الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعاء والتضرع في الفتن
الضراعة إلى الله تعالى من أسباب كشف الغمة وتفريج الكربة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 42، 43]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف: 94].
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم مبتلَيْنَ، فقال:"أما كان هؤلاء يسألون العافية؟! "(1).
وكان الحسن البصريّ يقول: "إن الحجاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 76].
وعند الفتن تطيش العقول، وتحتار النفوس فلا تدري ماذا تعمل؟ وفي هذا الموقف يغفل كثير من الناس عن سلاح عظيم كان عُدَّةً للأنبياء والصالحين على مر الزمان، ألا وهو الدعاء، قال تعالى عن نبيه نوح:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)} [القمر: 10، 11] وقال عن نبيه ذي النون: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87].
(1) أخرجه البزار في "مسنده"(3134 - كشف الأستار)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (2197).
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]، وقال- صلى الله عليه وسلم:"الدعاء هو العبادة". (1)
وقال- صلى الله عليه وسلم: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء"(2).
ومن شأن الفتن أن تشتبه فيها الأمور، ويغمض وجه الحق ويلتبس على الجمهور، إلا من عصم الله ورحم، فمن أعظم أسباب النجاة منها الاعتصام بالله تعالى والاستغاثة به، ودعاؤه، فإنه عز وجل القائل في الحديث القدسي:"يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم" الحديث (3).
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: "كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
(1) رواه أبو داود في الصلاة (رقم 1479)، والترمذي في الدعوات (رقم 2969)، والنسائي في التفسير من "السنن الكبرى"(رقم 11464)، وابن ماجه في "الدعاء"(رقم 3828) من حديث النعمان بن بشير، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان رقم (890)، والحاكم في "مستدركه" رقم (1802)(1/ 491، 492).
(2)
رواه عبد الغني المقدسي في "الدعاء" رقم (20) ص (53 - 55)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (601).
(3)
رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2577)، والترمذي رقم (2497).
يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (1).
فالهداية إلى الحق والاستبصار به وقت الفتن منحة ربانية، وهبة إلهية، قال تعالى:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وكان إبراهيم التيمي - رحمه الله تعالى- يقول: "اللهم اعصمني بدينك وسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن سبل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ والخصومات".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق"(2).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "ليأتين على الناس زمان، لا ينجو فيه إلا من دعا كدعاء الغريق"(3).
وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يصلي من الليل حين نشب الناس في الفتنة، ثم نام، فأُرِيَ في المنام، فقيل له:"قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالحَ عبادهِ"، فقام يصلي، ثم اشتكى، فما خرج إلا جنازة (4).
(1) أخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (رقم 770).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 22، 7/ 451، 531)، و"شعب الإيمان، (2/ 40).
(3)
"حلية الأولياء"(1/ 274).
(4)
"نفس المرجع"(1/ 178).
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: لما نشب الناس في الطعن علي عثمان رضي الله تعالى عنه، قام أبي يصلي من الليل، وقال:"اللهم، قني من الفتنة، بما وقيت به الصالحين من عبادك"؛ قال: فما خرج إلا جنازة. (1)
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: بينا رجل بمصر في بستان -زمن فتنة آل الزبير- جالسًا، كئيبًا، حزينًا، يبكي، ينكث (2) الأرض بشيء معه؛ فرفع رأسه، فإذا صاحب مسحاة (3)، قد مُثِّل له، فقال:"ما لي أراك مهمومًا حزينًا؟ " فكأنه ازدراه، فقال: لا شيء؛ فقال: "أبالدنيا؟ فإن الدنيا عَرَضٌ (4) حاضر، يأكل منها البر والفاجر، أم بالآخرة؟ فإن الآخرة أجل صادق، يُفصَل فيه بين الحق والباطل؛ قال: حتى ذكر أن لها مفاصلَ كمفاصل اللحم، من أخطأ منها شيئًا أخطأ الحق" قال: فكأنه أعجبه بذلك من كلامه؛ قال: اهتمامي بما فيه المسلمون؛ فقال: "إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، وسل، مَن ذا الذي سأل اللهَ فلم يعطه، أو دعا الله فلم يجبه، أو توكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟ " قال: فعلقت الدعاء، فقلت:"اللهم سلمني، وسلم مني"؛ قال: فتجلت الفتنة ولم تصب منه شيئًا. (5)
(1)"نفس المرجع".
(2)
كذا بالأصل! ولعلها (ينكت) بالتاء، يقال: نكت الأرضَ: أثر فيها بعود أو نحوه، ويقال: أتيته وهو ينكُت: يفكر كأنما يحدث نفسَه.
(3)
المِسْحاة: أداة القَشر والحرف.
(4)
العَرَض: متاع الدنيا وحُطامها.
(5)
"حلية الأولياء"(4/ 244).