الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- إطفاء الفتنة وإخماد نارها؛ لأن الناس كلما اعتزلوا الفتن؛ قلَّ أهلها، فَقَلَّ شرها، وكلما تشرَّفوا لها وقاموا وقعدوا فيها، كثَّروا سواد أهلها، فزاد شرها، وعظم خطبها. ولذلك بَوَّب البخاريّ في "صحيحه" في كتاب الفتن، فقال: باب من كره أن يُكَثِّر سواد أهل الفتن والظلم، وذكر فيه حديث أبي الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعثٌ فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يصيب أحدهم فيقتله، أو يضر به فيقتله، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97].
تنبيهات
الأول: اعلم -رحمك الله تعالى- أن العزلةَ لا تشرع مطلقًا، لكن لها حالات استثنائية تشرع فيها، وما ورد من النصوص في مدح العزلة مطلقًا يُحْمَل على أنه خاص بأفراد معينين تضر المخالطة بدينهم ودنياهم، أو أنه خاص بزمان الفتن التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باعتزالها.
الثاني: اعلم أن العزلة في إلفتن على وجهين بحسب الحاجة والمصلحة، وبحسب القدرة والاستطاعة:
أحدهما: العزلة التامة في مكان بعيد عن الناس.
والآخر: العزلة النسبية أو الجزئية؛ بحيث يعتزل الفتن وأهلها، ولا يشارك فيها، وإن كان مقيمًا بين ظهراني الناس.
الثالث: إذا خرج بُغَاة على الإِمام الشرعيّ، فالصواب مناصرته عليهم وعدم خِذْلانه بزعم مشروعية العزلة في مثل ذلك، قال الإِمام الطبري - رحمه الله تعالى-:"والصواب أن يُقال: إن الفتنةَ أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل مَنْ قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومَنْ أعان المخطئ أخطأ، وإن أُشكل الأمرُ فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها"(1) اهـ.
الرابع: أما ما وقع بين الصحابة رضي الله عنه من الاقتتال: "فلا يجوز أن يُنسب إلى أحد منهم خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل وهم كلهم لنا أئمة، وقد تُعُبِّدنا بالكفِّ عَمَّا شجر بينهم، وألَّا نذكرهم إلَّا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سَبّهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم"(2).
ومما يُنَجِّي من الفتنة لُزومُ الجماعة:
من لطف الله تعالى بهذه الأمة المرحومة أنه- عز وجل لا يجمعها على ضلالة أبدًا، بل الحق فيها دائم ما دامت الأمة، فقد ضمن تبارك وتعالى بقاء طائفة من الأمة ثابتة على الحق مستمسكة به حتى يأتيها أمر الله، وهي على ذلك.
(1) نقله عنه الحافظ في "الفتح"(13/ 35).
(2)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (16/ 321، 322)، و"شرح النووي لصحيح مسلم"(18/ 11).
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بَرٌّ، أو يُستراحَ من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمَّد- صلى الله عليه وسلم على ضلالة"(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار"(2).
وفي حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا: "
…
فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، ومن الاثنين أبعد، فمن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن" (3).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفُرْقَة"(4).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8/ 604)، وصححه الحافظ في "التلخيص"(3/ 296).
(2)
رواه أبو داود (4/ 452) رقم (4253)، والترمذي (4/ 466) رقم (2167)، وصححه الألباني في "تخريج المشكاة"(173).
(3)
رواه الترمذي في "سُننه"(4/ 466) رقم (2165)، وقال:"حسن صحيح غريب"، ْوالحاكم (1/ 114)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة" أرقام (86، 88، 896، 899، 902)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة" رقم (155).
(4)
رواه الآجري في "الشريعة"(1/ 123، 124)، رقم (17)، واللالكائي في "الأصول" رقم (159).
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرةٍ حتى يدركك الموتُ وأنت على ذلك"(1).
وقال مطرف: قلت لعمران بن حصين: "أنا أفقر إلى الجماعة من عجوز أرملة؛ لأنها إذا كانت جماعة عرفتُ قبلتي ووجهي، وإذا كانت الفرقة التبس عليَّ أمري" قال له: "إن الله عز وجل سيكفيك من ذلك ما تُحاذِر"(2).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجماعة رحمة، والفُرْقَة عذاب"(3).
ولما أتم ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلاة بمنى أربع ركعات -خلافًا لما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، عجب الصحابة من صنيعه ذلك، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه استرجع، وقال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين،
(1) رواه البخاري (6/ 615 - فتح)، (13/ 35)، ومسلم رقم (1475)، وغيرهما.
(2)
"حلية الأولياء"(2/ 208).
(3)
أخرجه الإِمام أحمد (4/ 278، 375)، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة" رقم (895)، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" رقم (667).
فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" (1)، وفي رواية أنه: "صلَّى أربعًا، فقيل له: عِبْتَ على عثمان ثم صليت أربعًا، قال: الخلاف شر" (2).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "سبب الاجتماع والأُلفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا.
وسبب الفرقة: ترك حظ مما أُمر العبد به، والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه.
ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم" (3) اهـ.
ومن أهم المظاهر التي تشد المسلمين شدَّا إلى حبل الله وصراطه المستقيم المواظبة على حضور صلاة الجماعة حتى في أحلك أوقات الفتن، باعتبار ذلك من مظاهر التعاون على البرِّ والتقوى، وهي -إن لم تستأصل الفتنة- فإنها تُحَجِّم أضرارها، وتذكر المسلمين بأخوة الإيمان، ووحدة العقيدة، واستصحاب أصل الائتلاف والتلاحم.
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّان رضي الله عنه وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: "إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى،
(1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه"(2/ 656 - فتح).
(2)
رواه أبو داود (2/ 491، 492) رقم (1960)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1/ 369)، وانظر:"شرح النووي على مسلم"(5/ 204).
(3)
"مجموع الفتاوى"(1/ 17).
وَيُصَلّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنتَحَرَّجُ، فَقَالَ:"الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ"(1).
قال أبو مُحَمَّد بن حَزْم: "وكان ابنُ عمر يصلي خلف الحجَّاجِ ونجدةَ، أحدهما: خارجي (2)، والثاني: أفسق البرية (3)، وكان ابنُ عمر يقول: "الصلاةُ حَسَنَة ما أبالي مَن شَرَكَنِي فيها".
وعن القاسم بن عبد الرحمن: أنهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: "قد قاتلتُ والأنصابُ بين الركن والباب، حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب؛ فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله"، قالوا:"والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يُفْنِيَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعضُهم بعضًا حتى إذا لم يبقَ غيرُك، قيل: بايِعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين"، قال:"واللهَ ما ذلك فِيَّ، ولكن إذا قلتم: حَيَّ على الصلاة، أجبتكم، حَيَّ على الفلاح، أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم"(4).
(1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (695)(2/ 188 - فتح).
(2)
أي: نجدة بن عامر الحنفي الحروري الخارجي من رءوس الخوارج. انظر: "لسان الميزان"(6/ 148).
(3)
الأَوْلَى أن يقول: "من أفسق البرية"، أما إطلاقها هكذا فلا ينبغي؛ لأنه لا يعلمه إلَّا الله سبحانه، وقد رُوي عن قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: "أنصلي خلف الحجاج؟ " قال: "إنَّا لنصلي خلف من هو شر منه".
(4)
"حلية الأولياء"(1/ 294).
وعن نافع، قال: قيل: لابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - زمنَ ابنِ الزبير، والخوارج، والخشبية: أتصلي مع هؤلاء، ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضا؟ قال:"من قال: حَيَّ على الصلاة، أجبته، ومن قال: حَيَّ على الفلاح، أجبته، ومَنْ قال: حَيَّ على قتل أخيك المسلم، وأَخْذِ ماله، قلت: لا"(1).
وقال مسلم: كنا مع عبد الله بن الزبير والحجاج محاصره، وكان ابن عمر يصلي مع ابن الزبير، فإذا فاتته الصلاة معه وسمع مؤذن الحجاج، انطلق فصلى معه، فقيل: لِمَ تصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج؟ فقال: "إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم"، وكان ينهى ابنَ الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها (2).
وعن ابن جريج: قلتُ لعطاء: أرأيت إمامًا يؤخر الصلاة حتى يصليها مفرِّطًا فيها، قال:"أصلي مع الجماعة أحبُّ إليَّ".
وعن أبي الأشعث قال: ظهرت الخوارج علينا، فسألتُ يحيي بنَ أبي كثير، فقلت: يا أبا نصر، كيف ترى في الصلاة خلف هؤلاء؟ قال:"القرآنُ إمامُك، صَلِّ معهم ما صَلَّوْها".
وعن الحسن قال: "لا تضر المؤمنَ صلاتُه خلف المنافق، ولا تنفع المنافقَ صلاتُه خلف المؤمن".
(1)"المرجع نفسه"(8/ 309).
(2)
"العزلة" ص (15).
قال علي (1): ما نعلم أحدًا من الصحابة رضي الله عنه امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2](2).
(1) أي: الإِمام أبو محمَّد علي بن حزم -رحمه الله تعالى-.
(2)
"المحلى"(4/ 213)، وانظر:"قاعدة أهل السُّنَّة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي، ومشاركتهم في صلاة الجماعة"، شيخ الإِسلام ابن تيمية.