الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التعامل مع واقع الأفراد في إطار سماحة الإسلام]
التعامل مع واقع الأفراد
في إطار سماحة الإسلام في هذه المسألة نقطتان:
الأولى: في تعامل الدين مع الأفراد في واقعهم الحياتي سواء كان في ذواتهم أو في الأوضاع الملابسة لهم.
* وأول ما يشار إليه هنا هو أن الإسلام في عقيدته وشريعته جاء متناغما مع فطرة الإنسان أي مطابقا لواقعه الذاتي فيما فطر عليه من تدين وتوحيد، ومن قيم خلقية ونزعات مادية مما يجعل أي إنسان سوي العقل سليم الفطرة لا يملك حين ينظر في ما جاء به الكتاب والسنة في العقيدة والقيم والشريعة إلا أن يقر بأنها الحق والصدق الذي تهفو إليه نفسه، ولا حاجة لتجاوز هذا إلى تفصيل حديث القرآن عن قضايا الإيمان والقيم وتلاؤمها مع مقررات الفطرة فحسبنا هذه الإشارة (1) .
* مراعاة الطبيعة البشرية المحدودة طاقتها المادية بحيث جاءت الشريعة في حدود هذه الطاقة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
ولو جمح المسلم نتيجة توهج إيماني طامح بما يتجاوز هذه الطبيعة، فإن الإسلام يرده إلى المسار الوسطي معتبرا طموحه هذا خطأ، بل خروجا على هدي الإسلام وغلوا غير مقبول، وحديث الرهط الثلاثة الذين دفعتهم الرغبة في التفوق التعبدي على الآخرين لدرجة اختطاط مسالك خاصة في التعبد حيث «قال أحدهم أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أنا
(1) انظر مثلا: خصائص التصور الإسلامي - سيد قطب 96، والخصائص العامة للإسلام - يوسف القرضاوي.
أقوم ولا أرقد، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالتهم أنكر عليهم وبين المنهج الوسطي الإسلامي المتناسب مع الطبيعة البشرية ذات الاحتياجات المادية المشروعة التي لا يجوز الجور عليها ولو بالإغراق في المسالك الروحية التعبدية قال عليه الصلاة والسلام: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1) .
ومثل ذلك في رعاية الجانب المادي من الإنسان وردع من يصادر شيئا منه لحساب الجانب التعبدي الروحي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سقط الصوام في السفر وقام المفطرون بضرب الأبنية وسقي الركاب - قال - «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ بِالْأَجْرِ» (2) .
وفي هذا الجانب أقصد في مراعاة الشرع الإسلامي لواقع الطبيعة الإنسانية راعت الشريعة ما يمكن أن يعرض لهذه الطاقة من ضعف ومشقة من جهة، ومن قدرة يمنحها الله بعض عباده زيادة عما هو معتاد في سائر الناس.
راعت الشريعة ذلك: * ففي حالة المشقة خففت عن المسلم فيما تطالبه به من عبادات فجاء مثل قصر الصلاة والجمع في السفر، والجمع في المطر والفطر للمسافر والمريض والمسح على الخفين والعمامة ونحو ذلك.
* وفي حالة وجود فائض طاقة لدى المؤمن وهمة في التسامي بصلته بالله شرع الإسلام نوافل الطاعات التي تتدرج من رواتب - كما في الصلاة - ووتر مؤكد، إلى تهجد معظم أجره، إلى نوافل مطلقة.
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح.
(2)
البخاري في الجهاد، باب الخدمة في الغزو، ومسلم في الصيام، أجر المفطر في السفر.
ومثل ذلك الصيام والصدقة والحج.
وهكذا لا يجد المسلم نفسه في حالة نفسية وجسمية وظروف إلا وقد شرع الإسلام ما يناسبها مما يحقق سعادته ويعمر به وجوده.
* من أعظم رعاية الإسلام للواقع الفردي للمسلم اعتباره للضغوط الخارجية المحيطة بالإنسان وأن المطلوب من المسلم ليس بخع نفسه أمام التحديات الضاغطة، ولكن أن يسدد ويقارب، ومهما اشتدت الضغوط عليه فإنه واجد في رخص الدين مسالك تقيه من أن تطحنه لدرجة أنه يجوز للمسلم عند الضرورة والخوف على نفسه الهلاك أن ينطق بكلمة الكفر:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] النحل 106.
وأنه لا يأثم عند الاضطرار لتناول الحرام الذي تتوقف عليه حياته، وفي هذه القاعدة التي استقراها العلماء من نصوص الشريعة وهي قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) .
ثم إن الشريعة الإسلامية مع أنها وضعت للناس النموذج الأعلى للحياة الإنسانية السامية إلا أنها رعاية للواقع الإنساني تنزل إلى هذا الواقع لتكيف أحكامها الفرعية معه حتى لا تتعطل مصالح العباد وتنفلت حياتهم من الإسلام جملة، ومن أجل أن ترتقي بهم ما أمكن في سبيل صبغ حياتهم بالإسلام شيئا فشيئا.
من ذلك مثلا أنه يشترط فيمن يلي منصبا أن تتوفر فيه صفتا الأمانة والقوة، فإذا لم تتوفر بصورتها المطلوبة في مجتمع اقتضت المصلحة تولية من يمتلك قدرا منهما ولو دون ذلك.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن بعض العلماء سئل: إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دَيِّن فأيهما يقدم؟
فأجاب العالم: إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الدَّيِّنِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ قُدِّمَ الدَّيِّنُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَالِمِ أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ (1) .
ومثل هذا النمط كثير لدى العلماء الراسخين في إدراك مقاصد الشريعة ومنهجها المساوقة للحياة البشرية في كل أوضاعها (2) لكن هل ذلك يعني الاستسلام للواقع الرديء والانسياق مع انحداره؟! ، كلا إن الواجب هو السعي إلى الارتقاء بالحياة نحو الصورة الإسلامية الممكنة ما استطاع الدعاة إلى ذلك سبيلا.
المسألة الثانية: توجيه الإسلام أتباعه في تعاملهم مع الأفراد برعاية واقعهم: فبناء على ما تقدم من الرعاية الشاملة في الإسلام لواقع الإنسان في كافة أحواله دعا الإسلام المسلمين في تعاملهم مع الآخرين إلى رعاية الطبيعة الواقعية لذواتهم ولظروفهم المختلفة في مختلف مجالات التعامل معهم:
* أولا: رعاية الواقع في دعوتهم إلى الله وإلى دينه فقد أمر الله نبييه موسى وهارون في دعوتهما فرعون بمراعاة وضعيته النفسية: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] طه 44، وقد سبق
(1) السياسة الشرعية - شيخ الإسلام ابن تيمية 20.
(2)
انظر الخصائص العامة للإسلام للقرضاوي 172.
توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى في دعوتهما في اليمن «أَنْ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» .
وفي هذا الإطار ذكر العلماء أنه مما ينبغي للداعية في مراعاة أحوال المدعو أن يختار له ما يناسبه فإذا كان في حالة يأس واستعظام لما هو فيه وتصور انقطاع ما بينه وبين الله استحسن أن يعالجه بنصوص الرجاء وسعة رحمة الله، وجب التوبة للذنوب ونحو ذلك، وإذا كان في حالة استهتار وأمن من مكر الله وتماد في الرجاء كان المناسب له نصوص الخوف والانتقام وعظيم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
من ذلك أيضا أن تكون دعوة الداعي قائمة على العدل الذي جاء به الإسلام دون تطرف يجنح بالمدعو من مخالفة إلى مخالفة مقابلة، أي من تطرف إلى تطرف آخر.
فإذا أراد أن يحذر الناس من الترف والإسراف في المتعة الدنيوية فينبغي أن لا يعزف بهم نحو زهد صوفي اعتزالي لكل متع الحياة مما تأباه فطرهم، وإنما ينبغي أن يبين منهج الإسلام الوسط الذي أباح الطيبات وتفضل على عباده بالتمتع بها، ولكن على الوجه الشرعي بأن تؤدى الحقوق، ويشكر المنعم، ولا يتجاوز إلى الحرام.
وهذا ما يخطئ فيه بعض الدعاة الذين ينفعلون أمام الانحرافات التي يرونها فيرتمون إلى الطرف المقابل فإذا افتتن الناس بشيء في أصله مباح كبعض الألعاب أو موضات الثياب، أو التجميل، أو استقدام الخدم
أو بعض التقليعات الاجتماعية كالاستراحات. . . . الخ؛ حملتهم الغيرة على اقتلاع هذا الافتتان إلى الشطط في حرب هذه الأشياء والوقوع أحيانا في التحريم لزيادة الضغط في اتجاه الإصلاح الذي ينشدونه، وإن كانوا لا يمارون في لحظات الهدوء أن هذه الأشياء - في ذاتها - ليست محرمة.
* ثانيا: رعاية الواقع في معاشرتهم: حيث وجه الإسلام إلى رعاية الأوضاع النفسية لهم سواء في سمتها العام المتمثل بالحاجة إلى الحنان ممن حوله جارا أو قريبا أو غير ذلك، كما في حديث حقوق المسلم:«السَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ لُقْيَاهُ، وَتَشْمِيتُهُ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَحَمْدِ اللَّهِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَعِيَادَتُهُ إِذَا مَرِضَ وَتَشْيِيعُهُ إِذَا مَاتَ» (1) أو في حالاتها الخاصة بالتنفيس عنه إذا أصابته كربة، وبإقالة عثرته إذا كان من ذوي الهيئات الذين تجرحهم الفضيحة ويكفيهم العفو (2) وبتهنئته إذا نال خيرا من زواج أو منصب ونحوه.
كما وجه الإسلام إلى رعاية الأوضاع المادية للإنسان من قبل من حوله من أفراد أو جماعة. وفي هذا الإطار نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا حتى لا تضطر المرأة لاستقباله وهي غير متهيئة بما يفترض أن تتهيأ به الزوجة لزوجها فتكون النتيجة ربما نفوره منها (3) .
ومما يدخل في هذا أن الشريعة تأمر الزوج بأن يلبس زوجته مما تلبسه أمثالها - بقدره - مراعاة للوضع المادي الذي تعيشه.
(1) حديث حقوق المسلم، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، انظر جامع الأصول 6 / 537، وانظر حديثا آخر في البخاري - كتاب الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز.
(2)
أخرجه أبو داود في الحدود وأحمد في المسند والنسائي، انظر الكلام على رواياته ورجاله في جامع الأصول 6 / 603.
(3)
في حديث رواه البخاري في كتاب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا قرب المدينة.
ومن ذلك نهي الشريعة المسلم الغني أن يحرج جاره الفقير حيث طلب منه الشرع كف أهله وأولاده من التباهي على أولاد جاره بما يمتلكون من ثياب وزينة ونحوها.
* ثالثا: مراعاة الواقع في الحكم على الناس وفيهم: وفي ذلك أن الشريعة وجهت المسلم أن يكون في حالة حكمه وتقويمه في وضع متزن يسمح له بتحري الصواب بأعلى درجة ممكنة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي وهو غضبان (1) وقيس عليه العوارض الأخرى المؤثرة في الحكم.
* ثم إن الشريعة جعلت للأعراف، وهي واقع إنساني متحول اعتبارا في أحكامها على الناس وحقوقهم بناء على القاعدة الفقهية:" المعروف عرفا كالمشروط شرطا "(2) .
فلو اختلف زوجان في المهر الذي لم يحدداه عند العقد فالمراد هنا إلى العرف الجاري في البلد الذي يعيشان فيه، وهكذا كثير من قضايا البيوع والإجارات والمساقاة ونحوها للعرف فيها موقع مؤثر في الأحكام.
وأمر مهم هنا في الحكم على الناس في مستوى تدينهم، حيث لواقع الإنسان معرفة وقصد ورؤية اعتبار مؤثر لا يتسنى لمبتغي إصدار الأحكام التمكن منه بمجرد صدور رد فعل من هذا الإنسان، ولهذا كان التفريق بين الحكم على الأفعال والأقوال والحكم على الأشخاص الذين قالوها أو فعلوها بأعيانهم.
(1) فيما رواه البخاري في كتاب الأحكام، ومسلم في كتاب الأقضية وغيرهم.
(2)
انظر قاعدة (المعروف عرفا. .) في شرح القواعد الفقهية - أحمد الزرقاء 237.
فلو نقلت إليك كلمة عن شخص أو فعل فمن الممكن لك أن تحكم بأن هذه القولة أو الفعل كفر، لكنك لا تحكم على الشخص بالكفر إلا بعد مواجهته واستنبائه عن خلفيات نطقه أو فعله أي استقراء واقعه والحكم من خلاله.
وكم من فتن جرها على الناس في زماننا تسرع متسرعين بأحكام الكفر والشرك على أناس لمجرد تلقف كلمة منسوبة إليهم أو فكرة مطروحة من قبلهم وذلك نتيجة الاستهانة بهذا المنهج الشرعي الذي به تحقن الدماء ويتوقى النزاع، والله المستعان.