المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من الفتن

- ‌الفتن واقعة لا محالة

- ‌الحذر من الشر باب من أبواب الخير

- ‌من طبائع الفتن

- ‌نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة

- ‌العلماء سفينة نوح

- ‌الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء

- ‌والجاهلون لأهل العلم أعداء

- ‌الصبر زمن الفتن

- ‌مقارنة الحِلْم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش

- ‌الإِمام ابن القيم يحذِّر من استفزاز البُداءات

- ‌من مواقف التثبت في الفتن

- ‌العَجلَة أمُّ الندامات

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

- ‌وجوب حفظ اللسان

- ‌في الصمت السلامة

- ‌الموازنة بين الصمت والكلام:

- ‌حفظ اللسان في الفتن

- ‌تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن

- ‌رُبَّ قولٍ يسِيل مِنه دَمٌ

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفِرار منها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌مواجهة الفتنة بالعمل الصالح

- ‌الدعاء والتضرع في الفتن

- ‌التعوذ بالله تعالى من الفتن

- ‌حكم تمني الموتِ في الفتنة

- ‌ذكر أدلة السُّنَّة على جواز تمني الموتإذا خاف على دينه من الفتن

الفصل: ‌الصبر زمن الفتن

‌الصبر زمن الفتن

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].

وقال عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].

فالله- سبحانه وتعالى يجزي المؤمن على صبره، كما قال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} [المؤمنون: 109 - 111]،فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].

أي: أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون، فقرن الله -سبحانه- الفتنة بالصبر ها هنا، وفي قوله:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} [النحل: 110].

عن أُسيد بن حُضَير رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبيَّ- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استعملتَ فلانًا ولم تستعملني، فقال

ص: 32

النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون بعدي أُثْرة -وفي لفظ: ستلقون بعدي أثرة- فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(1)

وعن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي- صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يبقَ من الدنيا إلا بلاء وفتنة"(2).

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصبر أوسع العطاء، فقال كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"وما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر"(3)، وذلك أن الصبر لا يعقبه إلا السعة واليسر، قال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6]؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: "أدركنا خير عيشنا بالصبر".

أَمَا والذي لا خُلْدَ إلا لوجهه

ومن ليس في العز النيع له كفو

لئن كان بدء ابصبر مُرًّا مذاقُهُ

لقد يُجتني من غِبِّه الثمرُ الحلو

وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: ايْمُ الله، لقد سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول:"إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، ولَمَنْ ابتُلِيَ فَصبر، فَوَاهًا"(4).

(1) رواه البخاريّ (7/ 644 - فتح) رقم (4330)، والأُثْرة: الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه، وقيل: الشدة.

(2)

تقدم تخريجه ص (9).

(3)

رواه البخاريّ (2/ 152)، ومسلم باب (42) رقم (124).

(4)

أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم، باب النهي عن السعي في الفتن:(4/ 460)، رقم (4263)، وسكت عليه المنذري في "مختصر أبي داود":(6/ 148)، =

ص: 33

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك -فذكر الحديث- قال فيه: "كيف أنت إذا أصاب الناسَ موتٌ يكون البيتُ فيه بالوصيف؟ " - يعني: القبر- قلت: الله ورسوله أعلمُ، أو قال: ما خار الله لي ورسوله (1)، قال:"عليك بالصبر" أو قال: "تصبر

" الحديث (2).

وفي رواية أن أبا ذر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا، وأردفني خلفه وقال:"يا أبا ذر: أرأيت إن أصاب الناسَ جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"تعفف" قال: "يا أبا ذر: أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد -يعني: القبر- كيف تصنع؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "اصبر

" الحديث (3).

= وصححه الألباني في "صحيح أبي داود": (3/ 803). و"واهًا" كلمة تعني التلهف، أو يعبر بها عن الإعجاب بالشيء، فكأنه قال: ما أحسن وما أطيب من ابتلي بالفتن فصبر على البلاء!

(1)

أي: ما اختار الله لي ورسوله. "عون المعبود": (11/ 342)، "بذل المجهود":(17/ 166).

(2)

أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة:(4/ 458، رقم 4261)، وابن ماجه في الفتن، باب التثبت في الفتن:(2/ 1308، رقم 3958)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود":(3/ 803)، و"صحيح ابن ماجه":(2/ 355).

(3)

رواه الإِمام أحمد (5/ 149) بهذا اللفظ، وهو بنحو لفظ أبي داود وابن ماجه المذكور قبله، وصححه الألباني في "صحيح الجامع":(2/ 1290)، رقم (7819).

ص: 34

والمراد بالبيت المذكور في الروايتين: القبر، كما هو مصرَّح به في الحديث، وكما ذكره جمع من أهل العلم؛ كالخطابي (1)، وابن الأثير (2) وغيرهما.

وأما الوصيف: فهو العبد أو الخادم، والوصيفة: الأمة، يُريد أن الناس يُشغلون عن دفن موتاهم، وهذا يدل على أن الفتن تكثر، فتكثر القتلى، حتى إنه ليشتري موضع قبر يدفن فيه الميت بعبدٍ، من ضيق المكان عليهم، مبالغةً في كثرة وقوع الفتن، أو لاشتغال بعضهم ببعض، وبما حدث من الفتن لا يوجد من يحفر قبر ميت ويدفنه، إلا أن يعطى وصيفًا أو قيمته (3).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"(4).

قال الطيبي: "المعنى: كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده، كذلك المتدين يومئذٍ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان"(5).

(1)"معالم السنن"(4/ 458).

(2)

"جامع الأصول"(10/ 8).

(3)

"نفس المصدر".

(4)

أخرجه الترمذي في الفتن، باب (73):(4/ 256، رقم 2260) وهو حديث صحيح بشواهده كما قال الألباني في "الصحيحة": (957)، و "صحيح الترمذي":(2/ 256).

(5)

"تحفة الأحوذي"(6/ 539).

ص: 35

وقال القاري: "الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمُّل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان، لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلَاّ بصبر عظيم". انتهى (1).

(1)"نفس المصدر"(6/ 539).

ص: 36