الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواجهة الفتنة بالعمل الصالح
في مواطن الفتن والنوازل ينشغل كثيرٌ من الناس بتتبع الأخبار، ويولعون بذلك، ومِن ثَمَّ يغلب على أحاديث المجالس:"سمعت، ورأيت، وأتوقع، ولو كان كذا كان أولى، ولو قُدّم هذا أو أُخِّر ذاك لكان أحرى"، مما يصرف هممهم عن النوافل المستحبة، وربما فرَّطوا في الواجبات، أو أخرجوا الصلاة عن وقتها بسبب السهر في السمر والجدل مثلًا، بجانب الإخلال بواجبات المعاش، وحقوق الأهل والأولاد.
كل ذلك بسبب السهر في قيل وقال، والإغراق في تصفح الجرائد والمجلات، ومتابعة القنوات، بل الشغف بذلك إلى حد إدمانها والوقوع في أسرها (1).
وهذا كله انحراف عن الهدي النبوي في التعامل مع الفتنة، وقد قال- صلى الله عليه وسلم:"خير الهدي هديُ محمَّد صلى الله عليه وسلم"(2)، فكيف كان هديه- صلى الله عليه وسلم في ذلك؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)"معالم في أوقات الفتن والنوازل" للشيخ عبد العزيز السدحان -حفظه الله تعالى- ص (43، 44).
(2)
انظر: "خطبة الحاجة" للألباني - رحمه الله تعالى-.
"بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مومنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"(1).
وكان الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى- يقول في هذا الحديث: "يصبح الرجل مُحَرِّمًا لدم أخيه وعِرضه وماله، ويمسي مستحلًّا له، ويُمسي مُحَرِّمًا لدم أخيه وعرضه وماله، ويصج مستحلًّا له"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستًّا: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم"(3).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فَزِعًا يقول: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل (4) من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين (5)؟ ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة"(6).
(1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (118)، والترمذي (2196)، والإمام أحمد (2/ 304).
(2)
نقله عنه الترمذي في "سننه" رقم (2198)(4/ 488).
(3)
رواه مسلم، رقم (118).
(4)
أي: أنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن، فعبَّر عنه بالإنزال، كما في "فتح الباري"(1/ 254).
(5)
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "فيه الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، لتُكْشَف أو يَسْلم الداعي ومن دعا له". اهـ. "الفتح"(1/ 255).
(6)
أخرجه البخاري (1/ 253) رقم (115)، وأحمد (6/ 297).
فالعمل الصالح وسيلة للثبات على الحق، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
وإن النفس وقت الفتن إن لم يبادر المؤمن بإشغالها بالحق، شغلته بالباطل ولا بد.
قال الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-:"نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل".
وصاحب الأعمال الصالحة لا يخزيه الله أبدًا:
ففي حديث بدء الوحي قالت خديجة رضي الله عنها للنبي- صلى الله عليه سلم-: "كلا والله! لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتَقْرِي الضيفَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدومَ، وتُعين على نوائب الحق"(1).
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء"(2).
وُيروى أن الفتنة لما وقعت، قال طلق بن حبيب:"اتقوها بالتقوى".
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ"(3).
قال الأُبِّيُّ المالكي -رحمه الله تعالى-: "الهَرْجُ: الفنتة والاختلاط، ووجه التشبيه: أن المهاجر فَرَّ بدينه ممن يصده عنه إلى الاعتصام برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هذا
(1) رواه البخاريّ رقم (3)، ومسلم (245) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(2)
روي من طرق عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم انظرها في "السلسلة الصحيحة" رقم (1908).
(3)
رواه مسلم رقم (5376).
المنقطع للعبادة في الفتنة فَرَّ عن الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه عز وجل، فهو مهاجر إلى الله سبحانه وتعالى" (1).
وقد قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] لأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فعلوا ذلك في وقت خوف وقلة، بخلاف من فعل ذلك بعد الفتح، فإنهم- وإن كانوا موعودين بالحسنى- إلا أنهم أنفقوا وقاتلوا بعد عزة الإِسلام وقوة أهله (2).
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
وذلك لأن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر.
وقال- جلَّ وعلا- مخاطبًا خليله محمدًا- صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]. فأمره- صلى الله عليه وسلم بأن يفزع إلى الصلاة والذكر إذا ضاق صدره بما يقوله أعداء الدين، فإن في ذلك شرحًا للصدر، وتفريجًا للكربة، وهكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، قال حذيفة رضي الله عنه:"رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أَمْرٌ صَلى"(3).
(1)"إكمال إكمال المعلم"(7/ 283).
(2)
انظر: "مسائل في الفتن" للصبحان ص (41).
(3)
أخرجه الإِمام أحمد (5/ 388)، وابن جرير (1/ 205)، وأبو داود (1319)، وحسَّنه الألباني.
وعن أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه قال: "لقد رأيتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح"(1).
ويُروى أن ثابتًا قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى بأهله: "صلوا، صلوا". قال ثابت: "وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة")(2).
ورُوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "كان النبي، صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة، كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أوقمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي"(3).
وهكذا كان شأن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم، فقد رُوِيَ عن النضر أنه قال:(كانت ظلمة على عهد أنس، فأتيته، فقلت: "يا أبا حمزة، هل كان هذا يصيبكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " فقال: "معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة أن تكون القيامة")(4).
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 125)، والنسائي في "الكبرى"(823)، والطيالسي (116)، وأبو يعلى (208)، وابن خزيمة (899)، وابن حبان (2257)، وصحح إسناده الألباني.
(2)
رواه الإِمام أحمد في "الزهد" ص (10)، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب". وانظر:"الدر المنثور"(4/ 313)، "تعظيم قدر الصلاة" ص (140).
(3)
عزاه الندوي في حاشية "الأركان الأربعة" ص (30) إلى الطبراني في "الكبير"، وقال:"وفيه زياد بن صخر".
(4)
"ضعيف سنن أبي داود" رقم (258).
هكذا كان شأن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان في كل جيل مع الصلاة شأن الجندي مع سيفه، وشأن الغني مع ثروته، وشأن الطفل الصغير مع بكائه وصراخه، واستعطافه للأم الحنون، بل كانوا أكثر إدلالًا وثقة بصلاتهم، وأقوى اعتمادًا عليها من كل ذلك، وأصبح ذلك طبيعة لهم لا تفارقهم، فإذا أفزعوا أو أثيروا، وإذا دهمهم عدو، أو تأخر عليهم فتح، أو التبس عليهم أمر، التجئوا إلى الصلاة، وفزعوا إليها.
وفي أعقاب معركة اليرموك، وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم:"ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! " قالوا: "بلى أيها الملك"، قال:"فأنتم أكثر أم هم؟! " قالوا: "بل نحن أكثر منهم في كل موطن"، قال:"فما بالكم إذن تنهزمون؟! " فأجابه شيخ من عظمائهم: "إنهم يهزموننا؛ لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم"(1).
فللصلاة خصوصية في دفع الفتن ورفعها:
عن عبيد الله بن عدي بن خيارأنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: لا إنك إمام عامة (2)، ونزل بك ما نرى (3)،
(1)"البداية والنهاية"(7/ 15).
(2)
أي: إمام جماعة، أو الإِمام الأعظم.
(3)
من الحصار.
ويصلي لنا (1) إمام فتنة (2)، ونتحرج"، فقال: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم (3)، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم" (4).
قال الحافظ ابن حجر- رضي الله عنه: "وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تُكره الصلاةُ خلفَه أولى من تعطيل الجماعة"(5).
(1) يؤمنا.
(2)
رئيس الفتنة الذي خرج على إمام المسلمين.
(3)
ظاهره أنه رخَّص له في الصلاة معهم، كانه يقول: "لا يضرك كونه مفتونًا، بل إذا
أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افتتن به". كذا في "الفتح" (2/ 222).
(4)
تقدم تخريجه ص (113).
(5)
"فتح الباري"(2/ 190).