الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَلُ
فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
إنَّ فَضَائِلَ وشَمَائِلَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وكَلامِ السَّلَفِ، أكْثَرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ وأشْهَرُ مِنْ أنْ تُذْكَرَ؛ فَهَذِهِ المَكْتَبَةُ الإِسْلَامِيَّةُ مَلِيْئَةٌ بِكُتُبِ فَضَائلِهِم وشَمَائِلِهِم ومَنَاقِبِهِم وسِيَرِهِم، وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلى أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ وللهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ، وبِهِ التَّوفِيْقُ والعِصْمَةُ (1).
(1) ومِنَ الكُتُبِ الَّتِي سَاهَمَتْ في تَرَاجُمِ وفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بعَامَّةٍ: «فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ» للإمَامِ أحْمَدَ، و «مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ» لابنِ مَنْدَه، و «الاسْتِيْعَابُ» لابنِ عَبْدِ البَرِّ، و «أُسُدِ الغَابَةِ» لابنِ الأثِيْرِ، وغَيْرُها كَثِيْرٌ، ومِنْ آخِرِها «الإصَابَةُ في تَمْيِيْزِ الصَّحَابَةِ» لابنِ حَجَرٍ، وهو مِنْ أجْمَعِها وأنْفَعِها تَحْقِيْقًا وتَدْقِيْقًا، تَحْرِيْرًا وتَمْيِيْزًا إلَاّ أنَّه رحمه الله لم يُكْمِلْه بِشَكْلِه النِّهائِي، لأنَّه خَصَّصَ بابًا للمُبْهمَاتِ في آخِرهِ ولم نَرَه فِيْهِ!، كما أنَّه في حَاجَّةٍ مُلِحَّةٍ لتَحْقِيْقِه تَحْقِيْقًا عِلْمِيًّا؛ لاسِيَّما أنَّ مَخْطُوطَاتِه مَوْجُوْدَةٌ، كُلُّ ذَلِكَ نُصْرَةً لأصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبِرًّا لابنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
إلَاّ أنَّنا أحْبَبْنا أنْ نَقِفَ بالقَارِئ الكَرِيْمِ على بَعْضِ ما ذُكِرَ في فَضَائِلِهِم بِعَامَّةٍ، أمَّا ذِكْرُ ما وَرَدَ في فَضَائلِهِم على وَجْهِ الخُصُوصِ فَلَمْ نُشِرْ إِليْهِ؛ لأنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ بَحْثِنَا؛ اللَّهُمَّ مَا كَانَ مِن ذِكْرِ فَضَائِلِ: مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ الكَلامَ حَوْلَهُ قَدْ أَخَذَ مَنْحَىً آخَرَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ والبِدَعِ، وعَلَيْهِ تَأَثَّرَ بَعْضُ المُسْلِمِيْنَ بِهِ إمَّا جَهْلاً، وإمَّا سُوْءَ طَوِيَّةٍ عَيَاذًا بِاللهِ!
أَمَّا فَضْلُ الصَّحَابَةِ بِعَامَّةٍ فَهَاكَ طَرَفًا مِنْهَا، عَسَانِي أُطَرِّبُ (1) سَمْعَكَ، وأُثْلِجُ صَدْرَكَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى:
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
فَهَذِهِ الآيَةُ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَبْلَغِ الثَّنَاءِ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ عَلَى السَّابِقِيْنَ الأوَّلِيْنَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ والتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ،
(1) أطْرَبَ الآذَانَ أو أمْتَعَها، لا شَنَّفَها اعْتِمادًا عَلى ما يَدُوْرُ عَلى ألْسِنَةِ الأُدَباء، ومَا تُحَبِّره أقْلامُهُم!، لأنَّ الشَّنَفَ: هُو ما عُلِّقَ في أعْلَى الأذُنِ، أي القُرْطُ الأعْلَى. انْظُرْ «مُعْجَمَ الأغْلاطِ اللُّغَوِيَّةِ «لمحَمَّدٍ العَدْنانيِّ (356).
حَيْثُ أَخْبَرَ تَعَالَى أنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم، ورَضُوْا عَنْهُ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِم وأكْرَمَهُم مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، والنَّعِيمِ المُقِيمِ خَالِدِيْنَ فِيهَا أبَدًا، وقَد خَسِرَ نَفْسَهُ بَعْدَ هَذَا مَنْ مَلأ
قَلْبَه بِبُغْضِهِم، واسْتَعْمَلَ لِسَانَهُ في سَبِّهِم، والوَقِيعَةِ فِيْهِم عَيَاذًا بِاللهِ!
وَقَالَ الله تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} [النمل: 59]. وقَدْ أَطْبَقَ كَثِيْرٌ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ المُصْطَفِيْنَ هُنَا في الآيَةِ: هُم أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بَلْ هُم أوْلى النَّاسِ يَقِينًا بِهَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ.
قَالَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَبَرِيُّ رحمه الله: «(الَّذِينَ اصْطَفَاهُم) يَقُولُ: الَّذِينَ اجْتَبَاهُم لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَهُم أَصْحَابَهُ ووُزَرَاءهُ عَلَى الدِّيْنِ الَّذِي بَعَثَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيهِ دُوْنَ المُشْرِكِيْنَ بهِ الجَاحِدِيْنَ نُبُوَّةَ نَبِيِّهِم، ثُمَّ ذَكَرَ بِإسْنَادِهِ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ في تَّأوِيْلِ هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ اصْطَفَاهُم اللهُ لِنَبِيِّهِ» ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وابنِ المُبَارَكِ (1).
* * *
(1)«جَامِعُ البَيَانِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (20/ 2).
قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله؛ في مَعْرَضِ تَفْسِيْرِ هذه الآيَةِ: «قال طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هم أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا رَيْبَ أنَّهُم أفْضَلُ المُصْطَفِيْنَ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ» (1).
وقَالَ السَّفَّارِيْنِيُّ رحمه الله (1189)؛ في مَعْرَضِ تَفْسِيْرِ هذه الآيَةِ: «هُم أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» (2).
وهَذِه الآيَةُ كَذَلِكَ تَضَمَّنَتْ مَنْزِلَةَ الرَّسُوْلِ صلى الله عليه وسلم بالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَنَاءَ اللهِ تَعَالى فيها بالثَّنَاءِ على سَائِرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أجْمَعِيْنَ.
* * *
(1)«مِنْهاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (1/ 156).
(2)
«لَوامِعُ الأنْوارِ البَهِيَّةِ» للسَّفَّارِيْنِيِّ (2/ 384).
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ قَالَ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قُلْنَا لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوْعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَذَا الحَدِيْثُ قَدْ تَضَمَّنَ فَضِيْلَةَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم على وجْهِ العُمُوْمِ كما اشْتَمَلَ على بَيَانِ مَنْزِلَتِهِم ومَكَانَتِهِمُ العَالِيَةِ في الأمَّةِ وذَلِكَ بأنَّهُم في الأمَّةِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُوْمِ مِنَ السَّمَاءِ.
وعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» ، قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً؟
(1) أخْرجَهُ مُسْلِمٌ (4/ 196).
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويُنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
* * *
وقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ بَعْضَ الأحَادِيْثِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا: «وهذه الأحَادِيْثُ مُسْتَفِيْضَةٌ؛ بل مُتَوَاتِرَةٌ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ والثَّنَاءِ عَلَيْهِم، وتَفْضِيْلِ قَرْنِهِم على مَنْ بَعْدَهُم مِنَ القُرُونِ، والقَدْحُ فِيْهِم قَدْحٌ في القِرْآنِ والسُّنَّةِ» (2).
* * *
أمَّا ذِكْرُ فَضَائلِهِم عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَحَدِيْثٌ ذُو شُجُونٍ لا تَشْبَعُ مِنْهُ النُّفُوسُ.
فهَاكَ بَعْضَ ما قَالَهُ حَبْرُ الأمَّةِ تُرْجُمَانُ القُرْآنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: «إنَّ اللهَ ـ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وتَقَدَّسَتْ أسْمَاؤُهُ ـ خَصَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِصَحَابَةٍ آثَرُوْهُ على الأنْفُسِ والأمْوَالِ، وبَذَلُوا النَّفْسَ دُوْنَهُ في كُلِّ حالٍ، ووَصَفَهُم اللهُ في كِتَابِهِ فَقَالَ: {مُحَمَّدٌ
(1) أخْرجَهُ البُخارِيُّ (2/ 288)، ومُسْلِمٌ (4/ 1963).
(2)
«مَجْمُوعُ الفَتاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (4/ 430).
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29].
قامُوا بِمَعَالِمِ الدِّيْنِ، وناصَحُوا الاجْتِهَادَ لِلمُسْلِمِيْنَ حَتى تَهَذَّبَتْ طُرُقُهُ، وقَوِيَتْ أسْبَابُهُ وظَهَرَتْ آلاءُ اللهِ، واسْتَقَرَّ دِيْنُهُ وَوَضَحَتْ أعْلامُهُ، وأذَلَّ بِهِمُ الشِّرْكَ، وأزَالَ رُؤُوْسَهُ ومَحَا دَعَائِمَهُ، وصَارَتْ كَلِمَةُ اللهِ العُلْيَا، وكَلِمَةُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا السُّفْلَى، فَصَلَوَاتُ اللهِ ورَحْمَتُهُ وبَرَكَاتُهُ على تِلْكَ النُّفُوْسِ الزَّكِيَّةِ، والأرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ العَالِيَةِ، فَقَدْ كانُوا في الحَياةِ للهِ أوْلِيَاءَ، وكانُوا بَعْدَ المَوْتِ أحْيَاءَ (بِذِكْرِهِم)، وكانُوا لِعِبَادِ اللهِ نُصَحَاءَ، رَحَلُوا إلى الآخِرَةِ قَبْلَ أنْ يَصِلُوا إليْهَا، وخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وهُم بَعْدُ فِيْهَا» (1).
* * *
(1)«مُرُوجُ الذَّهَبِ ومَعَادِنُ الجَوْهَرِ» للمَسْعُوْدِيِّ (3/ 75).
ورَوَى ابْنُ بَطَّةَ بإسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: «مَنْ كان مِنْكُمْ مُسْتَنًا فلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فإنَّ الحَيَّ لا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الفِتْنَةُ، أُوْلَئِكَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ كانُوا واللهِ أفْضَلَ هذه الأمَّةِ، وأبَرَّها قُلُوْبًا، وأعْمَقَهَا عِلْماً وأقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْماً أخْتَارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وإقَامَةِ دِيْنِهِ، فاعْرِفُوا لَهُم فَضْلَهُم، واتَّبِعُوهُم في آثارِهِم، وتَمَسَّكُوا بِمَااسْتَطَعْتُم مِنْ أخْلاقِهِم ودِيْنِهِم؛ فإنَّهُم كانوا على الهُدَى المُسْتَقِيْمِ» (1).
ورَوَى أبُو نُعَيْمٍ الأصْبَهَانيُّ بإسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمْرَ رضي الله عنهما (2) نَحْو كلامِ ابنِ مَسْعُوْدٍ.
* * *
ورَوَى الإمَامُ أحَمْدُ بإسْنَادِهِ إلى قَتَادَةَ بنِ دُعَامَةَ أنَّهُ قال: «أحَقُّ مَنْ صَدَّقْتُمْ أصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِيْنَ اخْتَارَهُم اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وإقامَةِ دِيْنِهِ» (3).
قَالَ الإمَامُ أبُو زُرَعَةَ رحمه الله: «إذا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أحَدًا مِنْ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاعْلَمْ أنَّهُ زِنْدِيْقٌ، وذَلِكَ أنَّ الرَّسُوْلَ
(1) انظُر «مِنْهاجَ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (1/ 166).
(2)
«حِلْيةُ الأوْلياءِ» (1/ 305 ـ 306)، وذَكَرهُ البَغَوِيُّ عَنِ ابنِ مَسْعُوْدٍ (1/ 214).
(3)
أخْرَجَهُ أحْمَدُ (3/ 134).
- صلى الله عليه وسلم عِنْدَنَا حَقٌّ، والقُرْآنَ حَقٌ، وإنَّمَا أدَّى إلَيْنَا هذا القُرْآنَ والسُّنَنَ أصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنَّمَا يُرِيْدُونَ أنْ يَجْرَحُوا شُهُوْدَنا لِيُبْطِلُوا الكَتَابَ والسُّنَّةَ، والجَرْحُ بِهِم أوْلى وَهُم زَنَادِقَةٌ» (1) رَوَاهُ الخَطِيْبُ، وابْنُ عَسَاكِرَ.
وقَالَ الفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ، وسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ انْتَقَصَ مُعَاوِيَةَ،
وعَمْرَو بْنَ العَاصِ أيُقَالُ لَهُ: رَافِضِيٌ؟ قال: «إنَّهُ لم يَجْتَرِئ عَلَيْهِمَا إلَاّ وله خَبِيْثَةُ سُوْءٍ، ما يُبْغِضُ أحَدٌ أحَدًا مِنْ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَاّ ولَهُ دَاخِلَةُ سُوْءٍ» (2).
* * *
وقَالَ العَلَاّمَةُ السَّفَّارِيْنِيُّ: «ولا يَرْتَابُ أحَدٌ مِنْ ذَوِي الألْبَابِ أنَّ الصَّحَابَةَ الكِرَامَ هُمُ الَّذِيْنَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبْقِ، واسْتَوْلَوْا على مَعَالِي الأمُوْرِ مِنَ الفَضْلِ والمَعْرُوْفِ والصِّدْقِ، فالسَّعِيْدُ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُم المُسْتَقِيْمَ، واقْتَفَى مَنْهَجَهُم القَوِيْمَ، والتَّعِيْسُ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيْقِهِم، ولم يَتَحَقَّقْ بِتَحْقِيْقِهِم
…
فلا مَعْرُوْفَ إلَاّ ما عَنْهُم عُرِفَ، ولا بُرْهَانَ إلَاّ بِعُلُومِهِم كُشِفَ، ولا سَبِيْلَ نَجَاةٍ إلَاّ ما سَلَكُوا، ولا
(1)«الكِفَايَةُ» للخَطِيْبِ البَغْدادِيِّ (97)، و «تارِيْخُ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (38/ 32).
(2)
«تارِيْخُ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (59/ 210)، و «السُّنةُ» للخَلَاّلِ (447).
خَيْرَ سَعَادَةٍ إلَاّ ما حَقَّقُوهُ وحَكَوْهُ، فَرِضْوَانُ اللهُ تَعَالى عَلَيْهِم أجْمَعِيْنَ» (1).
* * *
وبِهَذا نَكْتَفِي بِمَا جَاءَ في فَضْلِهِم، والثَّنَاءِ عَلَيْهِم رضي الله عنهم أجْمَعِيْنَ، ومَنْ أرَادَ زِيَادَةً في فَضْلِهِم فَعَلَيْهِ بِكُتُبِ السُّنَّةِ، والسِّيَرِ، لا سِيَّمَا الكُتُبُ الَّتِي عَنَتْ بِتَرَاجِمِهِم.
لِذَلِكَ لمَّا وَقَفَ عُلَمَاءُ الأمَّةِ رحمهم الله سَلَفًا وخَلَفًا حِيَالَ هَذِهِ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، والأحَادِيْثِ النَبَوِيَّةِ، والآثارِ السَّلَفِيَّةِ الدَّالَةِ على فَضْلِ
(1)«لوَامِعُ الأنْوارِ البَهِيَّةِ» للسَّفارِيْنِيِّ (2/ 379 ـ 380).
(2)
مِنْ كلامِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ، وانْظُر «طَرِيْقَ الهِجْرَتَيْنِ» لابنِ القَيِّمِ (362) نَقْلاً عَنْ «عَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنةِ والجَمَاعةِ» لناصِرٍ.
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، قابَلُوْها بالتَّسْلِيْمِ والقَبُولِ مَعَ اعْتِقَادِ فَضْلِهِم، والتَّرُحُّمِ عَلَيْهِم، وذِكْرِ مَحَاسِنِهِم بَيْن النَّاسِ ممَّا يَحْصُلُ بِذَلِكَ سَلامَةُ صُدُورِهِم وقُلُوْبِهِم تُجَاهَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وهذا كُلُّهُ لا يَسْتَقِيْمُ ولا يَكُوْنُ إلَاّ باعْتِقَادِ ضِدِّهِ، ومُنَابَذَةِ خِلافِهِ.
وذَلِكَ بالكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، وعَدَمِ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ ممَّا يَحْصُلُ بِهِ سُوْءُ ظَنٍّ، وضِيْقُ صَدْرٍ، وإثارَةُ شُبَهٍ عَلَيْهِم؛ وهذا يَتَنَافَى مَعَ ما يَجِبُ في حَقِّهِم مِنْ حُبٍّ، وتَرَضٍّ عَنْهُم، وتَرَحُّمٍ عَلَيْهِم، وحِفْظِ فَضَائِلِهِم، والاعْتِرَافِ لَهُم بِسَوَابِقِهِم، ونَشْرِ مَنَاقِبِهِم، وأنَّ الَّذي حَصَلَ بَيْنَهُم إنِّمَا كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ؛ فالْقَاتِلُ والمَقْتُوْلُ مِنْهُم في الجَنَّةِ، ولم يُجَوِّزْ أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ الخَوْضَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ، ولا يُخَالِفُ ذَلِكَ إلَاّ مُبْتَدِعٌ أو جَاهِلٌ!