الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: شروط الركعة التي تدرك بها الجمعة
لقد اشترط الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بأن الجمعة لا تدرك إلَاّ بركعة شرطين في هذه الركعة:
أحدهما: أن يدرك ركوعها؛ لأن الركعة لا تدرك إلَاّ بإدراك الركوع، ثم هناك شروط للركوع الذي يدرك به الركعة، وقد مر الكلام عليها في أول البحث عند الكلام على إدراك الركعة (1) .
الشرط الثاني: أن يدرك السجدتين أيضاً مع الإمام وقد جاء هذا الشرط مصرحاً به عند المالكية (2) والشافعية
(3)
، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد (4) .
ووجهه: أن من لم يدرك السجدتين أيضاً فهو لم يدرك ركعة كاملة فلا يكون مدركاً للجمعة (5) .
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله أنه لا يشترط أن يدرك السجدتين (6) .
ووجهه: أنه قد أحرم بالصلاة مع الإمام في أول ركعة أشبه ما لو ركع
(1) انظر: ص 309.
(2)
حاشية الدسوقي 1/320.
(3)
الحاوي للماوردي 2/437، والمجموع 4/556.
(4)
مختصر الخرقي مع المغني 3/183، والمغني 3/185 وما بعدها.
(5)
المغني 3/186.
(6)
المرجع السابق 3/185.
وسجد معه (1) .
ويُمكن أن يناقش: بأن النبي صلى الله عليه وسلم علق إدراك الجمعة على إدراك ركعة كاملة مع الإمام ومن أدرك الركوع وفاته السجود لم يكن مدركاً للركعة كاملة مع الإمام فتفوته الجمعة.
ولذا فيترجح لي - والله أعلم - القول الأول؛ ولأن الأخذ به أحوط؛ لأنه إذا لم يكن مدركاً للجمعة وصلى الظهر أربعاً فقد أدّى الفرض بيقين.
وبناءً على هذا الشرط فإن من أدرك الركوع مع الإمام وفاته السجود لم يخل إمَّا أن يكون فاته حقيقة لعذر من زحام أو غفلة أو نوم غير ناقض للوضوء ونحو ذلك، أو يكون قد شك في إدراك إحدى السجدتين أو تذكر أنها فاتته.
فأمَّا إن علم في الركعة الثانية أنه ترك إحدى السجدتين من الركعة التي أدركها مع الإمام أو شكّ في تركها فقد اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن جمعته لا تصح، وهو المعتمد عند المالكية (2) ، وهو قول الشافعية (3) ، وهو قياس الرواية الثانية عن الإمام أحمد في المزحوم إذا لم يسجد إلَاّ بعد سلام الإمام أن الركعة تفوته (4) .
وعلى هذا فيتمها ظهراً لكن يرى المالكية أنه إن تذكر السجدة قبل أن يركع في التي بعدها، أو بعد أن ركع ولم يرفع رأسه منها فعليه أن يرجع ويسجد السجدة التي بقيت عليه.
(1) المرجع السابق.
(2)
حاشية الدسوقي 1/320، وفي التاج والإكليل 2/344 ذكر المازري: أن حكم الشاك في ترك سجدة كحكم الموقن بتركها في وجوب إتيانه بها.
(3)
الحاوي للماوردي 2/437، والمجموع 4/556 وما بعدها.
(4)
المغني 3/189.
أمَّا إذا لم يذكر إلَاّ بعد رفعه من الركوع فعليه أن يمضي في صلاته وتكون تلك الركعة هي أول صلاته ويلغي الركعة الأولى، ويسجد للسهو بعد السلام (1) .
ويوافق الشافعيةُ المالكيةَ في أنه إن ذكرها وهو قائم أو راكع في الثانية عاد وأتى بالسجدة (2) .
وذلك: لقوله- عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن عليه الصلاة"(3) .
ووجه الاستدلال منه:
أن من عليه شيء من الركعة الأولى لا تصح له الركعة الثانية؛ لأن عليه صلاة قبلها وهي الركعة الأولى.
ولأن عليه ترتيب الأفعال فتأتي الركعة الثانية بعد تمام الأولى (4) .
ويختلف الشافعية والمالكية فيمن ذكر سجدة من الأولى وهو في التشهد، فعند المالكية يلغو ما فعله في الأولى ويكون عمله فيها كلا عمل، وتكون الثانية هي الأولى (5) .
وعند الشافعية يكون عمله في الثانية ملغى كلا عمل إلَاّ سجدة يجبر بها الركعة الأولى ثم يقوم ويتم صلاته ويسجد للسهو قبل السلام (6) .
(1) التاج والإكليل مع مواهب الجليل 2/333، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1/297 وما بعدها.
(2)
الحاوي 2/219 وما بعدها.
(3)
أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/439 وقال: هذا حديث نسمعه على السنة الناس وما عرفنا له أصلاً، ونقل إنكار أحمد له، حديث رقم [750] .
(4)
الحاوي 2/219 وما بعدها.
(5)
انظر: الكافي لابن عبد البر ص 60، والتاج والإكليل 2/333.
(6)
الحاوي 2/221، والمجموع 4/556.
ووجهه: أن قيامه إلى الثانية قبل كمال الأولى يبطل ما فعله في الثانية من قيام وركوع ولا يحتسب له بشيء منه حتى يأتي بما عليه من سجود الركعة الأولى فوجب إذا سجد في الثانية أن يكون سجوده فيها مصروفاً إلى الركعة الأولى لبطلان ما سواه من القيام والركوع (1) .
القول الثاني: إن علم بفوات سجدة من الركعة الأولى أو شكّ هل سجد سجدة واحدة أو اثنتين فإن كان ذلك قبل أن يشرع في قراءة الثانية رجع فسجد للأولى فأتمها وقضى الثانية وتمت جمعته، وإن كان قد شرع في قراءة الثانية بطلت الأولى وصارت الثانية أولاهُ ويتمها جمعة أيضاً، وهذا قول الحنابلة ونص أحمد رحمه الله في رواية الأثرم أنه إن تذكر في الثانية ترك سجدة من الأولى ولم يكن شرع في القراءة أنه يرجع ويسجد للأولى فيتمها ويقضي الثانية وتتم جمعته (2) .
ووجهه:
1 -
القياس على المزحوم في الجمعة إذا زال الزحام والإمام راكع في الثانية فإنه يتبعه ويسجد معه، ويكون السجود من الثانية دون الأولى (3) .
ويُمكن أن يناقش: بأنه قياس على مختلف فيه، ولا يصح القياس على مختلف فيه (4) .
2 -
أنه إذا لم يذكر السجدة إلَاّ بعد الشروع في قراءة الركعة الثانية فقد ترك ركناً وتعذر استدراكه لتلبسه بالركعة التي بعدها فتلغوا الركعة التي ترك منها الركن وتصير التي شرع فيها عوضاً عنها، بخلاف ما لو ذكره قبل
(1) المرجع السابق 2/221.
(2)
المغني 3/189، والكافي 1/219، 166.
(3)
المغني 2/425.
(4)
انظر الخلاف في: الحاوي 2/416 وما بعدها.
الشروع في القراءة فيلزمه العود؛ لأن القيام غير مقصود في نفسه إذ لايلزم منه إلَاّ قدر القراءة الواجبة وهي المقصودة (1) .
والراجح في نظري - والله أعلم - أن من علم بترك السجود وهو في الركعة الثانية لا يكون مدركاً للركعة كاملة مع الإمام لما مرّ من أنه يشترط أن يدرك السجدتين أيضاً مع الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق إدراك الصلاة على إدراك ركعة مع الإمام، والظاهر أنها ركعة كاملة ولا تكون كاملة إلَاّ إذا أدرك معه السجدتين، والله أعلم.
واختلفوا في كيفية عوده على ثلاثة أقوال:
الأول: أن عليه أن يعود فيجلس ثم يسجد سواء جلس قبل قيامه أم لا، وهو قول مالك في سماع أشهب، وهو القول المعتمد عند المالكية (2) ، وأحد الأوجه الثلاثة عند الشافعية (3) .
ووجهه: القياس على السعي فلا يجوز إلَاّ عقيب طواف، فلو طاف وصبر زماناً ثم أراد السعي لم يجز حتى يستأنف الطواف، ثم يعقبه السعي فكذا السجدة الثانية لا تصح إلَاّ عقيب جلوس (4) .
ويُمكن أن يناقش: بأن الطواف عبادة مستقلة يشرع تكرارها بخلاف الجلوس بين السجدتين.
الثاني: ليس عليه أن يجلس بل ينحط من فوره ساجداً مطلقاً سواء جلس قبل قيامه أم لا وهو قول عند المالكية ورواه أشهب عن مالك (5) ، وهو الوجه
(1) كشاف القناع 1/402 وما بعدها.
(2)
حاشية الدسوقي 1/298.
(3)
الحاوي 2/219 وما بعدها.
(4)
المرجع السابق.
(5)
حاشية الدسوقي 1/298.
الثاني عند الشافعية (1) .
ووجهه: أن الجلسة غير مقصودة في نفسها، وإنَّما أزيدت للفصل بين السجدتين والقيام فاصل بينهما ونائب عن الجلسة (2) .
ويُمكن أن يناقش: بعدم التسليم بأنها غير مقصودة في نفسها بل هي مقصودة بدليل أنه لو قام بعد السجدة الأولى عامداً ثم سجد الثانية يكون تاركاً لركن من أركان الصلاة (3) .
الثالث: أنه إن كان قد جلس قبل قيامه انحط ساجداً من فوره من غير جلوس وإن لم يكن قد جلس عاد فجلس ثم سجد، وهو قول عند المالكية (4) ، وهو ظاهر مذهب الشافعي وصححه في الحاوي (5) ، وهو قول الحنابلة (6) .
ووجهه: أن هذه الجلسة ركن في الصلاة مقصود لقوله صلى الله عليه وسلم: " ثم اجلس حتى تطمئن جالساً "(7) .
فإذا كان قد فعله لم يلزمه إعادته كسائر أركان الصلاة (8) .
وهذا هو الراجح إن شاء الله، وذلك لعدم سلامة ما استدل به للقولين
(1) الحاوي 2/220.
(2)
الحاوي 2/220.
(3)
الكافي لابن قدامة 1/165، والمغني 2/423.
(4)
حاشية الدسوقي 1/298.
(5)
الحاوي 2/220.
(6)
المغني 2/423، والكافي 1/165.
(7)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها 1/184، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
…
حديث [397] 1/298.
(8)
الحاوي 2/220.
السابقين؛ ولأنّ الجلسة بين السجدتين ركن فمن أتى به لم يأت به مرة أخرى ومن لم يأت به كان عليه أن يأت به، والله أعلم.
الصورة الثانية: أن يعلم أنه ترك سجدة لكنه لم يعلم من أي الركعتين:
إذا علم المصلي أنه ترك سجدة ولم يعلم من أي الركعتين فقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الجمعة لا تدرك إلَاّ بركعة على قولين:
القول الأول: أنه يجعلها من الأخيرة فيسجد في الحال ثم يقوم ويأتي بركعة.
وهذا قول ابن القاسم (1) ، وقياس قوله في المزحوم أن الجمعة تفوته (2) .
ووجهه: أنه إذا سجد أيقن أنه قد أتم الركعة الأخيرة (3) .
ووجه إتيانه بركعة هو: جواز أن يكون النقص من التي قبلها ومن شك في ترك السجدة فحكمه كحكم الموقن بتركها في وجوب إتيانه بها (4) .
القول الثاني: أنه يجعلها من الأولى ويأتي بركعة مكانها، وهو قول الشافعية (5) والحنابلة (6) ، وهو قول أشهب من المالكية (7) .
ووجهه: أن الشاك يبني على اليقين، واليقين هنا أن يجعل النقص من الأولى (8) .
ثم اختلفوا هل يتمها ظهراً أو جمعة؟ .
(1) التفريع 1/248، والتاج والإكليل مع مواهب الجليل 2/343 وما بعدها.
(2)
ينظر: قوله في المزحوم في حاشية الدسوقي 1/320.
(3)
التفريع 1/248.
(4)
التاج والإكليل مع مواهب الجليل 2/344.
(5)
الحاوي 2/438.
(6)
المغني 3/189.
(7)
التفريع 1/248.
(8)
الحاوي 2/438.
فذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) في أحد الوجهين أنه يتمها ظهراً؛ لأنه لم يدرك السجدتين بيقين ومن شرط إدراك الجمعة إدراك الركعة بسجدتيها (3) .
والوجه الثاني عند الحنابلة أن يصليها جمعة قياساً على من شكّ هل سجد مع الإمام سجدة أو سجدتين وذكر ذلك في الركعة الثانية بعد شروعه في القراءة (4) ، وهو قياس قول أشهب في المزحوم (5) .
ويُمكن أن يناقش هذا القياس بأنه قياس على مختلف فيه وقد مرّ في الصورة الأولى ذكر الخلاف، وأنّ من الفقهاء من قال يرجع ويسجد ويكون حينئذٍ مدركاً للركعة وإن لم يرجع فليس بمدرك لها وقد فاتته الجمعة.
الترجيح:
يلاحظ بعد هذا العرض لأقوال الفقهاء في هذه المسألة أن الفقهاء متفقون على أن الركعة التي نسي سجدتها قد فاتت لكونه ترك منها ركناً لا يُمكن تداركه، واتفقوا على الأخذ باليقين، واليقين أن تكون الركعة المتروك منها سجدة هي الأولى.
واختلفوا: هل تصح جمعته أو لا بناءً على اختلافهم في أصل الشرط، فذهب ابن القاسم والشافعية وأحد الوجهين عند الحنابلة إلى أنها لا تصح جمعته.
والوجه الثاني أنها تصح، وهو قول أشهب ولم يسلم للحنابلة ما احتجوا به.
ولذا فالراجح في نظري - والله أعلم - هو القول الأول: أن جمعته لا
(1) الحاوي 2/438.
(2)
المغني 3/189.
(3)
الحاوي 2/438.
(4)
المغني 3/189، وقد مرت في الصورة الأولى.
(5)
انظر: حاشية الدسوقي 1/320.
تصح؛ لأنه لم يدرك السجدتين مع الإمام، والله أعلم.
أمَّا إن فاته السجود بسبب زحام ونحوه: فإن زال الزحام قبل أن يسلم الإمام سجد وتبعه وتصح الركعة، ويكون مدركاً للجمعة (1) ، وإن لم يزل الزحام حتى سلم الإمام فيسجد بعد سلام الإمام، وهذا رأي المالكية والحنابلة.
لكن هل يكون مدركاً للجمعة إذا سجد بعد سلام الإمام؟ فيه خلاف على قولين:
الأول: أنه يكون مدركاً للركعة فهو كمن سجد مع الإمام، وهو قول أشهب، ورواية عن أحمد.
والثاني: لا يكون مدركاً للركعة، ولاتصح جمعته، وهو قول ابن القاسم، ورواية ثانية عن أحمد (2) ، وقول الشافعية
(3)
.
والثاني أولى في نظري؛ لأنه لم يدرك ركعة كاملة مع الإمام فالأحوط أن يصليها ظهراً؛ لأن صلاته ظهراً يكون بذلك أدّى الفرض، ولو صلاها جمعة لاحتمل أن لا تصح جمعة، كما لا تصح ظهراً فخروجاً من عهدة الواجب بيقين يصليها ظهراً، والله أعلم.
(1) حاشية الدسوقي 1/320، وبلغة السالك 1/153، ونهاية المحتاج 2/354، ومغني المحتاج 1/299، والمغني
3/188.
(2)
حاشية الدسوقي 1/320، والمغني 3/188 وما بعدها.
(3)
نهاية المحتاج 2/355، ومغني المحتاج 1/299.