الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المشاكلة
وهي أن يأتي المتكلم في كلامه أو الشاعر في شعره باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فصاعداً من البيت الواحد، وكذلك الاسم في كل موضع من الموضعين مسمى غير الأول، تدل صيغته عليه بتشاكل إحدى اللفظتين الأخرى في الخط والفظ، ومفهومهما مختلف، ومن انشادات التبريزي في هذا الباب قول أبي سعيد المخزومي مديد:
حدق الآجال آجال
…
والهوى للمرء قتال
وأنشد فيه قول الشماخ بسيط
كادت تساقطني والرحل أن نطقت
…
ورقاء حين دعت ساقاً على ساق
وقال التبريزي: فلفظة الآجال الأولى أسراب البقر الوحشية، والثانية منتهى الأعمال، وبينهما مشاكلة في الخط واللفظ، وكذلك ساق الأولى التي هي ذكر الحمام، والثانية التي هي ساق الشجرة، وعندي أن
ما أنشده التبريزي في هذا الباب داخل في أحد قسمي التجنيس المماثل، والذي ينبغي أن تفسر به المشاكلة قولنا: إن الشاعر يأتي بمعنى مشاكل لمعنى في شعر غير ذلك الشعر، أو في شعر غيره بحيث يكون كل واحد منهما وصفاً أو نسباً أو غير ذلك من الفنون، غير أن كل صورة أبرز المعنى فيها غير الصورة الأخرى، فالمشاكلة بينهما من جهة الغرض الجامع لهما، والتفرقة بينهما من جهة صورتيهما اللفظية، ومثال مشاكلة الشاعر نفسه قول امرئ القيس في صفة الفرس طويل:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وقوله في صفة الفرس أيضاً طويل:
إذا ما جرى شوطين وابتل عطفه
…
تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فامرؤ القيس في هذين البيتين قاصد وصف الفرس بشدة العدو، غير أنه أبرز المعنى الأول في صورة الإرداف، حيث قال: قيد الأوابد فجعله يدرك الوحش إدراك المطلق للمقيد، وأبرز الثاني في صورتي وصف
وتشبيه بغير أداة، إذ شبه عدوه بعد جريه شوطين، وعرقه بهزيز الريح تمر بهذا الشجر الذي يسمع للريح فيه هزيز كفيف الفرس الحاد إذا خرق الريح بشدة عدوه، فكل معنى من هذين المعنيين مشاكل لصاحبه إذ الجامع بينهما وصف الفرس بشدة العدو، غير أن قدرة الشاعر تلاعبت به، فأبرزته في صور مختلفة، فهذا ما شاكل الشاعر فيه نفسه.
وأما ما شاكل فيه غيره فكقول جرير بسيط
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله أركانا
فإن مشاكلة قول عدي بن الرقاع كامل:
وكأنها بين النساء أعارها
…
عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت
…
في عينه سنة وليس بنائم
فالمشاكلة بين الرجلين من جهة أن كلا منهما وصف العيون بالمرض والفتور، فأبرز معناه في صورة غير الصورة الأخرى بحسب قوة عارضته في السبك، وحسن اختياره الفظ، وجودة ذهنه في الزيادة والنقص في التفضيل بين هذين الشعرين: شعر جرير، وعدي، بحيث لا يسعه هذا المكان. وقد اعترض على بيت عدي الأول بما اعترض به على بيت أبي تمام الذي يقول فيه طويل:
جذبت نداه غدوة السبت جذبة
…
فخر صريعاً بين أيدي القصائد
فإن بعض الناس قال: ظباء جاسم كظباء غيرها من المواضع، فليس لذكرها فائدة إلا كونها قافية ليصير بها الكلام بيتاً من الشعر، كما أن غدوة السبت في بيت أبي تمام كغدوة الأحد وغيره من الأيام، فذكرها دون غيرها لا يفيد معنى زائداً، وإذا لم يفد معنى علم أنه حشو جئ به لإقامة الوزن، وقد اعترض على قول امرئ القيس طويل:
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
باعتراض ظاهره يشبه الاعتراض على بيتي عدي وأبي تمام، وباطنه يخالفهما، فإن ابن سنان الخفاجي خطأ أبا هاشم في كونه ذهب إلى أن بيت امرئ القيس معيب بالحشو الذي لا يفيد معنى، لأنه قال: صعبة، حشو أو لفظة، فذلت، وسب أبا هاشم أقبح سب، والصواب مع أبي هاشم، لأن الذي قاله الخفاجي يردي به عليه قوله لو قال الشاعر، فرضت فذلت لم يكن في الكلام دليل على أن ثم صعوبة، وهذا عين الخطأ من الخفاجي، لأنه دل على وجود الصعوبة مرتين بقوله: فرضت، وقوله: فذلت، إذ لا يراض إلا الصعب، ولا يذل إلا ما كان ذا صعوبة، ولو لم يكن ثم
صعوبة لكان قوله: فذلت، خطأ، لأن ما ليس بصعب فهو ذليل، إذ لا واسطة بين الذل والصعوبة، فبيت امرئ القيس معيب، بخلاف بيتي عدي وأبي تمام.
والرد على هذا المعترض الذي اعترض على بيتي عدي وأبي تمام بأن قال: ذكر عدي جاسم دون غيرها من المواضع لأنها معروفة بأدم الظباء، وأدمة اللون دليل على الحرارة واليبس، وذلك يوجب شدة سواد العيون ونقاء بياضها، ولهذا قال: أحور، والحور نقاء بياض العين وشدة سوادها، وكذلك ذكر أبي تمام غدوة السبت وهو الوقت الذي وقعت فيه عطية الممدوح دليل على تعظيم العطية وتفخيم أمرها وجعلها من الغرائب التي لم يقع قبلها مثلها، فلأجل ذلك أرخ يوم وقوعها، وإذ لا يؤرخ إلا الكوائن العظام، والحوادث الجسام، ولو لم يذكر وقت وقوعها معيناً باسمه لم تحصل هذه المبالغات التي تزيد الممدوح مدحاً فدل على أنه قصد بها إفادة هذه المعاني، لا إقامة الوزن، ولو قصد إقامة الوزن فحسب، لما اقتصر على غدوة السبت دون غيرها مما يسد مسدها، فإنه لو قال:
جذبت نداه بالمدائح جذبة
استقام له الوزن، لو لم يكن أراد ما ذكرت، وقد عيب من هذا البيت قوله: جذبت نداه وما ناسبها من ألفاظ البيت، فإنهم قالوا: هذا دليل على أن نداه عسر على طالبه، صعب على محاوله، كما عابوا على ليلى الأخيلية قولها كامل:
ومخرق عنه القميص تخاله
…
بين البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته
…
تحت اللواء على الجيوش زعيما
وقالوا: لا يتحاج إلى أن يجذب لقضاء الحوائج حتى تتخرق قميصه إلا متقاعد عن الحوائج، وهذا الاعتراض غير جار على طريق الحق، فإن المعطي لا بد وأن يعطى بسبب من نفسه عشقاً في العطاء، فلا يحتاج إلى أحاديث تجذبه، وإما أن يعطي بسبب من خارج، والأول مطاوع لغرض نفسه، مسكن لغليل قلبه، ليست عليه مشقة في عطية، والأجر على قدر المشقة، وقد تقدم ذكر هذا الفصل، ونحن هاهنا مفتقرون إلى إعادته، والمشكور كل الشكر من غالب نفسه الأمارة، وأرغم أنف شيطانه، وأعطى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن المتصدق لا يخرج الصدقة حتى يفكها من لحيي سبعين شيطاناً " أو كما قال، وقال صلى الله عليه وسلم " إنما الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر، وتأمل الغنى "، وخير المعطين من كان السبب الذي يجذبه إلى العطاء، سماع المدح والثناء، فقد ثبت أن بيتي عدي وأبي تمام مبرآن مما وسما به من العيب، وكذلك بيت الأخيلية، وهو يزيد عليهما بما تضمن من وصف الممدوح بالصبر على أذى أرباب الحوائج، والرضا من العيش بأدنى ملبس وأدنى عيش، مع القدرة التي دلت عليها بقولها:
............ رأيته
…
تحت اللواء على الجيوش زعيما
فلزم من ذلك أن لذته في اقتناء المحامد، لا في انتخاب الملابس، وما قيل إنه أحوج ذوي الحاجات إلى تخريق قميصه مدفوع بوصفها الممدوح
بإفراط الحياء، فإن من كان بهذه المثابة كان أسرع إلى قضاء الحوائج للمحتاجين حال رؤيتهم، ويحمل تخريق القميص إما على كثرة المطالبين، وازدحام المحتاجين، أو على ما قدمناه من الرضا بأدنى العيش، والله أعلم.