المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من الفتن

- ‌الفتن واقعة لا محالة

- ‌الحذر من الشر باب من أبواب الخير

- ‌من طبائع الفتن

- ‌نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة

- ‌العلماء سفينة نوح

- ‌الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء

- ‌والجاهلون لأهل العلم أعداء

- ‌الصبر زمن الفتن

- ‌مقارنة الحِلْم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش

- ‌الإِمام ابن القيم يحذِّر من استفزاز البُداءات

- ‌من مواقف التثبت في الفتن

- ‌العَجلَة أمُّ الندامات

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

- ‌وجوب حفظ اللسان

- ‌في الصمت السلامة

- ‌الموازنة بين الصمت والكلام:

- ‌حفظ اللسان في الفتن

- ‌تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن

- ‌رُبَّ قولٍ يسِيل مِنه دَمٌ

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفِرار منها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌مواجهة الفتنة بالعمل الصالح

- ‌الدعاء والتضرع في الفتن

- ‌التعوذ بالله تعالى من الفتن

- ‌حكم تمني الموتِ في الفتنة

- ‌ذكر أدلة السُّنَّة على جواز تمني الموتإذا خاف على دينه من الفتن

الفصل: ‌حفظ اللسان في الفتن

‌حفظ اللسان في الفتن

قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، فمن سُنَّة الجهاد البُداءَة بالعدو الأقرب فالأقرب، والنفس الأمَّارة بالسوء بين جنبي الإنسان هي أقرب أعدائه إليه، فليبدأ بمجاهدتها وقمعها، خصوصًا وأنها التي تأمر اللسان بالغِيبة، والنميمة، والجدل، والمراء، والكذب، والخوض في الفتن.

عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل"(1).

وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل"(2).

وقال أبو حازم رحمه الله: "قاتِل هواك أشدَ مما تقاتل عدوك"(3).

ويتأكد وجوب حفظ اللسان وقت الفتن لما لِلِّسان من أثر في إشعالها، وقد يحسب المغرور أنه إذا كفَّ يده فقد اعتزل الفتن، ولا يدري أنه لا ينجو منها حتى يكف لسانه أيضًا، وكم من خائضٍ في الفتن متلوثٍ بها بلسانه، وهو يظن أنه ناجٍ منها، وهو من أنشط الساعين فيها،

(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 20، 22)، والترمذي (1621)، وقال:"حسن صحيح"، وابن حبَّان رقم (4624)، (4706)، والطبراني (18/ 309) رقم (797)، وقال الألباني في "الصحيحة":"إسناده جيد"(3/ 484).

(2)

رواه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 249). وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (1496).

(3)

"الحلية"(3/ 231).

ص: 76

المُضْرِمين نارَها، ومِن ثَمَّ قال وهيب بن الورد رحمه الله:"وجدتُ العزلة في اللسان"(1).

وعن عبد الله بن المبارك قال: قال بعضهم في تفسير العزلة: "هو أن يكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخُض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فأسكت"(2).

وعن حذيفة رضي الله عنه، قال:"إن الفتنة وُكِّلَتْ بثلاث: بالحادِّ النِّحْرِيرِ الذي لا يرتفع له شيء إلَّا قمعه بالسيف (3)، وبالخطيب الذي يدعو إليها (4)، وبالسيد (5)، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه، حتى تبلو ما عنده"(6).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما ذُكِرت عنده الفتن، وسُئل: أي أهل ذلك الزمان شر؟ قال: "كل خطيب مِسْقَعٍ (7)، وكل راكب مُوضِع"(8).

(1)"الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (38).

(2)

"المصدر نفسه" رقم (37).

(3)

الحادُّ: النشيط القوي القلب، أو الطائش، والنِّحْرير: العالم الحاذق في علمه. ومراده: أن مثل هذا المتهور لا رجاء له في النجاة؛ لأنه يفكر بسيفه.

(4)

وهذا كسابقه صاحب سيف، لكن سيفه لسانه.

(5)

لأن الفتنة امتحانٌ له.

(6)

"حلية الأولياء"(1/ 274).

(7)

الخطيب المِسْقَعِ والمِصْقَع: البليغ، أو: من لا يُرْتَجُ عليه في كلامه، ولا يتتعتع.

وإنما قال ابن مسعود رضي الله عنه ذلك؛ لأن الأول محرِّضٌ على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران: شر القول، وشر العمل.

(8)

"شرح السّنَّة"(15/ 16) ن والراكب المُوضِع في الفتنة: المُسْرعُ فيها.

ص: 77

والنصوص التالية تجسِّد لنا خطورة وَقْعِ اللسان في الفتن:

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تكون فتنة تَسْتَنْظِفُ (1) العرب، قتلاها في النار (2)، اللسانُ فيها أشدُّ (3) من وقع السيف"(4).

(1) تستنظف العرب؛ أي: تستوعبهم هلاكًا؛ يقال: اسْتَنْظَفتَ الشيء، إذا أخذته كلَّه، ومنه قولهم: استنظفت الخراج، ولا يقال: نظَّفْتُه. كما في "النهاية"(5/ 79) وقال القاري: "أي: تطهرهم من الأرذال وأهل الفتن" نقله في "تحفة الأحوذي"(6/ 402).

(2)

في النار؛ أي: سيكونون في النار أو هم حينئذٍ في النار؛ لأنهم يباشرون ما يوجب دخولهم في النار؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13] قال القاضي - رحمه الله تعالى-: المراد "بقتلاها" مَنْ قُتِل في تلك الفتنة، وإنما هم من أهل النار؛ لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق، وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعًا في المال والملك.

(3)

اللسان فيها أشد؛ أي: وقعه وطعنه على تقدير مضاف، ويدل عليه رواية:"إشراف اللسان" أي: إطلاقه وإطالته أشد من وقع السيف؛ لأن السيف إذا ضُرِب به أثَّر في واحد، واللسان تضرب به في تلك الحالة ألف نسَمَة، كما في "تحفة الأحوذي"(6/ 403).

قال القرطبي - رحمه الله تعالى-: "قوله: "اللسان فيها أشد من وقع السيف" أي: بالكذب عند أئمة الجور، ونقل الأخبار إليهم، فربما ينشأ عن ذلك من النهب والقتل والجلد والمفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها" اهـ. من "التذكرة"(2/ 249).

ونقل المناوي عن القاضي ابن العربي قوله: "وجه كونه أشد: أن السيف إذا ضرب ضربةً واحدةً مضت، واللسان يضرب به في تلك الحالة الواحدة ألف نَسمة، ثم هذا يحتمل أنه إخبار عَمَّا وقع من الحروب بين الصدر الأول، ويحتمل أنه سيكون، وكيفما كان فإنه من معجزاته؛ لأنه إخبار عن غيب" اهـ. من "فيض القدير"(4/ 101).

(4)

أخرجه أبو داود (4/ 461) رقم (4265)، وابن ماجه (2/ 1312) رقم (3967)، والإمام أحمد (11/ 170) رقم (6980)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند"(11/ 170)، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (319).

ص: 78

ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة صَمَّاءُ بَكْمَاءُ عَمْيَاءُ (1) من أشرف لها اسْتَشْرَفَتْ له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف"(2).

ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والفتن، فإن اللسان فيها مثل وقع السيف"(3).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكروا الفتنة، أو ذُكِرتْ عنده، قال:"إذا رأيتم الناسَ قد مَرِجَتْ عهودُهم، وخَفَّت أماناتُهم، وكانوا هكذا" -وشَبَّك بين أصابعه- قال: فقمتُ إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: "الزم بيتك، واملكْ عليك لسانك، وخُذْ بما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنكِر، وعليك بأمر خاصةِ نفسك، ودَع عنك أمرَ العامة"(4).

(1) وصف الفتنة بأوصاف أصحابها، أي: يعمي الناس فيها، فلا يرون منها مخرجًا، ويصمون عن استماع الحق.

(2)

رواه أبو داود (4/ 460) رقم (4264)، وقال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود":"في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني، ولا يُحتج بحديثه" اهـ. (6/ 148)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" رقم (917).

(3)

رواه ابن ماجه (2/ 1312) رقم (3968)، وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (860) ص (319):"ضعيف جدًّا".

(4)

رواه الإِمام أحمد (2/ 212)، وأبو داود رقم (4343) واللفظ له، والحاكم (4/ 525)، وصححه، ووافقه الذهبي، ونقل المناوي في "الفيض" تحسين المنذري والعراقي إياه (1/ 353)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في "تحقيق المسند"(11/ 172)، والألباني في "الصحيحة" رقم (502).

ص: 79

ولما كان "الدفع أسهل من الرفع" و"الوقاية خيرًا من العلاج"، أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يلزم بيته اتقاءً لآفات اللسان واحترازًا من الغيبة، والنميمة، والجدل، والسعاية وغير ذلك مما يكون وقودًا لإضرام نار الفتن.

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "

ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنًا على الله" (1).

وهذا يدل على فضيلة من اعتزل مجالس الناس، ولزم بيته بنية كف شر لسانه عن إخوانه المؤمنين، كما قال- صلى الله عليه وسلم في أفضل الأعمال بعد الجهاد:"مؤمن في شِعْبٍ من الشِّعاب يعبد الله، ويَدَعُ الناسَ مِنْ شَرِّه"(2).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسم- خرج عليهم وهم جُلُوس في مجلسٍ، فقال: "ألا أخبركم بخير

(1) عَجُز الحديث رواه ابن حبَّان في "صحيحه" رقم (372)، والطبراني في "الكبير"(20/ 54)، والحاكم (2/ 90)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "السنن"(9/ 166، 167). وانظر: "المسند"(5/ 241)، والبزار (1649)، و"مجمع الزوائد"(5/ 277)، (10/ 304).

ومعنى "ضامن على الله" أي: مضمون، على حَدِّ:"عيشة راضية" أي: مرضية، أو: ذو ضمان. قال النووي في "الأذكار": "معنى (ضامن) صاحب الضمان، والضمان: الرعاية للشيء، كما يقال: (تامر، ولابن) أي: صاحب تمر ولبن"، وانظر:"فيض القدير" للمناوي (3/ 319)، و"النهاية" لابن الأثير (3/ 102).

(2)

أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مسلمٌ (1888)، وابن ماجه (3978)، وابن حبَّان (606)، وغيرهم.

ص: 80

الناس منزلًا؟ "، فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: "رجل آخِذٌ برأس فرسه في سبيل الله حتى عُقرت أو يُقتل، فأخبركم بالذي يليه؟ "، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "امرؤ معتزل في شِعْب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس" (1). الحديث.

وقال شقيق البلخي: "اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها، واحذر أن تُحرِقَك"(2).

وقال عبد الله بن داود: "من أمكن الناسَ من كل ما يريدون، أضروا بدينه ودنياه"(3).

وعن زياد بن حدير، قال:"لوددتُ أني في حَيِّزٍ من حديد، ومعي ما يُصلحني، لا أُكَلِّم الناسَ، ولا يكلموني حتى ألقى الله تبارك تعالى"(4).

(1) أخرجه أحمد (1/ 237)، والنسائي (5/ 83)، والدارمي (2/ 201، 202)، وابن حبَّان (604)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط:"وإسناده حسن".

(2)

"صفة الصفوة"(4/ 160).

(3)

"سير أعلام النبلاء"(9/ 349).

(4)

"حلية الأولياء"(4/ 197)، و"الزهد" لابن أبي عاصم رقم (67) ص (42).

ص: 81