المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار - بصائر في الفتن

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من الفتن

- ‌الفتن واقعة لا محالة

- ‌الحذر من الشر باب من أبواب الخير

- ‌من طبائع الفتن

- ‌نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة

- ‌العلماء سفينة نوح

- ‌الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء

- ‌والجاهلون لأهل العلم أعداء

- ‌الصبر زمن الفتن

- ‌مقارنة الحِلْم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش

- ‌الإِمام ابن القيم يحذِّر من استفزاز البُداءات

- ‌من مواقف التثبت في الفتن

- ‌العَجلَة أمُّ الندامات

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

- ‌وجوب حفظ اللسان

- ‌في الصمت السلامة

- ‌الموازنة بين الصمت والكلام:

- ‌حفظ اللسان في الفتن

- ‌تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن

- ‌رُبَّ قولٍ يسِيل مِنه دَمٌ

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفِرار منها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌مواجهة الفتنة بالعمل الصالح

- ‌الدعاء والتضرع في الفتن

- ‌التعوذ بالله تعالى من الفتن

- ‌حكم تمني الموتِ في الفتنة

- ‌ذكر أدلة السُّنَّة على جواز تمني الموتإذا خاف على دينه من الفتن

الفصل: ‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

إن التثبت من الأخبار قبل تصديقها، فضلًا عن إذاعتها، منهج قرآني أصيل، يُستراحُ به من القال والقيل، ويوفر من طاقة الأمة المهدرة في الفتن ما يفيد في البناء.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]، وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء: 94]

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له، فسلَّم عليهم، فقالوا:"ما سلَّم عليكم إلَاّ ليتعوذ منكم"، فقاموا إليه، وقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية (1)

"والفتن إنما تظهر بالإشاعات والبواطيل، وتنتشر بالقال والقيل، مع خفة عقلٍ في نَقَلَتِها، ورِقَّةِ دين، تمنعهم من امتثال أمر الله تعالى بالتثبت وترك الاستعجال.

(1) رواه البخاريّ مختصرًا (4591)، والترمذي (3030)، وحسَّنه، والحاكم (2/ 235)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

ص: 53

ولتجدنَّ أشدَّ الناس حِدَّة في الطبع، وإعجابًا بالنفس، وتعصبًا للرأي؛ هم أولئك الذين لا يتثبتون ولا يتبيَّنون، فيغلب عليهم الصَّلَف والكِبْر، وعدمُ مراعاة الناس، والجميع عندهم جَهلة لا يعلمون، وهم العارفون العالمون.

إن حملَ المسلمين على العدالة هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلَاّ بمثله من اليقين، أما بمجرد قُوْلٍ قيل لا يُدرى من أي رأس خرج ولا على أي أرض درج؛ فجريمة يُسأل صاحبها عنها، مفضية إلى الندامة في الدنيا قبل الآخرة.

وعليه؛ فإن من أعظم ما تُدفع به الفتن: التثبت والتبيُّن في الأخبار، لا سيما إذا كان الخبر متعلقًا بعموم الأمة، أوبرأس من رءوسها، وليعلم أن مجرد الثقة في الناقل لا تكفي بمفردها؛ وذلك لما يعتري النفوسَ من الهوى والشهوة ونفث الشيطان.

ثم لو فرض صحة الخبر يقينًا، فإنه يبقى بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، وإن من الأخبار ما لا يُلقى إلَاّ إلى الخاصة الذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون.

وليعلم -أيضًا- أن هتكَ الأستار، ليس من الإصلاح في شيء؛ إذ إن الله تعالى أمر بالستر والنصح، وأَمْرُه سبحانه هو الصلاح والإصلاح بعينه، فما خالفه فليس من الإصلاح في شيء كما قلنا.

إن المنهج الحق: هو التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شفقة على المنصوح وحزن عليه يقتضي تمام السعي في

ص: 54

إصلاحه وإن كان جبارًا عنيدًا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المقتول بسبب كلمة الحق من أعظم الشهداء عند الله، لكنه لم يجعل لهاتك الأستار إلَاّ الفضيحة في الدنيا؛ إذ يوشك الله تعالى أن يفضحه ولو في جوف داره (1)، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من سوء الحال والمآل". اهـ (2).

روُي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجلٍ شيئًا، فقال له عمر:"إن شئت نظرنا في أمرك: فإن كنتَ كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ "، فقال:"العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا"(3).

إن اتقاء الغَواية في الرواية، والتحريَ والتثبت من الأخبار التي تتداولها الألسن وقت الفتن والحروب أَوْكَد من غيره من الأوقات؛ لأنها سلاح فتَّاك قد يضر أكثر مما تضر الأسلحة.

وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]. قال الحافظ ابن كثير رضي الله عنه في تفسيرها: "وقوله:

(1) يشير إلى ما رواه أبو برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمانُ قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومَنْ تتبع الله عورته، يفضحْهُ ولو في جوف بيته". وقال الهيثمي في "المجمع": "رجاله ثقات"(8/ 93)، وحسَّنه المنذري في "الترغيب"(3/ 240).

(2)

"مسائل في الفتن" للصبحان ص (67 - 68).

(3)

"الإحياء"(3/ 156).

ص: 55

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة "صحيحه"

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كفى بالمرءكذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع"(1).

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن قيل وقال

" (2). أي: الذي يُكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين، وفي الصحيح: "مَنْ حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذِبِين" (3).

ولنذكر ها هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلَّق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه: أطلَّقتَ نساءك؟ فقال: "لا"، فقلت: الله أكبر

وذكر الحديث بطوله.

وعند مسلم: فقلت: أطلقتهنَّ؟ فقال: "لا"، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يُطَلِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ

(1) رواه مسلم في "المقدمة"(1/ 10) رقم (5).

(2)

رواه مسلم (3/ 1341).

(3)

رواه مسلم في "المقدمة"(1/ 9) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

ص: 56

مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فكنت أنا استنبط ذلك الأمر (1). ومعنى يستنبطونه؛ أي: يستخرجونه من معادنه؛ يُقال استنبط الرجلُ العينَ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها

" (2) اهـ.

ثم قال تعالى في عَجُزِ الآية: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أيها المؤمنون {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} في قَبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المُثَبِّطَة {إِلَّا قَلِيلًا} منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية؛ إذ مثلهم لا تُثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين (3).

قال صاحب "الظلال"- عفا الله عنه -:

"والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإِسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجرُّ من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطِرُ له ببال، وما لا يُتدارك بعد وقوعه بحال! أو -ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جرَّاء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها حين يتلقاها لسان عن لسان، سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف

فكلتاهما قد

(1) رواه مسلم (2/ 1105 - 1108) رقم (1479).

(2)

"تفسير القرآن العظيم"(1/ 529، 530).

(3)

"أيسر التفاسير"(1/ 433).

ص: 57

يكون لإشاعتها خطورة مدمِّرة! فإن إشاعة أمر الأمن مثلًا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو .. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تُحدِثُ نوعًا من التراخي، مهما تكن الأوامر باليقَظة؛ لأن اليقَظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقَظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية!

كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، وقد تُحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكًا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف .. وقد تكون كذلك القاضية!

وعلى آية حال؛ فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه، أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معًا

ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجمتع المسلم حينذاك باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء

وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرَّباني.

والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: لو أنهم ردُّوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لَعَلِمَ حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.

ص: 58

فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن -بشرط الإيمان ذاك وحده- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيُخبر به نبيه أو أميره، لا أن ينقله أو يذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن له به؛ لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر -حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته

" (1).

ليس كل ما يُعلم يُقال:

قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: "حَدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولهُ؟! "(2).

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولُهم، إلَّا كان لبعضهم فتنة"(3).

وقد ترجم البخاريّ -رحمه الله تعالى- في كتاب العلم: "باب: من خصَّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا"(4)، "باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُر فهمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه" (5).

قال حماد بنُ زيد: سئل أيوبُ السَّخْتِياني عن مسألةٍ، فسكت، فقالَ الرجلُ: يا أبا بكر لم تفهم، أعيدُ عليكَ؟ قال: فقال أيوب: "قد فهمتُ، ولكني أفكرُ كيف أجيبك"(6)

(1)"في ظلال القرآن"(2/ 723، 724).

(2)

أخرجه البخاريّ (1/ 225 - فتح) رقم (127).

(3)

أخرجه مسلم في "المقدمة"(1/ 76 - نووي).

(4)

"فتح الباري"(1/ 225).

(5)

نفسه (1/ 224).

(6)

"المعرفة والتاريخ"(2/ 138).

ص: 59

ورَوَى الحَاكِمُ في تَاريِخِهِ بإِسْنَادِهِ عَنْ أَبي قُدَامَةَ عَن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: سُئِلَ الخَلِيلُ عَنْ مَسأَلَةٍ فَأَبْطَأَ بالْجَوَابِ فِيهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا في هَذِه الْمَسْألَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَر، قَالَ:"فَرَغْتُ مِن الْمَسْأَلَةِ وَجَوَابهَا، وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ إلَى فَهْمِكَ"، قَالَ أَبُو قُدَامَةَ: فَحَدَّثتُ بهِ أَبَا عُبَيْدٍ فَسُرَّ به (1).

ومن هذا الباب قولُ أبي هريرة رضي الله عنه: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأمَّا أحدهما فبثثتُهُ، وأما الآخر فلو بثثتُه قُطع هذا البُلْعُوم"(2).

والبُلْعُوم:- بضم الموحدة- مجرى الطعام، وقد كنَّى بذلك عن القتل.

وفي رواية: "لَقُطِعَ هذا" يعني: رأسه. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثَّه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يَكْنِي عن بعضه، ولا يُصرِّح به خوفًا على نفسه منهم؛ كقوله:"أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان"، يُشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، وكان يقول رضي الله عنه:"اللهمَّ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان"(3)، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة (4).

(1)"الآداب الشرعية"(3/ 156).

(2)

رواه البخاريّ رقم (120)(1/ 261 - فتح).

(3)

لأن يزيد كان غالبًا ينتزع الشيوخ من إمارة البلدان الكبار، وُيوَلِّيها الأصاغر في أقاربه. انظر:"الفتح"(13/ 12، 13).

(4)

"فتح الباري"(1/ 261).

ص: 60

فأبو هريرة رضي الله عنه كتم الأحاديث التي فيها الفتن، والأحاديث التي في بني أمية، ونحو ذلك من الأحاديث، ككتمه لأسماء الأُغَيْلمة السُّفهاء الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم؛ فقد قال رضي الله عنه سمحت الصادق المصدوق يقول:"هلكةُ أُمتي على يدَي غِلْمَةٍ من قريش"

ثم قال أبو هريرة: "لو شئت أن أقول بني فلان، بني فلان لفعلت"(1). وفي رواية: "إن شئْت أن أُسَمِّيَهُمْ، وبني فلان، وبني فلان"(2).

"فأبو هريرة رضي الله عنه كتم الوعاء الآخر الذي حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبثه، بل حفظ لسانه وكفه من إشاعته؛ درءًا للمفسدة وخشية الفتنة، علمًا بأنه قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية قد اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، معلوم في التاريخ ما حصل فيه، فأبو هريرة كتم الوعاء الآخر، ولم يبثه في ذلك الزمن، وكتم - أيضًا- بعض الأحاديث الأخرى التي ليست من الأحكام الشرعية؛ كل ذلك لأجل ألَّا تكون فتنة بين الناس، فهو رضي الله عنه لم يقل: إن رواية الحديث وقوله حق، ولا يجوز كتمان العلم، لم يقل ذلك؛ لأن كتم العلم في مثل ذلك الوقت -وقت الفتن- الذي تكلم فيه أبو هريرة لا بُدَّ منه؛ جلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة، لكيلا يتفرق الناس شذَر مذَر بعد أن اجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وصنيع أبي هريرة هذا يدل على حكمته وحصافته وفطنته رضي الله عنه؛ حيث حفظ لسانه زمن الفتنة بُغية اجتماع الأمة وعدم افتراقها"(3).

(1) رواه البخاريّ (13/ 11) رقم (7058)، ومسلم (4/ 2236) رقم (2917).

(2)

رواه البخاري (6/ 708) رقم (3605).

(3)

"موقف المسلم من الفتن" للحازمي ص (428، 429).

ص: 61