الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن قتلني فمروة كسرة مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، ولأن يفترسني السبع أحب إليّ من أن ينبحني الكلب فأبى طاهر عليه.
وأسند عن إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال: كان أبي يكلم الأمين والمأمون بكلام يتفصحان به ويقول: كان أولاد الخلفاء من بني أمية يخرج بهم إلى البدو حتى يتفصّحوا، وأنتم أولى بالفصاحة منهم.
قال الصولي: ولا نعرف للأمين رواية في الحديث إلا هذا الحديث الواحد: حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فيهم بعض أولاد المتوكل، فسألوه عن الأمين وأدبه، فوصف الحسين أدبًا كثيرًا، قيل: فالفقه، قال: كان المأمون أفقه منه، قيل: فالحديث، قال: ما سمعت منه حديثًا إلا مرة؛ فإنه نعي إليه غلام له مات بمكة، فقال: حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من مات محرمًا حشر ملبيًا".
قال الثعالبي في لطائف المعارف: كان أبو العيناء يقول: لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد؛ فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهديّ عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، والواثق والمتوكل ابنا ابن زوجها، وأما ولاة العهد فكثير.
ونظيرتها من بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية: يزيد أبوها، ومعاوية جدها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان بن الحكم حموها، وعبد الملك زوجها، ويزيد ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، والوليد وهشام وسليمان بنو زوجها، ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد بن عبد الملك ابنا ابن زوجها.
المأمون عبد الله أبو العباس
1
المأمون: عبد الله أبو العباس بن الرشيد؛ ولد سنة سبعين ومائة في ليلة لجمعة منتصف ربيع الأول، وهي الليلة التي مات فيها الهادي واستخلف أبوه، وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت في نفاسها به، وقرأ العلم في صغره.
سمع الحديث من أبيه، وهشيم، وعباد بن العوام، ويوسف بن عطية، وأبي معاوية الضرير، وإسماعيل بن علية، وحجاج الأعور، وطبقتهم.
وأدبه اليزيدي، وجمع الفقهاء من الآفاق، وبرع في الفقه، والعربية، وأيام الناس ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهرَ فيها؛ فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن.
روى عنه: ولده الفضل، ويحيى بن أكثم، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، والأمير عبد الله بن طاهر، وأحمد بن الحارث الشيعي، ودعبل الخزاعي، وآخرون.
1 تولى الخلافة 198هـ وحتى 218هـ.
وكان أفضل رجال بني العباس حزمًا، وعزمًا، وحلمًا، وعلمًا، ورأيًّا، ودهاء، وهيبة، وشجاعة، وسؤددًا، وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن، ولم يلِ الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحًا مفوّهًا، وكان يقول: معاوية بعمره، وعبد الملك بحجّاجه، وأنا بنفسي؛ وكان يقال: لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة السفاح، والواسطة المأمون، والخاتمة المعتضد، وقيل: إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكان معروفًا بالتشيع، وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى علي الرضا كما سنذكره.
قال أبو معشر المنجم: كان المأمون أمّارًا بالعدل، فقيه النفس، يعدّ من كبار العلماء.
وعن الرشيد قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع -يعني نفسه- لنسبته، وقد قدمت محمدًا عليه، وإني لأعرف أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه.
استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمانٍ وتسعين وهو بخراسان، واكتنى بأبي جعفر.
قال الصولي: وكانوا يحبون هذه الكنية؛ لأنها كنية المنصور، وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كنى بها كالمنصور والرشيد.
وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتد ذلك على بني العباس جدًّا، وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولقب: المبارك، فجهز المأمون لقتاله، وجرت أمور وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق، فلم ينشب علي الرضا أن مات في سنة ثلاث، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي، وقد مات، فردوا جوابه أغلظ جواب، فسار المأمون، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أيامًا، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين.
ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك.
وأسند الصولي أن بعض آل بيته قالت: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يولِ أحدًا من بني هاشم شيئًا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولّى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدًا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدًا منهم حتى ولاه شيئًا؛ فكانت هذه منّة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت.
وفي سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وبلغ جهازها ألوفًا كثيرة، وقام أبوها بخلع القواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يومًا، وكتب رقاعًا فيها أسماء ضياع له، ونثرها على القواد والعباسيين؛ فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها، ونثر صينية ملئت جوهرًا بين يدي المأمون عندما زفت إليه.
وفي سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وإن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافًا إلى تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر، فاشمأزت النفوس منه، وكاد البلد يفتتن، ولم يلتئم له من ذلك ما أراد، فكفذ عنه إلى سنة ثماني عشرة.
وفي سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم، ففتح حصن قرة عنوة، وحصن ماجدة، ثم صار إلى دمشق، ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم وافتتح عدة حصون، ثم عاد إلى دمشق، ثم توجه إلى مصر ودخلها؛ فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسيين، ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق والروم.
وفي سنة ثماني عشرة امتحن الناس بالقول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتابًا يقول فيه: وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن؛ فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] فكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال الله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَق} [طه: 99] فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وقال:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت} [هود: 1] والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه، ثم انتسبوا إلى السنة، وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر؛ فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السّمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم، إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظًّا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به من عمى عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبالتوحيد، وكان عمّا سوى ذلك أعمى وأضل سبيلًا، ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، وتخرّص الباطل، ولم يعرف الله حق معرفته، فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون،
واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي، ولا واثق بمن لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك.
وكتب المأمون إليه أيضًا في أشخاص سبعة أنفس -وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي- فأشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه، فردهم من الرقة إلى بغداد، وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولًا ثم أجابوه تقيّةً.
وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة، وامتنع آخرون؛ فكتب يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفًا من السيف.
ثم كتب المأمون كتابًا آخر من جنس الأول إلى إسحاق، وأمره بإحضار من امتنع، فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل، وبشر بن وليد الكندي، وأبو حسان الزيادي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيد الله بن عمرو القواريري، وعلي بن الجعد، وسجادة، والذيال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد، وسعدويه الواسطي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرس، وابن علية الأكبر، ومحمد بن نوح العجلي، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم، وعرض عليهم كتاب المأمون فعرّضوا ووروا ولم يجيبوا ولم ينكروا، فقال لبشر بن الوليد: ما تقول؟ قال: قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة، قال: والآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب، قال: أقول: كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه، ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا أطعنا، وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك، ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟ قال: كلام الله، قال أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، لا أزيد على هذا، ثم امتحن الباقين وكتب بجواباتهم، وقال ابن البكاء الأكبر: أقول: القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: والمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال لا أقول مخلوق، ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون، فورد عليه كتاب المأمون: بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة وملتمسوا الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية، ويقول في الكتاب: فأمّا ما قال بشر فقد كذب، لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، فإن تاب فأشهر أمره، وإن أصر على شركه ودفع أن يكون
القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده فاضرب عنقه، وابعث إلينا برأسه، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه فإن أجاب وإلا فاضرب عنقه، وأما علي بن أبي مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم؟ وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله، وأما أحمد بن يزيد العوام وقوله: إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله، لا في سنه، جاهل يحسن الجواب إذا أدب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، وأما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير الؤمنين قد عرف فحوى مقالته، واستدل على جهله وأفنه بها، وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخفَ على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، يعني في ولاية القضاء، وأما الزياد فأعلمه أنه كانت منتحلًا ولاء أوّل دعيّ، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه، وذكر أنه إنما قيل له: الزيادي، لأمر من الأمور.
قال: وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة متجره، وأما ابن نوح والمعروف بأبي معمر وابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف عن التوحيد، وإن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركًا وصاروا للنصارى شبهًا؟ وأما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام، وأما سعدويه الواسطي فقل له قبح الله رجلًا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة وأما المعروف بسجادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى وحكّه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد، وأما القواريري ففيما تكشّف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وأما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف، وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم، وقد كان أمير المؤمنين وجّه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها، وتلجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيمًا عليه فأشهر ذلك وأظهره، ومن لم يرجع عن شركه -ممن سميت بعد بشر وابن المهدي- فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف.
قال: فأجابوا كلهم عند ذلك، إلا أحمد بن حنبل، وسجادة، ومحمد بن نوح، والقواريري، فأمر بهم إسحاق فقيدوا، ثم سألهم من الغد -وهم في القيود- فأجاب سجادة، ثم عاودهم ثالثًا فأجاب القواريري، ووجّه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم.
ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم إليه، فحملوا إليه، فبلغتهم وطأة المأمون قبل وصولهم، إليه، ولطف الله بهم، وفرج عنهم.
وأما المأمون فمرض بالروم، فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن أنه لا يدركه، فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها: من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده، بهذا النص، فقيل: إن ذلك وقع بأمر المأمون، وقيل: بل كتبوا ذلك وقت غشيٍ أصابه.
ومات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة بالبذندون من أقصى الروم، ونقل إلى طرسوس، فدفن بها.
قال المسعودي: كان نزل على عين البذندون، فأعبجه بردُ مائها وصفاؤها وطيبُ حسن الموضع، وكثرة الخضرة، فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة، فأعجبته، فلم يقدر أحد أن يسبح في العين لشدة بردها، فجعل لمن يخرجها سيفًا، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها، فقال المأمون: تلقى الساعة، فأخذته رعدة، فغطي باللحف -وهو يرتعد ويصيح- فأوقدت حوله نار، فأتى بالسمكة، فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق المأمون من غمرته، فسأل عن تفسير المكان بالعربي؟ فقيل: مد رجليك، فتطير به، ثم سأل عن اسم البقعة، فقيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة، فكان يتجنب نزول الرقة فرقًا من الموت لما سمع هذا من الروم عرف وأيس، وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ
…
مون أو عن ملكه المأسوس
خلّفوه بعرصتي طرطوس
…
مثل ما خلّفوا أباه بطوس
قال الثعالبي: لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبرًا من الرشيد والمأمون. قال: وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد، ولم يرَ الناس مثلهم: فقبر عبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية.
فصل: في نبذ من أخبار المأمون
قال نفطويه: حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال: كنا بين يدي المأمون، فعطس، فلم نشمته، فقال: لم لا تشمتونني؟ قلنا: أجللناك يا أمير المؤمنين، قال: لست من الملوك التي تتجال عن الدعاء.
وأخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون، فأتيته يومًا -وهو داخل- فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني، فأبطأ ثم وجهت إليه آخر، فأبطأ فقلت: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة، فقيل: أجل، ومع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه
ولقوا منه أذى شديدًا، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت بحمله، فضربته سبع درر، قال: فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منه منديلًا، فمسح عينيه من البكاء، وجمع ثيابه، وقام إلى فرشه، فقعد متربعًا، ثم قال ليدخل، فدخل، فقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، ثم خرج، فجئت فقلت: لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر، فقال لي: يا أبا محمد، ما كنت أطلع الرشيد على هذه، فكيف بجعفر؟ إني أحتاج إلى أدب.
وأخرج عن عبد الله بن محمد التيمي قال: أراد الرشيد سفرًا، فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعملهم أنه خارج بعد الأسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون، فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب إليه المأمون:
يا خير من دبت المطي به
…
ومن تقدى بسرجه فرس
هل غاية في المسير نعرفها
…
أم أمرنا في المسير ملتبس؟
ما علم هذا إلا إلى ملك
…
من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متبعًا
…
إن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد، فسر بها، ووقع فيها: يا بني ما أنت والشعر، إنما الشعر أرفع حالات الدنى، وأقل حالات السرى. تقدّى: أي استمر.
وأخرج عن الأصمعي قال: كان نقش خاتم المأمون: عبد الله بن عبد الله.
وأخرج عن محمد بن عبد الله قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان والمأمون.
قلت: وقد رددت هذا الحصر فيما تقدم.
وأخرج عن ابن عيينة قال: جمع المأمون العلماء، وجلس للناس، فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلّف ستمائة دينار، أعطوني دينارًا وقالوا: هذا نصيبك، قال: فحسب المأمون ثم كسر الفريضة، ثم قال لها: هذا نصيبك، قال له العلماء كيف علمت يا أمير المرمنين؟ فقال: هذا الرجل خلف ابنتين؟ قالت: نعم، قال: فلهن الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون، وبالله ألك اثنا عشر أخًا؟ قالت: نعم، قال: أصابهم ديناران، ديناران، وأصابك دينار.
وأخرج عن محمد بن حفص الأنماطي قال: تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لون، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه، فقال: هذا نافع لكذا، ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا، ومن قصد قلة الغذاء
فليقتصر على هذا، فقال له يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هومس في حسابه، أو في الفقه كنت على بن أبي طالب رضي الله عنه في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيئ في صفته، أو صدق الحديث كنت أبا ذر في لهجته، أو الكرم أنت كعب بن مامة في فعاله، أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه فسرّ بهذا الكلام، وقال: إن الإنسان إنما فضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم.
وأخرج عن يحيى بن أكثم: ما رأيت أكمل من المأمون، بت عنده ليلة فانتبه فقال: يا يحيى انظر إيش عند رجلي؟ فنظرت فلم أر شيئًا، فقال: شمعة، فتبادر الفراشون، فقال: انظروا، فنظروا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب، فقال: معاذ الله ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم فقال:
يا راقد الليل انتبه
…
إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه
…
ثقة محللة العرى
فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر، إما قريب وإما بعيد، فتأملت ما قرب فكان ما رأيت.
وأخرج عن عمارة بن عقيل قال: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ فقلت: من ذا يكون أفرس منه؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره، من غير أن يكون سمعه، قال: إني أنشدته بيتًا أجدت فيه فلم أره تحرك له وهو هذا:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا
…
بالدين، والناس في الدنيا مشاغيل
فقلت له: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولًا عنها، فهو المطوق لها؟ ألا قلت كما قال عمك في الوليد:
فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه
…
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
قال ابن عساكر: أخبرنا أبو العز بن كادش، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني النضر بن شميل قال: دخلت على المأمون يمرو على أطمار، فقال لي: يا نصر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: لا، ولكنك تتقشف، فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز"، قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم: حدثني عوف الأعرابي، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تزوج الرجل المرأة لدينها ولجمالها كان فيه سداد -بالكسر- من عوز". وكان المأمون متكئًا فاستوى جالسًا، وقال: السداد لحن يا نضر؟ قلت: نعم ههنا، وإنما لحن هشيم وكان لحانًا، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السداد -بالفتح- القصد في السبيل، والسداد -بالكسر- البلغة وكل
ما سددت به شيئًا فهو سداد، قال: أفتعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
فأطرق المأمون مليًّا، ثم قال: قبح الله من لا أدب له ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعة
…
أقم علينا يومًا فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها
…
لأي وجه إلا إلى الحكم؟
متى يقول حاجبًا سرادقه
…
هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلًا
…
هيهات ادخل فأعطني سلمى
أسلمت: أسلفت، مقتبلًا: آخذًا قبيلًا: أي كفيلا.
قال: أنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني:
إني وإن كان ابن عمي عاتبًا
…
لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيد نصري وإن كان امرأً
…
متزحزحًا في أرضه وسمائه
وأكون والي سره، وأصونه
…
حتى يحن إلى وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه
…
قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبًا
…
صعبًا قعدت له على سيسائه
وإذا أتى من وجهه بطريقة
…
لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوبًا جميلًا لم أقل:
…
يا ليبت أن علي حسن ردائه
قال: أنشدني أقنع بيت قالته العرب، فأنشدته قول ابن عبدل:
إني امرؤ لم أزل، وذاك من
…
الله، أديبًا أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأن بي الـ
…
دار، وإن كنت نازحًا طربًا
لا أحتوي خلة الصديق، ولا
…
أتبع نفسي شيئًا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الـ
…
رزق بنفسي، وأجمل الطلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا
…
رغبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلاء، ولا
…
يعطيك شيئًا إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا
…
يحسن شيئًا إلا إذا ضربا
لم أجد عروة العلائق إلا الـ
…
دين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما
…
شد بعيس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر
…
حل ومن لا يزال مغتربًا
قال: أحسنت يا نضر، وأخذ القرطاس، فكتب شيئًا لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول أفعل من التراب؟ قلت: أترب، قال: ومن الطين؟ قلت: طن، قال: فالكتاب ماذا؟ قلت: مترب مطين، قال: هذه أحسن من الأول، فكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر الخادم أن يوصلني إلى الفضل بن سهل، فمضيت معه، فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا! ولكن هشيم لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، فأمر لي من عنده بثلاثين ألفًا، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفًا.
وأخرج الخطيب1 عن محمد بن زياد الأعرابي قال: بعثت إلى المأمون، فصرت إليه، هو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم، فرأيتهما موليين، فجلست، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة فسمتعه يقول ليحيى: يا أبا محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس، ثم رآنا مقبلين فقام، ثم رد علي السلام، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق نمشي على
…
النمارق مشي قطا الهمارق
من طارق هذا؟ فنظرت في نسبها، فلم أجده فقلت: يا أمير المؤمنين ما أعرف في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، وانتسبت إليه لحسنها، من قول الله تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِق} [الطارق: 1] فقلت: فأيده يا أمير المؤمنين، فقال: أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبؤه، ثم رمى إليّ بعنبرة كان يقلبها في يده بعتها بخمسة آلاف درهم.
وأخرج عن أبي عبادة قال: كان المأمون أحد ملوك الأرض، وكان يجب له هذا الاسم على الحقيقة.
وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال: دخل رجل من الخوارج على المأمون، فقال له المأمون ما حملك على خلافنا؟ قال: آية في كتاب الله، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] قال: ألك علم بأنها منزلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل، قال: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وأخر ابن عساكر عن محمد بن منصور، قال: قال المأمون: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه.
وأخرج عن سعيد بن مسلم قال: قال المأمون: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف، ويخلص السرور إلى قلوبهم.
وأخرج عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له: والله لأقتلنك، فقال يا أمير المؤمنين تأنَّ علي، فإن الرفق نصف العفو، قال: وكيف وقد حلفت لأقتلنك؟ فقال: لأن تلقى الله حانثًا خيرًا من أن تلقاه قاتلًا؛ فخلّى سبيله.
وأخرج الخطيب عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح، قال: بت عند المأمون ليلة، فنام القيم الذي كان يصلح السراج، فقام المأمون وأصلحه وسمعته يقول: ربما أكون في المتوضأ
1 أخرجه الخطيب في تاريخه "281/5".
فيشتمني الخدام ويفترون عليّ، ولا يدرون أني أسمع، فأعفو عنهم1.
وأخرج الصولي عن عبد الله بن البواب، قال: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا وجلس مرة يستاك على دجرة من وراء ستر -ونحن قيام بين يديه- فمر ملاح وهو يقول: أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني -وقد قتل أخاه- قال: فوالله ما زاد على أن تبسم وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل؟
وأخرج الخطيب عن يحيى بن أكثم قال: ما رأيت أكرم من المأمون، بت عنده ليلة فأخذه سعال، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه2.
وكان يقول: أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى.
وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن خالد البرمكي قال: قال لي المأمون: يا يحيى اغتنم قضاء حوائج الناس فإني الفلك أدور والدهر أجور من أن يترك لأحد حالًا، أو يبقى لأحد نعمة.
وأخرج عن عبد الله بن محمد الزهري قال: قال المأمون: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدر تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
وأخرج عن العتبي قال: سمعت المأمون يقول: ما أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح من ذلك بالضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء، والمزاح بالشيوخ، والكسل بالشباب، والجبن بالمقاتل.
وأخرج عن علي بن عبد الرحيم المروزي قال: قال المأمون: أظلم الناس لنفسه من يتقرب إلى من يبعده، ويتواضع لمن لا يكرمه، ويقبل مدح من لا يعرفه.
وأخرج عن مخارق قال: أنشدت المأمون قول أبي العتاهية:
وإني لمحتاج إلى ظل صاحب
…
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال لي: أعد فأعدت سبع مرات، فقال: يا مخارق، خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب.
وأخرج عن هدبة بن خالد قال: حضرت غداء المأمون، فلما رفعت المائدة جعل ألتقط ما في الأرض، فنظر إلي المأمون، فقال: أما شبعت؟ قلت: بلى، ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أكل ما تحت مائدة أمن من الفقر". فأمر لي بألف دينار.
1 أخرجه الخطيب في تاريخه "46/11".
2 أخرجه الخطيب في تاريخه "191/14".
وأخرج عن الحسن بن عبدوس الصفار قال: لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، أهدى الناس إلى الحسن، فأهدى له رجل فقير مزودين في أحدهما ملح، وفي الآخر أشنان، وكتب إليه، جعلت فداك! خفة البضاعة قصرت ببعد الهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا ذكر لي فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته، فأخذ الحسن المزودين ودخل بهما على المأمون، فاستحسن ذلك، وأمر بهما ففرغا وملئا دنانير.
وأخرج الصولي عن محمد بن القاسم قال: سمعت المأمون يقول: أنا والله ألذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إليّ بالذنوب.
وأخرج الخطيب عن منصور البرمكي قال: كان للرشيد جارية، وكان المأمون يهواها؛ فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها والمأمون خلفه، إذ أشار إليها بقبلة، فزجرته بحاجبها، وأبطأت عن الصب، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال: إن لم تخبريني لأقتلنك، فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة، فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم، قال: قم فادخل بها في تلك القبة، فقام، فلما خرج قال له: قل في هذا شعرًا، فقال:
ظبي كنيت بطرفي
…
عن الضمير إليه
قبلته من بعيد
…
فاعتل من شفتيه
ورد أحسن رد
…
بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكاني
…
حتى قدرت عليه
وأخرج ابن عساكر عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: سمعت بعض النخاسين يقول: عرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية، فساومته في ثمنها بألفي دينار، فقال المأمون: إن هي أجازت بيتًا أقوله ببيت من عندها أشتريها بما تقول وزدتك، فأنشد المأمون:
ماذا تقولين فيمن شفه أرق
…
من جهد حبك حتى صار حيرانًا
فأجازته:
إذا وجدنا مُحِبًا قد أضر به
…
داء الصبابة أوليناه إحسانًا
وأخرج الصولي عن الحسين الخليع قال: لما غضب علي المأمون ومنعني رزقًا لي عملت قصيدة أمتدحه بها ودفعتها إلى من أوصلها إليه، وأولها:
أجرني فإني قد ظمأت إلى الوعد
…
متى تنجز الوعد المؤكد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك، وقد ترى
…
تقطع أنفاسي عليك من الوجد
أيبخل فرد الحسن عني بنائل
…
قليل وقد أفردته بهوى فرد
إلى أن قال:
رأى الله عبد الله خير عباده
…
فملكه، والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
…
مفرقة بين الضلالة والرشد
فقال المأمون: قد أحسن إلا أنه القائل:
أعيناي جودا وابكيا لي محمدًا
…
ولا تذخرا دمعًا عليه وأسعدا
فلا تمت الأشياء بعد محمد
…
ولا زال شمل الملك فيه مبددًا
ولا فرح المأمون بالملك بعده
…
ولا زال في الدنيا طريدًا مشردًا
فهذا بذاك، ولا شيء له عندنا، فقال له الحاجب: فأين عادة أمير المؤمنين في العفو؟ فقال: أما هذا فنعم، فأمر له بجائزة، ورد رزقه عليه.
وأخرج عن علية عن حماد بن إسحاق قال: لما قدم المأمون بغداد جلس للمظالم كل يوم أحد إلى الظهر.
وأخرج عن محمد بن العباس قال: كان المأمون يحب لعب الشطرنج شديدًا، ويقول: هذا يشحذ الذهن، واقترح فيها أشياء. وكان يقول: لا أسمعن أحدًا يقول: تعال حتى نلعب، ولكن يقول: نتداول، أو نتناقل، ولَمْ يكن حاذقًا بها.
وكان يقول: أنا أدبر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين.
وأخرج عن ابن أبي سعيد قال: هجا دعبل المأمون، فقال:
إني من القوم الذين سيوفهم
…
قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله
…
واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فلما سمعها المأمون لم يزد على أن قال: ما أقل حياء دعبل! متى كانت خاملًا وقد نشأت في حجر الخلفاء؟ ولم يعاقبه.
وأخرج من طرق عدة: أن المأمون كان يشرب النبيذ.
وأخرج عن الجاحظ قال: كان أصحاب المأمون يزعمون أن لون وجهه وجسده لون واحد، سوى ساقيه فإنهما صفراوان كأنمهما طليتا بالزعفران.
وأخرج عن إسحاق الموصلي قال: قال المأمون: ألذ الغناء ما طرب له السامع، خطأ كان أو صوابًا.
وأخرج عن علي بن الحسين قال: كان محمد بن حامد واقفًا على رأس المأمون وهو يشرب، فاندفعت عريب، فغنت بشعر النابغة الجعدي:
كحاشية البرد اليماني المسهم
فأنكر المأمون ألا تكون ابتدأت بشيء، فأمسك القوم، فقال: نفيت من الرشيد، لئن لم أصدق عن هذا لأقررن بالضرب الوجيع عليه، ثم لأعاقبن عليه أشد العقوبة، ولئن صدقت لأبلغن الصادق أمله، فقال محمد بن حامد: أنا يا سيدي أومأت لها بقبلة، فقال: الآن جاء
الحق، صدقت أتحب أن أزوجك بها؟ قال: نعم، فقال المأمون: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين، لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي، ومهرتها عنه أربعمائة درهم، على بركة الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم خذ بيدها فقامت معه، فصار المعتصم إلى الدهليز، فقال له: الدلالة، قال: لك ذاك، قال: دلالتي أن تغنيني الليلة، فلم تزل تغنيه إلى السحر وابن حامد على الباب، ثم خرجت، فأخذت بيده، ومضت عليه.
وأخرج عن أبي دؤاد قال: أهدى ملك الروم إلى المأمون هدية، فيها مائتا رطل مسك ومائتا جلد سمور، فقال: أضعفوها له ليعلم عز الإسلام.
وأخرج عن إبراهيم بن الحسن قال: قال المدائني للمأمون: إن معاوية قال: بنو هاشم أسود وأحداء، ونحن أكثر سيدًا، فقال المأمون: إنه قد أقر وادعى، فهو في ادعائه خصم، وفي إقراره مخصوم.
وأخرج عن أبي أمامة قال: حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبي خالد قرأ القصص يومًا على المأمون، فقال: فلان الثريدي -وهو اليزيدي- فضحك المأمون، وقال: يا غلام هات طعامًا لأبي العباس فإنه أصبح جائعًا، فاستحيا وقال: ما أنا بجائع، ولكن صاحب القصة أحمق نقط الياء بنقط الثاء، فقال: علي ذلك، فجاءه بطعام، فأكل حتى انتهى، ثم عاد فمر في قصة: فلاح الحمصي، فقال الخبيصي فضحك المأمون، وقال يا غلام جامة فيها خبيص، فقال: إن صاحب القصة كان أحمق، فتح الميم فصارت كأنها سنتان، فضحك، وقال: لولو حمقهما لبقيت جائعًا.
وأخرج عن أبي عباد قال: ما أظن الله خلق نفسًا هي أنبل من نفس المأمون ولا أكرم.
وكان قد عرف شره 1 أحمد بن أبي خالد، فكان إذا وجهه في حاجة غداه قبل أن يرسله، ورفع إليه في قصة: إن رأى أمير المؤمنين أن يجري على ابن أبي خالد نزلًا فإنه يعين الظالم بأكله، فأجرى المأمون ألف درهم كل يوم لمائدته.
وكان مع هذا يشره إلى طعام الناس، فقال دعبل الشعر:
شكرنا الخليفة إجراءه
…
على ابن أبي خالد نزله
فكف أذاه عن المسلمين
…
وصير في بيته شغله
وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال: سمعت المأمون يقول لرجل: إنما هو غدر أو يمن، وقد وهبتهما لك، ولا تزال تسيء وأحسن، وتذنب وأغفر، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك.
وأخرج عن الجاحظ قال: قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلًا أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي، والمأمون.
1 الشره: غلبة الحرص والمعنى هنا غلبة الحرص على الطعام. مختار الصحاح "337".
وأخرج السلفي في الطيوريات عن حفص المدائني قال: أتى المأمون بأسود قد ادعى النبوة وقال: أنا موسى بن عمران، فقال له المأمون: إن موسى بن عمران أخرج يده من جيبه بيضاء فأخرج يدك بيضاء حتى أومن بك، فقال الأسود: إنما جعل ذلك لموسى لما قال له فرعون: أنا ربكم الأعلى، فقل أنت كما قال فرعون حتى أخرج يدي بيضاء، وإلا لم تبيض.
وأخرج أيضًا: أن المأمون قال: ما انفتق علي فتق إلا وجدت سببه جور العمال.
وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن أكثم قال: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها، ونعله في يده، فوقف على طرف البساط وقال: السلام عليكم، فرد عليه المأمون، فقال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه، جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة والقهر؟ قال: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي، فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي، ورأيت أني متى خليت الأمر اضطرب حبل الإسلام، ومرج أمرهم، وتنازعوا، وبطل الجهاد والحج، وانقطعت السبل، فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب.
وأخرج عن محمد بن المنذر الكندي قال: حج الرشيد، فدخل الكوفة، فطلب المحدثين فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فبعث إليهما الأمين والمأمون، فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث، فقال المأمون: يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي؟ قال: افعل، فأعادها، فعجب من حفظه.
وقال بعضهم: استخرج المأمون كتب الفلاسفة واليونان من جزيرة قبرص، هكذا ذكره الذهبي مختصرًا.
وقال الفاكهي: أول من كسا الكعبة الديباج الأبيض المأمون، واستمر ذلك بعده إلى أيام الخليفة الناصر، إلا أن محمود بن سبكتكين كساها في خلال هذه المدة ديباجًا أصفر.
ومن كلام المأمون: لا نز هة ألذ من النظر في عقول الرجال، وقال: أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر وإذا أدبر أن يقبل، وقال: أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس، وقال الناس ثلاثة: فمنهم مثل الغذاء لابد منه على كل حال، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض، ومنهم كالداء مكروه على كل حال.
وقال: ما أعياني جواب أحد مثلما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة، قدمه أهلها فشكا عاملهم، فقلت: كذبت، بل هو رجل عادل، فقال صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا، قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بل آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا، فقلت: قم في غير حفظ الله، عزلته عنكم.
ومن شعر المأمون:
لساني كتوم لأسراركم
…
ودمعي نموم لسري مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى
…
ولولا الهوى لم يكن لي دموع
وله في الشطرنج:
أرض مربعة حمراء من أدم
…
ما بين إلفين معروفين بالكرم
تذاكرا الحرب فاحتالا لها حيلًا
…
من غير أن يأثما فيها بسفك دم
هذا يغير على هذا، وذاك على
…
هذا يغير، وعين الحزم لم تنم
فانظر إلى فطن جالت بمعرفة
…
في عسكرين بلا طبل ولا علم
وأخرج الصولي عن محمد بن عمرو، قال: دخل أصرم بن حميد على المأمون -وعنده المعتصم- فقال: يا أصرم، صفني وأخي، ولا تفضل واحدًا منا على صاحبه، فأنشد بعد قليل:
رأيت سفينة تجري ببحر
…
إلى بحرين دونهما البحور
إلى ملكين ضوؤهما جميعًا
…
سواء، حار دونهما البصير
كلا الملكين يشبه ذاك هذا
…
وذا هذا، وذاك وذا أمير
فإن يك ذاك ذا أو ذاك هذا
…
فلي في ذا وذاك معًا سرور
رواق المجد ممدود على ذا
…
وهذا وجهه بدر منير
ذكر أحاديث من رواية المأمون: قال البيهقي: سمعت الإمام أبا عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد الصيرفي، سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول: صليت العصر في الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة، فلما سلم كبر الناس، فرأيت المأمون خلف الدرابزين وهو يقول: لا يا غوغاء، لا يا غوغاء، غدًا سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلما كان يوم الأضحى حضرت إلى الصلاة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا، حدثنا هشيم بن بشير، حدثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن دينار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة"1. الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا، اللهم أصلحني واستصلحني، وأصلح على يدي. قال الحاكم: هذا الحديث لم نكتبه إلا عن أبي أحمد وهو عندنا ثقة مأمون، ولم يزل في القلب منه شيء حتى ذاكرت به أبا الحسن الدارقطني فقال: هذه الرواية عندنا صحيحة عن جعفر، فقلت: هل من متابع فيه لشيخنا أبي أحمد؟ فقال: نعم، ثم قال: حدثني الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات، حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروزباذي، حدثنا محمد بن عبد الملك التاريخي -قال الدارقطني: وما فيهم إلا ثقة مأمون- حدثنا جعفر الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، قال: سمعت المأمون، فذكر الخطبة والحديث.
1 أخرجه البيهقي في السنن "276/9"، والبيهقي في شعب الإيمان "3727/5".
وقال الصولي: حدثنا جعفر الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، قال: خطبنا المأمون ببغداد يوم الجمعة، ووافق يوم عرفة، فلما سلم كبر الناس، فأنكر التكبير ثم وثب حتى أخذ بخشب المقصورة وقال: يا غوغاء، ما هذا التكبير في غير أيامه؟ حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة والكبير في غد ظهرًا عند انقضاء التلبية إن شاء الله تعالى.
وقال الصولي: حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: كنا عند المأمون، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخلق عيال الله، فأحب عباد الله إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله"1. فصاح المأمون، وقال: اسكت، أنا أعلم بالحديث منك، حدثنيه يوسف بن عطية الصفار، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخلق عيال الله، فأحب عباد الله أنفعهم لعياله". أخرجه من هذا الطريق ابن عساكر، وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده وغيره من طرق عن يوسف بن عطية.
وقال الصولي: حدثنا المسيح بن حاتم العكلي، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله، قال: سمعت المأمون يخطب، فذكر في خطبته الحياء فوصفه ومدحه، ثم قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة وعمران بن حصين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء: والجفاء في النار"2. أخرجه ابن عساكر من طريق يحيى بن أكثم عن المأمون.
وقال الحاكم: حدثنا الحسين بن تميم، حدثنا الحسين بن فهم، حدثنا يحيى بن أكثم القاضي، قال: قال لي المأمون يومًا: يا يحيى، إني أريد أن أحدث، فقلت: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟ فقال: ضعوا لي منبرًا فصعد وحدث، فأول حديث حدثنا به: عن هشيم، عن أبي الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار".
ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثًا، ثم نزل، فقال لي: يا يحيى، كيف رأيت مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس يا أمير المؤمنين، تفقه الخاصة والعامة، فقال: لا وحياتك ما رأيت لكم حلاوة، وإنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر3.
وقال الخطيب: حدثنا أبو الحسن علي بن القاسم الشاهد، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن عثمان، حدثنا الحسين بن عبيد الله الأبزاري، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: لما فتح المأمون مصر قال له قائل: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك، وأدان لك العراقين والشامات ومصر، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ويحك! إلا أنه بقيت لي خلة، وهو أن أجلس في مجلس ويستملي يحيى فيقول لي: من ذكرت رضي
1 أخرجه ابن عدي "154،153/7".
2 أخرجه ابن عساكر "294/245/4".
3 الخلقان: جمع خلق وهو البالي ومنه ثوب خلق. مختار الصحاح "187".
الله عنك؟ فأقول: حدثنا الحمادان حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عال ابنتين أو ثلاثًا أو أختين أو ثلاثًا حتى يمتن أو يموت عنهن، كان معي كهاتين في الجنة" 1، وأشار بالمسبحة والوسطى.
قال الخطيب: في هذا الخبر غلط فاحش، ويشبه أن يكون المأمون رواه عن رجل عن الحمادين، وذلك أن مولد المأمون سنة سبعين، ومات حماد بن سلمة في سنة سبع وستين قبل مولده بثلاث سنين، وأما حماد بن زيد فمات في تسع وسبعين.
وقال الحاكم: حدثنا ابن يعقوب بن إسماعيل الحافظ، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال وقف المأمون يومًا للأذان ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة، فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: إيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه شيئًا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا حجاج، وحدثنا فلان، حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثانٍ، فلم يذكر شيئًا، فذكره المأمون، ثم نظر إلى أصحابه فقال: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: أنا من أصحاب الحديث، أعطوه ثلاثة دراهم.
وقال ابن عساكر: حدثنا محمد بن إبراهيم الغزي، حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن السري التفليسي، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، أخبرني عبيد الله بن محمد الزاهد العكبري، حدثنا عبد الله بن محمد بن مسيح، حدثنا محمد بن المغلس، حدثنا محمد بن السري القنطري، حدثنا علي بن عبد الله، قال: قال يحيى بن أكثم: بت ليلة عند المأمون، فانتبهت في جوف الليل وأنا عطشان فتقلبت، فقال: يا يحيى ما شأنك؟ قلت: عطشان، فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء، فقلت يا أمير المؤمنين ألا دعوت بخادم ألا دعوت بغلام؟ قال: لا حدثني أبي عن أبيه عن جده، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد القوم خادمهم"2.
وقال الخطيب: حدثنا الحسن بن عثمان الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحاكم الواسطي، حدثني أحمد بن الحسن الكسائي، حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني، حدثني يحيى بن أكثم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: حدثني الرشيد، حدثني المهدي، حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثني جرير بن عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"سيد القوم خادمهم"3.
وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد، حدثنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الغنجار، حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي، حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن
1 أخرجه الخطيب في تاريخه "81/11".
2 أخرجه ابن عساكر "9/ 24835/ كنز".
3 أخرجه الخطيب في تاريخه "187/10".