الاعتقاد، يقول تبارك وتعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171](النساء: 171) .
فإذا كان الصراط المستقيم غير صراط اليهود والنصارى، وكان صراط اليهود والنصارى صراط غلو في الدين، دل ذلك على أن الصراط
المستقيم صراط لا غلو فيه، فهو بين طرفين: إفراط وتفريط، وهذا هو معنى الوسطية التي هي منهاج الدين الإسلامي.
(2)
قال الله تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213](البقرة: 213) .
يمتن الله سبحانه على عباده المؤمنين أن هداهم إلى الصراط المستقيم، الذي هو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يتبعه، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153](الأنعام: 153) .
وللغواية والضلال سبل، كما قال تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86](الأعراف: 86) .
وكل سبيل غير سبيل الحق فهو معوج، كما قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99](آل عمران: 99)، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 45](الأعراف: 45) .
وسبيل الحق هو سبيل الرشد، وهو الصراط المستقيم، كما قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146](الأعراف: 146)، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38](غافر: 38) .
فالصراط المستقيم وسط بين السبل، التي أشارت إليها الآيات السابقات. وعليه فإن هذه الأمة وسط بين الأمم.
فوصف الأمة بكونها هديت إلى صراط مستقيم، وأنها على صراط مستقيم، وصف يقتضي الوسطية لها في دينها، بين السبل المعوجة، ذات اليمين وذات الشمال.
(3)
قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143](البقرة: 143) .
وقد تتابعت كلمة المفسرين في أن وصف الأمة بالوسط، يراد به كونهم عدولا خيارا، ويدل عليه الأمور التالية:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمة في موضع آخر بالخيرية، فقال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110](آل عمران: 110)(1) .
2 -
أن هذا التفسير جاء فيه حديث صحيح مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] » (2) .
3 -
أن هذا التفسير هو الذي يطابق السياق، فإن الله تعالى يقول:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فالمناسب لكونهم شهداء على الناس أن يثبت لهم وصف الخيرية والعدالة.
فأمة الإسلام جعلت أمة وسطا: عدلا خيارا؛ والعدل الخيار يتضمن الدلالة على كونهم بين الإفراط والتفريط.
(1) أضواء البيان / المدني / (1 / 75) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ، الحديث رقم (7349) .
قال الطبري (ت 310 هـ) رحمه الله: " وأرى أن الله تبارك وتعالى إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه - غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها " اهـ (1) .
والمعنيان متداخلان، ولا تمانع بينهما، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية (2) ؛ وذلك أن [الوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال المحمودة البشرية، لكن لا لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعواز والأوساط محمية محوطة؛ فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار في هذا المقام، إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور، بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط؛ كالعفة التي طرفاها الفجور والخمود. وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجبن. وكالحكمة التي طرفاها الجربزة (3) والبلادة. وكالعدالة التي هي كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها، وسوى فيه بين المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التي يوصف بها.
(1) تفسير الطبري / هجر / (3 / 626 - 627) .
(2)
وهذا ما قرره ابن حجر في فتح الباري / السلفية / (8 / 173) .
(3)
الخبث والمكر.
وقد روعيت هاهنا نكتة رائقة: هي أن الجعل المشار إليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبر عنه بالصراط المستقيم، الذي هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب، فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين، فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية.
ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الأمة المهدية إليه أمة وسطا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل (1) . والله أعلم (2) .
ومن فوائد هذه الآية الإرشاد إلى أن كل خير ينفع الناس، فقد أمر الله به، ودعا إليه، وكل شر وفساد فقد نهى الله عنه وأمر بتركه، وهذا ضرورة كون هذه الأمة موصوفة بالخيرية، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم.
وهذا الوصف بالوسطية ثبت في نصوص عديدة، تؤكد معنى التوسط وعدم الغلو في مظاهر الدين، من ذلك:
(4)
نهيه عن الغلو في الحكم بين الناس، حيث أمر بالعدل، والظلم خلاف العدل، وهو ميل إلى أحد الطرفين على حساب الآخر، قال الله تبارك
(1) من كلام أبي السعود، في تفسيره إرشاد العقل السليم / دار إحياء التراث / (1 / 172) .
(2)
وبالتقرير السابق تعلم أن الاستشهاد بآية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) على معنى وسطية الإسلام، استدلال صحيح، خلافا لمن منع الاستدلال بها على معنى وسطية الإسلام. انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 / 50) ، وتابعه صاحب رسالة وسطية الإسلام / لعبد الرحمن حبنكة الميداني / مؤسسة الريان / ص 9 - 10.
وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58](النساء: 58)، وقوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8](المائدة: 8) .
والآيتان دليل على أمر الله تبارك وتعالى بما هو مقتض لخيرية هذه الأمة، وكون أهلها عدولا؛ فأمر بالحكم بالعدل؛ ليس فقط في حكمهم بعضهم على بعض، بل حتى في حكمهم على أعدائهم.
والعدل في الحكم مع الأعداء من مظاهر هذه الخيرية التي خص الله عز وجل بها هذه الأمة.
(5)
نهيه عن الغلو في دعاء الله عز وجل، و «الدعاء هو العبادة» ، حيث أمر بالتوسط فيه دون الجهر وفوق المخافتة، فقال الله تبارك وتعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110](الإسراء: 110) .
والأمر بابتغاء السبيل بين ذلك يعني أن يكون الدعاء تضرعا دون الجهر وفوق السر، فهذا مظهر من مظاهر الأمر بالتوسط في العبادة، التي هي الدعاء.
(6)
نهيه عن الغلو في طلب الدنيا، فلم يأمر بترك الدنيا، والخروج إلى الفيافي، كما لم يأمر بالاستغراق فيها، وكأن الإنسان لا محل له إلا هذه الحياة
الدنيا، إنما أمر بالتوسط، فالدنيا بلغة يتبلغ بها الإنسان للآخرة، يأخذ منها بما أحله الله سبحانه وتعالى، ويعيش فيها فيما أباحه الله سبحانه وتعالى، ويستعد بذلك للآخرة، قال الله تبارك وتعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77](القصص: 77) .
وهذه الآية فيها دليل على أن ترك التوسط والاعتدال فساد في الأرض، ألا تراه يقول:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] فإذا كان العمل في الدنيا وترك السعي للآخرة فسادا في الأرض، فمن باب أولى ترك أمور الصراط المستقيم - وعنوانها تمام صالح الأخلاق - فساد في الأرض.
(7)
نهيه عن الغلو في النفقة بالمال، حيث يقول تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67](الفرقان: 67)، وقوله تبارك وتعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29](الإسراء: 29) .
قال ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) رحمه الله: " والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
وله طرفان هما ضدان له: تقصير ومجاوزة.
فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] والدين كله بين هذين الطرفين.
بل الإسلام قصد بين الملل.
والسنة قصد بين البدع.
ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو مجاوزته وتعديه.
وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
فإما إلى غلو ومجاوزة.
وإما إلى تفريط وتقصير.
وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم.
وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بلي بأحدهما بالهلاك.
وقد يجتمعان في الشخص الواحد، كما هو حال أكثر الخلق يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه غاليا متجاوزا في بعضه. والمهدي من هداه الله "اهـ (1) .
(1) الروح ص 347.
(8)
نهيه عن تحريم الطيبات، وهو من الغلو في التزهد، ونهيه عن الإسراف، وهو من الغلو في الاستغراق في الدنيا وملذاتها، والصراط المستقيم بينهما، يقول تبارك وتعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33](الأعراف: 31 - 33) .
(9)
ومن الأدلة على وسطية الدين وسماحته، قوله تبارك وتعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6](المائدة: 6)، ويقول تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185](البقرة من الآية 185)، ويقول تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28](النساء من الآية 28) . ويقول تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78](الحج: 78) .
ووجه الدلالة: أن وصف الله سبحانه وتعالى الدين بأنه يسر، وبأن الله ما جعل علينا فيه من حرج، وأن الله يريد أن يخفف عنا، كل هذا يدل على أن الغلو في الدين غير مطلوب، بل ليس هو من الدين، وأن التوسط هو سمة الدين ومنهاجه، والوسطية بين طرفين: تشدد وتساهل. وهل يؤخذ عند الاختلاف بأخف القولين أو بأثقلهما؟ (1) .
ذهب بعض الناس إلى الأخذ بأخف القولين وأيسرهما استدلالا بهذه الأدلة.
وذهب آخرون إلى الأخذ بالأشد.
والذي يظهر أن المراد بهذه النصوص هو أن الدين يسر، أي: ما جاء وثبت في الشرع، فهو يسر، وليس المراد أن اليسر هو الدين.
وأن سماحة الشريعة ويسرها إنما جاءت مقيدة بما هو جار على أصولها، والقول باتباع الأيسر مطلقا إنما هو اتباع هوى النفس وما تشتهيه، دون الرجوع إلى الدليل، وذلك ينافي أصول الشريعة (2) . وهو مؤد إلى إسقاط التكاليف جملة؛ لأن التكاليف كلها فيها ما يشق على النفس، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الأدلة؛ لزم ذلك في جميع التكاليف، فلم يبق للعبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله، فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال (3) .
(1) الموافقات للشاطبي (4 / 148) .
(2)
الموافقات (4 / 133، 131 - 134) .
(3)
الموافقات (4 / 193) ، وانظر منه (4 / 141، 134) .