الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة وهو أول دخوله إليها؛ فنزل بدار المملكة، ولعب بالكرة، وقد تقاوم الخليفة، ثم رجع إلى أصبهان، وفيها قطعت خطبة العبيدي بالحرمين، وخطب للمقتدي.
وفي سنة إحدى وثمانين مات ملك غزنة المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وقام مقامه ابنه جلال الدين مسعود.
وفي سنة ثلاث وثمانين عملت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز، ودر بها أبو بكر الشاشي.
وفي سنة أربع وثمانين استولت الفرنج على جميع جزيرة صقلية، وهي أول ما فتحها المسلمون بعد المائتين، وحكم عليها آل الأغلب دهرًا إلى أن استولى العبيدي المهدي على المغرب، وفيها قدم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، وعمل الأمراء حوله دورًا ينزلونها، ثم رجع إلى أصبهان، وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازمًا على الشر، وأرسل إلى الخليفة يقول: لا بد أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أي بلد شئت، فانزعج الخليفة وقال: أمهلني ولو شهرًا، قال: ولا ساعة واحدة، فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام، فاتفق مرض السلطان وموته، وعد ذلك كرامة للخليفة، وقيل: إن الخليفة جعل يصوم، فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه، فاستجاب الله دعاءه، وذهب إلى حيث ألقت، ولما مات كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى الأمراء سرًّا، فاستحلفتهم لولده محمود -وهو ابن خمس سنين- فحلفوا له، وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب، ولقبه: ناصر الدنيا والدين، وذلك في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وعمل الخليفة على تقليده، ثم مات الخليفة من الغد فجأة، فقيل: إن جاريته شمس النهار سمته، وبويع لولده المستظهر.
ومن مات في أيام المقتدي من الأعلام: عبد القادر الجرجاني، وأبو الوليد الباجي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والأعلم النحوي، وابن الصباغ صاحب الشامل، والمتولي، وإمام الحرمين، والدامغاني الحنفي، وابن فضالة المجاشعي، والبزدوي شيخ الحنفية.
المستظهر بالله أبو العباس
1
المستظهر بالله: أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله.
ولد في شوال سنة سبعين وأربعمائة، وبويع له عند موت أبيه وله ست عشرة سنة وشهران.
قال ابن الأثير: كان لين الجانب، كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير ويسارع في أعمال البر، حسن الحظ، جيد التوقيعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، وسمحًا، وجوادًا، مُحبًا للعلماء والصالحين، ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب.
1 تولى لخلافة 487هـ وحتى 512هـ.
وفي هذه السنة من أيامه مات المستنصر العبيدي صاحب مصر، وقام بعده ابنه المستعلي أحمد، وفيها أخذت الروم بلنسية.
وفي سنة ثمانٍ وثمانين قتل أحمد خان صاحب سمرقند؛ لأنه ظهر منه الزندقة، فقبض عليه الأمراء وأحضروا الفقهاء؛ فأفتوا بقتله -لا رحمه الله وملكوا ابن عمه.
وفي سنة تسع وثمانين اجتمعت الكواكب السبعة سوى زحل في برج الحوت، فحكم المنجمون بطوفان يقارب طوفان نوح، فاتفق أن الحجاج نزلوا في دار المناقب فأتاهم سيل غرق أكثرهم.
وفي سنة تسعين قتل السلطان أرسلان أرغون بن ألب أرسلان السلجوقي صاحب خراسان؛ فتملكها السلطان بركياروق، ودانت له البلاد والعباد. وفيها خطب للعبيدي بحلب وأنطاكية والمعرة وشيزر شهرًا، ثم أعيدة الخطبة العباسية، وفيها جاءت الفرنج فأخذوا نيقية، وهو أول بلد أخذوه ووصلوا إلى كفرطاب واستباحوا تلك النواحي، فكان هذا أول مظهر الفرنج بالشام، قدموا في بحر القسطنطينية في جمع عظيم، وانزعجت الملوك والرعية، وعظم الخطب، فقيل: إن صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلائهم على الشام كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوها، وكثر النفير على الفرنج من كل جهة.
وفي سنة اثنتين وتسعين انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان. وفيها أخذت الفرنج لبيت المقدس بعد حصار شهر ونصف، وقتلوا به أكثر من سبعين ألفًا، ومنهم جماعة من العلماء، والعباد، والزهاد، وهدموا المشاهد، وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وورد المستنفرون إلى بغداد، فأوردوا كلامًا أبكى العيون، واختلفت السلاطين؛ فتمكنت الفرنج من الشام، وللأبيوردي في ذلك:
مزجنا دماء بالدموع السواجم
…
فلم يبق منا عرصة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
…
إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإِيهًا بني الإسلام إن وراءكم
…
وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أنائمة في ظل أمن وغبطة
…
وعيش كنوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها
…
على هبوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم
…
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم
…
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
فكم من دماء قد أبيحت ومن دم
…
توارى حياء حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبا
…
وسمر العوالي داميات اللهازم
يكاد لهن المستجن بطيبة
…
ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
…
رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبوه النار خوفًا من الردى
…
ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعارب بالأذى
…
وتغضي على ذل كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
…
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
فيها خرج محمد بن ملكشاه على أخيه السلطان بركياروق، فانتصر عليه، فقلده الخليفة ولقبه: غياث الدنيا والدين، وخطب له ببغداد، ثم جرت بينهما عدة وقعات.
وفيها نقل المصحف العثماني من طبرية إلى دمشق -خوفًا عليه- وخرج الناس لتلقيه، فآووه في خزانة بمقصورة الجامع.
وفي سنة أربع وتسعين كثر أمر الباطنية بالعراق، وقتلهم الناس، واشتد الخطب بهم، حتى كانت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وقتلوا الخلائق، منهم الروياني صاحب البحر، وفيها أخذ الفرنج بلد سروج، وحيفا، وأرسوف، وقيسارية.
وفي سنة خمس وتسعين مات المستعلي صاحب مصر، وأقيم بعده الآمر بأحكام الله منصور، وهو طفل له خمس سنين.
وفي سنة ست وتسعين جرت فتن للسلطان، فترك الخطباء الدعوة للسلطان، واقتصروا على الدعوة للخليفة لا غير.
وفي سنة سبع وتسعين وقع الصلح بين السلطانين: محمد وبركياروق، وسببه أن الحروب لما تطاولت بينهما، وعم الفساد، وصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والسلطنة مطموعًا فيها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، ودخل العقلاء بينهما في الصلح، وكتبت العهود والأيمان والمواثيق، وأرسل الخليفة خلع السلطة إلى بركياروق، وأقيمت له الخطبة ببغداد.
وفي سنة ثمانٍ وتسعين مات السلطان بركياروق، فأقام الأمراء بعده ولده جلال الدولة ملكشاه، وقلده الخليفة، وخطب له ببغداد، وله دون خمس سنين، فخرج عليه عمه محمد، واجتمعت الكلمة عليه، فقلده الخليفة، وعاد إلى أصبهان سلطانًا، متمكنًا مهيبًا كثير الجيوش.
وفيها كان ببغداد جدري مفرط، مات فيه خلق من الصبيان لا يحصون، وتبعه وباء عظيم.
وفي سنة تسع وتسعين ظهر رجل بنواحي نهاوند فادعى النبوة، وتبعه خلق، فأخذ وقتل.
وفي سنة خمسمائة أخذت قلعة أصبهان التي ملكها الباطنية وهدمت وقتلوا، وسلخ كبيرهم وحشي جلده تبنًا، فعل ذلك السطان محمد بعد حصار شديد، فلله الحمد.
وفي سنة إحدى وخمسمائة، رفع السلطان الضرائب والمكوس ببغداد، وكثر الدعاء له، وزاد في العدل وحسن السيرة.
وفي سنة اثنتين عادة الباطنية فدخلوا شيرز على حين غفلة من أهلها فملكوها وملكوا القلعة، وأغلقوا الأبواب، وكان صاحبها خرج يتنزه، فعاد وأبادهم في الحال، وقتل فيها شيخ الشافعية الروياني صاحب البحر، قتله الباطنية في بغداد كما تقدم.
وفي سنة ثلاث أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سنين.
وفي سنة أربع عظم بلاء المسلمين بالفرنج، وتيقنوا استيلاءهم على أكثر الشام، وطلب المسلمون الهدنة، فامتنعت الفرنج، وصالحوهم بألوف دنانير كثيرة، فهادنوهم ثم غدروا لعنهم الله.
وفيها هبت بمصر ريح سوداء مظلمة، أخذت بالأنفاس حتى لا يبصر الرجل يده، ونزل على الناس رمل، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلًا وعاد إلى الصفرة، وكان ذلك من العصر إلى ما بعد المغرب.
وفيها كانت ملحمة كبيرة بين الفرنج وبين ابن تاشفين صاحب الأندلس، نصر فيها المسلمون، وقتلوا وأسروا، وغنموا ما لا يعبر عنه، وبادت شجعان الفرنج.
وفي سنة سبع جاء مودود صاحب الموصل بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس، فوقعت بينهم معركة هائلة، ثم رجع مودود إلى دمشق، فصلى الجمعة يومًا في الجامع، وإذا باطني وثب عليه فجرحه، فمات من يومه، فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتابًا فيه: وإن أمة قتلت عميدها في يوم عيد في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.
وفي سنة إحدى عشرة جاء سيل عرم، غرق سنجار وسورها، وهلك خلق كثير، حتى إن السيل أخذ باب المدينة فذهب به عدة فراسخ واختفى تحت التراب الذي جره السيل، وظهر بعد سنين، وسلم طفل في سرير له حمله السيل فتعلق السرير بزيتونة وعاش وكبر.
وفيها مات السلطان محمد، وأقيم بعده ابنه محمود وله أربع عشرة سنة.
وفي سنة اثنتي عشرة مات الخليفة المستظهر بالله في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع الأول؛ فكانت مدته خمسًا وعشرين سنة، وغسله ابن عقيل شيخ الحنابلة، وصلى عليه ابنه المسترشد، وماتت بعده بقليل جدته أرجوان والدة المقتدي.
قال الذهبي: ولا يعرف خليفة عاشت جدته بعده إلا هذا، رأت ابنها خليفة، ثم ابن ابنها، ثم ابن ابن ابنها ومن شعر المستظهر:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا
…
لما مددت إلى رسم الوداع بدا
وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد
…
أرى طرائق في مهوى الهوى قددا؟
إن كنت أنقض عهد الحب يا سكني
…
من بعد هذا فلا عاينتكم أبدًا
وللصارم البطائحي مدحًا:
أصبحت بالمستظهر بن المقتدي
…
بالله ابن القائم ابن القادر
مستعصمًا أرجو نوال أكفه
…
وبأن يكون من مدحي بشعر سائر
فوقع المستظهر بجائزتين: يخير بن الصلة والانحدار، والمقام والإدرار.
وقال السلفي: قال لي أبو الخطاب بن الجراح: صليت بالمستظهر في رمضان، فقرأت:{إِنَّ ابْنَكَ سَرَق} [يوسف: 81] رواية رويناها عن الكسائي، فلما سلمت قلت: هذه قراءة حسنة فيها تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب.
مات في أيامه من الأعلام: أبو المظفر السمعاني، ونصر المقدسي، وأبو الفرج، وشيذلة، والروياني، والخطيب التبريزي، والكيا الهراسي، والغزالي، والشاشي الذي صنف له كتاب الحلية وسماه المستظهري، والأبيوردي اللغوي.