الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون لوناً ونحو ذلك من الخيالات التي يعارضون بها النصوص الصريحة الصحيحة.
وأما الأشاعرة: فإن طريقتهم في الرؤية طريقة فيها تذبذب، فليسوا مع المعتزلة ولا مع أهل السنة، فهم يقولون: إن الله يُرى لا في جهة، لا من فوق، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا من أمام، ولا غير ذلك من الجهات، وبهذا أضحكوا عليهم العقلاء، وفتحوا الباب على المعترضين عليهم؛ إذ أنهم يثبتون رؤية لا حقيقة لها ولا معنى، وإذا حُقق مذهبهم: تبين أنهم لا يثبتون الرؤية، لأن ما أثبتوه منها غير معقول.
فصل
في القضاء والقدر
ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيءٌ إلا بإرادته، ولا يخرج شيءٌ عن مشيئته، وليس في العالم شيءٌ يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، قال الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]، وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره))، قال: صدقت. انفرد بإخراجه مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره))، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسنَ بن علي يدعو به في قنوت الوتر:((وقني شر ما قضيت)).
الشرح
القضاء يطلق على عدة معانٍ، ومنها: الحُكْم.
وأما القدر: فهو التقدير.
وكل منهما يطلق على اسم المفعول، فيطلق القضاء على المقْضِيِّ، والقدر على المقدَّر، فتقول عن الشيء الواقع الذي حدث: هذا قَدَرٌ الله. وتقول: هذا قضاء الله؛ أي: ما حكم به سبحانه وتعالى.
والإيمان بالقدر أصلٌ من أصول الإيمان العظيمة؛ كما في حديث عمر رضي الله عنه في حديث جبريل عليه السلام، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أن تؤمن بالقدر خيره وشره)).
والإيمان بالقدر يتضمن أربع مراتب:
1.
الإيمان بعلم الله السابق بكل شيءٍ.
2.
والإيمان بكتابته سبحانه لمقادير الأشياء كلها.
3.
والإيمان بعموم مشيئته تبارك وتعالى.
4.
والإيمان بأن الله خالق كل شيءٍ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فالإيمان بالقدر لابد أن يشتمل على هذه الأصول والمراتب الأربع، وعلى هذا فكل ما في هذا الوجود فهو بقدر الله، وهو حاصل بتقديره، وتدبيره، وقضاءه، وحكمه، كما قال الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فلا يكون في هذا الوجود شيءٌ إلا ما شاءه سبحانه وتعالى، فلا خروج لشيء عن مشيئته، وعن تقديره، وعن تدبيره، ولا يمكن لأحد أن يتجاوز الأمر المقدور، فالله قدَّر أحوال العباد وأعمالهم، وقدر أرزاقهم، وسعادتهم وشقاوتهم، وآجالهم، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) (1).
قوله: ((ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد)): كما في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وقوله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
قوله: ((لا يكون شيءٌ إلا بإرادته)): أي: إرادته الكونية.
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7454)، ومسلم في صحيحه برقم (2643).
قوله: ((ولا يخرج شيءٌ عن مشيئته)): والمشيئة مرادفة للإرادة الكونية.
والإرادة إرادتان:
- الإرادة العامة، وهي التي بمعنى: المشيئة، وتُسمى: الإرادة العامة، أو الإرادة الكونية، وهذا النوع من الإرادة لا يستلزم المحبة، بل تشمل ما يحبه الله، وما يسخطه.
ومن أدلة هذا النوع من الإرادة؛ قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]، وقوله تعالى:{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، إلى غير ذلك من الأدلة.
- الإرادة الشرعية: وتأتي هذه الإرادة متضمنة للمحبة، ومستلزمة لها، ومختصة بها.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:158]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال:67].
قوله: ((وليس في العالم شيءٌ يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره)): فكل ما في هذا الكون، وما في هذا الوجود؛ يسير بتقدير الله وتدبيره.
قوله: ((ولا محيد لأحد عن القدر المقدور)): كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنه: ((واعلم أن الأمة لو
اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) (1)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) (2).
قوله: ((ولا يُتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العباد فاعلوه)): فالله تعالى أراد أفعال العباد، وشاء أعمالهم كلها، طاعاتهم ومعاصيهم، فكل ما يعمله العباد فهو بمشيئة الله وتقديره.
قوله: ((ولو عصمهم لما خالفوه)): فلو عصمهم عن جميع المخالفات لما وقعوا فيها، لأنه لا خروج لشيء عن حكمه ومشيئته.
قوله: ((ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه)): كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99]، وكما في قوله:{لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وكما في قوله:{وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:31].
قوله: ((خلق الخلق وأفعالهم)): فالله جل وعلا خلق العباد، وخلق قدرتهم وإرادتهم، وخلق أفعالهم أيضاً، كما قال الله
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (2669)، والترمذي في جامعه برقم (2516).
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (21589)، وأبو داود في سننه برقم (4699)، وابن ماجه في سننه برقم (77)، من حديث أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم موقوفاً عليهم، وأما زيد بن ثابت رضي الله عنه فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال جل وعلا:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، لكنه يخلق الأسباب، ويخلق بالأسباب.
خلافاً للقدرية؛ الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه.
قوله: ((وقدَّر أرزاقهم وآجالهم)): والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة، كما في قوله سبحانه:{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، وكما قال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، وكما في قوله:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]، فالله سبحانه وتعالى قد ضرب للعباد آجالاً مقدَّرة معلومة، لا يتأخرون عنها ولا يتقدمونها، وكما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق.
قوله: ((يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته)): فهو يهدي من يشاء بفضله ورحمته وحكمته، ويضل من يشاء بحكمته وعدله، فله الحمد على كل حال، والنصوص الدالة على هذا كثيرة، فمنها قوله تعالى:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125].
قوله: (({لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23])): وذلك لكمال حكمته سبحانه، وليس ذلك لقوته وعظمته وملكه، بل لكمال حكمته وتمامها، بل هو الحكيم -سبحانه- الذي له الحكمة البالغة.
ولكن العباد يُسألون عن أعمالهم، كما قال الله جل وعلا:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
قوله: ((قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49])): وهذه الآية العظيمة من أدلة إثبات القدر، ومعناها: إنا خلقنا كل شيءٍ بقدر، فـ (كُلَّ): مفعول به منصوب، وناصبه: فعل محذوف دل عليه الفعل المذكور، ويُسمى هذا النوع في علم النحو:(الاشتغال)(1).
قوله: ((وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2])): وجعل له قدْراً، كما في الآية الأخرى:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3].
قوله: ((وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22])): نبرأها: أي نوجدها.
فما يقع في الأرض ولا في النفوس من مصيبة إلا وهي مكتوبة قبل وجودها.
قوله: ((وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125])): فمن أراد الله به الخير نور قلبه، وشرح صدره، كما قال سبحانه:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، وإذا أراد الله
(1) ينظر أوضح المسالك شرح ألفية ابن مالك لابن هشام (2/ 141).
إضلال العبد جعل صدره ضيقاً حرجاً، فلا ينشرح لقبول الحق، نسأل الله السلامة والعافية.
قوله: ((وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره))، قال: صدقت. انفرد بإخراجه مسلم (1))): هذا الحديث: قطعة من حديث جبريل الطويل، وفيه ذِكرٌ لأركان الإيمان، والشاهد منه قوله:((تؤمن بالقدر خيره وشره))، أي: تؤمن أن الله قدَّر مقادير الأشياء كلها، خيرها وشرها.
أما تقديره وتدبيره وحكمه سبحانه: فكله خير، فله الحكمة البالغة في خلقه لهذه الأضداد.
قوله: ((وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره)) (2).
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسنَ بن علي يدعو به في قنوت الوتر: ((وقني شر ما قضيت)) (3))): هذه
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (8).
(2)
أورده الحاكم بهذا اللفظ مسنداً مسلسلاً في معرفة علوم الحديث (ص 178)، والذهبي أيضاً في السير (8/ 287)، وقال:((وهو كلام صحيح، لكن الحديث واهٍ؛ لمكان الرقاشي)).
(3)
رواه أحمد في مسنده برقم (1718)، وأبو داود في سننه برقم (1425)، والترمذي في جامعه برقم (464) وقال:((هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر شيئاً أحسن من هذا))، ورواه النسائي في سننه برقم (1745)، وابن ماجه في سننه برقم (1178)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 172).