الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القسم
وهو أن يريد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحاً، وما يكسبه فخراً، أو ما يكون هجاء لغيره، وأو ويعداً له، أو جارياً مجرى التغزل والترقق.
فأما الأول فمثاله قول الأشتر النخعي كامل:
بقيت وفرى وانحرفت إلى العلا
…
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة
…
لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وأبيات الأشتر تضمنت فخراً له، ووعيداً لغيره، فحصل فيها الأفتان مقترناً بالقسم، وكقول أبي على البصير كامل:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملى
…
وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها
…
قدما من الإتلاف والإخلاف
وصحبت أصحابي بعرض معرض
…
متحكم فيه ومال واف
وغضضت من نارى ليخفي ضوؤها
…
وقريت عذراً كاذباً أضيافي
وإن لم أشن على علي خلة
…
تضحى قذى في أعين الأشراف
وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدح مدحاً، كقول القائل كامل:
آثار جودك في الخطوب تؤثر
…
وجميل بشرك بالنجاح يبشر
إن كان لي أمل سواك أعده
…
فكفرت نعمتك التي لا تكفر
وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر طويل:
جنى وتجنى والفؤاد مطيعه
…
فلا ذاق من يجني عليه كما يجني
فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي
…
فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
ومما جاء في الغزل من القسم قول ابن المعتز بسيط.
لا والذي سل من جفنيه سيف ردى
…
قدت له من عذارية حمائله
ما صارمت مقلتي دمعاً ولا وصلت
…
غمضاً ولا سالمت قلبي بلابله
وهذا أحسن ما وقع في الغزل من القسم، إذ القسم والمقسم عليه كله داخل في باب الغزل.
ومن أحسن ما سمعت في القسم على المدح قول ابن خرداذبة طويل:
حلفت بمن سوى السماء وشادها
…
ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في المعقول من غير رؤية
…
بأثبت من إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع
…
عقائل لم تعقل لهن ثوان
لتقبيل أفواه وإعطاء نائل
…
وتقليب هندي وحبس عنان
وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز، انتهيت إلى نهاية البلاغة.
ومنه قوله تعالى: " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فإنه قسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة، وأكمل عظمة للحاصل من ربوبية السماء والأرض، وتحقق الوعد بالرزق، حيث أخبر سبحانه أن الرزق في السماء، وأنه رب السماء، فيلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره، فعلم أن لا رازق سواه، وأنه لا يحرم رزقه من خلقه، وأما ما حصل من الإيغال إذ قال في الفاصلة سبحان بعد تمام المعنى:" مثل ما أنكم تنطقون " فمثل هذا الوعد بما هو واقع معلوم ضرورة لا يرتاب منها أحد، وكقوله تعالى:" لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف الناس عظمته عنده، ومكانته لديه سبحانه، وأخبره بعد القسم بحياته أن المعرضين عنه في سكرتهم تسلية له، كما قال له في غير موضع:" ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " وقوله: " قد
نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "، وهذه نهاية المحبة وغاية الملاطفة، إذ فداه بآيته، وقد كانوا كذلك، فإنه روى أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به " والله أعلم.