المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حصار ذي مرمر - تاريخ اليمن خلال القرن الحادي عشر = تاريخ طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى

[الوزير الصنعاني]

فهرس الكتاب

- ‌قصَّة الْحَوَادِث

- ‌فتح بَغْدَاد

- ‌وقْعَة نقِيل الشيم

- ‌حِصَار ذِي مرمر

- ‌خلَافَة الإِمَام الْأَعْظَم المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ

- ‌فتح بِلَاد الْأَمِير حُسَيْن صَاحب عدن

- ‌وُفُود الْأَخْبَار بوصول جنود عثمانية إِلَى مَكَّة واليمن

- ‌التَّجْهِيز على حُسَيْن باشا صَاحب الْبَصْرَة

- ‌قصَّة يهود الْيمن ودعواهم تحول لملك إِلَيْهِم لعنة الله عَلَيْهِم

- ‌تجلي حُسَيْن باشا عَن الْبَصْرَة بعد عَجزه عَن عَسَاكِر السلطنة

- ‌قصَّة الشريف حمود بن عبد الله والأروام

- ‌الْجُزْء الثَّانِي من طبق الْحَلْوَى وصحاف الْمَنّ والسلوى

- ‌وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف

- ‌منازلة الفرنج لبندر المخا

- ‌وَدخلت سنة إثنتين وَثَمَانِينَ وَألف

- ‌وَدخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف

- ‌وَدخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف

- ‌وَدخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف فِي ثَالِث محرم حصلت عِنْد الإِمَام أَخْبَار مَكَّة وفيهَا أَن سَعْدا وَأحمد إبني زيد تحيزا إِلَى بِلَاد نجد الْعليا وبركات عَاد من بدر إِلَى مَكَّة صحبته بن مضيان بعد أَن ألبسهُ خلعة الْأمان واستطرق أَصْحَاب الْعمانِي هَذَا الْعَام جَزِيرَة سقطرى وَقتلُوا من أَهلهَا

- ‌تجهيز السُّلْطَان على الْيمن

- ‌كَرَامَة للشَّيْخ الصفي أَحْمد بن علوان أَيْضا

- ‌الدولة المهدوية وَمَا شجر فِي أَثْنَائِهَا

- ‌وَدخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف

- ‌معركة الصلبة

- ‌خُرُوج الإِمَام من الْغِرَاس مترحلا إِلَى جِهَات شهارة

- ‌حَرْب الأبرق

الفصل: ‌حصار ذي مرمر

يَأْخُذ لَهُ الذمام فرأها لَهُ عز الْإِسْلَام جميلَة وفيأه من الْأمان فِي خميلة وَأكْرم نزله وسد خلله

وَكَانَ جمَاعَة مِمَّن استعصاه وَضرب بعصاه قد أطالوا الْحصار على يفعان ودبوا إِلَيْهِ دَبِيب الأفعوان فانسلوا عقيب فتح الْبِلَاد وَتَفَرَّقُوا فِي كل وَاد وَلما انْقَضى الْفَتْح وصل إِلَى تِلْكَ الْجِهَة مَأْمُور الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه السَّيِّد الْكَرِيم النجيب صارم الدّين إِبْرَاهِيم بن أَحْمد عَامر وَمَعَهُ جمَاعَة من الْجند وَاسْتقر أَيَّامًا فِي الْبِلَاد لِاسْتِيفَاء التَّأْدِيب بِالْمَالِ وتمهيدها وتصحيحها عقيب ذَلِك الإستعصاء والإعتلال ثمَّ عَاد الى ضوران وَأمر فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْعِصْيَان وَظهر مِنْهُ من مخائل النجابة وَالْكَرم ومحاسن الْأَخْلَاق والشيم مَا يقْضى لَهُ بِأَنَّهُ من صميم السَّادة وَأَبْنَاء ذَوي المجادة والسيادة وَلم يعد الى حَضْرَة الإِمَام إِلَّا وَقد علقت بِهِ الدُّيُون وعلقت فِيهَا ذمَّته غلاق الرهون فَشكر الإِمَام أَفعاله وروح بتحمل دُيُونه حَاله وَهَكَذَا الْكَرِيم يُقَال عثاره وتحسن أثاره

‌حِصَار ذِي مرمر

وَلما رأى الإِمَام ولد أَخِيه صفي الْإِسْلَام جانحا الى الغربة سكنه جامحا فِي ميدان الْإِعْرَاض رسنه وَكَانَ فِي يَد أَصْحَابه مُنْذُ خرج عَن الْغِرَاس حصن ذِي مرمر وَهُوَ قفل بِلَاد خولان وكالحاكم على مَا تَحْتَهُ من الْبلدَانِ أزمع على حصاره وطمس آثاره فَأمر على محاصرته الشَّيْخ حسن بن الْحَاج أَحْمد بن عواض الْأَسدي فاستمر على حصاره سنة كَامِلَة حَتَّى خرج من فِيهِ على رسمه وهم الآغا فرحان وَمن مَعَه من المماليك وَكثير من الْأَعْيَان وَجَمِيع الحشم الَّذين كَانُوا بِهِ أَيَّام بَقَاء أَحْمد بن الْحسن بالغراس ثمَّ أَمر الإِمَام بخراب مسَاكِن الْحصن وتحويل أبوابه وأخشابه وحملت أَبْوَاب الْحصن إِلَى محروسة شهارة

ص: 87

وَكَانَ هَذَا الْفِعْل مطلب بني حشيش وَمَا لاصقهم لكراهتهم تشييد الْحُصُون الدولية بَين أظهرهم

وَهَذَا المعقل حصن حُصَيْن وَعلم شامخ الْعرنِين نسيم أعاليه سَجْسَج ومصباح علاليه من قناديل المجرة مسرج لَهُ لون يَدْعُو الأفراح إِلَى الْأَرْوَاح ويكسبها نشوة الراح كإنما عجنت طينه بِمَاء الصبهاء اَوْ علقت عَلَيْهِ طلاسم الْكَنْز المخبأ وَفِي أثانية غارات مخروطة رائعة وَهِي مِمَّا عملته الصناع للتبابعة وَلِلنَّاسِ فِيهَا مقَال مُضْطَرب وَأَنَّهَا مِمَّا صَنعته الْجِنّ لأسعد ذِي كرب

(وَقد كَانَ أَرْبَاب الفصاحة كلما

رَأَوْا حسنا عدوه من صَنْعَة الْجِنّ (

وَقد تداولته فِي الْإِسْلَام ايدي الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وانتقل مرّة إِلَى نوبه الباطنية الطغام وَمَا زَالَ من ايام الإِمَام شرف الدّين الى هَذِه السنين فِي أَيدي الْأَئِمَّة الهادين وَحَال الرقوم وَهُوَ من جملَة الرسوم فقد أغلق على مَجْمُوعه الْبَاب الْأُخَر وانتحت مِنْهُ الدعاثر فسبحان الله الْوَارِث القاهر

وَفِي هَذَا الْعَام أرسل الإِمَام الى بِلَاد يافع القَاضِي شرف الدّين الْحسن بن

ص: 88

أَحْمد الحيمي للسعاية فِي استمالة ابْن أَخِيه حَتَّى يسْعد للرُّجُوع إِلَى دياره فأسعد أَحْمد وَالْعود أَحْمد وَلما وصل حَضْرَة الإِمَام ظهر مِنْهُ الإبتهاج واستقام الاعوجاج وزوجه بِإِحْدَى بَنَاته وَحمد مَسْعُود حركاته ثمَّ اسْتَأْذن للعام الْقَابِل فِي حج بَيت الله الْحَرَام فَأذن لَهُ مَعَ جملَة من الْأَعْيَان والأهل والأرحام

وَفِي هَذَا الْعَام أَو الَّذِي قبله من الأعوام اتّفق أَن بعض السادات الثِّقَات سَار إِلَى بِلَاد شمات فَنزل إِلَى بركَة للشُّرْب مِنْهَا فِي تِلْكَ الْجِهَات فَوجدَ بهَا جمجمة ملقاة على الأَرْض وَفِي فمها لجام من الْحَدِيد فخاطبها السَّيِّد بمقال يستكشف فِيهِ الْأَمر بِلِسَان الْحَال فَلم يشْعر إِلَّا بِصَوْت عَظِيم من تِلْكَ الجمجمة دَاخله من الْفَزع مَا خر مَعَه لوجهه ملقى على المَاء خَارِجا عَن طور الْعقل لَا يفرق بَين الأَرْض وَالسَّمَاء وَلما حَان مِنْهُ أَن يفِيق واستأنس بمارة الطَّرِيق دفنُوا تِلْكَ الجمجمة وَقد صَارَت لسوادها كالحممة فَمَا تمّ الدّفن وانطبقت عَلَيْهَا الحفرة انطباق الجفن حَتَّى لفظتها الأَرْض وقذفها طولهَا وَالْعرض فَتركت كَمَا هِيَ وتفطن السَّيِّد أَن هَذَا وَالْعِيَاذ بِاللَّه من نمط عَذَاب الْقَبْر الَّذِي يظهره الله أَحْيَانًا للزجر

وَفِي هَذَا الْعَام تجهز جمَاعَة للتِّجَارَة من الحساء والبحرين وَالْبَصْرَة

ص: 89

وعبروا الْبَحْر الْفَارِسِي فَلَمَّا عارضوا بندر مسكت وَكَانَ يَوْمئِذٍ بيد الفرنج انتهبوهم فخاف بعد ذَلِك الْمَارَّة وَانْقطع العبور عَن الْبَحْر الزخار إِلَى أَن استولى الْعمانِي على بندر مسكت كَمَا سَيَأْتِي تَارِيخه فسلك النَّاس فِي الْبحار وَأمن التُّجَّار من أُولَئِكَ الْفجار

وَفِي هَذَا الْعَام أَو الَّذِي قبله وَقع إِفْسَاد فِي بَحر القلزم وَهُوَ بَحر الْيمن من قبل الفرنج فَجهز عَلَيْهِم أَمِير اللِّحْيَة وَهُوَ النَّقِيب سعيد المجزبي عِصَابَة من أولي الفتك والممارسة للحروب فقبضوا عَلَيْهِم وأرسلهم الْأَمِير إِلَى حَضْرَة الإِمَام وَهُوَ بوادي أقرّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَعرض عَلَيْهِم الإِمَام الْإِسْلَام وهم زها سبعين نَفرا فأسعدوا إِلَى الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَفعل بهم شعار الْإِسْلَام وَهُوَ الْخِتَان

وَفِي هَذَا الْعَام وفدت الْأَخْبَار الى الْيمن أَن بلادا من البربر فِي بِلَاد الْعَجم استولى عَلَيْهَا خسف عَظِيم شقق الأَرْض وَهدم الْعمرَان وعطل عَنْهَا السكان وَهُوَ لَا شكّ من أَمَارَات السَّاعَة بِالنِّسْبَةِ الى صَنِيع الْعَجم وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره مَا مَعْنَاهُ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يلعن آخر هَذِه الْأمة أَولهَا فَإِذا فعلوا ذَلِك فليرتقبوا ريحًا حمرا وسخا وخسفا

وَدخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف فِيهَا أذن الإِمَام لولد أَخِيه أَحْمد بن الْحسن بن الإِمَام بالإنتقال الى مَدِينَة صنعاء والإستقرار بهَا وَقرر لَهُ مَا يقوم بِهِ

ص: 90

وبخاصته وَرُوِيَ أَنه اعتذر عَن خُرُوجه على الإِمَام لعدم ممارسة أَحْوَال الْأَيَّام مَعَ تربيه فِي حجر أَبِيه ونشأته تَحت ظلّ نعْمَة الْأمان والحداثة وَالسُّلْطَان وَقد قيل

(سَكَرَات خمس إِذا منى الْمَرْء

بهَا صَار نهبة للزمان)

(سكرة المَال والحداثة والعشق

وسكر المدام وَالسُّلْطَان)

حَتَّى روى عَنهُ أَنه قَالَ لهَذَا قبضنا على أَوْلَادنَا وقصرناهم عَن تَطْوِيل إحساننا وإمدادنا وفيهَا أَمر ضِيَاء الْإِسْلَام إِسْمَاعِيل بن الإِمَام بِقطع شَجَرَة الشَّيْخ صفي الدّين أَحْمد بن علوان وَكَانَ المحرص على الْقطع الشريف مُحَمَّد بن أَحْمد المحنكي فاستدامت بِهِ عِلّة دائمة وَأَيْقَظَ لنَفسِهِ من الْعِلَل فتْنَة نَائِمَة نسْأَل الله السَّلامَة عَن مُوجب الندامة

وفيهَا طلع إِسْمَاعِيل بن الإِمَام عَن رَأْي الْمُؤَيد بِاللَّه من الْيمن إِلَى ضوران وَاسْتقر بِهِ لولاية الْبِلَاد والإصدار فِيهَا والإيراد فَعمل بِالْعَدْلِ وَحكم بِالْفَصْلِ وَصَارَ مَسْعُود الحركات فِي الْأَفْعَال والأقوال وَالْأَحْوَال فَإِنَّهُ وصل إِلَى دور شيدها غَيره ومملكة زجر سعدها طيره مَعَ بِلَاد مطمئنة إِلَى إمارته عَلَيْهَا ضامية الأكباد إِلَى وُرُوده إِلَيْهَا فطلع فِيهَا نجما زاهرا ونبع فِيهَا غصنا نَاظرا وَأَحْيَا فِيهَا معالم الْعُلُوم ونعش فِيهَا من مآثر الْأَئِمَّة قديم الرسوم وجاد حَتَّى تميزت مَاهِيَّة الْجُود كَمَا يتَمَيَّز الْمَعْرُوف بالرسوم وَالْحُدُود

(وَكَذَا الْكَرِيم إِذا أَقَامَ ببلدة

سَالَ النظار بهَا وَقَامَ المَاء)

ص: 91

وَلم ينْفَصل عَن مَدِينَة تعز إِلَّا وَقد أحرز الْمجد الْأَصْلِيّ والعز بِمَا اقتناه من ذخائر الْعُلُوم ورحل بِهِ من خَزَائِن الْمَعْلُوم سمع بِمَدِينَة تعز تيسير الديبع على الشَّيْخ الْمُحدث عبد الْعَزِيز الجيشي الْمُفْتِي الشَّافِعِي وَحصل ثمَّ سنَن الْبَيْهَقِيّ الْكُبْرَى واستجاز عَن الْمَذْكُور مَاله إِجَازَته من الحَدِيث النَّبَوِيّ وَفِي هَذَا الْعَام وَقع بِمصْر فنَاء عَام وَخرج عَنهُ الباشا وجلا {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا} قيل إِن الَّذِي هلك يَوْمئِذٍ أَرْبَعَة لكوك

وفيهَا اتَّصَلت الْأَخْبَار إِلَى الْيمن أَن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن أَحْمد خَان وَجه إِلَى جدة والحجاز بعساكر فِي سِتَّة غربان وَيكون هبوطهم إِلَى مصر ثمَّ إِلَى جدة ثمَّ هَذَا الْقطر فَلَمَّا عبروا من بَحر الرّوم بِتِلْكَ النِّيَّة واتصلوا ببندر اسكندرية مَاتَ مِنْهُم الْكثير واضمحل من التَّفْسِير وَخرج الْبَاقُونَ إِلَى السويس بندر الْبعد الْيمن فَركب مِنْهُم من ركب وَتَفَرَّقَتْ جلابهم وَجَهل ذهابهم

وَفِي رَمَضَان من هَذَا الْعَام على مُضِيّ ساعتين من لَيْلَة الْخَمِيس خسف الْقَمَر ببرج الدَّلْو وَالرَّأْس فِيهِ وَفِيه أَو فِي غَيره توفّي الْفَقِيه الْعَارِف مُحَمَّد بن عبد الله الهتار المحالبي فَقِيه الشَّافِعِيَّة بِمَدِينَة زبيد وَهُوَ أحد من كَانَ أَخذ عَنهُ الْعَلامَة الْحُسَيْن بن الإِمَام واستجاز مِنْهُ بمحروس الْحمى خلال فتح زبيد فِي شمائل التِّرْمِذِيّ وَغَيرهَا

ص: 92

وَدخلت سنة أَربع وَخمسين وَألف فِي ثَانِي عشر محرم كَانَ تَحْويل سنة الْعَالم فَكَانَ زحل فِي برج الْحمل بِآخِرهِ وَالْمُشْتَرِي فِي أول الجوزاء والمريخ بِأول دَرَجَة من الْأسد والجوزاء هِيَ ببرج الْأسد

وفيهَا ساخ جبل الأهجر وتدعثر من أَعْلَاهُ بعض الْحِجَارَة والطين وكبس بعض مَا يَلِيهِ من الْحَدث والبساتين وفيهَا كتب الإِمَام إِلَى الشريف المحسن بن الْحُسَيْن أَمِير مَكَّة يطْلب مِنْهُ الإنتماء إِلَيْهِ ويرغبه فِي الإقبال عَلَيْهِ وَأَن يضْرب برسمه السِّكَّة ويخطب لَهُ بمنبر مَكَّة وَضمن ذَلِك رِسَالَة مشحونة بدلائل محبَّة الْبَيْت النَّبَوِيّ والجناب المصطفوي وَحسن الإنتماء إِلَى الْأَئِمَّة وَمَا لَهُم من المزية على سلاطين الْأمة فَأجَاب الشريف بالإمتثال وَأَنه يُبَادر بِالْإِرْسَال فَركب رَسُوله الْبَحْر فِي غير موسم الْحَج حَتَّى انْتهى إِلَى جدة وَهُنَاكَ بلغه أَن مرسله بلغ من الْحَيَاة حَده وتأهب للمعاد ورحل بِمَا مَعَه من الزَّاد فَعَاد من حَيْثُ وصل واتصل بِهِ من الاكتئاب مَا اتَّصل وَالَّذِي عرف من قَرَائِن أَحْوَال الْأَشْرَاف أَن ذَلِك الْجَواب إِنَّمَا هُوَ تأدب لَا إعتراف واستخراج لدرر الْفَوَائِد من الأصداف واجتناء لثمر العوائد من أَغْصَانهَا بلطف الإقتطاف وَإِلَّا فَإِنَّهُ قد كَانَ سبق من الإِمَام إِلَى أهل مَكَّة رِسَالَة يحثهم فِيهَا على تَسْلِيم الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة إِلَى من يُرْسِلهُ إِلَيْهِم ويؤمره فِي قبضهَا عَلَيْهِم فَمَا كَانَ جوابهم عَن ذَلِك القيل بِغَيْر قَول إِبْرَاهِيم الْخَلِيل {رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم وارزقهم من الثمرات لَعَلَّهُم يشكرون} ثمَّ استمدوا من الإِمَام صنوف التفضل والإنعام

ص: 93

وَأَنَّهُمْ منتظرون لرفده ناظرون فِي الْمَعْرُوف جِهَة قَصده فقبلوا دست الطّلب وغصبوا منصب الْبَحْث مَعَ لطف وأدب

(وَمن يَجْعَل الضرغام بازا لصيده

تصيده الضرغام فِيمَا تصيدا)

وَكَانَ الشريف المحسن قد وعد الإِمَام بذلك المرام لكنه بِسَبَب مَا وَقع بَينه وَبَين الإشراف آل الْأَمر إِلَى خُرُوجه عَن مَكَّة بعد طول نزاع وَخلاف

تجلي الشريف محسن إِلَى بِلَاد الْيمن واستيلاء أَحْمد بن عبد الْمطلب عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ حكى بعض من لَازم حَضْرَة الشريف سعد مُدَّة من السنين أَن الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب الْمُسَمّى بِأبي حمارة كَانَ مِمَّن لَا يؤبه لَهُ فِي الاشراف وَلَا يظنّ أَن الدَّهْر يمِيل إِلَيْهِ بانعطاف خلا أَنه كَانَ مقداما متلافا وَكَانَ الْعَامَّة وَأهل الجذب بِمَكَّة لَا يزالون يعدونه بإمارتها وَطَالَ هَذَا الْكَلَام حَتَّى خرج مخرج الهزأ الْخَارِج عَن الإحتشام فَكَانَ يَقُول لَهُ الْقَائِل أَيهَا الشريف مَتى وليت الْمقَام المنيف فَاجْعَلْ لى من الْعهْدَة كَذَا وَافْعل لي من التَّأْدِيب كَذَا وكل يطْلب على مَا يَبْدُو لَهُ فِي الْحَال وَهُوَ يعدهم بانجاح تِلْكَ الآمال ثمَّ أَنه اتّفق مِنْهُ غرَّة من الشريف محسن فِي بعض الحضرات وانفلت إِلَيْهِ على غَفلَة من الْحجاب والأغواب فَشكى إِلَيْهِ مَا صَار يعانيه من شَدَائِد الْحَاجة وَبسط ذيول القَوْل وَأطَال فِي اللجاجة فزبره الشريف وَأطَال لَهُ التعنيف وَذكره بسيرة غير مرضية وَبت لَهُ فِي الحرمان الْقَضِيَّة فَخرج من حَضرته لَا يلوي على غير الْخُرُوج من الْبَيْت الْعَتِيق واللحوق بِالْيمن أَو أَي مَكَان سحيق ملتهب الأنفاس مُخَاطبا لنَفسِهِ بقول أبي فراس شعرًا

ص: 94

(وَمن كَانَ غير السَّيْف كافل رزقه

فللذل مِنْهُ لَا محَالة جَانب)

ثمَّ توجه إِلَى جدة بخاطر مكلوم وقلب مَسْمُوم وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ من قبل الشريف والأتراك بعض القواد العبيد فحاول الولوج عَلَيْهِ والوصول لَدَيْهِ ثمَّ رَجَعَ بصفقة حِين وخفي حنين وَاتفقَ أَن الباشا الموجه إِلَى بعض بِلَاد السُّلْطَان وصل إِلَى جدة وَلَقي مصرعه وَنزل مضجعه فاتصل الشريف أَحْمد بأعيان الباشا كالآغا والبيرق دَار والخازن والدفتر دَار وعرفهم نسبه ومجادته وحسبه وشكى من الشريف مَا أصدره إِلَيْهِ واستنجد بهم فِي النُّصْرَة عَلَيْهِ وبذل لَهُم الْعَهْد الأكيد فِي عدم الإستبداد بالفائدة وَأَن يَده وأيديهم بعد الظفر وَاحِدَة فَأَجَابُوا عَلَيْهِ بِالتَّلْبِيَةِ والإسعاد وأنشدوه قَول بعض الشُّعَرَاء الأمجاد

(لَا تحسبن ذهَاب نَفسك مَوتهَا

مَا الْمَوْت إِلَّا أَن تعيش مذللا)

(فَارق ترق كالسيف سل فَبَاتَ فِي

متنيه مَا أخْفى القراب وأخملا)

ثمَّ أَنه واعدهم على وَقت فِي اللَّيْل يدْخل فِيهِ على الْقَائِد ويكونوا فِيهِ على أهبة المراصد فَدخل إِلَيْهِ لذَلِك الْوَقْت وَقد ألوت جمَاعَة من أَصْحَاب الباشا بداره آخذين أسلحتهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ وَوَقعت عينه عَلَيْهِ طلب مِنْهُ خلْوَة ليذكر فِيهَا بعض حاجاته فصرف الْقَائِد بِوَجْه طلق وَلم يكن بَينه وَبَين الأول فرق ثمَّ قرب مِنْهُ ليوهمه الْخطاب ويمت إِلَيْهِ من الشكوى بِأَسْبَاب ثمَّ أَخذ سيف الْقَائِد من وتده وأطار بِهِ عُنُقه عَن جسده وَفتح إِحْدَى طاقات الْمَكَان ورما بِرَأْسِهِ إِلَى الباشا والأعوان وَأمرهمْ بِالدُّخُولِ على سَبِيل البدار والفتك بِمن وجدوه فِي صحن الدَّار فَدَخَلُوا إِلَيْهِ مبادرين وفتكوا بِمن وجدوه فِي الدَّار فِي الْحُسَيْن وألقوا مقاليد الْأَمر إِلَيْهِ ونادوه باسم الْملك وبركوا عَلَيْهِ ثمَّ بَادر إِلَى مخازين الدَّار ففك أقفالها وَأخرج أموالها وفيهَا ذخائر الْقَائِد وخزنته ونادى

ص: 95

بالشمع دَان وَأمر بإحضار التفنقية والفرسان وَمد الانطاع وصير إِلَيْهِم الجوامك الغامرة وخلع عَلَيْهِم الْخلْع الفاخرة كل ذَلِك من خزانَة الْقَائِد ورزق السَّاعِي للقاعد وَأما أَصْحَاب الباشا فهم خلاصته الأقدمون وَأهل بيعَته الْأَولونَ ثمَّ أنفذ فِي أثْنَاء اللَّيْل رسلًا خفافا إِلَى أَعْيَان الْأَشْرَاف بِمَكَّة وحرك نُفُوسهم على الشريف المحسن وأودع الرُّسُل إِلَيْهِم جملَة مِمَّا خف من المَال الَّذِي يمِيل بقلوب الرِّجَال ورغبهم فِي الدُّخُول تَحت سنجقه الخافق ورهبهم أَن لم يقطعوا عَن المحسن العلائق ثمَّ أَنه بعد ذَلِك توجه فِي أقرب حَال على مَكَّة المشرفة فِي زِيّ عَجِيب وجيش مهيب فَلَمَّا شَارف دورها وقارب معمورها خرج إِلَى حربه جمَاعَة من الاشراف بنية فَاسِدَة وَقُلُوب مائدة

(وخيل مَا يخر لَهَا طعين

كَانَ قِنَا فوارسها ثمام)

وانجلى الْأَمر عَن تخلي المحسن وَولده زيد إِلَى الْيمن وَاسْتقر أَحْمد بن عبد الْمطلب بِمَكَّة وقطن وَلما وصل المحسن وَولده زيد إِلَى حَضْرَة الإِمَام لم يتْرك مَا يتَوَجَّه لَهما من الإجلال والاعظام وتقلبت الْأَحْوَال من حَال إِلَى حَال وَمَات الشريف المحسن بِصَنْعَاء الْيمن وَدفن بَقِيَّة الْإِسْكَنْدَر الْمَعْرُوفَة

وَأما أَحْمد بن عبد الْمطلب فَأَنَّهُ اقتعد كرْسِي المملكة الحجازية ونبذ جلال السُّلْطَان خلف ظهرة كَمَا تصنع الجلالية وَأَقْبل على تفقد أَحْوَال مَكَّة وَأعْطى كلا من السَّائِلين مقترحه على قدر أسئلتهم حَتَّى أَن بَعضهم اقترح عَلَيْهِ الْقَتْل على

ص: 96

هَيْئَة مَخْصُوصَة فَقتله كَذَلِك وَبَعْضهمْ اقترح خدمَة مَخْصُوصَة فمكنه مِنْهَا تَمْكِين الْمَالِك وَمَا زَالَ نَافِذ الْكَلِمَة بِمَكَّة وَمَا إِلَيْهَا من الْبلدَانِ حِصَّة من الأعوام والأزمان وَالسُّلْطَان ترد عَلَيْهِ أخباره وَلَا تخفي عَلَيْهِ آثاره حَتَّى حَان الإفتضاح وهبطت أوَامِر الْقَضَاء المتاح بوفود سنجق الساطنة الى مَكَّة والفتك بِهِ وَحصل لأسباب تصدر أَخِيه بعد أَيَّام لمملكة مَكَّة فنحا إِلَى قريب من فعله فَنُوديَ للسُّلْطَان بالباشا قَاسم فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ ذكر لَهُ أَحْوَال الشريف وَمَا تَوَاتر عَنهُ من الْإِلْحَاد فِي الْحرم المنيف ثمَّ شدّ عَلَيْهِ بندا بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ عزمت عَلَيْك أَن لَا تحل هَذَا البند حَتَّى توثق أَخَاهُ أَحْمد بن عبد الْمطلب فِي الْحَدِيد وتأتيني بِهِ على سَبِيل الْمُبَادرَة بِلَا مزِيد بعد أَن تقر ولَايَة الشريف زيد بن المحسن على ولَايَة بَيت الله الْحَرَام وتوافيني بِهَذَا الطاغية فِي أَسْوَأ حَال وأهون مقَام فَانْطَلق الباشا قَاسم بِمُقْتَضى تِلْكَ المراسم مُتَوَجها على الشريف بنية كَافِيَة وهمة عالية فَلَمَّا وافى حرم الله استوثق مِنْهُ أَطْرَافه وضيق عَلَيْهِ أكنافه حَتَّى تَركه فِي دَائِرَة الْمِيم وانسلخ عَنهُ كل صديق حميم وَمَا زَالَ فِي دولاب حصاره حَتَّى قضى مِنْهُ كل أوطاره فَوَضعه فِي السلسلة واستملى من أهل مَكَّة أَحَادِيث خلاعاته المسلسلة وصادف يَوْمئِذٍ دُخُول الشريف زيد بن المحسن الى مَكَّة عقيب موت وَالِده فنصبه الباشا فِي دست أَبِيه المكلوم وخلع عَلَيْهِ الخلعة الَّتِي وصل بهَا من الرّوم ثمَّ انْفَصل بالشريف أَحْمد تِلْقَاء الْأَبْوَاب وتوهم أَن دُخُوله حَيا سويا مِمَّا سيدخل لَهُ فِي حِسَاب فَلَمَّا ضرب بِهِ قَارِعَة الطَّرِيق تبعه جمَاعَة من أَصْحَابه يُرِيدُونَ إستنقاذه من يَد الباشا فَأَشَارَ بعض الْحَاضِرين بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع أياس أَصْحَاب الشريف إِلَّا بعد أَن يضْرب رَأسه ويبان وَيدخل فِي خبر كَانَ فَضرب الباشا عُنُقه فِي الْحَال وَرجع إِلَى الْأَبْوَاب وَقد قضى الأراب وَحل البند الْمَعْقُود وانقلب فِي االطالع المسعود هَكَذَا روى لي بعض من اتَّصل بالاشراف هَذِه الْقَضِيَّة وفيهَا زِيَادَة من غير طَريقَة والعهدة عَلَيْهِ

ص: 97

وَفِي أثْنَاء هَذِه الْأَيَّام نقل بَعضهم عَن الإِمَام أَنه أَرَادَ رفع يَد أَخِيه إِسْمَاعِيل عَن بِلَاد ضوران وريمة وَمَا إِلَيْهَا فَتغير خاطر أَخِيه إِذْ كَانَ الْعَزْل بِلَا سَبَب يَقْتَضِيهِ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال

وَفِي شهر رَجَب مِنْهَا توفّي الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بمحروس حصن شهارة وَاجْتمعَ عِنْد ذَلِك أَعْيَان النَّاس من آل الإِمَام وَغَيرهم وَاقْتضى رَأْي وَصِيّ الإِمَام القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن سعد الدّين أَن المهم أَن لَا يوارى الإِمَام حَتَّى ينظر فِيمَن يخلفه فِي الْأَنَام خشيَة مِمَّا يدعوا إِلَى النزاع وحسما لعروق الأطماع فأجمع رَأْيه مَعَ مُلَاحظَة آراء أَكثر النَّاس أَن يعقدوا لصنوه الإِمَام السَّيِّد صفي الدّين أَحْمد بن الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ فَفَعَلُوا ذَلِك ثمَّ واروا الإِمَام

وَكَانَ الْمُؤَيد ذَا سيرة حَسَنَة وَطَرِيقَة مستحسنة ملاحظا لتوظيف النَّاس على قدر مَرَاتِبهمْ قريب الجناب شرِيف الْخطاب لَا ينْقض لَهُ مَعْلُوم وَلَا ينْسَخ لَهُ مرسوم كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَخَوَاهُ الحسنان فَكَانَت الأرزاق فِي وقته هامية والبركات ببركته نامية وَكَانَ على مَذْهَب حَده الْهَادِي عليه السلام إِلَّا أَنه كَانَ لَا يُورث ذَوي الْأَرْحَام وَيَأْخُذ الزَّكَاة من الْقَلِيل وَالْكثير ويجيز صرف زَكَاة

ص: 98