الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
؟
باب حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنساً بعد حصر أقسام الأنواع منه والأجناس كقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر " الآية فإنه سبحانه تمدح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد حاصراً لجرئيات المولدات ورأى أن الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح، لاحتمال أن يظن ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، فقال لكمال التمدح " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وعلم أن علم ذلك يشاركه فيه من مخلوقاته كل ذي إدراك، فتمدح بما لا يشارك فيه، فقال:" ولا حبة في ظلمات الأرض " ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال: " ولا رطب ولا يابس " لأن جميع المولدات لا تخرج عن هذين القسمين، وتنظم إليها الأمهات التي هي العناصر الأربع التي تولدت منها المولدات، ثم قال: " إلا في كتاب
مبين " إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مقيد في كتاب مبين فهو يأمن الضلال والنسيان كما قال: " علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ومثل هذا التمدح قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " فإنه سبحانه لما تمدح بعلم الغيب، وعلم أن التمدح بذلك على انفراده لا يحصل به كمال التمدح، فقال: " والشهادة " لأن علم الغيب بالنسبة إلينا علم كلي، وعلم الشهادة بالنسبة إلينا علم بالجزئيات، والاقتصار على علم الغيب يوهم بعض الضعفاء أنه لا يعلم من المشاهدات ما يعلمه، فكان التمدح بعلم الشهادة أبلغ، ولذلك شاع الانتقال إليه.
وكقول الشاعر طويل:
إليك طوى عرض البسيطة جاهل
…
قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
وكنت وعزمي في الظلام وصارمي
…
ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى
…
ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
والبيت الأخير أردت، فإن هذا الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصده فيها، ومدح يومه الذي لقيه فيه، فجعل الممدوح جميع الورى والدار التي لقيه فيها الدنيا، واليوم الذي رآه فيه الدهر
فجعل الجزئي كلياً بعد حصر أقسام الجزئي، أما جعله الجزئي كلياً فلأن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر، وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، فقد حصر ذلك.