المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المتوكل على الله جعفر - تاريخ الخلفاء

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌خطبة المؤلف وفيها بيان الداعي إل تأليف الكتاب

- ‌فصل: في بيان كونه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وسر ذلك

- ‌فصل: في بيان أن الأئمة من قريش والخلافة فيهم

- ‌فصل: في مدة الخلافة في الإسلام

- ‌فصل: في الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية

- ‌فصل: في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس

- ‌فصل: في شأن البردة النبوية التي تداولها الخلفاء إلى آخر وقت

- ‌فصل: في فوائد منثورة تقع في التراجم

- ‌الخلفاء الراشدون

- ‌الخليفة الأول: ابو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌الخليفة الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الخليفة الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌عهد بن أمية

- ‌معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

- ‌يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي

- ‌معاوية بن يزيد

- ‌عبد الله بن الزبير

- ‌عبد الملك بن مروان

- ‌الوليد بن عبد الملك

- ‌سليمان بن عبد الملك

- ‌عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

- ‌يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌هشام بن عبد الملك

- ‌الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌يزيد الناقص أبو خالد بن الوليد

- ‌إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

- ‌مروان الحمار

- ‌عهد بني العباس في العراق

- ‌السفاح أول خلفاء بني العباس

- ‌المنصور أبو جعفر عبد الله

- ‌المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور

- ‌الهادي أبو محمد، موسى بن المهدي

- ‌الرشيد هارون أبو جعفر

- ‌الأمين محمد، أبو عبد الله

- ‌المأمون عبد الله أبو العباس

- ‌المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد

- ‌الواثق بالله هارون

- ‌المتوكل على الله جعفر

- ‌المنتصر بالله محمد أبو جعفر

- ‌المستعين بالله أبو العباس

- ‌المعتز بالله محمد

- ‌المهتدي بالله محمد بن الواثق

- ‌المعتمد على الله أبو العباس

- ‌المعتضد بالله أحمد

- ‌المكتفي بالله أبو محمد

- ‌المقتدر بالله أبو الفضل

- ‌القاهر بالله أبو منصور

- ‌الراضي بالله أبو العباس

- ‌المتقي لله أبو إسحاق

- ‌المستكفي بالله أبو القاسم

- ‌المطيع لله أبو القاسم

- ‌الطائع لله أبو بكر

- ‌القادر بالله أبو العباس

- ‌القائم بأمر الله أبو جعفر

- ‌المقتدي بأمر الله أبو القاسم

- ‌المستظهر بالله أبو العباس

- ‌المسترشد بالله أبو منصور

- ‌الراشد بالله أبو جعفر

- ‌المقتفي لأمر الله أبو عبد الله

- ‌المستنجد بالله أبو المظفر

- ‌المستضيء بأمر الله الحسن

- ‌الناصر لدين الله أحمد

- ‌الظاهر بأمر الله أبو نصر

- ‌المستنصر بالله

- ‌المستعصم بالله أبو أحمد بن المستنصر بالله

- ‌العباسيون في مصر:

- ‌المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله

- ‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن الحسن

- ‌المستكفي بالله أبو الربيع بن الحاكم بأمر الله

- ‌الواثق بالله إبراهيم بن المستمسك

- ‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي

- ‌المعتضد بالله أبو الفتح بن المستكفي بالله

- ‌المتوكل على الله أبو عبد الله بن المعتضد

- ‌الواثق بالله عمر بن إبراهيم

- ‌المستعصم بالله زكرياء بن إبراهيم

- ‌المستعين بالله أبو الفضل بن المتوكل

- ‌المعتضد بالله أبو الفتح بن المتوكل

- ‌المستكفي بالله أبو الربيع بن المتوكل

- ‌القائم بأمر الله أبو البقاء بن المتوكل

- ‌المستنجد بالله خليفة العصر أبو المحاسن

- ‌المتوكل على الله أبو العز بن يعقوب

- ‌قصيدة للمؤلف فيها أسماء الخلفاء ووفياتهم

- ‌نبذة عن الدول التي قامت بالأندلس

- ‌فصل في الدولة الخبيثة العبيدية: "الفاطمية

- ‌فصل في دولة بني طباطبا العلوية الحسنية

- ‌فصل في الدولة الطبرستانية

- ‌الفهرس العام

الفصل: ‌المتوكل على الله جعفر

فقال: أسوار أو سئار؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك، فقال: سوار وثاب، يقول: لا يثب على ندمائه، وسئار مفضل في الكأس سؤرًا، وقد رويا جميعًا، فأمر الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم.

وقال: حدثني ميمون بن إبراهيم، حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال: تلاحى الحسين بن الضحاك ومخارق يومًا في مجلس الواثق في أبي نواس وأبي العتاهية أيهما أشعر؟ فقال الواثق: اجعلا بينكما خطرًا، فجعلا بينهما مائتي دينار، فقال الواثق: من ههنا من العلماء؟ فقيل: أبو محلم، فأحضره فسئل عن ذلك، فقال: أبو نواس أشعر، وأذهب في فنون العرب، وأكثر افتنانًا من أفانين الشعر، فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين.

ص: 252

‌المتوكل على الله جعفر

1

المتوكل على الله: جعفر أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد، أمه أم ولد اسمها شجاع، ولد سنة خمس-وقيل: سبع- ومائتين، وبويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وبعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وفي سنة أربع وثلاثين.

واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه أيضًا نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضًا نحو من ثلاثين ألف نفس، وتوفّر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم.

وقال أبو بكر ابن الخبازة في ذلك:

وبعد، فإن السنة اليوم أصبحت

معزّزة حتى كأن لم تذلل

تصول وتسطو إذ أقيم منارها

وحط منار الإفك والزور من عل

وولّى أخو الإبداع في الدين هاربًا

إلى النار يهوى مدبرًا غير مقبل

شفى الله منهم بالخليفة جعفر

خليفته ذي السنة المتوكل

خليفة ربي وابن عم نبيه

وخير بني العباس من منهم ولي

1 تولى الخلافة سنة 232هـ، وحتى 247هـ.

ص: 252

وجامع شمل الدين بعد تشتت

وفاري رءوس المارقين بمنصل

أطال بنا رب العباد بقاءه

سليمًا من الأهوال غير مبدل

وبوّأه النصر للدين جنة

يجاور في روضاتها خير مرسل

وفي هذه السنة أصاب ابن أبي دؤاد فالج صيره حجرًا ملقى، فلا آجره الله.

ومن عجائب هذه السنة أنه هبت ريح بالعراق شديدة السموم، ولم يعهد مثلها أحرقت زرع الكوفة، والبصرة، وبغداد، وقتلت المسافرين، ودامت خمسين يومًا واتصلت بهمذان، وأحرقت الزرع والمواشي، واتصلت بالموصل وسنجار، ومنعت الناس من المعاش في الأسواق، ومن المشي في الطرقات، وأهلكت خلقًا عظيمًا.

وفي السنة التي قبلها جاءت زلزلة مهولة بدمشق، سقطت منها دور، وهلك تحتها خلق، وامتدت إلى أنطاكية فهدمتها، وإلى الجزيرة فأحرقتها، وإلى الموصل فيقال: هلك من أهلها خمسون ألفًا.

وفي سنة خمس وثلاثين ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل.

وفي سنة ست وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخرّب، وبقى صحراء، وكان المتوكل معروفًا بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلومًا

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدومًا

أسفوا على ألا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميمًا

وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث، وأن يضربه، ويطوف به على حمار ففعل -ونعم ما فعل- فإنه كان ظالِمًا من رءوس الجهمية، وولي القضاء بَدَلَه الحارث بن مسكين من أصحاب مالك، وبعد تمنع، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطًا ليرد المظالم إلى أهلها.

وفي هذه السنة ظهرت نار بعسقلان أحرقت البيوت والبيادر، ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل، ثم كفت.

وفي سنة ثمانٍ وثلاثين كبست الروم دمياط، ونهبوا وأحرقوا، وسبوا منها ستمائة أمة، وولو مسرعين في البحر.

وفي سنة أربعين سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء، فمات منها خلق كثير، ووقع بَردٌ بالعراق كبيض الدجاج، وخسف بثلاث عشرة قرية بالمغرب.

وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، وكان أمرًا مزعجًا لم يعهد.

ص: 253

وفي سنة اثنتين وأربعين زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس، وأعمالها، والريّ، وخراسان، ونيسابور، وطبرستان، وأصبهان، وتقطعت الجبال، وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق، ورجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء، وَوُزنَ حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال، وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، ووقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة في رمضان فصاح: يا معشر الناس اتقوا الله، الله، الله، الله، وصاح أربعين صوتًا ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك، وكتب البريد بذلك، وأشهد عليه خمسمائة إنسان سمعوه.

وفيها حج من البصرة إبراهيم بن مطهر الكاتب على عجلة تجرها الإبل، وتعجب الناس من ذلك.

وفي سنة ثلاث وأربعين قدم المتوكل دمشق، فأعجبته، وبنى له القصر بداريًّا وعزم على سكناها، فقال يزيد بن محمد المهلبي

أظن الشام تشمت بالعراق

إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن تَدَع العراق وساكنيه

فقد تبلي المليحة بالطلاق

فبدا له ورجع بعد شهرين أو ثلاثة.

وفي سنة أربع وأربعين قتل المتوكل يعقوب بن السِّكِّيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يومًا إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر -يعني: مولى عليّ- خير منهما، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل: أمر بسلّ لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته، وكان المتوكل رافضيًّا.

وفي سنة خمس وأربعين عمت الزلازل الدنيا، فأخربت المدن والقلاع والقناطر وسقط من أنطاكية جبل في البحر، وسمع من السماء أصوات هائلة وزلزلت مصر، وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة، فمات خلق من أهل بلبيس، وغارت عيون مكة، فأرسل المتوكل مائة ألف دينار لإجراء الماء من عرفات إليها، وكان المتوكل جودًا ممدّحًا، يقال: ما أعطى خليفة شاعرًا ما أعطى المتوكل، وفيه يقول مروان بن أبي الجنوب:

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد

فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا

فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفًا.

ودخل عليه علي بن الجهم يومًا وبيديه درتان يقلبهما، فأنشده قصيدة له، فرمى إليه بدرة فقلبها، فقال: تستنقص بها وهي والله خير من مائة ألف؟ فقال: لا ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى فقال: قل، فقال:

يسر من را إمام عدل

تغرف من بحره البحار

الملك فيه وفي بنيه

ما اختلفت الليل والنهار

يرجى ويخشى بكل خطب

كأنه جنة ونار

يداه في الجود ضرتان

عليه كلتاهما تغار

لم تأت من اليمن شيئًا

إلا أتت مثلها اليسار

ص: 254

فرمى إليه بالدرة الأخرى.

قال بعضهم: سلّم على المتوكل بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأبو أحمد بن الرشيد، وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون، وأحمد بن المعتصم، ومحمد بن الواثق، وابنه المنتصر.

وقال المسعودي: لا يعلم أحد متقدم في جد ولا هزل إلا وقد حظي في دولته، ووصل إليه نصيب وافر من المال، وكان منهمكًا في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف ووطئ الجميع.

وقال علي بن الجهم: كان المتوكل مشغوفًا بقبيحة أم ولده المعتز لا يصبر عنها، فوقفت له يومًا -وقد كتبت على خديها بالغالية جعفرًا- فتأملها وأنشأ يقول:

وكاتبة المسك في الخد جعفرًا

بنفسي محط المسك من حيث أثرا

لئن أودعت سطرًا من المسك خدها

لقد أودعت قلبي من الحب أسطرًا

وفي كتاب المحن للسلمي أن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية، فأنكر عليه عبد الله بن الحكم -وكان رئيس مصر من جلة أصحاب مالك- وأنه أحدث علمًا لم يتكلم فيه السلف، ورماه بالزندقة، فدعاه أمير مصر وسأله عن اعتقاده، فتكلم، فرضي أمره، وكتب به إلى المتوكل فأمر بإحضاره، فحمل على البريد، فلما سمع كلامه أولع به وأحبه وأكرمه، حتى كان يقول: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذا النون.

كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر، ثم المعتز، ثم المؤيد، ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد، فأبى فكان يحضره مجلس العامة، ويحط منزلته ويتهدده ويشتمه ويتوعده، واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه، فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوهٍ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان وذلك في خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.

ورؤي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بقليل من السنة أحييتها، ولما قتل رثته الشعراء، ومن ذلك قول يزيد المهلبي:

جاءت منيته والعين هاجعة

هلا أتته المنايا والقنا قصد

خليفة لم ينل ما ناله أحد

ولم يضع مثله روح ولا جسد

وكان من حظاياه وصيفة تسمى محبوبة شاعرة عالمة بصنوف العلم عوّادة فلما قتل ضمت إلى بُغا الكبير، فأمر بها يومًا للمنادمة، فجلست منكسة فقال: غني، فاعتلت فأقسم عليها وأمر بالعود، فوضع في حجرها فغنت ارتجالًا:

أي عيش يلذ لي

لا أرى فيه جعفرًا؟

ملك قد رأيته

في نجيع معفرًا

كل من كان ذا هيام

وسقم فقد برا

غير محبوبه التي

لو ترى الموت يشترى

ص: 255

لاشترته بما حوتـ

ـه يداه لتقبرا

إن موت الحزين أطـ

يب، من أن يعمرا

فغضب بُغا، وأمر بها فسجنت، فكان آخر العهد بها.

ومن الغرائب أن المتوكل قال للبحتري: قل فيّ شعرًا وفي الفتح بن خاقان فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعنى، فقال:

يا سيدي كيف أخلفت وعدي

وتثاقلت عن وفاء بعهدي؟

لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ

ـح ولا عرفتك ما عشت فقدي

أعظم الرزء أن تقدم قبلي

ومن الرزء أن تؤخر بعدي

حذرًا أن تكون إلفًا لغيري

إذ تفردت بالهوى فيك وحدي

فقتلا معًا كما تقدم.

ومن أخبار المتوكل، أخرج ابن عساكر أن المتوكل رأى في النوم كأن سكرًا سليمًا نيئًا سقط عليه من السماء مكتوبًا عليه جعفر المتوكل على الله، فلما بويع خاض الناس في تسميته فقال بعضهم: نسميه المنتصر، فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رأى في منامه، فوجده موافقًا فأمضى، وكتب به إلى الآفاق.

وأخرج عن هشام بن عمار قال: سمعت المتوكل يقول: واحسرتا على محمد بن إدريس الشافعي، كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه وأشاهده، وأتعلم منه، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول: أيها الناس إن محمد بن إدريس المطّلبي قد صار إلى -رحمة الله- وخلف فيكم علمًا حسنًا فاتبعوه تهدوا، ثم قال: اللهم ارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة، وسهل علي حفظ مذهبه، وانفعني بذلك.

قلت: استفدنا من هذا أن المتوكل كان متمذهبًا بمذهب الشافعي، وهو أول من تمذهب من الخلفاء.

وأخرج عن أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم له غير أحمد بن المعدل فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا، فقال له: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن في بصره سوءًا، فقال أحمد بن المعدل: يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فيلتبوأ مقعده من النار". فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.

وأخرج عن يزيد المهلبي قال: قال لي المتوكل: يا مهلبي، إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني.

وأخرج عن عبد الأعلى بن حماد النرسي قال: دخلت على المتوكل فقال: يا أبا يحيى ما أبطأك عنا منذ ثلاث لم نرك، كنا هممنا لك بشيء، فصرفناه إلى غيرك، فقلت: يا أمير

ص: 256

المؤمنين جزاك الله عن هذا الهم خيرًا، ألا أنشدك بهذا المعنى بيتين؟ قال: بلى، فأنشدته:

لأشكرنك معروفًا هممت به

إنّ اهتمامك بالمعروف معروف

ولا ألومك إذ لم يمضه قدر

فالرزق بالقدر المحتوم مصروف

فأمر لي بألف دينار

وأخرج عن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال: دخلت على المتوكل لما توفيت أمه، فقال: يا جعفر، ربما قلت البيت الواحد، فإذا جاوزته خلطت، وقد قلت:

تذكرت لَمّا فرق لدهر بيننا

فعزّيت نفسي بالنبي محمد

فأجازه بعض من حضر المجلس بقوله:

وقلت لها: إن المنايا سبيلنا

فمن لم يمت في يومه مات في

وأخرج عن الفتح بن خاقان قال: دخلت يومًا على المتوكل، فرأيته مطرقًا متفكرًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الفكر؟ فوالله ما على ظهر الأرض أطيب منك عيشًا، ولا أنعم منك بالًا فقال: يا فتح أطيب عيشًا مني رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.

وأخرج عن أبي العيناء قال: أهديت إلى المتوكل جارية شاعرة اسمها فضل فقال لها: أشاعرة أنت؟ قالت: هكذا زعم من باعني واشتراني، فقال: أنشدينا شيئًا من شعرك، فأنشدته:

استقبل الملك إمام الهدى

عام ثلاث وثلاثينا

خلافة أفضت إلى جعفر

وهو ابن سبع بعد عشرينا

إنا لنرجو يا إمام الهدى

أن تملك الملك ثمانينا

لا قدّس الله امرأً لم يقل

عند دعائي لك: آمينا

وأخرج عن علي بن الجهم قال: أهدي إلى المتوكل جارية يقال لها: محبوبة: قد نشأت بالطائف، وتعلمت الأدب، وروت الأشعار فأغرى المتوكل بها، ثم إنه غضب عليها، ومنع جواري القصر من كلامها، فدخلت عليه يومًا، فقال لي: قد رأيت محبوبة في منامي كأني صالحتها وصالحتني، فقلت: خيرًا يا أمير المؤمنين، فقال: قم بنا لننظر ما هي عليه، فقمنا حتى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب على العود وتقول:

أدور في القصر لا أرى أحدًا

أشكو إليه ولا يكلمني

حتى كأني أتيت معصية

ليست له توبة تخلصني

فهل شفيع لنا إلى ملك

قد زارني في الكرى وصالحني؟

حتى إذا ما الصباح لاح لنا

عاد إلى هجره فصارمني

فصاح المتوكل، فخرجت، فأكبت على رجليه تقبلها، فقالت: يا سيدي رأيتك في

ص: 257

ليلتي هذه كأنك قد صالحتني، قال: وأنا والله قد رأيتك، فردّها إلى مرتبتها، فلما قتل المتوكل صارت إلى بُغا، وذكر الأبيات السابقة.

وأخرج عن علي أن البحتري قال يمدح المتوكل فيما رفع من المحنة، ويهجو ابن أبي دؤاد بقوله:

أمير المؤمنينا لقد شكرنا

إلى آبائك الغرّ الحسان

رددت الدين فذًّا بعد أن قد

أراه فرقتين تخاصمان

قصمت الظالمين بكل أرض

فأضحى الظلم مجهول المكان

وفي سنة رمت متجبريهم

على قدر بداهية عيان

فما أبقت من ابن أبي دؤاد

سوى حسد يخاطب بالمعاني

تحير فيه سابور بن سهل

فطاوله ومناه الأماني

إذا أصحابه اصطحبوا بليل

أطالوا الخوض في خلق القرآن

وأخرج عن أحمد بن حنبل قال: سهرت ليلة ثم نمت، فرأيت في نومي كأن رجلًا يعرج بي إلى السماء وقائلًا يقول:

ملك يقاد إلى مليك عادل

متفضل في العفو ليس بجائر

ثم أصبحنا فجاء نعي المتوكل من سر من رأى إلى بغداد.

وأخرج عن عمرو بن شيبان الجهنمي قال: رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في المنام قائلًا يقول:

يا نائم العين في أوطار جسمان

أفض دموعك يا عمرو بن شيبان

أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا

بالهاشمي وبالفتح بن خاقان؟

وافى إلى الله مظلومًا تضج له

أهل السموات من مثنى ووحدان

وسوف يأتيك أخي مسومة

توقعوها لها شأن من الشان

فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم

فقد بكاه جميع الإنس والجان

ثم رأيت المتوكل في النوم بعد أشهر، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بقليل من السنة أحييتها، قلت: فما تصنع ههنا؟ قال أنتظر محمدًا ابني أخاصمه إلى الله.

أحاديث من رواية المتوكل

قال الخطيب: أخبرنا أبو الحسين الأهوازي، حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم القاضي، حدثنا محمد بن هارون الهاشمي، حدثنا محمد بن شجاع الأحمر قال: سمعت المتوكل يحدث عن يحيى بن أكثم، وعن محمد بن عبد المطلب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من حرم الرفق حرم الخير"1. أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من وجه آخر عن جرير.

1 أخرجه الخطيب "166/7"، والطبراني في الكيير "2274،2273/2".

ص: 258