المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفرار منها - بصائر في الفتن

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من الفتن

- ‌الفتن واقعة لا محالة

- ‌الحذر من الشر باب من أبواب الخير

- ‌من طبائع الفتن

- ‌نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة

- ‌العلماء سفينة نوح

- ‌الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء

- ‌والجاهلون لأهل العلم أعداء

- ‌الصبر زمن الفتن

- ‌مقارنة الحِلْم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش

- ‌الإِمام ابن القيم يحذِّر من استفزاز البُداءات

- ‌من مواقف التثبت في الفتن

- ‌العَجلَة أمُّ الندامات

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

- ‌وجوب حفظ اللسان

- ‌في الصمت السلامة

- ‌الموازنة بين الصمت والكلام:

- ‌حفظ اللسان في الفتن

- ‌تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن

- ‌رُبَّ قولٍ يسِيل مِنه دَمٌ

- ‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفِرار منها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌مواجهة الفتنة بالعمل الصالح

- ‌الدعاء والتضرع في الفتن

- ‌التعوذ بالله تعالى من الفتن

- ‌حكم تمني الموتِ في الفتنة

- ‌ذكر أدلة السُّنَّة على جواز تمني الموتإذا خاف على دينه من الفتن

الفصل: ‌ومن أسباب النجاة من الفتن:اعتزالها والفرار منها

‌ومن أسباب النجاة من الفتن:

اعتزالها والفِرار منها

فقد حثَّ الشرع الشريف على اجتناب المشاركة في الفتن، وكفِّ اليد عنها، والفِرار منها.

عن بلال بن سعد في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56]، قال: عند وقوع الفتنة: أرضي واسعة، ففروا إليها (1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ- صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتربَ، أفلحَ مَنْ كَفَّ يَدَه"(2).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف بكم وبزمانٍ يوشك أن يأتي، يُغَربَلُ الناسُ فيه غربلةً، وتبقى حُثالةٌ من الناس قد مرِجَت عهودُهم وأماناتُهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا؟ " -وشبَّك بين أصابعه- قالوا: كيف بنا يا رسولَ الله! إذا كان ذلك؟ قال: "تأخذون بما تعرفون، وتَدَعون ما تُنكرون، وتُقْبِلون على خاصَّتكم، وتذرون أمرَ عوامِّكم"(3).

(1)"حلية الأولياء"(5/ 227).

(2)

رواه أبو داود رقم (4249)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 441)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(3/ 800).

(3)

رواه ابن ماجه رقم (3957)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (3196)، و"الصحيحة" رقم (205).

ص: 92

وعن خالد بيت الوليد رضي الله عنه قال: كتب إليَّ أمير المؤمنين حين ألقى الشامُ بَوانِيَهُ (1) بَثْنِيَّةً (2) وعَسَلًا، فأمرني أن أسير إلى الهند، والهند في أنفسنا يومئذٍ البصرة، قال: وأنا لذلك كاره، قال: فقام رجل فقال لي: يا أبا سليمان، اتق الله، فإن الفتن قد ظهرت، قال: فقال: "وابن الخطاب حي؟! إنما تكون بعده، والناس بذي بِلِيَّان (3)، أو بذي بليان بمكان كذا وكذا، فينظر الرجل فيتفكر: هل يجد مكانًا لم ينزل به مثلُ ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر؟ فلا يجده"، قال:"وتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين يدي الساعة الهَرْج"، فنعوذ بالله أن تدركنا وإياكم تلك الأيام"(4).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ"(5).

(1) بوانيه: خيره وما فيه من السَّعة والنعمة.

(2)

البثنية: قيل: الزبدة. أي: صارت كأنها زبدة وعسل؛ لأنها صارت تُجبى أموالُها من غير تعب.

(3)

المراد: إذا كانوا طوائف وفِرقًا من غير إمام، وكل من بعد عنك حتى لا تعرف موضعه فهو بذي بِلِيِّ، وهو من: بَلِّى في الأرض إذا ذهب، وأراد ضياع أمور الناس بعده.

(4)

أخرجه الإِمام أحمد (4/ 90)، والطبراني في "الكبير" رقم (3841)(4/ 116)، قال الألباني:"بسند حسن في المتابعات والشواهد" اهـ. من "الصحيحة"(4/ 249) حديث رقم (1682).

(5)

رواه البخاريّ في "صحيحه" رقم (6677) باب: مِن الدِّين الفِرار من الفتن.

ص: 93

وقَالَ عُثْمَانُ الشَّحَّامُ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ في أَرْضِهِ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدّثُ في الْفِتَنِ حَدِيثًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدّثُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِيِ إِلَيْهَا، أَلَا فإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كانَ لَهُ إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإبلِهِ، وَمَنْ كانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ:"يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ ليَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتينِِ فَضَرَبَنِي رَجُل بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُني؟ قَالَ:"يَبُوءُ بِإثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّار"(1).

وعَن الْحَسَنِ، عَن الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُريدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يا أَحْنَف؟ قالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -يَعْني عَليًّا- قَالَ: فقَالَ لِي: يَا أحْنَفُ، ارْجِع! فَإِنِّي سَمعتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقول:"إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتُولُ في النَّارِ" قالَ: فَقُلْتُ -أو قِيلَ-: يا رَسُولَ الله هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُول؟ قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ"(2).

(1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2887).

(2)

رواه البخاريّ رقم (6672)، ومسلم رقم (2888).

ص: 94

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تشرَّفَ لها تستشرِفْه (1)، فمن وَجَدَ ملجأً أو مَعاذًا فليعُذْ به"(2).

وقال حذيفة رضي الله عنه "إياكم والفتن، لا يشخصْ إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلَّا نسفته، كما ينسف السيلُ الدِّمَنَ"(3).

وعن أبي بُردة، قَال: دخلت على محمَّد بن سلمة فقال: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنها ستكون فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ واختلافٌ، فَإِذَا كَانَ كذلك؛ فَأْتِ بسيفك أُحُدًا فاضربه حَتَّى ينقطعَ، ثُمَّ اجلس في بيتك حَتى تَأْييَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ أَو مَنِيَّة قَاضِيَةٌ". فقد وَقَعَتْ وفعلتُ مَا قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (4).

وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتَ يا أبا ذرٍّ! وموتًا يصيبُ الناسَ حتى يُقَوَّم البيتُ

(1) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "قوله: (مَن تشرَّف لها) -بفتح المثناة والمعجمة وتشديد الراء -أي: تطلَّع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها

قوله: (تستشرفه) أي: تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه .. وفيه: التحذيرُ من الفتنة، والحث علي اجتناب الدخول فيها، وأنَّ شرها يكون بحسب التعلق بها" اهـ. من "فتح الباري" (13/ 31).

(2)

رواه البخاريّ رقم (3406)، ومسلم رقم (2886).

(3)

الدِّمَن: جمع دِمنة، وهي ما تُدمِّنُه الإبل والغنم بابوالها وأبعارها: أي تُلبِّده في مرابضها، فربما نبت فيها النبات الحسن النضير، وفي الحديث:"فينبتون نباتَ الدِّمن في السيل"، يريد البَعْرَ لسرعة ما ينبت فيه، انظر:"النهايه"(2/ 134).

(4)

رواه ابن ماجه رقم (3962)، وانظر:"الصحيحة" للألباني رقم (1380).

ص: 95

بالوصيف؟ " (يعني القبر) قنت: ما خَارَ الله لي ورسوله (أو قال: الله ورسوله أعلم) قال: "تصبَّر"، قال: "كيف أنت وجوعًا يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟ " قال، قلت: الله ورسوله أعلم (أو: ما خار الله لي ورسوله" قال: "عَليكَ بالعِفَّة"، ثم قال:"كيف أنت وقَتْلًا يصيبُ الناسَ حتى تُغْرَق حجارةُ الزَّيت بالدَّم؟ " قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: "الْحَقْ بمن أنت منه" قال: قلت: يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟ قال:"شاركتَ القومَ إذن، ولكن ادخل بيتك" قلت: يا رسول الله، فإن دُخِل بيتي؟ قال:"إن خشيتَ أن يَبْهَرَك شعاعُ السيفِ فألقِ طَرَفَ رِدائك على وجهك، فيبوء بإثمِهِ وإثمِك، فيكون من أصحاب النار"(1).

ورُوي أن رجلًا قال لحذيفة رضي الله عنه: إذ اقتتل المسلمون فما تأمرني؟ قال: "انظر أقصى بيتٍ في دارِكَ فلِجْ فيه، فإن دُخِل عليك، فقل: ها بُو بذنبي وذنبك"(2).

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِع بالدَّجال فَلْيَنْأَ عنه، فواللهِ إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسب أنه مومن، فيتَّبعه، مما يُبْعَثُ به من الشبهات، أو: لما يُبعَث به من الشبهات"(3).

(1) رواه ابن ماجه رقم (3958)، وصححه الألباني في "الإرواء" رقم (2451).

(2)

رواه الداني في "السنن الواردة في الفتن"(1/ 345).

(3)

رواه أبو داود رقم (4319)، والإمام أحمد (4/ 431)، والطبراني في "الكبير" رقم (550)(18/ 220)، والحاكم (4/ 531)، وصححه على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5/ 303) رقم (6177).

ص: 96

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا وقع الناس في الفتنة، فقالوا: اخرج، لك بالناس أسوة، فقل: لا أسوة لي بالشر"(1).

ومن مظاهر التطبيق العملي لمبدأ كف اليد عن المشاركة في الفتن واعتزالها:

أن مروانَ بن الحكم لما دعا أيمن بن خريم إلى الخروج في قتال فتنة أجابه: إن أبي وعمي شهدا بدرًا، وإنهما عَهِدا إليَّ ألَّا أقاتل أحدًا يقول:"لا إله إلَّا الله"، فإن أنت جئتني ببراءة من النار؛ قاتلتُ معك! ثم يقول:

ولستُ بقاتلٍ رجلًا يصلي

على سلطانِ آخرَ من قريشِ

له سلطانُه وعليَّ إثمي

معاذ الله من جهلٍ وطيشِ

أأقتل مسلمًا في غير جُرْمٍ

فليس بنافعي ما عِشتُ عيشي (2)

وعن عُدَيْسَة بنت أُهْبانَ، قالت: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أبي، فدعاه إلى الخروج معه، فقال له أبي:"إن خليلي وابنَ عمك عَهِد إليَّ إذا اختلف الناس أن أتخذَ سيفًا من خشب، فقد اتخذتُه! فإن شئتَ خرجتُ به معك" قالت: فتركه (3).

وعن أيوب السختياني، قال: اجتمع سعد بن أبي وقاص، وابن

(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه الطبراني، وفيه خديج بن معاوية: وثقة أحمد وغيره، وضعَّفه جماعة" اهـ. (7/ 298).

(2)

تقدم تخريجه ص (48).

(3)

أخرجه الترمذي رقم (2203)(4/ 490)، وقال:"حسن غريب"، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(2/ 241)، والمراد باتخاذ السيف من الخشب: الامتناع عن القتال، كما في "تحفة الأحوذي"(6/ 446).

ص: 97

مسعود، وابن عمر، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فذكروا الفتنة، فقال سعد:"أما أنا، فأجلس في بيتي، ولا أدخل فيها"(1).

وعن عامر بن سعد أن أباه سعدًا رضي الله عنه كان في غنمٍ له، فجاء ابنُه عمر، فلما رآه قال:"أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب"، فلما انتهى إليه، قال: يا أبة! أرضيتَ أن تكون أعرابيًّا في غنمك، والناس يتنازعون في المُلك بالمدينة؟ فضرب صدرَ عمر، وقال: اسكت، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله عز وجل يحب العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ"(2).

وعن ابنِ سيرين، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: "ألا تقاتل، فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ " فقال: "لا أقاتل حتى تأتوني بسيفٍ له عينان ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربتُ به مسلمًا نبا عنه (3)، وإن ضربتُ به كافرًا قتله، فقد جاهدتُ وأنا أعرف الجهاد"، وضَرَب لهم مثَلًا، فَقَالَ: "مثلُنا ومَثلكم كمثلِ قوم كانوا عَلى محجةٍ بيضاء، فبينا هم كذلك يسيرون هاجتْ ريحٌ عَجَّاجة (4) فَضَلُّوا الطريقَ، والتبس عليهم، فقال بعضهم:(الطريق ذات اليمين)، فأخذوا فيها، فتاهوا، وضلوا، وقال آخرون:(الطريق ذات الشمال)،

(1)"حلية الأولياء"(1/ 94).

(2)

أخرجه الإِمام أحمد (1/ 168)، ومسلم رقم (2965).

(3)

نبا عنه: أعرض عنه، ونَفَر، ولم يُصِبْه.

(4)

عجَّت الريح: اشتد هبوبها، وأثارت العَجاج؛ أي: الغُبار.

ص: 98

فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيثُ هاجت الريح فنُنِيخ فأناخوا (1)، فأصبحوا، فذهب الريح، وتبيَّن الطريق، فهؤلاء هم الجماعة، قالوا:"نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن"(2).

وعن الحسن قال: لما كان من أمر الناس ما كان من أمر الفتنة، أتوا عبد الله بن عمر، فقالوا: أنت سيد الناس، وابن سيدهم، والناس بك راضون: اخرج نبايعك، فقال: لا والله، لا يهراق فيَّ محجمة من دم، ولا في سببي، ما كان فيَّ الروح، قال: ثم أُتِيَ، فخُوِّفَ، فقيل له: لتخرجنَّ أو لتقتلنَّ على فراشك، فقال مثل قوله الأول؛ قال الحسن: فوالله، ما استقلوا منه شيئًا، حتى لحق بالله تعالى (3).

- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَتَاهُ رَجُلان (4) في فِتنةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالا: إِنَّ النَّاسَ قد ضُيِّعُوا، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ- صلى

(1) أناخ بالمكان: أقام به، وأناخ الجملَ: أبركَه، والمقصود أنهم ثبتوا في أماكنهم، ولم يبرحوا.

(2)

رواه نعيم في "الفتن" ص (167)، وابن سعد في "الطبقات"(3/ 143)، والطبراني في "الكبير"(1/ 144)، رقم (322)، والخطابي في "العزلة" ص (72)، والحاكم (4/ 444)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 94)، وقال الهيثمي:"رواه الطبراني (1/ 144 - رقم 322)، ورجاله رجال الصحيح" اهـ. من "مجمع الزوائد"(7/ 299)، وانظر -أيضًا-:"حلية الأولياء"(1/ 309،310).

(3)

"حلية الأولياء"(1/ 293).

(4)

أحدهما نافع بن الأزرق، ويحتمل أن يكون الثاني العلاء بن عرار، "هدي الساري" ص (310).

ص: 99

الله عليه وسلم - فَمَا يمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟! فَقَالَ: يَمْنَعُني أَنَّ اللهَ حرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالا: أَلَمْ يَقُل اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؟ فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلهِ، وأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، ويَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ الله (1).

وعَنْ نَافِعٍ أيضًا أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ في سَبِيلِ اللهِ عز وجل، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللهُ فِيهِ؟ قَالَ: يَابْنَ أَخِي، بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، والصلواتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ الله في كِتَابِهِ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ: فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ- في دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَأَمَّا يُعَذِّبُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ في عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فكان اللهُ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم، وَخَتَنُهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ (2).

قال عمرو بن العاص رضي الله عنه لابنه عبد الله رضي الله عنه، وهو ممن اعتزل الفتنة يوم صفين-: "يا بني! انظر أين ترى عليًّا؟

(1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (4513)(8/ 183 - فتح).

(2)

أخرجه البخاريّ (4514، 4515)(8/ 184 - فتح).

ص: 100

قال: أراه في تلك الكتيبة القتماء ذات الرماح، عليه عمامة بيضاء، قال: لله دَرُّ ابن عمر وابن مالك (1)! لئن كان تخلفهم عن هذا الأمر خيرًا؛ كان خيرًا مبرورًا، ولئن كان ذنبًا؛ كان ذنبًا مغفورًا" (2).

وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول: "لله درُّ مقامٍ قامه سعدُ بن مالك وعبدُ الله بن عمر: إن كان بِرًّا إن أجره لعظيم، وإن كان إثمًا إن خطأه ليسير"(3).

وعن أبي العالية، قال: لما كان قتال عليٍّ ومعاوية كنت رجلًا شابَّا، فتهيأتُ، ولبستُ سلاحي، ثم أتيت القوم، فإذا صفان لا يُرى طرفاهما، قال: فتلوت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. قال: فرجعت وتركتهم (4).

وعن ثابتٍ البُناني، عن مُطَرِّف، قال:"لأن يسألني ربي عز وجل يومَ القيامة، فيقول: يا مُطَرِّف ألا فعلتَ! أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ يقولَ لِمَ فَعلتَ؟ "(5).

(1) هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، كان وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة الأنصاري في عدة من الصحابة تخلَّفوا عن الفريقين، وقعدوا عن تلك الفتنة حتى انجلت.

(2)

"العزلة" ص (74، 75).

(3)

"مجموع الفتاوى"(4/ 440).

(4)

"حلية الأولياء"(2/ 219).

(5)

"كتاب الزهد" للبيهقي رقم (847)(2/ 316)، "سير أعلام النبلاء"(4/ 190).

ص: 101

قال مُطَرِّف: "إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهديَ الناس، ولكن لتقارعَ المؤمنَ عن دينه، ولَأن يقول اللهُ: لِمَ لا قتلتَ فلانًا؟ أحبُّ إليَّ مِنْ أنُ يقولَ: لِمَ قتلتَ فُلانًا؟ "(1).

وقال مُطَرِّف -أيضًا-: "لَأَنْ أُعافَى فأشكر، أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأصبر، نظرتُ في العافية فوجدتُ فيها خيرَ الدنيا والآخرة"(2).

وقال أيضًا رحمه الله: "لأن آخذَ بالثقة في القعود أَحبُّ إليَّ من أن ألتمسَ -أو قال؛ أطلبَ- فضلَ الجهادِ بالتغرير"(3).

(1)"حلية الأولياء"(2/ 204).

(2)

المرجع نفسه (2/ 212).

(3)

عاصر مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير فتنًا عظيمة، وُفِّق للنجاة منها، قال العجلي:"تابعي ثقة، من خيار التابعين، رجل صالح، وكان أبوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَنْجُ من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إلَّا رجلان: مطرف بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ولم ينج منها بالكوفة إلَّا رجلان: خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، وإبراهيم النخعي"، وانظر:"معرفة الثقات"(2/ 282).

ص: 102