المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي - تاريخ الخلفاء

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌خطبة المؤلف وفيها بيان الداعي إل تأليف الكتاب

- ‌فصل: في بيان كونه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وسر ذلك

- ‌فصل: في بيان أن الأئمة من قريش والخلافة فيهم

- ‌فصل: في مدة الخلافة في الإسلام

- ‌فصل: في الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية

- ‌فصل: في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس

- ‌فصل: في شأن البردة النبوية التي تداولها الخلفاء إلى آخر وقت

- ‌فصل: في فوائد منثورة تقع في التراجم

- ‌الخلفاء الراشدون

- ‌الخليفة الأول: ابو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌الخليفة الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الخليفة الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌عهد بن أمية

- ‌معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

- ‌يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي

- ‌معاوية بن يزيد

- ‌عبد الله بن الزبير

- ‌عبد الملك بن مروان

- ‌الوليد بن عبد الملك

- ‌سليمان بن عبد الملك

- ‌عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

- ‌يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌هشام بن عبد الملك

- ‌الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌يزيد الناقص أبو خالد بن الوليد

- ‌إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

- ‌مروان الحمار

- ‌عهد بني العباس في العراق

- ‌السفاح أول خلفاء بني العباس

- ‌المنصور أبو جعفر عبد الله

- ‌المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور

- ‌الهادي أبو محمد، موسى بن المهدي

- ‌الرشيد هارون أبو جعفر

- ‌الأمين محمد، أبو عبد الله

- ‌المأمون عبد الله أبو العباس

- ‌المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد

- ‌الواثق بالله هارون

- ‌المتوكل على الله جعفر

- ‌المنتصر بالله محمد أبو جعفر

- ‌المستعين بالله أبو العباس

- ‌المعتز بالله محمد

- ‌المهتدي بالله محمد بن الواثق

- ‌المعتمد على الله أبو العباس

- ‌المعتضد بالله أحمد

- ‌المكتفي بالله أبو محمد

- ‌المقتدر بالله أبو الفضل

- ‌القاهر بالله أبو منصور

- ‌الراضي بالله أبو العباس

- ‌المتقي لله أبو إسحاق

- ‌المستكفي بالله أبو القاسم

- ‌المطيع لله أبو القاسم

- ‌الطائع لله أبو بكر

- ‌القادر بالله أبو العباس

- ‌القائم بأمر الله أبو جعفر

- ‌المقتدي بأمر الله أبو القاسم

- ‌المستظهر بالله أبو العباس

- ‌المسترشد بالله أبو منصور

- ‌الراشد بالله أبو جعفر

- ‌المقتفي لأمر الله أبو عبد الله

- ‌المستنجد بالله أبو المظفر

- ‌المستضيء بأمر الله الحسن

- ‌الناصر لدين الله أحمد

- ‌الظاهر بأمر الله أبو نصر

- ‌المستنصر بالله

- ‌المستعصم بالله أبو أحمد بن المستنصر بالله

- ‌العباسيون في مصر:

- ‌المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله

- ‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن الحسن

- ‌المستكفي بالله أبو الربيع بن الحاكم بأمر الله

- ‌الواثق بالله إبراهيم بن المستمسك

- ‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي

- ‌المعتضد بالله أبو الفتح بن المستكفي بالله

- ‌المتوكل على الله أبو عبد الله بن المعتضد

- ‌الواثق بالله عمر بن إبراهيم

- ‌المستعصم بالله زكرياء بن إبراهيم

- ‌المستعين بالله أبو الفضل بن المتوكل

- ‌المعتضد بالله أبو الفتح بن المتوكل

- ‌المستكفي بالله أبو الربيع بن المتوكل

- ‌القائم بأمر الله أبو البقاء بن المتوكل

- ‌المستنجد بالله خليفة العصر أبو المحاسن

- ‌المتوكل على الله أبو العز بن يعقوب

- ‌قصيدة للمؤلف فيها أسماء الخلفاء ووفياتهم

- ‌نبذة عن الدول التي قامت بالأندلس

- ‌فصل في الدولة الخبيثة العبيدية: "الفاطمية

- ‌فصل في دولة بني طباطبا العلوية الحسنية

- ‌فصل في الدولة الطبرستانية

- ‌الفهرس العام

الفصل: ‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي

يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم حرمه، حتى كان عرضة للهوان، وأكلة لأهل الأوان.

فلما توفي المستكفي والسلطان عليه في حدة غضبه، وتياره المتحامل عليه في شدة غلبه، طلب هذا الواثق المغتر، والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكائده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه وأحضر معه عهد جده، فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف في وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم نقض ذلك العهد، ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمر بن جماعة في صرف رأي السلطان عن إقامة الخطبة باسم الواثق فلم يفعل، واتفق الرأيان على طرق الخطبة للاثنين، واكتفى فيها بمجرد ذكر اسم السلطان، فرحل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب كأنه ما قرع بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس وشعارها عليه لباس الحداد، وأغمدوا تلك السيوف الحداد، ثم لم يزل الأمر على هذا حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به رد الأمر إلى أهله، وإمضاء عهد المستكفي لابنه، وقال: الآن حصحص الحق، وحنا على مخالفيه ورق، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى البهم، وستر اللؤم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق وأين هو من صاحب هذا الاسم الذي طال ما سرى رعبه في القلوب، واقضت هيبته مضاجع الجنوب؟ وهيهات لا تعد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل، وإنما سوق الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد، وقد عاد الآن يعض يديه، ومن يهن يسهل الهوان عليه. هذا آخر كلام ابن فضل الله.

ص: 344

‌الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي

1

الحاكم بأمر الله: أبو العباس أحمد بن المستكفي، كان أبوه لما مات بقوص عهد إليه بالخلافة، فقدم الملك الناصر عليه إبراهيم بن عمه، لما كان في نفسه من المستكفي، وكانت سيرة إبراهيم قبيحة، وكان القاضي عز الدين بن جماعة قد جهد كل الجهد في صرف السلطان عنه فلم يفعل، فلما حضرته الوفاة أوصى الأمراء برد الأمر إلى ولي عهد المستكفي ولده أحمد، فلما تسلطن المنصور أبو بكر بن الناصر عقد مجلسًا يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وطلب الخليفة إبراهيم وولي العهد أحمد والقضاة، وقال: من يستحق الخلافة شرعًا؟ فقال ابن جماعة: إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد، وأشهد عليه أربعين عدلًا بمدينة قوص، وثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي بمدينة قوص، فخلع السلطان حينئذ، إبراهيم، وبايع أحمد، وبايعه القضاة، ولقب الحاكم بأمر الله لقب جده.

وقال ابن فضل الله في المسالك في ترجمته: هو إمام عصرنا، وغمام مصرنا، قام على

1 تولى الخلافة سنة 742هـ وحتى 753هـ.

ص: 344

غيظ العدا، وغرق بفيض الندى، وصارت له الأمور إلى مصائرها، وسيقت إليها بصائرها، فأحيا رسوم الخلافة، ورسم بما لم يستطع أحد خلافه، وسلك مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمباهج أبنائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال عذرهم وقد اختلف السبات، ورفع اسمه على ذرا المنابر وقد عبر مدة لا يطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسبح إلا في سبحة تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت السلطان وأنفذ حكم وصيته، في تمام مبايعته والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعقد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم تسلطن الملك المنصور أبو بكر بن السلطان، وعمر له من تحت الملك الأوطان.

قال ابن فضل الله: وقد كتبت له صورة المبايعة وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} [الفتح: 10] إلى قوله: {عَظِيمًا} هذه بيعة رضوان، وبيعة إحسان، وجمعية رضا يشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، ويحوم بسائرها ويحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، ويتجارى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم لزهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق، بيعة سعيدة ميمونة، شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجتمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق عليها الإجماع والاجتماع، ولبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع، فاعتقد صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقره الخصم وانقطع النزاع، يضمنها كتاب مرقوم يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس وإلينا ولله الحمد وإلى بني العباس، أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيم قل وجل، والولاة والحكام وأرباب المناصب والأحكام، ملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتعرف بعرفات بركاتها، وتعرف بمنى ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، وتؤم ما بين الركن والمقام والحجر، ولا يبتغي بها إلا وجه الله الكريم، بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متبعة مريحة، ولا من يوصف بعلم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا لزم المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم وحديث، ولا معروف

ص: 345

بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساعٍ بقدم ولا طائر بجناح، ولا مخالط للناس ولا قاعدة في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسر في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار ولا ملجج في البحار الذاخرة والبراري والقفار، ولا من يعتلي صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وغض لها بصره خاشعًا لها وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها، وقضي بينهم بالحق وقيل: الحمد لله رب العالمين.

وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله مزكى يديه عن شهادة الإسلام بشهادة الإسلام، حيث آثر بقربه، ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقًا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، الله أكبر ليومه لولا مخلفة كانت تضيق الأرض بما رحبت، تجزي كل نفس ما كسبت، وتنبأ كل سريرة ما ادخرت وما جنت، لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجانح، لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح، لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، ولم يكن في النسب العباسي ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهو عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها وسر طوياتها إلا واحد، وأين ذاك الواحد؟ هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده الأخيار، ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام، وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفاز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يعزه عادله ولا يغره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال بأمره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله صلى الله عليه وسلم وخليفته وابن عمه، وتابع

ص: 346

عمله الصالح ووارث عمله، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره، ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولقى أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يملك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على أثاره، ومضى ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم ير بائعه وقد مد يده طامعًا لمزيدها وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيها فخار وأخذ يمين يمد لها الأيمان، ويشهد بها الإيمان، ويعطي عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة ونية من حلف له، وتذمم بالوفاء له في ذمته وتكفله، على عادة أيمان البيعة وشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لها الإمام المفترض الطاعة الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يفر عن الجماعة الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بميشئة الله تمامها، وعم بالصواب المغدق غمامها، وقالوا: الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي لمن يضعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد الله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها، ويدأب بها من ارتقى منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله كلمة لا يمل من تردادها، ولا يحل بما تفوق السهام من سدادها، ولا يبطل لا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.

ونشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة تقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها.

ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى جماعة أهله ومن خلف من أبنائها وسلف من

ص: 347

أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد: فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير مما يتحمله حمائم الطبائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخير ما سخره من الريح لسليمان، وآتاه الله من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به وما أطاعه كل مخلوق، ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على ظل الهدب ما فضل به من سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليلة السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه، ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، ومصالح الأعمال ثم تتحلى به الأيام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعًا على العين يحمله غصبًا على الرأس، ويعجل أمير المؤمنين بما استقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يئوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله عليه وخلقه بأن أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات المماليك والثغور، برًّا وبحرًا، وسهلًا ووعرًا، شرقًا وغربًا، بعدًا وقربًا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، ومالك ومملوك وأمير، وجندي يبرق له سيف شهير، ورمح ظهير، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، واستمر كل امرئ على ما هو عليه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه، ومن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدًا في دين الله، ولا يحابي في حق فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه تغييرًا شكرًا لله على نعمه، وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدر على أحد موردًا نزه الله نعمه الصافية به على الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول إلا من جحد النعمة وكفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله ونعيد أيامه الغرر من الغير، وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق وأن يضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر ونهى عن نواهٍ وهو رقيب، وسيفرغ الألباء لها السجايا، ويفرغ الخطباء لها شعوب الوصايا،

ص: 348

وتتكمل بها المزايا، ويرق شجرها بالليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، تعظ بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قفاه، ويلقنها كل أب فهمه ابنه، ويسأل كل ابن نجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل الله من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإنفاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بما يسعد به من يحيا أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل بره سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهر السبيل على صالة، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاهر ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام، ويقيم بعدله قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أينما كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضم إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار ويسلم منهم على يديه، وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل منه خلد الله ملكه وسلطانه عينًا لا تنام، وقلد سيفًا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برًّا وبحرًا، ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلًا ولا أسرًا، ولا يفك أغلالًا ولا إصرًا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانًا وفي البحر غربانًا تحمل كل منهما من كل فارس صقرًا، ويحمي الممالك ممن يتخرق أطرافها بإقدام، وأمهات المماليك التي هي مرابط البنود ومرابط الأسود، والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة، والجناح الممدود، ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موضون، وبيض مسها ذهب ذائب فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب ورماح بسبب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسى وتفارقها فنحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.

وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر، وأما جزيئات الأمور فقد علمتم أن من بعد عن أمير المؤمنين، غني عن مثل هذه الذكرى وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله عليكم أداء النصيحة، وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة،

ص: 349

فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقه، ولزمه حكم بيعته وألزم طائره في عنقه، وسيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليمًا، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا.

وهذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال.

ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله وهو من خلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان، والله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على سدة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا أودى مهديه ولا رشيده.

وقال ابن حجر في الدرر: كان أولًا لقب المستنصر ثم لقب الحاكم.

ذكر الشيخ زين الدين العراقي أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين، وأنه حدث، مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث وخمسين.

ومن الحوادث في أيامه: في عام ولايته خلع السلطان المنصور لفساده وشربه الخمور حتى قيل: إنه جامع زوجات أبيه، ونفي إلى قوص وقتل بها، فكان ذلك من الله مجازاة لما فعله والده مع الخليفة، وهذه عادة الله مع من يتعرض لأحد من آل العباس بأذى، وتسلطن أخوه الملك الأشرف كجك، ثم خلع من عامه وولي أخوه أحمد، ولقب بالناصر، وعقد المبايعة وبينه وبين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي قاضي الشام، وكان قد حضر معه مصر.

وفي سنة ثلاث وأربعين خلع الناصر أحمد، وولي أخوه إسماعيل، ولقب بالصالح.

وفي سنة ست وأربعين مات الصالح، فقلد الخليفه أخاه شعبان، ولقب بالكامل.

وفي سنة سبع وأربعين قتل الكامل، وولي أخوه أمير حاج، ولقب بالمظفر.

وفي سنة ثمانٍ وأربعين خلع المظفر، وولي أخوه حسن، ولقب بالناصر.

وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون العام الذي لم يسمع بمثله.

وفي سنة اثنتين وخمسين خلع الناصر حسن، وولي أخوه صالح، ولقب الملك المصالح وهو الثامن ممن تسلط من أولاد الناصر محمد بن قلاوون، وجعل شيخو أتابكة، قال في ذيل المسالك: وهو أول من سمي بمصر الأمير الكبير.

وممن مات في أيام الحاكم من الأعلام: الحافظ أبو الحجاج المزي، والتاج عبد الباقي اليمني والشمس بن عبد الهادي، وأبو حيان، وابن الوردي، وابن اللبان، وابن عدلان، والذهبي، وابن فضل الله، وابن قيم الجوزية، والفخر المصري شيخ الشافعية بالشام والتاج المراكشي، وآخرون.

ص: 350